المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام الشهادات)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌سُورَةُ المَائِدَةِ

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌(من أحكام الأطعمة)

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌(من أحكام الصيد والذبائح)

- ‌(من أحكام الطهارة)

- ‌(من أحكام الحدود)

- ‌(الحرابة)

- ‌(السرقة)

- ‌(من أحكام أهل الكتاب)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الأشربة)

- ‌(من أحكام الهدي)

- ‌(من أحكام الشهادات)

- ‌سُورَةُ الأَنْعَامِ

- ‌(من أحكام الذبائح)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الذبائح)

- ‌(من أحكام اليتامى)

- ‌سُورَةُ الأَعْرَافِ

- ‌(من أحكام اللباس والزينة)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌سُورَةُ الأَنفَالِ

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الهجرة)

- ‌سُورَةُ التَّوْبَةِ

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الصدقة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌سُوْرَةُ يُوسُفَ

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌سُوْرَةُ النَّحْلِ

- ‌(من أحكام الطهارة)

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌سُوْرَةُ الإسْراءِ

- ‌(من أحكام البر والصلة)

- ‌(من أحكام القصاص)

- ‌(من أحكام البيوع)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌سُوْرَةُ الأَنْبيَاءِ

- ‌(من أحكام المعاملات)

الفصل: ‌(من أحكام الصلاة)

(من أحكام الصلاة)

96 -

95 (37 - 38) قولُه عز وجل: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 101]

* رحمَ اللهُ سبحانه عبادَه المؤمنين، فرفعَ عنهم الجُناح في تركِ إتمامِ الصلاةِ، فرخَّصَ لهم في قَصْرِها في السَّفَرِ إذا كانوا خائفين، فقال:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101].

وبين النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك كما شرعَهُ الله، فقصَرَ في السفرِ في الخوفِ، وهذا إجماعٌ من المسلمين.

* واختلف الناسُ في شَرْطِ الخَوْفِ، هل جيءَ به للتعليقِ، أو للتغليب.

فاخذ قومٌ بظاهرِه، واعتقدوهُ للتغليبِ؟

واختلفتْ بهم الطرقُ.

- فذهب عطاءٌ، وطاوسٌ، والحَسَنُ، ومجاهدٌ، والضَّحّاكُ، وإسحاقُ

ص: 5

إلى أنه يجوزُ القَصْرُ في السفرِ في الخَوْفِ إلى رَكْعَةٍ، وأما رَكْعَتا المسافرِ فليستا مَقْصورَتين، بل هيَ أصلُ فريضةِ السفر (1).

ويروى هذا القولُ عن جابرٍ، وكعبٍ، وابن عمرَ -رضي الله تعالى عنهم (2) -، وفعلهُ حُذيفةُ بِطَبَرِسْتانَ، وهي صلاة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بذي قَرَدٍ كما سيأتي.

فإن صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَصَرَ الصلاةَ في السفرِ في الخوف إلى ركعة، فهو مذهبٌ قويٌّ نذهبهُ ونختارُه (3)، وإن لم يثبتْ عنه صلى الله عليه وسلم، فهو مردودٌ؛ لأنه لا بُدَّ أن يكونَ للنبيَّ مع كتاب الله سُنَّة تبينُه كما فرضَ الله تعالى ذلك عليه.

ويدلُّ له ما خرَّجَهُ مسلمٌ عن بكيرِ بنِ الأخنسِ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما - قال: فرضَ اللهُ تعالى الصلاةَ على لسانِ نبيكم في الحَضَرِ أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف رَكْعَة (4).

وتأويله بعيدٌ (5).

(1) انظر: "تفسير الطبري"(2/ 576)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 471)، و"المغني" لابن قدامة (2/ 139)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 197).

(2)

وهو قول ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت وأبي هريرة. انظر: "تفسير الطبري"(5/ 249)، و "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 354)، و "المحلى" لابن حزم (4/ 271)، (5/ 34).

(3)

وإليه ذهب ابن حزم ودافع عنه. انظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 271).

(4)

رواه مسلم (687)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها.

(5)

قال النووي في تأويل الحديث: معناه: ركعة مع الإمام وينفرد المأموم بأخرى، وهذا التأويل لا بد منه للجمع بين الأدلة. انظر "روضة الطالبين" للنووي (1/ 404).

ص: 6

لكن قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ: بُكَيْرُ بنُ الأخنس ليس بحجَّةٍ فيما يتفردُ بهِ (1).

وحكيَ عن ابنِ عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّ المراد بالقَصْر هو الإيماءُ عندَ الخوفِ راكباً (2).

- وذهب قومٌ إلى أنه شرطٌ للتعليقِ بالحكم الذي بعدَهُ، فهو ابتداءُ كلامٍ مُتَّصِلٍ بما بعدَهُ، منقطعٍ عما قبله (3).

وروي عن أبي أيوبَ الأنصاريِّ - رضي الله تعالى عنه -: أنه قال: نزل قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاة (101)} [النساء: 101] هذا القَدْرُ، ثم بعدَ حَوْلٍ سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن صلاةِ الخَوْفِ فنزل (4): {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ

(1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (15/ 273) لكن قال الذهبي: لم أر أحداً تكلم فيه بضعف، وقد وثقه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي بقولهم: ثقة، وقد ذكره ابن حبان في "الثقات". انظر:"ميزان الاعتدال" له (8/ 65).

(2)

ورجح الطبري هذا القول. انظر: "تفسير الطبري"(5/ 249). وانظر: "المحلى" لابن حزم (5/ 35).

(3)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 362)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (3/ 353).

(4)

جاء على هامش "ب": " {إِنْ خِفْتُمْ} الآية، لا تنزلوا متفرقة، كما قال الشافعي، فتنظر في كتب بيان عدد الآي، لكن الذي رأيته في كتاب الإمام أبي عمرو الداني في آي القرآن أن قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} إلى {مُهِينًا} آية واحدة، ولم يذكر فيه خلافاً، فإن صح تأخر إنزال (إن خفتم) فهو إلحاق شرط لا أنه آية أخرى، ولم يختلف أهل العدد فيما نعلم أنه آية واحدة، فيكون التقدير: أنه نزل قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)} ثم نزل قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهو للتغليب لا للتعليق، أو يقال: بأن من رأى تأخره لم يعلم به إلا بعد سنة، والله أعلم".

ص: 7

يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101]{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} (1)[النساء:102].

وروي مثلُه عن عليِّ بنِ أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - قال: نزل قولُه: {إِنْ خِفْتُمْ} بعدَ قوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء:101] بسنةٍ في غزوةِ بني أسَد حينَ صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الظهر، قال بعضهم: هَلاً شددتُم عليهم، وقد أمكنوكُم من ظُهورهم، فقالوا: بعدَها صلاةٌ هي أَحَبُّ إليهم من آبائِهم وأولادِهم، فنزل:{إِنْ خِفْتُمْ} إلى قوله: {عَذَابًا مُهِينًا} (2)(3)[النساء:101 - 102].

وروي نحوهُ عَن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما - أيضاً (4).

- وذهب الجمهورُ من الصحابةِ وغيرِهم -رضيَ الله تعالى عنهم- إلى أن الشرطَ للتغليبِ، خرجَ على غالبِ الوجود، وأن المرادَ بالقصرِ التشطيرُ؛ فإن أسفارَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه المواجَهين بالخطاب لا تنفكُّ عن الخوف

(1) هكذا ذكره البغوي في "تفسيره"(1/ 472) عن أبي أيوب، لكن رواه الطبري في "التفسير" (5/ 244) عن أبي أيوب عن علي. قال ابن كثير: هذا سياق غريب جداً ولكن لبعضه شاهد. انظر: "تفسير ابن كثير"(1/ 549).

(2)

رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 244).

(3)

ذكر هذا الأثر القرطبي بلفظ قريب وعزاه لابن رشد في "مقدمته" وابن عطية في "تفسيره"، وذكره الزمخشري وأبو حيان ولم يذكرا راويه.

قلت: ولبعضه شواهد كما قال الزيلعي: رواه الطبري عن ابن عباس، وفي مسلم بعضه عن جابر، والترمذي والنسائي عن أبي هريرة. انظر:"الكشاف للزمخشري"(1/ 648)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 388)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 362)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (3/ 353).

(4)

رواه الطبري في "التفسير"(5/ 256)، والحاكم في "المستدرك"(4323).

ص: 8

غالباً، ويدل على ذلكَ بيانُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بقوله، أنَّ الشرطَ ليسَ للاعتبارِ والتعليق.

قال يَعْلَى بنُ أُمَيَّةَ: قلتُ لعمرَ بنِ الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه -: إنما قالَ الله تعالى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101]، فقد أمنَ الناسُ، فقالَ عمرُ: عجبتُ من الذي عجبتَ منه، وسألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقال:"صَدَقةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بها عليكُمْ، فاقْبَلُوا صَدَقَتهُ"(1).

وقال ابنُ عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما -: سافرنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بينَ مكةَ والمدينة آمنينَ لا نخافُ إلا اللهَ تعالى، نُصَلِّي ركعتين (2)

ورفعُ الجُناح عن المُصَلِّي إذا قَصَرَ الصلاةَ يدلُّ على جواز القصرِ، ولا يدلُّ على وجوبه، لأن رفعَ الجُناح موضوعٌ لإباحة الشيء، لا لوجوبه.

* وقد اختلفَ الفقهاءُ في القصر، هل هو رخصة، أو عزيمة؟

1 -

فقال الشافعيُّ: هو رخصةٌ، إما على تقدير أنها رخصةٌ جائزةٌ، أو مستحبةٌ؛ كما هو المشهورُ عند أصحابه كما سيأتي -إن شاء الله تعالى (3) -.

واستدلَّ بظاهرِ اللفظِ في الآيةِ، وبحديثِ يَعْلَى بنِ أميةَ، وبقولِ عائشةَ -رضي الله تعالى عنها -: كُلَّ ذلكَ قدْ فعلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، أتمَّ في السفر،

(1) رواه مسلم (686)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها.

(2)

رواه النسائي (1436)، كتاب: تقصير الصلاة في السفر، في أوله، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 362)، دون قوله:"آمنين".

(3)

وهو قول أحمد. انظر: "الأم" للشافعي (1/ 179)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 615).

ص: 9

وقصرَ (1)، وبإتمامِ عثمانَ وعائشةَ -رضي الله تعالى عنهما (2) -، وبما ثبتَ أنَّ الصحابةَ -رضي الله تعالى عنهم - كانوا يسافرونَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم القاصرُ، ومنهمُ المُتِمُّ، ومنهمُ الصائِمُ، ومنهُمُ المُفْطِرُ، لا يَعيبُ بعضُهم على بعض (3).

2 -

وذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابهُ إلى أنهُ عزيمةٌ (4).

واستدلّوا بما رواهُ الزهريُّ عن عُروةَ عن عائشةَ - رضي الله تعالى عنها - قالت: أَوَّلَ ما فُرِضَتِ الصَلاُة رَكْعَتينِ رَكْعَتين، فزيدَ في صلاةِ الحَضَرِ، وأُقِرَّتْ صلاةُ السفر (5).

وبما روى عِمرانُ بنُ الحُصَينِ -رضي الله تعالى عنه- قال: حَجَجْتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فكان يصلَّي رَكْعتين، وسافرتُ مع أبي بكرٍ - رضي الله تعالى عنه -، فكانَ يصلَّي ركعتين حتى ذهب، وسافرتُ مع عُمَر -رضي الله تعالى عنه-، فكان يصلَّي رَكعتين حتى ذهب، وسافرتُ مع عثمانَ -رضي الله تعالى عنه-، فكان يصلِّي رَكعتين ستَّ سنين، ثم أتمَّ بنا (6).

(1) رواه الإمام الشافعي في "اختلاف الحديث"(ص 290)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 141).

(2)

انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 121)، و"المغني" لابن قدامة (2/ 52).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

انظر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 239)، و "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 91).

(5)

رواه النسائي (454)، كتاب: الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة؟، والإمام الشافعي في "مسنده"(156)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(35992)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(4454)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 143)، وهذا اللفظ البيهقي. ورواه البخاري (1040)، ومسلم (685) نحوه.

(6)

رواه الترمذي (545)، كتاب: أبواب العيدين، باب: ما جاء في التقصير في =

ص: 10

وأجابوا عن إتمامِ عُثمان، بأن ابنَ مسعودٍ عابَهُ على عثمانَ.

وعن إتمامِ عائشةَ، بأنَّ الزهريَّ قال لعروةَ لمّا روى له الحديثَ السابق: وما شأنُ عائشةَ كانت تُتِمُّ؟ قال: إنها تأولت ما تأولَ عثمان.

وما استدلَّ به الكوفيون، فلا حجةَ فيه: أما حديثُ عمرانَ، فليس فيه أكثرُ من فعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإن كانَ بياناً للقرآنِ، وهو الظاهرُ، فهو بيانٌ لما ظهرَ فيه قصدُ الإباحةِ والرخصةِ، فإن كانَ ابتداءَ حُكمٍ، وهو خلافُ الظاهرِ، فالفعلُ بمجربٍ لا يدلُّ على الوجوب.

وأما عَتْبُ ابنِ مسعودٍ - رضي الله تعالى عنه -، ففيه الحجَّةُ عليهم؛ لأنه قامَ وصَلَّى بأصحابه في منزله، وأتمَّ، فقيل له: عِبْتَ الإتمامَ وأَتْمَمْتَ! فقال: الخلافُ شَرٌّ (1)، فلو كانَ القصرُ حَتْماً، لَما أتَمَّ، ولعلَّهُ إنَّما عابَ على عُثمانَ تركَ الأخذِ بالرُّخْصَةِ (2).

وأما حديثُ عائشةَ، فلا دلالةَ لهم أيضاً من وجهين:

= السفر، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 431)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(7174)، والطبراني في "المعجم الكبير"(18/ 515).

ولفظ الترمذي: عن أبي نضرة قال: سئل عمران بن الحصين عن صلاة المسافر، فقال: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى ركعتين، وحججت مع أبي بكر فصلى ركعتين، ومع عمر فصل ركعتين، ومع عثمان ست سنين من خلافته - أو ثماني سنين - فصل ركعتين. ورواية الإمام أحمد والطبراني نحوها إلا أنهما زادا بعده: ثم صلى بمنى أربعاً.

(1)

رواه أبو داود (1965)، وعبد الرزاق في "المصنف"(4269)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 143).

(2)

انظر: "اختلاف الحديث" للشافعي (1/ 492)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 365).

ص: 11

أحدهما: أنها عملتْ بخِلافِ ما رَوَتْ، وعملُ الصَّحابيّ مقدَّم على روايتهِ عندهم (1).

الثاني: أنها رَوَتْ - أيضاً - أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَصَرَ وأَتَمَّ (2)، فدلَّ على أن المرادَ بقولها: وأُقرَّتْ صلاةُ السفرِ لمن شاءَ القصرَ؛ بدليلِ روايتها الأخرى، ولأنه ما اجتمعَ فيه روايتُها وعملُها، كان أقوى مما اختلف فيه عملها وروايتُها.

قال الشافعيّ: وإنما عَمِلَتْ بما رَوَتْ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تعملْه تأوُّلاً كما قالَهُ عُروةُ (3).

3 -

وذهب قومٌ إلى أن القصرَ سُنَّةٌ ليسَ بِرخْصةٍ، ولا حتماً (4).

وهو المشهورُ عن مالكٍ، والمشهورُ عندَ الشافعية؛ لما فيه منَ الجَمْع بين الأدلةِ، والاقتداءِ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

(1) اختلف في عمل الصحابي بخلاف الحديث الذي يرويه، فذهب الشافعي في المشهور عنه: أن الأخذ بروايته دون رأيه، والمشهور من مذهب أبي حنيفة عكسه، وعن أحمد روايتان، وفي المسألة تفصيل فيما إذا كان عاماً أو مجملاً

انظر: "رفع الحاجب شرح مختصر ابن الحاجب" للسبكي (2/ 450)، و "المجموع" للنووي (2/ 535)، و"المسودة في أصول الفقه" لابن تيمية (ص: 116)، و"إغاثة اللهفان" لابن القيم (1/ 293)، و"البحر المحيط" للزركشي (3/ 423)، و"فتح المغيث" للسخاوي (1/ 341).

(2)

تقدم قريبًا.

(3)

انظر: "اختلاف الحديث" للشافعي (1/ 491)، و "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (2/ 427).

(4)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 244)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 121)، و "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 618).

ص: 12

4 -

وذهبتِ البغداديةُ المالكية (1) إلى أن القصرَ والإتمامَ فَرضان، فأيَّهما فَعل، فقد فَعَلَ الواجبَ؛ كالواجبِ المُخَيَّر (2).

ونقله بعضُ المصنفين (3) عن بعضِ الشافعيةِ، وهذا القولُ غيرُ معروفٍ عندهم، وإن كان القولُ به غير ممتنع.

* وعلق اللهُ سبحانه القصرَ على الضربِ في الأرض، وذلك مطلقٌ غيرُ مقيدٍ.

1 -

فأخذَ بإطلاقه آخرون، وهم أهلُ الظاهر، فجوزوا القصرَ، في كلَّ سفرٍ، طويلاً أو قصيراً (4).

2 -

وقيده الجمهورُ من أهل العلمِ بالمعنى الذي أُبيحَ له القصرُ، وهو المشقةُ الزائدَةُ على مشقةِ الحَضَر.

ثم اختلفوا.

- فذهبَ ابنُ مسعودٍ، وعثمانُ، وغيرُهما -رضي الله تعالى عنهم - إلى أن المسافةَ المُبيحةَ للقَصْر هي ثلاثةُ أيام (5)، وبه قال أبو حنيفةَ وأصحابهُ (6).

(1) وهم: إسماعيل بن إسحاق وأصحابه؛ كابن بكير وأبي الحسن بن المنتاب وأبي العباس الطيالسي وأبي الطيب محمد بن محمد وأبي الفرج عمرو بن محمد والأبهري، وهو مصطلح يكثر من إيراده ابن عبد البر في كتبه. انظر:"الاستذكار"(1/ 249)، و"جامع بيان العلم وفضله" كلاهما لابن عبد البر (2/ 73).

(2)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 225)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 617)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 120).

(3)

يعني به ابن عبد البر في "الاستذكار"(2/ 225)، والله أعلم.

(4)

انظر: "المحلى" لابن حزم (5/ 93)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 238).

(5)

انظر: "المجموع" للنووي (4/ 276)، و"المغني" لابن قدامة (2/ 47).

(6)

انظر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 235)، و"العناية شرح الهداية" للبابرتي (2/ 356)، و"البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 140).

ص: 13

- وذهبَ ابنُ عمرَ، وابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهم - إلى أنها أربعةُ بُرُدٍ، وذلك يومانِ (1).

وبه قالَ مالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ (2)، وجَمْعٌ كثير (3)، ولأن المشقةَ المعتبرةَ توجد في ذلك غالباً.

ومذهبُ أهلِ الظاهر قويٌّ.

لَما رواهُ مسلمٌ عن عُمر -رضي الله تعالى عنه-: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقصُرُ في السَّبْعَةَ عَشَرَ ميلاً (4).

* إذا تقرَّرَ هذا، فقد رُوي عن النبَّي صلى الله عليه وسلم أحاديثُ صحيحةٌ أنه جمعَ بينَ الظُّهر والعَصْرِ، والمغربِ والعِشاء في السفر.

* فأجمعَ أهلُ العلم على جوازِ الجَمْع بينَ الظهر والعصر بعرفةَ، وبينَ المغربِ والعِشاء بمُزْدَلِفَةَ (5).

(1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (21/ 52)، و"المغني" لابن قدامة (2/ 47).

(2)

انظر: "المدونة الكبرى"(1/ 121)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 121)، و"الأم" للشافعي (1/ 183)، و "المجموع" للنووي (4/ 276)، و"المغني" لا بن قدامة (2/ 47).

(3)

في "ب": "وجماعة كثيرة".

(4)

رواه مسلم (692)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها، عن جبير بن نفير، عن شرحبيل بن السمط.

ولفظه: عن جبير بن نفير قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلاً فصلى ركعتين، فقلت له، فقال: رأيت عمر صلَّى بذي الحليفة ركعتين، فقلت له، فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.

(5)

انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (1/ 414)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 124).

ص: 14

واختلفوا في غيرِهما من الأمكنة.

فجوزه الجمهورُ (1)، ومنعه أبو حنيفةَ وأصحابُه (2).

لأن الأفعالَ يتطرقُ إليها من الاحتمالِ ما لا يتطرقُ إلى الأقوالِ.

واحتجوا بأنَّ ابنَ مَسعودٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: والذي لا إله غيره! ما صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاةً قَطُّ إلا في وقتِهما، إلا صلاتين: جمعَ بين الظهرِ والعصرِ يومَ عرفةَ، وبين المغربِ والعشاءِ بِجَمْعٍ (3).

وتمسكوا بدليل الإجماع على أنه لا يجوزُ الجَمْعُ في الحَضَرِ، واستمرَّ الحكمُ في السفر.

وحملوا الأحاديثَ على أنه أخرها إلى آخرِ وقتها؛ بحيث يفرغ منها ثم يدخلُ وقتُ الصلاةِ التي بعدَها، بدليلِ بيانِ جبريلَ عليه الصلاة والسلام في المرةِ الثانيةِ (4).

واستمسكوا بأنَّ الأصلَ عدمُ جوازِ الجَمْعِ إِلا بيقينٍ، وليس فيما رُوي من أفعالِه صلى الله عليه وسلم على ذلك نَصٌّ لا يحتملُ التأويل.

* * *

(1) انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (1/ 414)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 203)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 212).

(2)

انظر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 149)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 126).

(3)

رواه البخاري (1598)، كتاب: الحج، باب: متى يصلي الفجر بجمع، وصلاة الفجر بالمزدلفة، ومسلم (1289)، كتاب: الحج، باب: استحباب زيادة التغليس بصلاة الصبح يوم النحر بالمزدلفة.

(4)

رواه أبو داود (393)، والترمذي (149) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 15

97 -

(39) قوله جَلَّ ثَناؤه: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)} [النساء: 102].

* لمَّا شرَّفَ اللهُ هذهِ الأمةَ وكرَّمها ورحِمَها، جمعَ لها بينَ فضيلةِ امتثالِ أمرهِ بأداءِ فرائضِه في حالِ الشدةِ والبأسِ، وبينَ استعمالِ الحذرِ فيها من عدوَّهم، فشرع لهم صلاةَ الخوفِ، وبينَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

* وأجمع المسلمونَ على وجوبِ الصلاةِ في حالِ الخوفِ، وجوازِها كما شرعَ اللهُ سبحانَه في كتابه وبيَّنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (1).

إلا ما يُحْكى عن طائفةٍ من فُقهاء الشامِ من المالكيَّةِ أنه يجوزُ تأخيُرها عن وقتِ الخَوْف إلى وقتِ الأمنِ (2)؛ كما فعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ الخندق (3).

(1) انظر: "المحلى" لابن حزم (2/ 243)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 127)، و" المغني" لابن قدامة (2/ 130)، و"المجموع" للنووي (4/ 349).

(2)

انظر "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 408)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 127).

(3)

هناك أحاديث كثيرة بينت كيفية صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، أوضحها ما جاء عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن المشركين شغَلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله فأمر بلالاً فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصل العشاء. رواه الترمذي (179).

ص: 16

والجمهورُ على أنه منسوخ بصلاةِ الخوف؛ لأن صلاةَ الخوفِ أولَ ما شُرِعَتْ بذاتِ الرِّقاعِ، وهي أولُ سنةِ خَمْسِ قبل خَيْبرَ، وأَنَّ خَيْبَرَ في سنةِ سَبْعٍ، هكذا ذكره النوويُّ في "الروضة"(1).

وذكر البخاريُّ في "صحيحه": أن ذاتَ الرقاعِ بعدَ خَيْبَر (2).

واستدلَّ بأنَّ أبا موسى شهدَ ذاتَ الرقاعِ، ومجيئُهُ كانَ بعدَ خيبرَ، وأما يومُ الخَنْدَقِ، فكان في سنةِ أربعٍ في شَوَّال، ذكرهُ البُخاريُّ (3) وغيره، وهو الصحيحُ (4).

وقيل: في سنة خَمْسٍ؛ كما قالهُ ابنُ إسحاقَ (5).

وأما أول ما شُرعتْ صلاةُ الخوفِ، فإن ذلك كان بِعُسْفانَ، لا بِذاتَ الرِّقاعِ، كما سيأتي في روايةِ أبي عياشٍ الزُّرقِيِّ -رضي الله تعالى عنه-.

* وقد صلَاّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بصفاتٍ مختلفةٍ بحسبِ اختلافِ المَواطنِ والأحوالِ، يبلغُ مجَموعها ستةَ عَشَرَ وَجْهاً، وسنبين مُعْظَمَها بذكرِ أربع صفات:

الصفة الأولى: صلاةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعُسْفانَ.

قال أبو عياشٍ الزرقيُّ -رضي الله تعالى عنه- كنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بعسفانَ، وعلى المشركين خالدُ بنُ الوليد، فصلينا الظهرَ، فقال

(1) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 207).

(2)

انظر: "صحيح البخاري"(4/ 1512).

(3)

انظر: "صحيح البخاري"(4/ 1512).

(4)

وهو الذي رجحه ابن القيم وابن كثير وابن حجر. انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 252)، و"السيرة النبوية" لابن كثير (ص: 142)، و"فتح الباري" لابن حجر (7/ 417).

(5)

انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (4/ 170).

ص: 17

المشركونَ: لقد أَصَبْنا غفلة، لو كُنَا حَمَلْنا عليهمْ وهم في الصلاة، فنزلتْ آيةُ القَصْرِ بين الظهرِ والعصرِ، فلما حضرتِ صلاة العصر (1)، قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مستقبلَ القبلةِ، والمشركون أمَامهُ، فصفَّ خلفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم صَفٌ واحدٌ، وصفَ بعدَ ذلك صَفٌّ آخرُ، فركعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وركعوا جميعًا، ثم سجدَ الصفُّ الذي يليه، وقام الآخَرُ يحرس لهم، فلما صَلَّى هؤلاء السجدتين، وقاموا، سجدَ الآخرونَ الذين كانوا خلفَه، ثم تأخرَ الصفُّ الذي يليهِ إلى مَقامِ الآخرينَ، وتقدم الصفُّ الآخرُ إلى مَقام الصفَّ الأولِ، ثم ركعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وركعوا جميعاً، ثم سجدَ وسجَد الصفُّ الذي يليه، وقام الآخرونَ يحرسونهم، فلما جلسَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والصفُّ الذي يليهِ، سجدَ الآخرون، ثم جلسوا جميعًا، ثم سلم بهم جميعاً (2).

وخرجه مسلم عن جابر بنِ عبد الله -رضي الله تعالى عنهما (3) -.

وروى ابنُ عباس -رضي الله تعالى عنهما - نحوَ حديثِ جابرٍ وأبي عياشٍ، إلا أنه ليس في روايته تقدُّمُ الصف الثاني، وتأخرُ الصفِّ الأول (4).

والعملُ بظاهره جائز عند الشافعية (5).

(1) في "أ": "الصلاة".

(2)

رواه أبو داود (1236)، كتاب: الصلاة، باب: صلاة الخوف، والنسائي (1550)، كتاب: صلاة الخوف، وسعيد بن منصور في "سننه"(2503)، والحاكم في "المستدرك"(1252)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 256).

(3)

رواه مسلم (840)، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف.

(4)

رواه البخاري (902)، كتاب: صلاة الخوف، باب: يحرس بعضهم بعضاً في صلاة الخوف.

(5)

وكذا عند الحنفية والحنابلة. انظر: "مختصر المزني"(ص: 30)، و"المجموع "=

ص: 18

وهل الأفضلُ التقدُّمُ والتأخُّرُ كما وردَ في روايةِ جابرٍ وأبي عياشٍ، أو بقاء الصفينِ على حالِهما كما هو ظاهرُ رواية أبي عياش؟.

فيه وجهانِ عند الشافعية.

وينبغي أن يقطع بفضيلة التقدم والتأخر (1).

ويحملُ إطلاقُ ابنِ عباسٍ على تقييدِ غيرهِ، وإن كانتْ أكثرَ أفعالاً؛ ففي كثرةِ الأفعالِ حكمةٌ حسنةٌ، وهو قطعُ طمعِ العدوِّ.

وبهذه الرواياتِ أخذَ الشافعيُّ، والثوريُّ، وابنُ أبي ليلى، وأبو يوسفَ، وجماعةٌ من أصحاب مالكٍ (2).

إلا أن الشافعيَّ قال في "المختصر": يسجدُ معه الصفُّ الثاني، ويحرسُ الصفُّ الأولُ (3).

فأخذ بها الخُراسانيون من أصحابهِ حتى ادَّعى بعضُهم أنها منقولةٌ عن فعل رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بعُسْفان (4).

ودعواهُ ضعيفةٌ.

وقال العراقيون: الشافعيُّ عكسَ ما ثبتَ في السُّنَّةِ، والمذهبُ ما ثبتَ فيها؛ لأنه قال: إذا رأيتم قولي مخالفاً للسنِة، فاطَّرحوه (5).

= للنووي (4/ 365)، و"المبسوط" للسرخسي (2/ 47)، و"المغني" لابن قدامة (2/ 137).

(1)

انظر: "الشرح الكبير" للرافعي (4/ 631).

(2)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (6/ 126)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 6).

(3)

انظر: "مختصر المزني"(ص: 30).

(4)

انظر: "الشرح الكبير" للرافعي (4/ 629)، و"روضة الطالبين" للنووي (2/ 51).

(5)

انظر: "خلاصة الأحكام"(1/ 353)، و"المجموع" كلاهما للنووي (1/ 136).

ص: 19

وأجاب النوويُّ من متأخِّري الشافعيةِ بأنَّ الشافعي إنما ذكرَ هذا ليبين جوازَهُ؛ فإنه ذكرَ الحديثَ كما ثبتَ في "الصحيحين"(1)، ثم ذكرَ الكيفيةَ المذكورةَ، فأشار إلى جوازِها (2).

وهو جوابٌ حسنٌ.

الصفة الثانية: صلاة النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذاتِ الرَّقاعِ من نَخْلِ (3) أرضِ غَطَفان، وفيها ثلاثُ رواياتٍ:

الأولى: رواية صالح بنِ خَوَّاتِ بِنِ جُبيرٍ عَمَّنْ صَلَّى مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم يومَ ذاتِ الرقاعِ، وهو سَهْلُ بنُ أبي حَثْمة، قال: إن طائفةً صفَّتْ معُه، وصفَّتْ طائفةٌ وِجاهَ العدِّو، فصلى بالتي معه ركعةً، ثم ثبتَ قائماً، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وِجاهَ العدوَّ، وجاءت الطائفةُ الأخرى، فصلى بهم الركعةَ التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً، وأتموا لأنفسِهم، ثم سلم بهم (4).

الثانيةُ: رواية عبدِ الله بنِ عمرِ -رضي الله تعالى عنهما - قال: صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الخوفِ في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفةٌ بإزاءِ العدوِّ، فصلى (5) بالذين معه ركعةً، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون، فصلى

(1) انظر: "صحيح البخاري"(4/ 515)، و "صحيح مسلم" (1/ 576). وفي "ب":"الصحيح".

(2)

انظر: "شرح مسلم"(6/ 126)، و "المجموع"(4/ 365)، و"روضة الطالبين" ثلاثتها للنووي (2/ 50).

(3)

في "ب" زيادة: "من".

(4)

رواه البخاري (3900)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (842)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف.

(5)

في "ب": "وصلّى".

ص: 20

بهم ركعة، وقضت الطائفتان ركعةً ركعةً (1).

ثم اختلفَ أهلُ العلمِ في روايته.

فقيل: إن الطائفتين قضوا ركعتَهم الثانيةَ جميعاً، وهو قولُ الشافعيِّ في "كتاب اختلاف الحديث"(2).

وقيل: قَضَوْها متفرِّقين، وهو ظاهرُ نقلِ البخاريِّ (3).

(1) رواه مسلم (839)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف.

واللفظ له، والبخاري (3904)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع.

(2)

قال الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث"(ص: 526 - 527) عكس هذا القول، بل إنه ردَّ عليه حيث قال: وذكر الله خروجَ الإمام بالطائفتين من الصلاة ولم يذكر على واحدة من الطائفتين ولا على الإمام قضاء، وهكذا حديث خوات بن جبير. قال: ولما كانت الطائفة الأولى مأمورة بالوقوف بإزاء العدو في غير صلاة، كان معلوماً أن الواقف في غير صلاة يتكلم بما يرى من حركة العدو وإرادته ومدداً إذا جاءه فيفهمه عنه الإمام والمصلون فيخفف أو يقطع، أو يعلمونه أن حركتهم حركة لا خوف فيها عليهم فيقيم على صلاته مطيلاً لا معجلاً، وتخالفهم الطائفة التي بإزائهم أو بعضها وهي في غير صلاة، والحارس في غير صلاة أقوى من الحارس مصلياً، فكان أن تكون الطائفة الأخرى إذا حرست الأولى إذ صارت مصلية والحارسة غير مصلية أشبه من أن تكون الأولى قد أخذت من الآخرة ما لم تعطها، والحديث الذي يخالف حديث خوات بن جبير تكون فيه الطائفتان معاً في بعض الصلاة ليس لهما حارس إلا الإمام وحده، وإنما أمر الله إحدى الطائفتين بحراسة الأخرى، والطائفة الجماعة لا الإمام الواحد، قال: وإنما أراد الله أن لا يصيب المشركون غِرَّة من أهل دينه، وحديث خوات بن جبير كما وصفنا أقوى من المكيدة، وأحسن لكل المسلمين من الحديث الذي يخالفه، قال الشافعي: فبهذه الدلائل قلنا بحديث خَوَّات بن جبير.

(3)

انظر الأحاديث التي ساقها البخاري في "صحيحه"(3901 - 3904) في كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع.

ص: 21

قال النوويُّ: وهو الصحيحُ (1).

الثالثة: خَرَّجها أبو داودَ عن ابنِ مسعودٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: صَلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الخوفِ بطائفةٍ، وطائفة مستقبلي العدوِّ، فصلى (2) بالذين معه ركعةً وسجدتين، وانصرفوا ولم يسلموا، فوقفوا بإزاءِ العدو، ثم جاء الآخرون فقاموا معه، فصلى بهم ركعة، ثم سلم، فقام هؤلاء فقضوا لأنفسهم ركعةً، ثم سلموا وذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مراتبهم، فصلوا لأنفسهم ركعةً ثم سلموا (3).

فأخذ أبو حنيفةَ بهذه الروايةِ، إلا أنه قال: تتم الطائفةُ الثانيةُ الركعةَ التي عليها بعدَ أن تذهبَ إلى وَجْهِ العدو، وتأتي الطائفةُ الأولى وتتم ركعتها، ثم تذهب إلى مقامِ العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية، فحينئذٍ تتمُ ركعتَها (4).

وقد أُنكرتْ عليهِ هذهِ الزيادةُ، وقيل: إنها لم تردْ في حديثٍ (5).

وأخذ الأوزاعيُ وأشهبُ المالكي بروايةِ ابنِ عُمَر، ورُجِّحَتْ بأنها وردتْ بنقلِ أهلِ المدينة، وهم الحجةُ في النقلِ على مَنْ خالفهم (6).

(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (6/ 125).

(2)

في "ب": "وصلى".

(3)

رواه أبو داود (1244)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يصلي بكل طائفة ركعة، ثم يسلم، فيقوم الذين خلفه، فيصلون ركعة، ثم يجيء الآخرون إلى مقام هؤلاء، فيصلون ركعة، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"(5353)، وابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 254)، والدارقطني في "سننه"(2/ 61).

(4)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 236)، و "المبسوط" للسرخسي (2/ 46).

(5)

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 461)، و"المحلى" لابن حزم (5/ 40).

(6)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 402)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 366).

ص: 22

وبرواية صالحِ بنِ خَوّاتٍ أخذَ مالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وأبو ثور، ورجحوا بأنه أحوطُ للصلاة؛ لقلةِ الأفعالِ فيها (1).

قال الشافعيُّ: ولأنهُ أكثرُ موافقةً للقرآن؛ لأن اللهَ سبحانه ذكرَ صلاةَ الطائفتين معه، وإذا أتموا لأنفسِهم، لم تكنْ جميعُ صلاتِهم معه، ولأن اللهَ سبحانه لم يذكرْ على الإمامِ ولا على واحدةٍ من الطائفتين قضاءً، ولأنَّ اللهَ سبحانه وصفَ الطائفةَ الآتية أنها لم تصلِّ، ولو صلَّتْ ركعةً ثم انصرفتْ ورجعتْ لم يقعْ عليها الوصفُ بأنَّها لم تصلِّ، ولأنه أبلغُ في الحِراسةِ ومَكيدةِ العدوِّ، ومعلومٌ أن منْ هو خارجَ الصلاة أكملُ في الحراسةِ ممَّن هو فيها؛ لأن غيرَ المصلي يتكلمُ بما يَرى من حركةِ العدوِّ وإرادته، ويخبر عنه بالمَدَدِ وغيره، فيخففُ الإمامُ والمصلون لذلك، أو يأخذون حِذْراً أبلغَ من الأولِ، أو يخبر الإمامَ أن حركةَ العدو حركةٌ لا خوفَ فيها، فيتمكن من صلاته، فلا يعجل فيها.

وفي غيرها من الروايات: تُصَلِّي الطائفتانِ مع الإمامِ بعضَ الصلاة، ولا يكون لهما (2) حارس إلا الإمام (3).

ولم يأمرِ اللهُ سبحانه إلا بحراسةِ إحدى الطائفتين [للأخرى].

وكان الأخذُ بروايةِ صالحِ بنِ خَوَّاتٍ أبلغَ في الحذر، وأقوى في المكيدة، وأحوطَ للصلاة، وأكثرَ موافقةً للقرآن (4). ولهذا قال فيه مالكٌ:

(1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (15/ 261)، و"الأم" للشافعي (1/ 211)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 460)، و"المغني" لابن قدامة (2/ 132).

(2)

في "أ": "لها".

(3)

وهي رواية ابن عمر المتقدمة.

(4)

انظر: "اختلاف الحديث" للشافعي (1/ 526)، وقد نقله المصنف عنه بالمعنى.

ص: 23

وهذا أحسنُ ما سمعت في صلاةِ الخوف (1).

إلا أن مالكاً رواهُ في "الموطأ" موقوفاً على سَهْلِ بن أبي حثمة، وفيه أنه لما قضى الركعة بالطائفةِ الثانية سَلَّم، ولم ينتظرهم (2) حتى يفرغوا من الصلاة (3).

واختار هو وأبو ثورٍ هذه الصفة؛ لموافقتها الأصولَ؛ لأن الإمامَ متبوعٌ لا تابع ولا مختلَف عليه (4).

واختار الشافعيُّ العمل بالرواية المسندة، وهي أن ينتظرَهم ويسلمَ بهم؛ لأنه أقوى؛ لاتصاله، واختاره أحمدُ مع إجازتهِ لجميعِ صلاةِ الخوف (5).

ولمالكٍ قول كمذهبِ الشافعيِّ (6).

ثم ذهب قوم إلى أن هذا اختلاف من جهةِ المُباح، فيجوزُ للإمام أن يصليَ بهم بأيِّ روايةٍ وردتْ في السنة.

قال الإمامُ أحمدُ: كلُّ حديثٍ رُوي في أبوابِ صلاةِ الخوفِ فالعملُ به جائز (7).

(1) انظر: "الموطأ" للإمام مالك (1/ 185).

(2)

في "أ": "ينتظر".

(3)

رواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 183)، عن سهل بن أبي حثمة. كما رواه البخاري (3902)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع.

(4)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 402)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 125).

(5)

انظر "شرح مسلم" للنووي (6/ 125)، و"المغني" لابن قدامة (2/ 137).

(6)

انظر: "الكافي" لابن عبد البر (ص: 73).

(7)

انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (3/ 264)، وانظر:"المغني" لابن قدامة (2/ 137).

ص: 24

وعند أصحابِ الشافعيِّ خلافٌ فيما إذا صلى بما رُوي عن ابن عمرَ هل تصح الصلاة أو لا؟ (1).

الصفة الثالثة: صلاةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ببطْنِ نَخْلٍ في غزوةِ ذاتِ الرقاعِ أيضاً:

وهي أنه صلى الله عليه وسلم صلى بكلِّ طائفةٍ ركعتينِ، خَرَّجها الشيخانِ عن جابرٍ (2)، وأبو داودَ في "سننه" عن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه (3) -، فكانتِ الطائفةُ الثانيةُ مُفْترِضين خلفَ مُتَنَفِّلِ، وبه أخذَ الشافعيُّ (4)، وكان يفتي به الحسنُ البصريُّ (5)، وادَّعى الطَّحاوِيُّ أنه منسوخٌ (6)، ودعواهُ مردودةٌ؛ إذْ لا دليلَ عليها.

الصفة الرابعة: ويقالُ إنها: صلاةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بذي قَرَد.

روي عنْ (7) حُذيفةَ -رَضيَ اللهُ تعالى عنهُ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم -صَلَّى بإحدى الطائفتينِ ركعةً، وبالأخرى ركعةً، ولم يقضوا شيئاً (8).

(1) والمشهور الصحة. انظر: "روضة الطالبين" للنووي (2/ 52).

(2)

رواه البخاري (3898)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (843)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف.

(3)

رواه أبو داود (1248)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يصلي بكل طائفة ركعتين، والنسائي (1552)، كتاب: صلاة الخوف، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 315)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 259).

(4)

انظر: "الأم" للشافعي (1/ 216)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 134).

(5)

انظر: "سنن أبي داود" عَقِبَ حديث (1248).

(6)

انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 315).

(7)

"روي" ليس في "أ".

(8)

رواه أبو داود (1246)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يصلي بكل طائفة ركعة، ولا يقضون، والنسائي (1530)، كتاب: صلاة الخوف، وابن خزيمة في "صحيحه"(1343)، والبزار في "مسنده"(2968)، وابن حبان في "صحيحه"=

ص: 25

ورويَ أيضاً عن زيدِ بنِ ثابت، وقال: كانتْ للقومِ ركعة ركعة، وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان (1).

وتأوله قومٌ على صلاة شدةِ الخوفِ، وقالوا: الفرضُ في هذه الحالة ركعةٌ واحدة (2).

قال الشافعيُّ: وإنما تركناه؛ لأن جميعَ الأحاديثِ في صلاةِ الخوف مجتمعةٌ على أنَّ على المأمومين من عددِ الصَّلاة ما على الإمامِ، وكذلك أصلُ الفرض في الصلاةِ على الناسِ واحدٌ في العدد، ولأنه لا يثبتُ عندَنا مثلُه لشيءٍ في بعضِ إسناده، ولا يثبتُ أهلُ العلمِ بالحديثِ مثلَه (3).

* إذا تقرر هذا، فقد اتفقَ جُمهور أهلِ العلم على جَواز صلاةِ الخوفِ بعدَ النبي صلى الله عليه وسلم (4)، ولم يخالفْ إلا بعضُ فُقهاءِ الشام، والمزنيُّ، وأبو يوسفَ.

فأما أهلُ الشامِ والمزنيُّ (5)، فادعَوا نسخَها، وقد بَيَّنّا بُطلانَه.

= (1452)، والحاكم في "المستدرك"(1245)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 261).

(1)

ذكره أبو داود (1246)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يصلى بكل طائفة ركعة، ولا يقضون، عن ابن عمر، وعن زيد بن ثابت.

(2)

وأكثر أهل العلم أن الخوف لا ينقص عدد الركعات. انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (1/ 474)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 183).

(3)

انظر: "اختلاف الحديث" للإمام الشافعي (526)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (262/ 3).

(4)

انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 130)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 346)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 126).

(5)

انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 127)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 126).

ص: 26

وأما أبو يوسفَ، فزعم أنها من خصائِصِ النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها لا تجوزُ بعدَهُ إلا بإمامينِ، يصلي كلُّ واحدٍ منهما بطائفةٍ ركعتين.

وتمسك بالمفهومِ والنظرِ:

أما المفهومُ، فاعتقد أن قوله تعالى:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] يقتضي تخصيصَه.

وأما النظُر، فإنها صلاةٌ على خِلافِ المُعْتادِ من هيئةِ الصلاة، وفيها أفعال كثيرة مباينة لصفةِ الصلاةِ تقتَضي إخلالَها، فجاز أن تكونَ المسامحةُ بسببِ فضيلةِ إمامةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وذلك مخير حالَ صلاةِ المؤتمين به (1).

ورُدَّ ذلك بأن الصحابةَ -رضي الله تعالى عنهم- لم يزالوا على فِعْلِها بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا منكرَ فيهم، فكان إجماعاً، ولأنه قال:"صَلُّوا كما رأيتُموني أصَلِّي"(2)، والأصلُ وجوبُ التأسي، وعدمُ التخصيص، فالشرط المذكور في الآية لذِكْرِ الحال، لا للتعليق، فدل على أن فعلَها على خلافِ صفتها المعتادةِ؛ لِخُصوصِ الضرورةِ الموجودةِ في وقته صلى الله عليه وسلم، لا بخصوص وقته، والضرورةُ موجودة بعده صلى الله عليه وسلم، فجازَ أن تُفعل، ولأنه لو كانَ من خصائِصه، لبينَهُ صلى الله عليه وسلم؛ لِما فرضَ اللهُ عليه من بيانِ كتابِه العزيز (3).

* ثم أمر اللهُ سبحانه عبادَه بالحذرِ وأخذِ السلاح، وهذا الأمرُ للوجوبِ.

(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 237)، و "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 406).

(2)

رواه البخاري (605)،كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافر، إذا كانوا جماعة، والإقامة، وكذلك بعرفة وجمع، ومسلم (674)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: من أحق بالإمامة، عن مالك بن الحويرث.

(3)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 364)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 430).

ص: 27

وبينَ (1) وجوبَه قولُه تعالى في آخر الآية: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] وهذا الوجوب متفق عليه بينَ المسلمين.

فيجب عليهم الحذرُ من عدو الله سبحانه، ومراقبةُ غَدْرِه ومَكْرِه، ويجب عليهم حملُ السلاحِ إن خافوا بأسَهُمْ وكيدَهُمْ، ولا يجوزُ لهم تمكينُهم من غارَتهم والاستسلامُ لهم بنيةِ الطلبِ للشهادةِ، بل يجبُ ذلك وجُوباً مُطْلقاً.

وليس المرادُ بأخذِ السلاح ملازمةَ حملِه وتناوله، بل المرادُ إما حملُه أو وضعُه قريباً بحيثُ يمكنُ المجاهد تناولُه على قرب وسهولة، ويكون حذراً، كما قالَ الله تعالى عندَ وضعِ السلاح للعذرِ:{وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 102].

ويختلفُ ذلكَ باختلافِ مواطنِ الحربِ ومواقفه.

* واختلف أهلُ العلمِ في المُجاهدِ هل يجبُ عليه حملُ السلاح (2) حالَ الصلاة؟

- فقال أبو حنيفةَ، والشافعي -في أحدِ قوليه (3) -: لا يجبُ، ويكونُ الضميرُ في قوله تعالى:{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] عائداً على الضمير الذي قبلَه، والمرادُ به الطائفةُ التي لم تُصَلِّ،

(1) في "ب": "ويبين".

(2)

في "ب": "في ".

(3)

وبه قال الإمام مالك والإمام أحمد. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 246)، و "الأم" للشافعي (1/ 219)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 468)، "المغني" لابن قدامة (2/ 137).

ص: 28

وكانت وراءهم، فالضمير في قوله تعالى:{وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} عائدٌ على الطائفةِ التي قد صَلَّتْ.

ويروى هذا التأويلُ عن ابنِ عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما (1) -.

- وقال غيرُه: المرادُ بالأمرِ الطائفةُ المُصَلِّية، وبه قالَ داودُ، والشافعيُّ في قوله الآخر (2).

وهو الصحيحُ عندي -إن شاء الله تعالى-؛ لأن عَوْدَ الضميرِ على الأقربِ أولى وأرجَحُ، ولأن اللهَ سبحانه لم يرخِّصْ في تركِ السلاحِ إلا في حالتِي المَطَرِ والمَرَضِ خاصَّةً، فدلَّ على أنه لا يَخُصُّه في تركه في غيرِ الحالتين، ولأن إحدى الطائفتين تحرُسُ الأخرى، إما في سجودها كصلاةِ عُسْفان، أو بالخروج إلى وجهِ العدو في حالِ الصلاةِ كما في روايةِ ابنِ عمرَ وابنِ مسعود -رضي الله تعالى عنهما- في صلاةِ ذاتِ الرقاع، ولا معنى للحراسة بغيرِ سلاح، والله أعلم.

وقد تقدمَ الكلامُ على الصلاةِ في شدةِ الخوف.

* وأمر الله سبحانه بالقيامِ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أن يكونَ للاستحباب، فلو أرادوا أن يصلُّوا منفردين، جاز لهم؛ بدليل قوله:"صلاةُ الجماعَةِ أَفضَلُ من صَلاة الفَذِّ بِسَبْعٍ وعِشْرينَ دَرَجَة"(3)، وبه قالَ جمهورُ

(1) رواه الطبري في "التفسير"(5/ 250).

(2)

انظر: "الشرح الكبير" للرافعي (4/ 643)، و"المجموع" للنووي (4/ 367)، و"المغني" لابن قدامة (5/ 250)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 63).

(3)

رواه البخاري (619)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: فضل صلاة الجماعة، ومسلم (650)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة، عن عبد الله بن عمر، وهذا لفظ مسلم.

ص: 29

الفقهاءِ؛ كمالكٍ، والشافعي، وأبي حنيفة (1).

ويجوزُ أن يكونَ للوجوبِ، وهو الظاهرُ، بدليل فعلِه صلى الله عليه وسلم، فلم يصلِّ صلاةً إلا في الجَماعة، وبدليلِ قوله صلى الله عليه وسلم:"أثقلُ صلاةٍ على المنافقينَ صلاةُ العشاء وصلاةُ الفَجْر، ولَو يَعْلَموا ما فيهما، لأتوْهُما ولو حَبْواً، ولقد هَمَمْتُ أن (2) آمرَ بالصلاةِ فَتُقامَ، ثم آمرَ رجلاً فيصلي بالناسِ، ثم أنطلقَ معي برجالٍ معهم حُزَم من حَطَبٍ إلى قومٍ لا يَشْهدونَ الصلاةَ، فأحرقَ عليهِمْ بيوتَهُمْ بالنارِ" خرجه الشيخان (3).

وبدليل ما خرَّجه مسلم عن أبي هريرةَ -رضي الله تعالى عنه- قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسولَ الله! إنه ليسَ لي قائد يقودُني إلى المسجدِ، فسأل رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يرخصَ له فيصليَ في بيتِه، فرخَّص له، فلما وَلَّى، دعاهُ فقال:"هل تسمعُ النداءَ بالصلاة؟ "، فقال نعم، قال:"فأجب"(4).

* ثم افترق القائلون بالوجوب.

فقالَ قومٌ: هيَ فرضٌ على الكِفاية، وهو قولٌ يروى للشافعيِّ ومالِكٍ (5).

(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 136)، و"روضة الطالبين" للنووي (1/ 339).

(2)

في "ب": "بأن".

(3)

رواه البخاري (626)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: فضل العشاء في جماعة، ومسلم (651)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة، عن أبي هريرة، وهذا لفظ مسلم.

(4)

رواه مسلم (653)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة باب: فضل صلاة الجماعة.

(5)

انظر: "التنبيه" للشيرازي (ص: 37)، و "المجموع" للنووي (4/ 160).

ص: 30

وقال فريقٌ: هي فرضٌ على الأعيان، وبه قال داودُ وأحمدُ (1)، وبعض الشافعية (2).

* ثم اختلفوا في صِفَةِ هذا الوُجوب.

فقال داود: هي شرطٌ في صِحَّةِ الصلاةِ؛ كالجماعَةِ في الجُمعةِ، وقيل: إنها روايةٌ عن أحمدَ أيضاً، والمشهورُ خلافُه (3).

* * *

98 -

(40) قولُه عز وجل: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].

* المرادُ بقضاء الصلاةِ في هذهِ الآيةِ الأداءُ، أي: أَدَّيْتُمُ الصَّلاةَ، لا حقيقةُ القضاء الذي هو استدراكٌ، لِما فاتَ، وذلك مُقْتَصٌّ من قوله تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200]، وقوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10].

* وأما الذكرُ المأمورُ به في الأحوالِ المذكورةِ.

فيحتمل أن يكون المرادُ به الحَثَّ على مُطْلَقِ الذكرِ لله تعالى، ولا شكَّ في أنهُ مُسْتَحَبٌّ عقيبَ قضاءِ الصلاةِ (4).

(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 137)، و"المحرر في الفقه" لابن أبي القاسم (1/ 91)، و"الشرح الكبير" لابن قدامة (2/ 2).

(2)

كابن المنذر وابن خزيمة. انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (2/ 126)، و"روضة الطالبين" للنووي (1/ 339).

(3)

انظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 188)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 137).

(4)

وهو قول ابن عباس رضي الله عنه والجمهور. انظر: "تفسير الطبري"(5/ 259)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 247)، و"أحكام القرآن" لابن=

ص: 31

فقد روى الشيخان في "صحيحهما" عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أن رفعَ الصوتِ بالذكرِ حينَ ينصرفُ الناسُ من المكتوبةِ كانَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعتُه (1).

ويحتمل أن يكونَ المرادُ بالذكرِ ذكراً مخصوصاً، وهو الصلاةُ، وهذا المعنى هو الظاهرُ من سياقِ الخطاب (2).

ويدلُّ عليه قولُه تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 103].

وما رُوي عن ابنِ مسعود -رضي الله تعالى عنه-: أنه رأى الناسَ يَضِجُّونَ في المسجد، فقال: ما هذه الضجة؟ فقالوا: أليس اللهُ تعالى يقول: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]، فقال: إنما تعني هذه الآيةُ الصلاةَ المكتوبةَ، إن لم تستطعْ قائماً فقاعداً، فإن لم تستطعْ فعلى جنبك (3).

فبين اللهُ سبحانه فيها حُكْمَ أصحابِ الضرورةِ القائمةِ بهم بعدَ بيانِ حكمِ أصحابِ المشقةِ من أولي السفرِ والقتال، وذو الضرورة أولى بالجوازِ منهم.

= العربي (1/ 624)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 187).

(1)

رواه البخاري (805)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الذكر بعد الصلاة، ومسلم (583)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الذكر بعد الصلاة.

(2)

وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه. انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي (ص: 264)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 216)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 187)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (4/ 311).

(3)

رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(4656)، والطبراني في "المعجم الكبير"(9034).

ص: 32

وقد بين النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك؛ كما وردَ في الآية الكريمة، فقال لعِمْرانَ بن الحصين -رضي الله تعالى عنه-:"صَلِّ قائماً، فإنْ لمْ تَسْتَطعْ، فقَاعِداً، فإنْ لم تَسْتَطعْ، فعلى جَنْبٍ"(1).

* وقد أجمع أهلُ العلم على أن المريض مخاطَبٌ بأداءِ الصلاة، وعلى أنه يسقط عنهُ فرضُ القيامِ والقعود إذا لم يستطعهما.

ومذهبُ الشافعيِّ أنه إذا عجزَ عن القعودِ، صَلَّى مضطجعاً على جنبه مستقبلَ القبلةِ، إلا إذا لم يمكنْه، ذلكَ فيصلي مستلقياً، ورجلاهُ إلى القبلَةِ كما ورد في الكتابِ والسنة (2).

وبه قال أحمدُ بنُ حنبل، واختاره ابنُ المنذر (3)، ورويَ عن عمرَ -رضيَ الله تعالى عنه (4) -.

وقال قوم: إذا عجزَ عن القعودِ، صلَّى مستلقياً، ورجلاه إلى القبلة.

(1) رواه البخاري (1066)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب.

(2)

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 197)، و"المهذب" للشيرازي (1/ 101).

(3)

انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (2/ 214)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 445).

(4)

قلت: لعل الصواب: "علي" بدل "عمر" لأنه قد روي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يصلي المريض قائمًا إن استطاع، فإن لم يستطع صلى قاعداً فإن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقياً ورجلاه مما يلي القبلة". رواه الدارقطني (2/ 42)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 307).

ص: 33

وبه قالَ بعضُ الشافعية (1)، وزعموا أنه أكملُ في استقبالِ القبلة، ويروى عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما (2) -.

وقال بعض الشافعية: يضطجعُ على جنبه، ويستقبل القبلةَ برجليه (3).

* واختلفوا في صفةِ العُذرِ المبيح للقعود، أو الاضطجاع.

فقال قوم: هو الذي لا يستطيع القيامَ والقعودَ بحال، وتمسكوا بظاهرِ قوله صلى الله عليه وسلم:"فإنْ لمْ تَسْتَطَعْ".

وقال قومٌ: هو الذي يشقُّ عليه ذلك، وهو مذهبُ مالكٍ والشافعيِّ (4)، واعتبروه بتخفيف الشرع في نظائره من المواطن؛ كالفِطْر للمسافرِ، والتيمُّم

(1) وهو مذهب الحنفية. انظر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 213)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 106)، و"المهذب" للشيرازي (1/ 101)، و"روضة الطالبين" للنووي (1/ 237).

(2)

رواه عبد الرزاق في "المصنف"(2/ 474)، والدارقطني في "السنن"(2/ 43).

(3)

نظر: "المجموع" للنووي (4/ 270).

أما مذهب المالكية في المسألة فقد اختلفت الروايات: ففي "المدونة": يخير بين الصلاة على جنبه أو الاستلقاء على ظهره، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم: يصلي على ظهره، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن ثم على جنبه الأيسر، وفي "كتاب ابن المؤَاز" عكسه: يصلي على جنبه الأيمن، وإلا فعلى الأيسر، وإلا فعلى الظهر، وقال سحنون: يصلي على الأيمن كما يجعل في لحده، وإلا فعلى ظهره، وإلا فعلى الأيسر. انظر:"المدونة الكبرى" للإمام مالك (1/ 77)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 183)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 399)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (4/ 312)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 129).

(4)

وهو مذهب الحنفية والحنابلة. انظر: "الكافي" لابن عبد البر (1/ 62)، و"الشرح الكبير" للرافعي (3/ 285)، و"المجموع" للنووي (4/ 266)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 444).

ص: 34

للمريض؛ استدلالاً بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

* ولما ذكر الله سبحانه حكمَ أصحابِ الضرورات، أمرهم بإقامةِ الصلاة على وَجْهِها عندَ زوالِ ضرورتهم، وهو وقتُ اطمئنانِهم واستقرارِ حالهم.

فالمسافرُ إذا أقام واطمأنَّ أقامَها أربعاً، والخائف إذا أمنَ يُقيمُ سكينتها وطُمَأنينتَها، ولا يَخْتَلِفُ على الإمام فيها، والمريضُ إذا شُفِي يقيمُ قيامَها وركوعَها واعتدالَها وسجودَها.

* ثم عرَّفنا الله سبحانه تأكيدَ فرضِها وصفتها، فقال:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، أي: مكتوباً مقدراً، فالمصدر بمعنى المفعول، والمقدَّر هو المؤقَّتُ (1).

فقد يكونُ في أَعدادِها، وقد يكون في مواقيتها، وكلُّ ذلك قد بينه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً.

وأجمعَ المسلمون على أن للصلاة أوقاتاً مؤقتة هي شرطٌ في صحتها، وأن منها أوقاتَ فضيلة، وأوقاتَ توسعة، واختلفوا في تحديد أوقات الفضيلةِ وأوقاتِ التوسعة؛ لتعارُضِ الأحاديثِ الواردِة في ذلك، وموضعُ تفصيلِه كتب الفقه (2).

* * *

(1) في "أ": "الوقت".

(2)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 250)، و "المبسوط" للسرخسي (1/ 144)، و"الكافي" لابن عبد البر (1/ 34)، و "المجموع" للنووي (3/ 21)، و "المغني" لابن قدامة (1/ 233).

ص: 35