المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(من أحكام أهل الكتاب) - تيسير البيان لأحكام القرآن - جـ ٣

[ابن نور الدين]

فهرس الكتاب

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام الشهادات)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌سُورَةُ المَائِدَةِ

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌(من أحكام الأطعمة)

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌(من أحكام الصيد والذبائح)

- ‌(من أحكام الطهارة)

- ‌(من أحكام الحدود)

- ‌(الحرابة)

- ‌(السرقة)

- ‌(من أحكام أهل الكتاب)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الأشربة)

- ‌(من أحكام الهدي)

- ‌(من أحكام الشهادات)

- ‌سُورَةُ الأَنْعَامِ

- ‌(من أحكام الذبائح)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الذبائح)

- ‌(من أحكام اليتامى)

- ‌سُورَةُ الأَعْرَافِ

- ‌(من أحكام اللباس والزينة)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌سُورَةُ الأَنفَالِ

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الهجرة)

- ‌سُورَةُ التَّوْبَةِ

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الصدقة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌سُوْرَةُ يُوسُفَ

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌سُوْرَةُ النَّحْلِ

- ‌(من أحكام الطهارة)

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌سُوْرَةُ الإسْراءِ

- ‌(من أحكام البر والصلة)

- ‌(من أحكام القصاص)

- ‌(من أحكام البيوع)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌سُوْرَةُ الأَنْبيَاءِ

- ‌(من أحكام المعاملات)

الفصل: ‌(من أحكام أهل الكتاب)

(من أحكام أهل الكتاب)

113 -

(10) قوله عز وجل في اليهود {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42].

نزلت هذه الآيةُ في اليهودِ لمّا جاؤوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وحَكَّموهُ في أمرِ اللَّذَيْنِ زنَيا منهم.

والقصة مشهورةٌ في "الصحيحين" وغيرهما من حديثِ عبدِ الله بنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما - قال: إنَّ اليهودَ جاؤوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن امرأةً منهم ورجلاً زنيا، فقال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ما تَجدونُ في التوراة في شأنِ الرَّجْم؟ " فقالوا: نفضحُهم، ويُجلدون، فقال (1) عبدُ الله بنُ سَلامٍ: كذبتم، فيها آيةُ الرَّجْمِ (2)، فأتوا بالتوراة، فنشروها، فوضعَ أحدُهم يدَه على آية الرجم، فقرأ ما قبلَها، وما بعدَها، فقال له عبدُ الله بنُ سلامٍ: ارفعْ يَدكَ، فرفع يَدهُ، فإذا فيها آيةُ الرجمِ، فقال: صَدَقَ يا مُحَمَّدُ، فأمرَ

(1) في "ب": "قال".

(2)

إشارة إلى قوله تعالى: (الشيخ والشيخة إن زنيا فارجموهما البتة) وقد تقدمت.

ص: 146

بِهِما صلى الله عليه وسلم، فَرُجما، قال: فرأيتُ الرَّجُلَ يَجْنَأُ على (1) المرأة يَقيها الحِجارةَ (2).

فخير اللهُ سبحانه نبيَّه صلى الله عليه وسلم بينَ الحُكم بينَهُم، والإعراضِ عنهم إذا جاؤوا.

وأمر اللهُ سبحانَه نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالحُكْمِ بينَهم في آيةٍ أخرى، فقال:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49].

فحُكي عن جماعةٍ، منهم ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما -: أنهم قالوا: هذا الأمرُ ناسِخٌ لما تقدَّمَ من التخيير في موضع آخر (3)، فليس للإمام رَدُّهُمْ إلى أحكامهم (4).

وقال قومٌ: بل الآيتان مُحْكَمتان، وإنما ذكرَ اللهُ التخيير في موضعٍ، وسكت عنهُ في موضعٍ آخرَ، والمعنى: فاحْكُمُ بينَهم بما أنزلَ اللهُ إن شئتَ (5).

(1) يجنأ: جَنَأ عليه: كجعل وفرح: جنوءاً وجَناً: أكبَّ. ومثله: أجنأ، وجانأ، وتجانأ. "القاموس" (مادة: جنأ) (ص: 36).

(2)

رواه إلبخاري (3436)، كتاب: المناقب، باب: قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} ، ومسلم (1699)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنا.

(3)

"في موضع آخر" ليس في "أ".

(4)

رواه عن ابن عباس أبو داود في "السنن"(3590)، وهو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي والشافعي، انظر:"الناسخ والمنسوخ" للقاسم بن سلام (ص:209)، و"تفسير الطبري"(6/ 245)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(4/ 1135).

(5)

وروي هذا القول عن إبراهيم والشعبي وعطاء وسعيد بن جبير، انظر:"تفسير الطبري"(6/ 242)، و"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 87)، و"نواسخ القرآن" =

ص: 147

قال بعضُهم: الآيةُ معطوفةٌ على آية التخييرِ، والناسخُ والمنسوخُ لا رَبْطَ بينَهُما، ولا عَطْفَ (1).

وهذا الاستدلالُ ضعيفٌ؛ لأن العطفَ بالواو لا يدلُّ على الرَّبْطِ، وإنما يدلُّ على التأخيرِ، أو الترتيبِ على قولِ بعضِ النحاةِ، والصوابُ أن يستدلَّ على عَدَمِ النَّسْخِ بعدَمِ التعارُض، إلا إن ثَبَتَ في ذلك (2) توقيفٌ، فيتَّبَعُ.

* وقد اختلفَ الفقهاءُ في حكمِ هذه الآيةِ على ثلاثةِ أقوالٍ.

- منهم من عَمِلَ بظاهِرِ هذه الآية، فقال: الإمامُ مخيرَّ في الحكمِ بينَهُم إنْ جاؤوه، وأما إذا لم يَجيئوهُ، فلا حكم له عليهم، وبهذا قالَ مالِكٌ (3).

- ومنهم من قال: يجبُ عليه الحكمُ بينهم إن جاؤوه، وكأنهم رأَوُا التخييرَ مَنْسوخاً، وبهذا قال أبو حنيفة (4)، وللشافعي قولانِ كالمَذْهَبين (5).

ومنهم من قال: يجبُ على الإمامِ الحكمُ بينَهُم، وإن لمْ يترافَعوا إليه، واحتجوا بإجماع المسلمين على وجوب قطعِ يدِ الذِّمِّيِّ إذا سرق، وكأنه رأى الآيةَ الثانيةَ ناسخةً للتخيير والتقييد.

قال بعضُ الفقهاءِ: وإذا قلنا بالتخيير، فمتى حَكَمَ بينَهم، لَزِمَهُمُ الحُكْمُ، وليس لهم رَدُّهُ، بالإجماع؛ لفعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذلك (6)، ولقوله تعالى

= لابن الجوزي (ص: 148).

(1)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 212).

(2)

"في ذلك" ليس في "أ".

(3)

انظر: "المدونة الكبرى"(14/ 369)، و"التمهيد" لابن عبد البر (14/ 389).

(4)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 87).

(5)

وكذا عن أحمد روايتان. انظر: "الأم" للإمام الشافعي (6/ 139)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 306)، و"الكافي" لابن قدامة (4/ 365).

(6)

"ذلك" ليس في "أ".

ص: 148

في ذمهم: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41].

قال المفسِّرون: إنَّ رَجُلاً وامرأةً من أشرافِ أهلِ خَيْبَرَ زَنَيا، فكان حَدُّهُما الرَّجْمَ، فكرهتِ اليهودُ رَجْمَهُما؛ لشرفِهما، فبعثوا الزانيين إلى بني قُرَيْظَةَ ليسألوا مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم عن قضائِهِ في الزانيين إذا أَحْصَنا، ما حَدُّهُما؟ وقالوا: إن أفتاكُمْ بالجَلْدِ فَخُذوهُ، واجْلِدوا الزانيَيْنِ، وإن أفتاكُمْ بالرَّجْمِ، فلا تَعْمَلوا به، فذلكَ قولُه تعالى:{إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} (1)[المائدة: 41].

وهذا القولُ حَسَنٌ قَوِيٌّ، وهو يُبْطِلُ تَفْريعَ الشافعيَّةِ، فإنَّهم قالوا - على قول التخيير -: إنه إذا حكمَ بينَهم، لم يلزمْهُم حكمُه، وإن دعا أحدُهما الحاكمَ ليحكُمَ بينَهما، لم يجبْ على الآخَرِ الحُضورُ (2).

وهذا التفريعُ ضعيفٌ بعيدٌ من تحقيقِ الشافعيةِ (3)؛ فإن التخييرَ من الله سبحانه للإمام، لا لَهُم، فما كانَ اللهُ تبارك وتعالى ليُخَيِّرَهُمْ في حكمٍ، ولِما ثبتَ من فعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

* فإن قيل: بِمَ حكمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيهم؟

قلنا: اختلفتْ جواباتُ العلماءِ في ذلك، وهو مَبْنِيٌّ على الخِلاف الذي قدمتُه في سورةِ النساء، هل يُشْتَرَطُ الإسلامُ في الرَّجْمِ أو لا؟

(1) رواه بن جرير الطبري في "تفسيره"(6/ 237)، والحميدي في "مسنده"(1294)، عن جابر بن عبد الله. وانظر:"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 395).

(2)

انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 256).

(3)

انظر: "شرح البخاري" لابن بطال (8/ 475)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 307)، و"روضة الطالبين" للنووي (7/ 155).

ص: 149

فذهبَ الشافعيُّ إلى عدمِ اشتراطِه، وله من الدليل هذه الآيةُ، وحديثُ ابنِ عمَر المتقدمُ، ونُسِبَ إلى الشافعيِّ أنه قال (1): إنما حَكَم فيهم بشريعةِ الإسلام (2).

وذهبَ مالِكٌ وأبو حنيفةَ إلى اشتراطِ الإسلامِ (3)، وأجابوا عن هذه الآيةِ بأنه حكمَ بشريعةِ موسى عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك قبلَ نُزولِ الحُدود، ولهم من الدليل قولُه تعالى:{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44]، معَ تقييدِ قوله:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15].

قالوا: وشريعَةُ مَنْ قبلَنا شريعةٌ لنا حتى يقومَ الدليلُ على تركِها.

وفي هذا الجوابِ نظرٌ من وجهين:

أحدهما: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]، فجعل الحكمَ لكتابنا المُنْزَلِ على نبيِّنا صلى الله عليه وسلم المُصَدِّقِ لما بينَ يديهِ منِ الكتاب والمهيمنِ عليه.

وثانيهما: قوله في حديث ابن عمرِ: "ما تجدونَ في التوراة في شأن الرجم؟ "، وهذا يدلُّ على أن شريعتَه قد نزَلَتْ عليه الصلاة والسلام (4) -.

(1) في "ب" زيادة: "هنا".

(2)

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 197)، و"أسنى المطالب في شرح روض الطالب" لزكريا الأنصاري (4/ 128).

(3)

انظر: "المبسوط" للسرخسي (9/ 39)، و"أحكام القرآن" لابن عربي (1/ 517).

وروي عن أحمد روايتان، انظر:"المغني" لابن قدامة (9/ 43).

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 150

وأما قوله تعالى: {الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44]، فالمراد به (1): انْقادوا لحكم التوراة، وبهذا قال أبو هريرةَ وغيرُه، ومحمدٌ منهم (2).

فإن قالوا: الأمرُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بأن يحكمَ بما أنزلَ اللهُ يجوزُ أن يكونَ إشارةً إلى ما كُتِبَ في التوراةِ من القِصاص، وذكرُهُ للرجْمِ يحتملُ أن يكونَ عَلِمَ عنهم ما كَتَموه من الرَّجْمِ.

قلنا: الأصلُ عدمُ عِلْمه بشريعتِهم، واتباعُه ما أنزلَ اللهُ سبحانه إليه، واتباعُ السُّنَّةِ وتقريرها أولى من تأويلِها ونسخِها.

* واستنبطَ بعضُ أهلِ العلم من قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} [المائدة: 43] على جواز التحكيمِ ولزومهِ لغيرِ الإمام، ولأن الحكمَ حَقُّ الخَصْمَيْن على الحاكمِ، لا حَقُّ الحاكِمِ على الناس.

وإليه ذهبَ مالِكٌ والشافعيُّ في أحدِ قوليه.

وقالَ في القول الآخر: التحكيمُ جائزٌ، وليسَ بلازمٍ، وإنما هو فتوى؛ لما فيه من تقدم آحاد الناسِ الولاة، وفي ذلك خَرْمُ قاعِدَةِ الوِلاية.

ويمكن أن يُجابَ عن قوله تعالى: {يُحَكِّمُونَكَ} بأنَّ كلَّ حاكِمِ مُحَكَّمٌ، وإذا ترافَعَ خَصْمان إلى حاكمٍ، فقدْ حَكَّماهُ في أمرِهِما، وإن كان حاكماً، ويدلُّ عليهِ قولُه تَعالى في المسلمينَ:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65].

* * *

114 -

(11) قوله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ

(1)"به": ليس في "أ".

(2)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 127).

ص: 151

قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45].

قد تقدم الحكمُ على هذه الآيةِ في "سورةِ البقرةِ"، وكيفيةُ الجمعِ بين الآيتين.

* وقد تمسَّك أبو حنيفةَ بظاهرِ هذهِ الآيةِ في (1) قتلِ المُسلمِ بالذِّمِّيَ (2)، وفي قتلِ الحُرِّ بالعبدِ، وقد تقدَّمَ الجوابُ عنِ التَّمَسُّكِ بهذا العمُوم.

* وذكر اللهُ سبحانَهُ في آيةِ البقرةِ القِصاصَ في القَتْلى، وذكر هنا القِصاصَ في الأَعْضَاءِ والجُروحِ، فَخَصَّ بالذِّكْرِ شيئاً، وعَمَّ بعدَ ذلكَ سائرَ الجُروحِ.

* والقصاصُ هو المُساواةُ والمُماثَلَةُ، وذلك يوجبُ أن تُؤْخَذَ العينُ اليمينُ بالعينِ اليمينِ، واليُسرى باليُسرى، واليد اليمين باليدِ اليمين، واليُسرى باليُسرى، الكُلُّ بالكُلِّ، والبعضُ بالبعضِ، وضابطُه أن كلَّ جرحٍ أَمْكَنَ فيهِ القِصاصُ والمُماثَلَةُ، ولم يُخْشَ منه الموتُ، فقد وجبَ فيهِ القِصاصُ.

وكذلكَ لفظُ القصاص يقتضي أن يُقْتَصَّ بالآلة التي جُنِيَ بِها.

وقد بين النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك بفعله، فشدخَ رأسَ يهوديٍّ، كما شدَخَ رأسَ جاريةٍ (3)، وتفصيل هذا يستدعي ذكرَ مسائلَ كثيرةٍ، وقد اتفقَ العلماءُ على وُجوبِ المُماثَلَةِ، وإنِ اخْتَلفوا في تفاصيلِها (4)(5).

(1) في "ب": "بقتل".

(2)

في "ب": "في الذمي".

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

في "ب": "تفصيلها".

(5)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 326)، و"الحاوي الكبير" للماوردي =

ص: 152

115 -

(12) قوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48].

قد قَدَّمْتُ قريباً ما قيلَ في هذه الآيةِ.

* * *

116 -

(13) قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].

* حَرَّمَ اللهُ سبحانَهُ في هذه الآيةِ على المؤمنين أن يَتَّخِذوا اليهودَ والنَّصارى أولياءَ، أي: أنصاراً وأَصْدِقاءَ أَخِلَاّءَ يُلْقون إليهِمْ بالمَوَدَّةِ، وبِسِرِّ المؤمنين، ومَنْ يَفْعَلُ ذلكَ فإنَّهُ منهُم؛ كعبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وأَصحابِه، الذي قال: يا رسول الله! إني امْرُؤٌ أَخْشى الدَّوائِرَ، وقِصَّتُهُ مشهورةٌ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم لما أرادَ أن يقتلَ بني النَّضيرِ، وكانوا حُلَفاءَهُ (1).

وحرَّمَ اللهُ سبحانه في غيرِ هذه الآية مُوالاةَ الكافِرين تَحْريماً مُطْلَقاً كَهذهِ الآيةِ، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ

= (12/ 17)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 303)، و"المغني" لابن قدامة (8/ 236).

(1)

روى القصة ابن جرير الطبري في "تفسيره"(6/ 275)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(26/ 192)، وساقها ابن كثير في "تفسيره"(2/ 70)، وابن حجر في "فتح الباري"(7/ 332)، عن محمد بن إسحاق.

ص: 153

أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]؛ والحُكْمُ في هذا على العُمومِ والإطلاق (1).

وليس البِرُّ والإقْساطُ لهم والصدقةُ عليهم من الموالاة، فقد ندبَ اللهُ سبحانَه إليهما (2) فقال:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة: 8] الآية، وقال تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272].

وأما معاشرتُهم بالمجالَسَةِ، فلا شَكّ أنها مكروهةٌ غيرُ مُحَرَّمَةٍ؛ لما فيه من الإيناسِ لعدوِّ اللهِ ورسوله.

رويَ عن أبي موسى -رضيَ اللهُ تَعالى عنه -: أنه قدمَ إلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-، فقال: إنَّ عندَنا كاتِباً نصرانِيًّا، من حالِه وحالِه، فقال: مالَكَ ولَهُ قاتَلَكَ الله! أما سمعتَ قولَ اللهِ تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51]؟ ألا اتَّخَذْتَ حنيفاً؟ قال: قلتُ: لهُ دينُه ولي كتابَتُهُ، قال: لا أُكرمُهُمْ إذْ أهانَهُمُ اللهُ، ولا أُعِزُّهُمْ إذْ أَذَلَّهُمُ اللهُ، ولا أُدنيهم إذْ أقْصاهُمُ الله (3).

* وفي هذه الآيةِ دَلالةٌ على أن اليهوديَّ يَرِثُ النَّصْرانِيَّ، وبالعَكْس (4)؛ لقوله تعالى:{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51].

(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 293)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (18/ 52).

(2)

"إليهما": ليس في "أ".

(3)

رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 127)، و"شعب الإيمان"(9384).

(4)

وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك وأحمد: لا يتوارثان. انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (9/ 170)، و"شرح السنة" للبغوي (8/ 364)، و"أحكام أهل الذمة" لابن القيم (2/ 829).

ص: 154