الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ
.
[1773]
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ- وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ- قَالَ ابْنُ رَافِعٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عن الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ مِنْ فِيهِ إِلَى فِيهِ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّأْمِ؛ إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ- يَعْنِي: عَظِيمَ الرُّومِ- قَالَ: وَكَانَ دَحْيَةُ الْكَلْبِيُّ جَاءَ بِهِ، فَدَفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى هِرَقْلَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هَلْ هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ، فَأَجْلَسَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا، فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي، ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، قَال: فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَايْمُ اللَّهِ لَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ يُؤْثَرَ عَلَيَّ الْكَذِبُ لَكَذَبْتُ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُ: كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ،
قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: وَمَنْ يَتَّبِعُهُ، أَشْرَافُ النَّاسِ، أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ، أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: تَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالًا، يُصِيبُ مِنَّا، وَنُصِيبُ
مِنْهُ، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ، لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا؟ قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ! قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ، وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ: أَضُعَفَاؤُهُمْ، أَمْ أَشْرَافُهُمْ؟ فَقُلْتَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ: أَنْ لَا، فَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ! وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ
دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَهُ سَخْطَةً لَهُ؟ فَزَعَمْتَ: أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَزِيدُونَ، أَوْ يَنْقُصُونَ؟ فَزَعَمْتَ: أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ فَزَعَمْتَ: أَنَّكُمْ قَدْ قَاتَلْتُمُوهُ، فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا، يَنَالُ مِنْكُمْ، وَتَنَالُونَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ: أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ: أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ قُلْتُ: رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ، قَالَ: إِنْ يَكُنْ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ، وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ، وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ، قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ: ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ
الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ
الْأَرِيسِيِّينَ، و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ))، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ ارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ عِنْدَهُ، وَكَثُرَ اللَّغْطُ، وَأَمَرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا، قَالَ: فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي- حِينَ خَرَجْنَا-: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ، قَالَ: فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ.
[خ: 4553]
وَحَدَّثَنَاهُ حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ- وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ- حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: وَكَانَ قَيْصَرُ لَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِمَا أَبْلَاهُ اللَّهُ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَالَ: إِثْمَ الْيَرِيسِيِّينَ، وَقَالَ: بِدَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ.
قوله: ((سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى)) هذا سلام منكَّر.
وهذا الحديث فيه: هذه القصة التي حدثت لأبي سفيان رضي الله عنه وكان آنذاك مشركًا-.
وفيه: أن أبا سفيان رضي الله عنه قال: ((وَايْمُ اللَّهِ)) فقد كان يحلف، وكان المشركون يحلفون بالله، وباللات، والعزى، وكانوا يحجون وهم على شركهم، وكانوا يعبدون الله، ويعبدون معه غيره.
وفيه: أن الكذب قبيح في الجاهلية والإسلام، فهذا أبو سفيان رضي الله عنه خشي أن يؤثر عنه الكذب مع شدة عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الحين، فإذا كان أهل الجاهلية- على شركهم- يتركون الكذب؛ لأنه قبيح، فالمسلم أولى أن يبتعد عن الكذب، ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ((أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا؟ قَالَ: نَعَمْ،
قِيلَ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا؟ قَالَ: لا))
(1)
.
وفيه: أن هرقل ((دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ)) والتَّرجمان- بفتح التاء، وقيل: بضمها-: هو الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة.
وهرقل لقب كل من ملك الشام، كما أن من ملك الروم يقال له: قيصر، ومَن ملك الفرس يقال له: كسرى، ومَن ملك القبط يقال له: فرعون.
وفيه: أن هرقل وجَّه إلى أبي سفيان أحد عشر سؤالًا تيقن من خلالها أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي، وهذا لأن هرقل كان من أهل الكتاب، قرأ الكتاب الأول، وعرف صفات النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه: أن الرسل تُبعث في أحساب قومها؛ حتى لا يكون لأحد فيهم مطعن، وأن هذا أدعى لقبول الناس لهم.
وفيه: أن أتباع الرسل هم الضعفاء؛ لأن الأشراف فيهم كبر يمنعهم من اتِّباع الأنبياء؛ لأن الشرائع تقيِّدهم، وهم يريدون أن ينطلقوا من القيود؛ ولهذا قال قوم نوح لنوح عليه السلام:{أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} ، وقالوا:{ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلُنا بادئ الرأي} .
وفيه: استنباط هرقل، فهو يقول: كيف يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب على الناس ثم يكذب على الله؟ !
وفيه: أن هرقل رجل عاقل؛ لذلك قال: ((وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ))، وهذا يدل على أنه عرف أن الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب فإن له حلاوة ولذة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ))
(2)
، والإيمان إذا خالط بشاشة
(1)
أخرجه مالك في الموطأ (19)، والبيهقي في الشعب (4472) مرسلًا.
(2)
أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43).
القلوب لا يمكن أن يرتد عنه أحد.
وهذا يدل- أيضًا- على أن الذي منع هرقل من الإيمان أنه آثر الحياة الدنيا على الآخرة، وأن المعرفة لا تكفي وحدها بدون انقياد واتباع، فإبليس كان عارفًا، وفرعون كان عارفًا ولكن منعهم الكبر.
وفيه: أن هرقل تضلَّع من الكتاب الأول؛ لذا قال: ((وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ))، وهذا يدل على معرفته بعاقبة المرسلين.
وفيه: أنه استدل على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم كذلك بقوله: ((وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ))، وهذه الأسئلة يُستدل بها على نبوة الأنبياء، وأن دلائل النبوة كثيرة، وليست خاصة بالمعجزات كما يدعي الأشاعرة، وأهل البدع
(1)
، وهذا من جهلهم.
كما أن خديجة رضي الله عنها استدلت على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بصفات النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إليها في أول البعثة، فقالت: ((كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ
(1)
الإرشاد، للجويني (ص 309 - 315)، أصول الدين، للجويني (ص 170 - 175)، الاقتصاد في الاعتقاد، للغزالي (ص 81 - 82)، وانظر: النبوات، لابن تيمية (ص 283).
الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ))
(1)
.
وفيه: أن قوله: ((إِنْ يَكُنْ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ، وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ، وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ))، يعني: أنه سيبلغ ملك المسلمين بلاد الروم، وهذا وقع للصحابة رضي الله عنهم، فقد فتحوا بلاد الشام ومصر وبلاد العراق، ثم ما وراء النهر.
وفي ابتداء كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} مشروعيةُ ابتداء الكتاب بالبسملة، كما كتب سليمان عليه السلام إلى بلقيس:{إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلو علي وأتُوني مسلمين} .
وفيه: أن الكاتب يبدأ بنفسه، فيقول: من فلان إلى فلان.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا هرقل إلى الإسلام، فالكفار لا يُقاتَلون حتى يُدعَوا إلى الإسلام أولًا، فإذا بلغتهم الدعوة، ولم يستجيبوا فإنه يجوز للمسلمين أن يُغِيروا عليهم من دون دعوة، ويجوز لهم أن يدعوهم مرة أخرى من باب الاستحباب، كما أغار النبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارُّون، وأنعامهم تُسقَى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم، وكما فعل في بعض جهة خيبر، وأحيانًا يعيد الدعوة مرة أخرى، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله عنه في بعض السرايا لما بعثها إلى خيبر، وقال:((ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ))
(2)
.
وفيه كلام جامع عظيم في قوله: ((أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ)) وأَسْلِمْ تَسْلَمْ أي: من القتال والعقوبة في الدنيا، وتسلم من العذاب في الآخرة، و ((يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ))؛ لأنه من أهل الكتاب، وأهل
(1)
أخرجه البخاري (44)، ومسلم (162).
(2)
أخرجه البخاري (2942)، ومسلم (1731).
الكتاب إذا آمنوا يؤتون أجرهم مرتين، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} ، وفي الحديث:((ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ، وَاتَّبَعَهُ، وَصَدَّقَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقَّ سَيِّدِهِ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَغَذَّاهَا فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا، ثُمَّ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ))
(1)
.
وفيه ذكر الأريسيين في قوله: ((وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ)): وهم الفلاحون والزارعون، والمراد: جميع الرعية، لكنه خص الفلاحين والزارعيين؛ لأنهم هم الأغلب في مملكته، ولأنهم أسرع انقيادًا، وغيرهم تبع لهم، وقيل: المراد بالأريسيين: اليهود والنصارى، وقيل المراد بهم: الملوك الذين يدعون إلى الباطل.
وفي بعثه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل قول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} دليل على أنه لا بأس ببعث الآية والآيتين إلى بلاد الكفار، وأنه لا بأس بمس كتب التفسير التي فيها بعض الآيات، وأن الممنوع هو مس المصحف كاملًا.
وقد جاء في الحديث النهي عن سفر القرآن لأرض العدو؛ خشية أن تمسه أيديهم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ؛ فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ))
(2)
.
وفيه: أنه لما خرج أبو سفيان- وكان قائد المشركين بمكة- تعجب من اهتمام هرقل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقال:((لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ)) أي: عظم شأن ابن أبي كبشة، يعني: النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكانوا ينسبونه إلى جده أبي كبشة، قيل: هو أبوه من الرضاعة، وقيل: هو جده لأمه، وقيل: إنه رجل كان يعبد
(1)
أخرجه البخاري (3011)، ومسلم (154).
(2)
أخرجه مسلم (1869).
الشعرى وحده ولم يتبعه العرب، فشُبِّه به النبي صلى الله عليه وسلم في مخالفته إياهم لدينهم، وكان الكفار إذا غضبوا عليه صلى الله عليه وسلم قالوا: ابن أبي كبشة، وإذا رضوا قالوا: ابن عبد المطلب.
وفيه: أن هرقل لما أنعم الله عليه فصدَّ عنه جنود الفرس مشى من حمص إلى إيلياء على قدميه شكرًا لله، وكان الملوك لا يمشون على أقدامهم، لكنه مشى شكرًا لله عز وجل.
وجاء في صحيح البخاري
(1)
أن هرقل لما خرج أبو سفيان جمع القساوسة وعلماء النصارى وأهل الكتاب في مجمع عظيم، ولما دخلوا وأخذوا أمكنتهم أمر بالأبواب فأغلقت، وأخذ المفاتيح، ثم اطلع عليهم من فوق بعلو وكبرياء، وقال لهم: يا بني كذا- ناداهم بأسمائهم- هل لكم في الفلاح؟ هل لكم في النجاة؟ هل لكم في سعادة الدنيا والآخرة؟ قالوا: ماذا؟ قال: تتبعون هذا النبي، وأنتم تعلمون علم اليقين مثل الشمس أنه رسول الله، هذه صفاته عندكم، فلما رأوا هذا الكلام حاصروه إلى الأبواب يريدون أن يخلعوه ويقتلوه، ولكنه احتاط لنفسه وأغلق الأبواب، وقال: ردوهم عليَّ، فلما رجعوا إلى أماكنهم طلع عليهم مرة أخرى، وقال: إنما قلت هذا الكلام لأختبر صبركم على دينكم، وثباتكم عليه، فسجدوا له، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال:((ضَنَّ الْخَبِيثُ بِمُلْكِهِ، وَلا بَقَاءَ لِمُلْكِهِ))
(2)
، أي: بخل وشح بملكه، وسيزول.
(1)
تخريج
(2)
أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 258).