المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في ذكر هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة - إمتاع الأسماع - جـ ٨

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الثامن]

- ‌[تتمة الفصل في طب رسول اللَّه]

- ‌ليس فيما حرّم شفاء

- ‌السُّعوط [ (2) ]

- ‌ذات الجنب [ (4) ]

- ‌الكحل

- ‌الحبة السوداء

- ‌السنا

- ‌التّلبينة [ (1) ] والحساء

- ‌اغتسال المريض

- ‌اجتناب المجذوم

- ‌وأما عرق النَّسا

- ‌وأما كثرة أمراضه صلى الله عليه وسلم

- ‌الحِنَّاء

- ‌الذريرة

- ‌وأمّا أنّه [صلى الله عليه وسلم] سحر

- ‌وأما أنه صلى الله عليه وسلم سمّ

- ‌وأما أنه صلى الله عليه وسلم رقى

- ‌وأما أنه صلى الله عليه وسلم احتجم

- ‌وأما الكيّ والسّعوط

- ‌وأمّا الحنّاء

- ‌وأمّا السّفرجل

- ‌فصل في ذكر حركات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وسكونه

- ‌وأما عمله صلى الله عليه وسلم في بيته

- ‌[وأما ما يقوله إذا دخل بيته صلى الله عليه وسلم]

- ‌وأمّا ما يقوله إذا خرج من بيته [صلى الله عليه وسلم]

- ‌وأمّا مشيه صلى الله عليه وسلم

- ‌وأما نومه صلى الله عليه وسلم

- ‌وأما ما يقوله [صلى الله عليه وسلم] إذا استيقظ

- ‌وأما أنّ قلبه [صلى الله عليه وسلم] لا ينام

- ‌وأما مناماته عليه السلام

- ‌فصل في ذكر صديق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل النّبوّة

- ‌ذكر أنه صلى الله عليه وسلم كان يحسن العوم في الماء

- ‌ذكر شريك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل البعث

- ‌فصل في ذكر سفره صلى الله عليه وسلم

- ‌أما يوم سفره صلى الله عليه وسلم

- ‌وأما ما يقوله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافرا

- ‌وأمّا ما يقوله صلى الله عليه وسلم إذا علا على شيء

- ‌وأمّا الدعاء لمن ودّعه صلى الله عليه وسلم

- ‌وأمّا كيف سيره صلى الله عليه وسلم

- ‌وأمّا ما يقوله صلى الله عليه وسلم ويعمله إذا نزل منزلا

- ‌وأمّا ما يقوله صلى الله عليه وسلم في السّحر

- ‌ذكر ما يقوله صلى الله عليه وسلم إذا رأى قرية

- ‌ذكر تنفله صلى الله عليه وسلم على الراحلة

- ‌وأمّا ما يقول إذا رجع من سفره

- ‌وأمّا ما يصنع إذا قدم من سفر

- ‌وأما كونه صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله ليلا

- ‌فصل في الأماكن التي حلها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهي الرحلة النبويّة

- ‌وأمّا سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه

- ‌وأمّا سفره صلى الله عليه وسلم في تجارة خديجة رضى اللَّه تعالى عنها

- ‌وأمّا الإسراء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم إلى السماوات العلى ورؤيته آيات ربه الكبرى

- ‌فصل جامع في ذكر حديث الإسراء والمعراج

- ‌فأما رواية حديث الإسراء عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل جامع في معراج النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في كلام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للَّه عز وجل ليلة الإسراء

- ‌فصل في سفر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف

- ‌فصل في خروج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى عكاظ، ومجنّة، وذي المجاز

- ‌فصل في ذكر هجرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

- ‌فصل في ذكر غزوات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌غزوة الأبواء

- ‌[غزوة بواط]

- ‌غزوة بدر الأولى

- ‌غزوة ذي العشيرة

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌غزوة بنى قينقاع

- ‌غزوة السويق

- ‌غزوة قرارة الكدر

- ‌غزوة ذي أمر [وهي غزوة غطفان]

- ‌غزوة بحران

- ‌غزوة أحد

- ‌غزوة حمراء الأسد

- ‌غزوة بنى النضير

- ‌غزوة بدر الموعد

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌غزوة دومة الجندل

- ‌غزوة المريسيع

- ‌[غزوة الخندق]

- ‌[غزوة بنى قريظة]

- ‌[غزوة بنى لحيان]

- ‌[غزوة الغابة]

- ‌[غزوة خيبر]

- ‌[غزوة الفتح]

- ‌[غزوة حنين]

- ‌[غزوة تبوك]

الفصل: ‌فصل في ذكر هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

‌فصل في ذكر هجرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

خرّج البخاري في آخر كتاب الكفالة، في باب جوار أبى بكر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب الهجرة، من حديث الليث عن عقيل، قال [ابن] شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة [رضى اللَّه عنها]، زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبويّ إلا وهما يدينان الدين، ولم يمرّ علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بكرة وعشية.

فلما ابتلى المسلمون، خرج أبو بكر [رضى اللَّه عنه] مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد، لقيه ابن الدّغنّة- وهو سيد القارة-[فقال] : أين تريد يا أبا بكر؟ [فقال] أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربى، فقال ابن الدّغنّة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، أنت تكسب المعدوم، وتصل الرحم وتحمل الكلّ، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع، وارتحل معه ابن الدّغنّة [فطاف ابن الدّغنّة][ (1) ] عشية في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكلّ، ويقرى الضيف، ويعين على نوائب الحق، فلم تكذب [قريش][ (1) ] بجوار ابن الدّغنّة.

وقالوا لابن الدّغنّة: مر أبا بكر فليعبد ربّه في داره، فليصلّ فيها، وليقرأ [ما شاء] ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدّغنّة لأبى بكر، فلبث أبو بكر [رضى اللَّه عنه] ، يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره.

[ (1) ] زيادة للسياق من (البخاري) .

ص: 316

ثم بدا لأبى بكر، فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلى فيه، ويقرأ فيه القرآن، [فيتقذّف] عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون منه وينظرون إليه.

وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدّغنّة، فقدم عليهم، فقالوا:

إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك، على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أقام على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك، فسله أن يرد ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبى بكر الاستعلان.

قالت عائشة: فأتى ابن الدّغنّة أبا بكر [رضى اللَّه عنه] فقال: قد علمت الّذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليّ ذمتي، فإنّي لا أحب أن تسمع العرب أنى أخفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار اللَّه، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم [للمسلمين][ (1) ] : إن أريت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابتين، وهما الحرّتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهّز أبو بكر قبل المدينة، فقال له صلى الله عليه وسلم:

على رسلك، فإنّي أرجو أن يؤذن لي، فقال أبو بكر [رضى اللَّه عنه] : وهل ترجو ذلك؟ بأبي أنت! قال: نعم،

[فحبس] أبو بكر نفسه على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين [كانتا][ (1) ] عنده، ورق السمر- وهو الخبط

[ (1) ] زيادة للسياق من (البخاري) .

ص: 317

- أربعة أشهر [ (1) ] .

زاد في كتاب الهجرة: قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة رضى اللَّه عنها: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبى بكر في نحو الظهيرة، وقال قائل لأبى بكر: هذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر [فداء] له أبى وأمى، ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر؟!

قالت: فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت وأمى يا رسول اللَّه، قال: فإنّي قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحابة، بأبي أنت وأمى يا رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: نعم، قال أبو بكر، فخذ بأبي أنت يا رسول إحدى راحلتيّ هاتين، قال: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: بالثمن.

قالت عائشة: فجهّزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سمّيت: ذات النّطاقين. قالت: ثم لحق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد اللَّه بن أبى بكر، وهو غلام شاب، ثقف، لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة- كبائت، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة- مولى أبى بكر- منحة من غنم، فيريح عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما، حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.

واستأجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بنى الديل، وهو من بنى عبد

[ (1) ](فتح الباري) : 4/ 599- 600، كتاب الكفالة، باب (4) جوار أبى بكر رضى اللَّه عنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهده، حديث رقم (2297) .

ص: 318

ابن عدىّ، هاديا خرّيتا- والخرّيت: الماهر بالهداية- قد غمس حلفا في آل العاصي بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ليال، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل [ (1) ] .

[ (1) ](فتح الباري) : 7/ 291- 293، كتاب مناقب الأنصار، باب (45) هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم (3905) .

قوله: «برك الغماد» : موضع باليمن.

قوله: «ابن الدّغنّة» : فتح الغين، وقيل: إن ذلك كان لاسترخاء في لسانه، والصواب الكسر، وثبت بالتخفيف والتشديد من طريق، وهي أمه، وقيل: أم أبيه، وقيل: دابته، ومعنى الدغنه المسترخية، وأصلها الغمامة الكثيرة المطر.

واختلف في اسمه، فعند البلاذري من طريق الواقدي، عن معمر عن الزهري أنه الحارث بن يزيد، وحكى السهيليّ أن اسمه مالك، وقيل غير ذلك.

قوله: «وهو سيد القارة» ، بالقاف وتخفيف الراء، وهي قبيلة مشهورة من بنى الهون- بالضم والتخفيف- ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وكانوا حلفاء بنى زهرة من قريش، وكانوا يضرب بهم المثل في قوة الرمي.

قوله: «أخرجني قومي» ، أي تسببوا في إخراجي.

قوله: «فأريد أن أسيح» ، بالمهملتين، لعلّ أبا بكر طوى عن ابن الدّغنّة تعيين جهة مقصدة لكونه كافرا، وإلا فقد تقدم أنه قصد التوجه إلى أرض الحبشة، ومن المعلوم أنه لا يصل إليها من الطريق التي قصدها، حتى يسير في الأرض وحده زمانا، فيصدق أنه سائح، ولكن حقيقة السياحة أن لا يقصد موضعا بعينه يستقر فيه.

قوله: «وتكسب المعدوم» - أو المعدم في رواية- وقد تقدم شرح هذه الكلمات في حديث بدء الوحي، وفي موافقة وصف ابن الدغنة لأبى بكر رضى اللَّه عنه بمثل ما وصفت به خديجة النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يدل على عظيم فضل أبى بكر، واتصافه بالصفات البالغة في أنواع الكمال.

قوله: «وأنا جار لك» ، أي مجير أمنع من يؤذيك.

قوله: «فيتقذّف» بالمثناة والقاف والذال المعجمة الثقيلة، أي يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر.

قوله: «بكّاء» بالتشديد أي كثير البكاء.

قوله: «لا يملك عينيه» ، أي لا يطيق إمساكها عن البكاء من رقة قلبه، وقوله:«إذا قرأ» ، إذا

ص: 319

_________

[ () ] ظرفية، والعامل فيه لا يملك، أو هي شرطية والجزاء مقدر.

قوله: «فأفزع ذلك» أي أخاف الكفار لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب أن يميلوا إلى دين الإسلام.

قوله: «نخفر له» بضم أوله وبالخاء المعجمة وكسر الفاء، أي نغدر بك، يقال: خفره إذا حفظه، وأخفره إذا غدر به.

قوله: «مقرين لأبى بكر الاستعلان» أي لا نسكت عن الإنكار عليه للمعنى الّذي ذكروه من الخشية على نسائهم وأبناءهم أن يدخلوا في دينه.

قوله: «وأرضى بجوار اللَّه» أي أمانته وحمايته، وفيه جواز الأخذ بالأشد في الدين- وقوة يقين أبى بكر رضى اللَّه عنه.

قوله: «ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة» ، أي لما سمعوا باستيطان المسلمين المدينة، رجعوا إلى مكة، فهاجر إلى أرض المدينة معظمهم لا جميعهم، لأن جعفرا ومن معه تخلفوا في الحبشة، وهذا السبب في مجيء مهاجرة الحبشة غير السبب المذكور في مجيء من رجع منهم أيضا في الهجرة الأولى، لأن ذاك كان بسبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في سورة النجم، فشاع أن المشركين أسلموا وسجدوا، فرجع من رجع من الحبشة، فوجدوهم أشدّ ما كانوا.

قوله: «الخبط» بفتح المعجمة والموحدة ما يخبط بالعصا فيسقط من ورق الشجر. قاله ابن فارس.

قوله: «في نحر الظهيرة» ، أي أول الزوال، وهو أشدّ ما يكون في حرارة النهار، والغالب في أيام الحر القيلولة فيها، وفي رواية ابن حبان:«فأتاه ذات يوم ظهرا» ، وفي حديث أسماء بنت أبى بكر عند الطبراني: «كان يأتينا بمكة كل يوم مرتين بكرة وعشية، فلما كان يوم من ذلك جاءنا في الظهيرة، فقلت: يا أبت هذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

قوله: «هذا رسول اللَّه متقنّعا» ، أي مغطيا رأسه، وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب، قالت عائشة:«وليس عند أبى بكر إلا أنا وأسماء» .

وفي هذا الحديث جواز لبس الطيلسان، وجزم ابن القيم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلبسه ولا أحد من أصحابه، وأجاب عن الحديث بأن التقنع يخالف التطليس.

قال: ولم يكن يفعل التقنع عادة بل للحاجة، وتعقب بأن في حديث أنس:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر التقنع» . وفي (طبقات ابن سعد) مرسلا: «ذكر الطيلسان لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: هذا ثوب لا يؤدى شكره» .

قوله: «ثقف» بفتح المثلثة وكسر القاف، ويجوز إسكانها وفتحا وبعدها فاء» الحاذق، تقول:

ثقفت الشيء إذا أقمت عوجه.

قوله: «لقن» بفتح اللام وكسر القاف بعدها نون، اللّقين: السريع الفهم.

ص: 320

قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي- وهو ابن أخى سراقة بن مالك بن جعشم- أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: جاءتنا رسل كفار قريش، يجعلون في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبى بكر دية، كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بنى مدلج، إذ أقبل رجل منهم، حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال:

يا سراقة: إني رأيت قد آنفا أسودة بالساحل، أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا، انطلقا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة فتحبسها عليّ، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجّه الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بى حتى دنوت منهم، فعثرت بى فرسي، فخررت عنها، فقمت، فأهويت يدي إلى

[ () ] قوله: «فيدلّج» بتشديد الدال بعدها جيم، أي يخرج بسحر إلى مكة.

قوله: «فيصبح مع قريش بمكة كبائت» أي مثل البائت، يظنه من لا يعرف حقيقة أمره لشدة رجوعه بغلس.

قوله: «يكتادان به» في رواية الكشميهني: «يكادان به» بغير مثناة، أي يطلب لهما فيه المكروه، وهو من الكيد.

قوله: «رضيفهما» بفتح الراء وكسر المعجمة، بوزن رغيف، أي اللبن المرضوف، أي التي وضعت فيه الحجارة المحماة بالشمس أو النار، لينعقد وتزول رخاوته، وهو بالرفع، ويجوز الجر.

قوله: «حتى ينعق بها عامر» ينعق بكسر العين المهملة أي يصيج بغنمه، والنعيق صوت الراعي إذا زجر الغنم.

قوله: «والخريت الماهر بالهداية» قال ابن سعد وقال الأصمعي: إنما سمّى خريتا لأنه يهدى خرت الإبرة أي ثقبها، وقال غيره: قيل له ذلك لأنه يهتدى لأخرات المفازة وهي طرقها الخفية.

قوله: «وقد غمس» بفتح العين المعجمة بعدها مهملة «حلفا» بكسر المهملة وسكون اللام، أي كان حليفا، وكانوا إذا تحالفوا غمسوا أيمانهم في دم، أو خلوق، أو في شيء يكن فيه تلويث، فيكون ذلك تأكيدا للحلف.

ص: 321

كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها: أضرهم أم لا؟ فخرج الّذي أكره، فركبت فرسي، وعصيت الأزلام، تقرّب بى حتى إذا سمعت قراءة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت، وأبو بكر [رضى اللَّه عنه] يكثر الالتفات، ساخت [يدا] فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة، إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الّذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي ما لقيت من الحبس عنهم، أن سيظهر أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآنى، ولم يسألانى إلا أن قال:

أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة [رضى اللَّه عنه] ، فكتب في رقعة من أدم، ثم مضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشام، [فكسا] الزبير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضى اللَّه عنه ثياب بياض.

وسمع المسلمون بالمدينة فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، من مكة [فكانوا] يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرونه، حتى يردّهم حرّ الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم، أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم- قال ابن زبالة: وهي عز أهل المدينة ومنعتهم التي يتحصنون فيها من عدوهم- قال ابن شهاب: لأمر ينظر إليه، فبصر برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين، يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال [بأعلى] صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الّذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بظهر الحرّة، فعدل بهم ذات

ص: 322

اليمين، حتى نزل بهم في بنى [عمرو] بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، [وقيل: لثمان خلون منه] [ (1) ] .

وفي الإكليل عن الحاكم، تواترت الأخبار بذلك، وقيل: قدم المدينة يوم الجمعة عشاء لثنتى عشرة مضت منه، وقيل: لليلتين مضتا منه، وقيل:

لثمان عشرة ليلة، وقيل: بضع عشرة ليلة، وعند البيهقي اثنتين، وعندي ليلة، وعند ابن حزم: خرجنا من مكة وقد بقي من صفر ثلاث ليال، وقال البرقي: قدمها ليلا، وقيل قدم لثلاث عشر ليلة مضت منه، وجزم ابن النجار بقدومه حين [الضحى] يوم الاثنين لثنتى عشرة ليلة من ربيع الأول، ووافقه جازما بذلك النووي في زوائده من كتاب السير من (الروضة)[ (2) ] .

قال [ابن] شهاب: فقام أبو بكر [رضى اللَّه عنه] للناس، وجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحىّ أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلّل عليه بردائه، فعرف الناس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بنى [عمر] بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسّس المسجد الّذي أسّس على التقوى، وصلّى فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته، فسار يمشى معه الناس، حتى بركت عند مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلى فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر، لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر سعد بن زرارة،

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: هذا إن شاء اللَّه المنزل.

ثم دعاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الغلامين، فساومهما بالمربد، ليتخذه مسجدا،

[ (1) ](فتح الباري) : 7/ 302- 303.

[ (2) ](روضة الطالبين للنووي) : 7/ 407.

ص: 323

فقالا: بل نهبه لك يا رسول اللَّه، فأبى أن يقبل [منهما] هبته، حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه، ويقول وهو ينقل اللبن:

هذا الحمال لا حمال خيبر

هذا أبرّ ربنا وأطهر

ويقول:

اللَّهمّ إن الأجر أجر الآخرة

فارحم الأنصار [والمهاجرة]

فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي، قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات.

وخرّجه أيضا في كتاب اللباس، في باب التقنع، من حديث معمر عن الزهري، عن عائشة [رضى اللَّه عنها] باختصار [ (1) ] ، وفرّقه في كتاب الجهاد في باب حمل الزاد في الغزو [ (2) ] ، وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة [ (3) ] ، وفي كتاب الأطعمة في باب الخبز المرقق، والأكل على الخوان والسفرة [ (4) ] .

وخرّج البخاري أيضا في الهجرة من حديث شعبة قال: سمعت أبا إسحاق الهمدانيّ يقول: سمعت البراء [رضى اللَّه عنه] يقول: أقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فذكر قطعة مما تقدم [ (5) ] . وخرّجه

[ (1) ](فتح الباري) : 10/ 236، كتاب اللباس، باب (16) التقنّع، حديث رقم (5807) .

[ (2) ](فتح الباري) : 6/ 159، كتاب الجهاد والسير، باب (123) حمل الزاد في الغزو، وقول اللَّه عز وجل: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة: 197] ، حديث رقم (2979) .

[ (3) ](فتح الباري) : 7/ 302- 303، كتاب مناقب الأنصار، باب (45) هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم (3906) .

[ (4) ](فتح الباري) : 6/ 662، كتاب الأطعمة، باب (8) الخبز المرقق، والأكل على الخوان والسّفرة، حديث رقم (53388) .

[ (5) ](فتح الباري) : 7/ 304، كتاب مناقب الأنصار، باب (45) هجرة النبي وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم (3908) .

ص: 324

مسلم كذلك [ (1) ] .

وخرّج البخاري ومسلم من حديث أبى إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب [رضى اللَّه [عنه]] يقول: جاء أبو بكر رضى اللَّه [عنه] إلى أبى في منزله، فاشترى منه رحلا، فقال لعازب: ابعث معى ابنك يحمله معى إلى منزلي، فقال أبى: احمله، فحملته، وخرج أبى معه ينتقد ثمنه، فقال له أبى: يا أبا بكر، حدثني كيف صنعت ليلة سريت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:

نعم، أسرينا ليلتنا كلها، حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق، فلا يمر فيه أحد، حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، لم تأت الشمس بعد، فأتيت الصخرة، فنزلنا عندها، وسويت بيدي مكانا ينام فيه النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها، ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: نم يا رسول اللَّه، وأنا أنفض لك ما حولك.

فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براعي غنم مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها الّذي أردنا، فلقيته فقلت: لمن أنت يا غلام؟ قال:

لرجل من أهل المدينة، قلت له: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم، قلت:

أفتحلب لي؟ قال: نعم، فأخذ شاة، فقلت له: انفض الضرع من الشعر، والتراب، والقذى، قال: فرأيت البراء يضرب بيده على الأرض ينفض، فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن، قال: ومعى إداوة أرتوى فيها للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ليشرب منها ويتوضأ، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم [فشرب منها وتوضأ] ، وكرهت أن أوقظه من نومه، فوافقته قد استيقظ، فصببت على اللبن من الماء، حتى برد أسفله،

فقلت يا رسول اللَّه، اشرب من هذا اللبن، قال:

فشرب حتى رضيت، ثم قال: ألم يأن للرحيل؟ قلت: بلى.

قال: فارتحلنا بعد ما زالت الشمس، وأتبعنا سراقة بن مالك، ونحن في

[ (1) ](مسلم بشرح النووي) : 13/ 190، كتاب الأشربة، باب (10) جواز شرب اللبن، حديث رقم (2009) .

ص: 325

جلد من الأرض فقلت: يا رسول اللَّه! أتينا، فقال: لا تحزن إن اللَّه معنا،

[فدعا] عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فارتطمت فرسه إلى بطنها- أرى- فقال:

إني قد علمت أنكما قد دعوتما عليّ، فادعوا لي، [فاللَّه] لكما أن أردّ عنكما الطلب، فدعا [رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم] اللَّه، فنجا، فرجع لا يلقى أحدا إلا قال: قد كفيتم هاهنا، فلا يلقى أحدا إلا ردّه ووفّى لنا. اللفظ لمسلم، وقال فيه البخاري: فقال لرجل من أهل المدينة أو مكة، وقال فيه: فقال: إني أراكما قد دعوتما عليّ. ذكره البخاري في باب علامات النبوة [ (1) ] .

ولمسلم من حديث عثمان بن عمر، والنضر بن شميل، كلاهما عن أبى إسحاق، عن البراء، قال: اشترى أبو بكر من أبى [ (2) ] رحلا بثلاثة عشر درهما.. وساق الحديث بمعنى ما تقدم [ (3) ] .

وقال في حديثه من رواية عثمان بن عمر، [عن إسرائيل] : فلما دنا [دعا] عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فساخ

[ (1) ](فتح الباري) : 6/ 771- 772، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3615) .

وأخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقاق، باب (19) في حديث الهجرة، ويقال حديث الرحل، حديث رقم (3009) .

[ (2) ](الرحل) : سرج البعير- وهو الكور- وقد يراد به القتب والحداجة.

(قائم الظهيرة) : أشدّ الحر وسط النهار، وقائمها: وقت استواء الشمس في وسط السماء.

(كثبة) : الكثبة القليل من اللبن.

(أرتوى) فيها الماء، أي أحمله للوضوء والشرب.

(ألم يأن) : ألم يقرب ويجيء وقت الرواح.

(الجلد) : الأرض الغليظة الصلبة.

(أتينا) : أتى الرجل، أي قصد وطلب، والمراد: أنهم لحقونا وأدركونا.

(فارتطمت) : ارتطمت في الوحل: إذا نشبت فيه ولم تكد تتخلص، وارتطم الرجل في أمره إذا سدّت عليه مذاهبه. (جامع الأصول) : 11/ 599، شرح الحديث رقم (9304) .

[ (3) ] في (صحيح مسلم) : «معنى حديث زهير عن أبى إسحاق» .

ص: 326

فرسه في الأرض إلى بطنه، ووثب عنه وقال: يا محمد! قد علمت أن هذا عملك، فادع اللَّه أن يخلصني مما أنا فيه، ولك عليّ لأعمينّ على من ورائي، وهذه كنانتي فخذ سهما منها، فإنك ستمر على إبلي وغلماني [بمكان] كذا وكذا، فخذ منها حاجتك، قال: لا حاجة لي في إبلك.

فقدمنا المدينة ليلا، فتنازعوا أيهم ينزل عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:

انزل على بنى النجار أخوال عبد المطلب، أكرمهم بذلك، فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطريق ينادون: يا محمد، يا رسول اللَّه [ (1) ]

يا محمد يا رسول اللَّه! وخرّج البخاري في المناقب، من حديث إسرائيل بمعناه، وذكر نحوا أو

[ (1) ](مسلم بشرح النووي) : 18/ 357- 358، كتاب الزهد والرقائق، باب (19) في حديث الهجرة، الحديث الّذي يلي الحديث رقم (3009) ، بدون رقم.

قال الإمام النووي: وهذا الحديث مما يسأل عنه، فيقال: كيف شربوا اللبن من الغلام وليس هو مالكه؟ وجوابه من أوجه:

أحدها: أنه محمول على عادة العرب أنهم يأذنون للرعاة إذا مرّ بهم ضيف أو عابر سبيل أن يسقوه اللبن ونحوه.

الثاني: أنه كان لصديق لهم يدلون عليه، وهذا جائز.

الثالث: لعلهم كانوا مضطرين، والجوابان الأولان أجود.

وفي هذا الحديث فوائد، منها: هذه المعجزة الظاهرة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفضيلة ظاهرة لأبى بكر رضى اللَّه عنه من وجوه.

وفيه خدمة التابع للمتبوع، وفيه استصحاب الركوة والإبريق ونحوهما في السفر للطهارة والشرب.

وفيه فضل التوكل على اللَّه سبحانه وتعالى وحسن عاقبته، وفيه فضائل للأنصار لفرحهم بقدوم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وظهور سرورهم به، وفيه فضيلة صلة الأرحام، سواء قربت القرابة والرحم أم بعدت، وأن الرجل الجليل إذا قدم بلدا له فيه أقارب ينزل عندهم يكرمهم بذلك. واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) .

ص: 327

قريبا منه في باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه [ (1) ] .

وقال الواقدي: حدثني قدامة بن موسى، عن عائشة بنت قدامه قالت:

لما أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يتحول عن فراشه، ولا ينام عليه في الليلة التي ائتمرت قريش في دار الندوة، على أن يثبتوه فيقتلوه، خرج على القوم حتى انتهى إلى بيت بكر رضى اللَّه عنه، وكان فيه حتى خرجا منه إلى الغار- غار ثور- خرجا من خوخة في ظهر بيت أبى بكر رضى اللَّه عنه ليلا.

وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحدث: لقد خرجت من الخوخة متنكرا، وكان أول من لقيني، الخبيث أبو جهل، فعمى اللَّه تعالى بصره عنى وعن أبى بكر [رضى اللَّه عنه] حتى مضيت،

ومضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر [رضى اللَّه عنه]، فقال أبو بكر لعائشة [رضى اللَّه عنهما] : لو رأيتني ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ صعدنا الغار، فأما قدما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فتقطرتا دما، وأما قدماي، فعادتا كأنها صفوان، فقالت عائشة رضى اللَّه عنها: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يتعود الحفية، ولا الرعية، ولا الشقوة، [قال:] ولو رأيتنا ونحن نصعد في الغار، مرة هو أمامى، ومرة أنا أمامه، حتى سبقته إلى الغار فدخلته، وكان فيه جحر، فألقمته عقبى، ودخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليّ، قال أبو بكر رضى اللَّه عنه: إن كانت لدغة لدغتني، أحب إلى من أن تلدغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن الحسن بن أبى الحسن بن زبالة، في (تاريخ المدينة) : حدثني محمد بن عبد اللَّه الأنصاري، عن إسحاق بن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حارثة، عن أبيه قال: نزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على كلثوم ابن الهدم، بغلام [يقال] له: يا نجيح، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أنجحت يا أبا بكر.

[ (1) ](فتح الباري) : 7/ 317- 318، كتاب مناقب الأنصار، باب (45) هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، حديث رقم (3911) .

ص: 328

وذكر عن محمد بن كعب القرظيّ وغيره، قالوا: لما بركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم بباب أبى أيوب [رضى اللَّه عنه] ، جعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يريد أن ينزل فتخلخل، فيطيف بها أبو أيوب [رضى اللَّه عنه] ، فيجد جبار بن صخر- أخا بنى سلمة- ينخسها، فقال أبو أيوب: يا جبار! أعن منزلي تنخسها؟

واللَّه بعثه بالحق، لولا الإسلام لضربتك بالسيف. قال: فنزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في منزل أبى أيوب، وقرّ قراره، وطابت داره، ونزل معه زيد بن حارثة.

ص: 329