الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام الهدي)
123 -
(20) قوله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94] الآية.
* نزلت هذه الآيةُ في غزوةِ الحُدَيْبِيَةِ، وكان الوَحشُ والطَّيْرُ يَغْشاهُم إلى رِحالِهِم ابتلاءً من اللهِ سبحانَه ليعلَمَ مَنْ يخافُهُ بالغيب (1)، فمن اعْتَدى بعدَ وُرودِ النَّهْي، فله العُقوبةُ بهذِه الآَيةِ، وعليهِ الجَزاءُ بالآَيةِ الثانيةِ، وهذا بَيَانُها -إنْ شاءَ اللَّه تعالى-.
124 -
= أحب إلي، فلو كان هو المشير بالثمانين ما أضافها إلى عمر، ولم يعمل بها، لكن يمكن أن يُقال: إنه قال لعمر باجتهادِ ثم تغير اجتهاده.
(1)
انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 108)، و"تفسير الواحدي"(1/ 335)، "وزاد المسير" لابن الجوزي (2/ 421).
* واعلَموا أن هذهِ الآَيةَ مُنْتَشِرَةُ الأَحْكامِ، مُتَشَعِّبَةُ الأطْرافِ، كَثُرَتْ فيها أقوالُ العلماءِ، واختلفتْ فيها آراؤهم، وأنا أذكرُ من ذلك ما يَسَّرَهُ اللهُ سبحانه لي (1) على مُنْتَهى فهمي، فأقول:
* نهانا اللهُ سبحانه في هذهِ الآيةِ عن قَتْلِ الصَّيْدِ ونَحْنُ حُرمٌ.
والقتلُ معروفُ، وهو إزْهاقُ الرُّوح بأيِّ وَجْهٍ كانَ.
فبينَ لنا تحريمَ القتلِ، ولم يبينْ لنا ما دونَه مِنْ تنفيرِ الصَّيْدِ، والإعانَةِ على قَتْلِهِ، والدّلَالَةِ عليه.
ثم حَرَّمَ علينا الصَّيْدَ (2) في آيةٍ أخرى تَحريماً مُجْمَلاً، فقال:{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1]، وهذا التحريمُ هنا لا يَسْتَقِلُّ بكَشْفِ المُرادِ هلْ هو القَتْلُ المذكورُ في هذهِ الآيةِ أو غيرُه؟ فوجدنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد بينَ لنا أن المرادَ ما هو أَعَمُّ من القتلِ، فَحَرَّمَ الإعانةَ والدِّلالَةَ على الصيد، والتنفيرَ له، وغيرَ ذلك؛ للسُّنَّةِ.
ولولا ورودُ السُّنَةِ، لقضينا بهذه الآيةِ المفّسرة على الآَيةِ السابقةِ المُجْمَلَة؛ كما ذلكَ طريقةُ النَّظَرِ في حُكْمِ المُجْمَلِ على المُبيَّنِ، وسيأتي بيانُ الأحاديثِ وتعارضُها واختلاف العلماء فيها في الآيةِ التي تليها، -إن شاء الله تعالى-.
* ولما أحل اللهُ سبحانه صيدَ البحرِ في الآيةِ الثانيةِ، علمنا أن المُرادَ بالصيد في هذه الآية هو صيدُ البرِّ، وأنه من العامِّ الذي أُريدَ به الخاصُّ، وعلى هذا أَجْمَعَ العلماءُ، لكنهم اختلفوا في حقيقةِ الصيد.
فقال أبو حَنيفةَ: كلُّ حيوان صِيدَ، سواءٌ كانَ مأكولَ اللَّحْمِ، أو لا،
(1)"لي" ليس في "ب".
(2)
"الصيد" ليس في "ب".
مُؤْذِياً أو ساكِناً (1)، واستدلوا بقولِ عَلِيٍّ -رضيَ اللهُ تعالى عنهُ-:[البحر الكامل]
صَيْدُ المُلوكِ أرانِبٌ وثَعالبٌ
…
وإذا رَكِبْتُ فَصَيْدِيَ الأَبْطالُ (2)
ولكنه استثنى الخَمسَ الفواسِقَ اللَّاتِي ذَكَرَهُنُّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "خَمْسُ فَواسِقَ يقتَلْنَ في الحِل والحَرَمِ: الغرابُ، والحِدَأَةُ، والعَقْرَبُ، والفَأرَةُ، والكَلْبُ العَقورُ"(3)، ولم يُلْحِقْ بهنَ من الشباعِ العادِيَةِ شَيْئًا سِوى الذِّئْبِ (4).
وقال مالكٌ (5)، والشافعيُّ (6): الصيدُ هو ما حَلَّ أَكْلُهُ؛ فإن العربَ
(1) انظر: "أحكام القرآن) للجصاص (4/ 130)، "المبسوط" للسرخسي (4/ 90)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 198)، و"الهداية شرح البداية" للمرغيناني (1/ 173).
(2)
قال الزيلعي في "نصب الراية"(4/ 194): هو للإمام علي بن أبي طالب، قاله الإمام فخر الدين الرازي ا. هـ.
(3)
رواه البخاري (3136)، كتاب: بدء الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق، يقتلن في الحرم، ومسلم (1198)، كتاب: الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، عن عائشة.
(4)
نقل الكاساني عن الحنفية: وأما غير المأكول فنوعان: نوع يكون مؤذياً طبعاً، مبتدئاً بالأذى غالباً، ونوع لا يبتدئ بالأذى غالباً، أما الذي يبتدئ بالأذى غالباً فللمحرم أن يقتله ولا شيء عليه، وذلك نحو: الأسد والذئب والنمر والفهد، وأما الذي لا يبتدئ بالأذى غالبًا كالضبع، والثعلب وغيرهما فله أن يقتله إن عدا عليه ولا شيء عليه إذا قتله، وهذا قول أصحابنا الثلاثة، وقال زفر: يلزمه الجزاء. انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 197).
(5)
المشهور من مذهب مالك: أنه لا فرق بين ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه في حرمة الصيد. انظر: "الكافي" لابن عبد البر (ص: 155)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 177).
(6)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 249)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 154).
لا تُسَمِّي ما لا يُؤْكَلُ صَيْداً، وقد سألَ عبدُ الرحمنُ بْنُ عُمارَةَ جابِرَ بنَ عبدِ اللهِ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- عن الضَّبُعِ، فقالَ: أَصَيْدٌ هي؟ قال: نعم، قال: أفيها جزاءٌ؟ قال: نعم، كبشٌ، قلتُ: سمعتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: نعم (1).
فاكتفيا بذكرِ الصَّيْدِ عن ذكرِ الحلال؛ لتلازُمِهما.
وأما البيتُ، فإن صَحَّ من قولِ عليٍّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-، فهو دليلٌ على أن الصَّيْدَ ما يُؤْكَل لَحْمُه؛ كالثعالِبِ والأرانِبِ، وإنما أطلقَهُ على الأبطال تَجَوُّزاً؛ لأخذِه لهم كأخذِ الصائدِ الصيدَ.
ولكنِ الشافعيُّ ومالكٌ اختلَفا في تفصيلِ المأكولِ من غيره.
فَجَوَّزَ مالِكٌ أكلَ السِّباعِ؛ كالفَهْدِ والنَّمِرِ والذِّئْبِ، وسَمّاهُ صَيْداً (2)، ولكنه جَوَّزَ قَتْلَها في الحَرَمِ والإحْرام؛ لوجودِ عِلَّةِ الفِسْقِ فيها، فتعارَضَ عندَهُ القِياسُ وعُمومُ الآية، فقَضى بالقياسِ على العُموم.
فإن قلتَ: فالشافعيُّ هلْ يُجَوِّزُ للمُحرِمِ قتلَ ما عدا الصيدَ؛ مِمَّا ليسَ بِفاسِقٍ ولا في معناه؟
(1) رواه النسائي (4323)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الضبع، والإمام الشافعي في "مسنده"(134)، والإمام أحمد في "المسند"(3/ 318)، وابن خزيمة في "صحيحه"(2645)، والدارقطني في "سننه"(2/ 235)، والحاكم في "المستدرك"(1662)، وابن الجارود في "المنتقى"(890)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 318).
(2)
لم يجوِّز مالك ولا أكثر المالكية أكل السباع، وإنما الذي جوزه بعض فقهائهم. انظر:"الموطأ" للإمام مالك (2/ 496)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 288)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (7/ 118).
قلتُ: أطلقَ كثيرٌ من مُصَنِّفي الشافعيةِ القولَ عن الشافعي أنه يقولُ بإباحةِ قتلِها، وأنه ألحقَها بالفواسِقِ، وأنه جعلَ العِلَّةَ في إباحَةِ الخَمسِ الفواسِقِ تحريمَ أَكْلِها، فأباحِ للمُحْرِمِ قَتْلَ ما لا يَحِل أكلُه.
وهذا لا يَصحُّ عن أبي عبدِ الله، ولا يُظَنُّ به أنه يترُكُ العِلَّةَ التي أشارَ إليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهيَ الفِسْقُ، ويتعلَّلُ (1) بِعِلَلٍ أخرى غيرِها، ولكنهم وَهِموا عليه لَمَّا أفتى بتحريم قتلِ الصيدِ المأكولِ، ظَنَّوا أنه يُبيحُ قتلَ غيرِ المأكول مُطْلَقاً، وربّما أوْهمَهُ كلامُه في كتاب "الأم"(2)، وليس كذلكَ.
بلِ الآيةُ تقتضي تَحْريمَ قتلِ المأكولِ، ولا تَقْضي بتحليلِ قتلِ غيرِ المأكول.
ولمّا بينَ النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الفواسِقَ يُقْتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ، ألحقَ بهنَّ ما كان في معناهُنَّ، ويبقى الباقي على مُقْتَضى الدليل.
وربما أرشدَ كلامُ الشافعيِّ في مَوْضِعٍ آخرَ من "الأم" إلى مثلِ هذا (3).
* فإن قلتَ: فما مَعْنى قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1]؟
قلنا: حُرُمٌ جَمعُ حَرام، يقال: رجلٌ حَرامٌ، ورِجالٌ حُرُمٌ، مثل قَذال (4) وقُذُل، والحَرامُ هو المُحْرِمُ الداخِلُ في حُرَمة لا تُهْتكُ، ويقعُ ذلك على الداخلِ في النُّسُكِ، وعلى الداخِلِ في الحَرَمِ، وعلى الداخلِ في الشهرِ
(1)"يتعلل" ليس في "أ".
(2)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 244).
(3)
انظر مثلاً: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 182 - 247)، (4/ 151).
(4)
قذال: القَذَالُ، كسحاب: جماعُ مؤخّر الرأس، ومَعقِد العِذار من الفرس خلف الناصية جمعه: قُذُل، وأقذِلَةَ. "القاموس" (مادة: قذل) (ص: 943).
الحرامِ (1)، قال الشاعِرُ (2):[البحر الكامل]
قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الخَليفَةَ مُحْرِماً
…
ودَعا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَخْذولا
وكان قتلُه لِثماني عَشْرَةَ ليلة خلَتْ من ذي الحِجَّةِ.
* وقد حصلَ الإجماعُ على عدمِ اعتبارِ الزمانِ في هذا الحُكْمِ، وأجمعوا على اعتبارِ الدُّخولِ في النُّسُكِ.
واختلفوا في اعتبارِ الحَرَمِ.
فقالَ فقهاءُ الأمصارِ باعتباره (3)، وقال داودُ: إذا (4) قتلَ الحَلالُ صَيْداً
(1) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (123)، و"النهاية في غريب الحديث"(1/ 372)، و"لسان العرب"(12/ 119) مادة (حرم).
(2)
هو الراعي النميري. انظر: "الكامل" للمبرد (2/ 918)، و"لسان العرب" (12/ 123). وقد ذكر الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (10/ 416) بإسناده عن الخليفة الرشيد أنه سأل عن بيت الراعي:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً
…
ودعا فلم أر مثله مَخذولا
ما معنى محرماً؟ فقال الكسائي: أحرم بالحج، فقال الأصمعي: والله ما كان أحرم بالحج، ولا أراد الشاعر أيضاً أنه في شهر حرام، فيقال: أحرم: إذا دخل فيه، كما يقال: أشهر: إذا دخل في الشهر، وأعام: إذا دخل في العام، فقال الكسائي: ما هو غير هذا، وفيم أراد. فقال الأصمعي: ما أراد عدي بن زيد بقوله:
قتلوا كسرى بليل محرماً
…
فتولى لم يمتع بكفن
أي إحرام لكسرى؟! فقال الرشيد: فما المعنى؟ قال: كل من لم يأت شيئاً يوجب عليه عقوبة فهو محرم لا يحل شيء منه، فقال الرشيد: ما تطاق في الشعر يا أصمعي، ثم قال: لا تعرضوا للأصمعي في الشعر.
(3)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 142)، و"المبسوط" للسرخسي (4/ 85)، و"المجموع" للنووي (7/ 272).
(4)
"إذا " ليس في "أ".
في الحَرَمِ، لا جَزاءَ عليه، وإنْ وإنَ مُخْطِئاً مأثوماً (1).
فإن قلتَ: فما الوجهُ الذي من أجلِه أوجبَ فقهاءُ الأمصارِ الجزاءَ؟
قلت: من قالَ من الفقهاءِ بِحَمل اللفظِ المُشْتَرَكِ على معانيهِ، أوجبَ فيهِ الجزاءَ بالآية، ومن لم يقلْ بعمومِ المُشْتَرَكِ، أوجَبَهُ بالقِياس على المُحْرِم بجامِعِ النَّهْيِ عن القَتْلِ في حالتي حُرْمَةٍ.
وقد تبيَّنَ بهذا مُسْتَنَدُ الإمامِ داود؛ فإنه لا يقولُ بعموم المشترك، ولا بالقياسِ، وظهر أن قول أبي حنيفة لا مستندَ لهُ من جهةِ النظرِ؛ لأنه لا يقولُ بعمومِ المشترك أيضاً، ولا بالقياس في الكفّارات.
ولا مستندَ إلا فَتْوى الصَّحابِة بوجوب (2) الجزاء كما يروى عن عمرَ، وعثمانَ، وابنِ عباسٍ، وابن عمر -رضي الله تعالى عنهم-، وزعم أَنَّهم حَكَموا في حَمامِ مَكَّةَ بشاةٍ، ولم يُعلَمْ لهم مُخالِفٌ (3).
* ثم بين اللهُ سبحانَه الجَزاء فقال: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، فَقَيَّدَ الجَزاء بذكرِ العَمدِ، فاقتضى بمفهومه أَنَّ من قتلَه ناسِياً أو خاطِئاً لا جزاءَ عليه.
وبهذا قالَ أهلُ الظاهِرِ (4)، وإليهِ ذهبَ الشافعيُّ في القديم، وأحمد في إحدى روايتيه (5).
(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 142)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 262).
(2)
في "أ""الصحابي بعموم".
(3)
انظر: "الموطأ" للإمام مالك (1/ 451)، و "الأم" للإمام الشافعي (2/ 195)، و"المحلى" لابن حزم (7/ 235).
(4)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 284)، و "المحلى" لابن حزم (6/ 48).
(5)
انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 265).
وذهب الجمهورُ كابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ، والحسنِ، والنَّخَعِيِّ، والزُّهْرِيِّ (1)، ومالِكٍ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ في الجديد (2) إلى التسوية في الجزاء بين العامد والناسي والمخطئ (3)؛ لأن النسيانَ عذرٌ في رفعِ المَأْثَمِ، لا رَفْعِ المَغْرَمِ، وشهادةُ الأصولِ قاضِيَةٌ بذلك؛ كقتلِ الخَطَأ وسائِرِ المُتْلَفاتِ.
وقال الزهريُّ: وجبَ الجزاءُ في العَمدِ بالقرآنِ، وفي الخَطَأ بِالسُّنَّةِ (4).
وقال ابنُ جُرَيْجٍ: قلتُ لعطاء: من قتلهُ منكمُ مُتَعَمِّداً، فمن قتلَه خَطَأً كيف (5) يغرمُ، وإنما جُعِلَ الغُرْمُ على من قتلَهُ مُتَعَمِّداً؟ قال: تُعَظَّمُ بذلكَ حُرماتُ الله، ومضت به السُّنَّةُ (6).
وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: وردَ القرآنُ بالعَمْدِ، وجُعِل الخَطَأُ تغليظاً (7).
وأجابَ هؤلاءِ عنِ ذكرِ العَمدِ في هذهِ الآيةِ بأجوبةٍ:
(1) انظر: "تفسير الطبري"(7/ 43)، و"المجموع" للنووي (7/ 288).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 134)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 283)، و"المهذب" للشيرازي (1/ 211)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 379).
(3)
في "ب": "الخاطئ".
(4)
رواه الطبري في "التفسير"(7/ 43)، ولفظه: نزل القرآن بالعمد وجرت السنة بالخطأ.
(5)
"كيف "ليس في "أ".
(6)
في "ب": "السنن". وقد روى الأثر الإمام الشافعي في "مسنده"(132)، وابن المنذر، وأبو الشيخ في "تفسيريهما" كما في "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 187).
(7)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(15289)، عن سعيد بن جبير قال: إنما جعل الجزاء في العبد، ولكن غلظ في الخطأ كي يتقوا.
أحدها: أن ذكرَ العمدِ خرجَ مخرجَ الغالبِ، فهو للتغليبِ، لا للتقييد.
ثانيها: إن وصفَ العمدِ ذُكِرَ لِتُعَلَّقَ بهِ بعضُ الأحكامِ المُخْتَصَّةِ به، وهو ذوق الوبَالِ المَذكورِ في آخِر الآيةِ.
وهذا ضعيفٌ؛ لأن الوبَالَ المَذوق هُو الجزاءُ، وذلك لا يَخْتَصُّ به العمدُ.
وأحسنُ من ذلكَ أنْ يُقال: ذُكِرَ ليعلَّقَ عليهِ العَفْوُ؛ إذِ العَفْوُ مُخْتَصٌّ بالعَمْدِ، بدليلِ قوله تعالى:{وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]، والانتقامُ غيرُ العفوِ، وهذا أمرٌ زائدٌ على الجزاء، وهو مختصٌّ بالمُتَعَمَّدِ أيضاً، فكأنه أرادَ: مَنْ قتلَهُ منكم قَبْلَ ورُودِ النهي جاهِلاً بالتحريمِ، فعليهِ الجَزاءُ، وعَفا اللهُ عمَّا سَلَفَ؛ كما قال تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 23].
ولأجلِ تعارُضِ مفهومِ الخِطاب وتركِ إهدارِ الصيدِ قالَ بعضُ السَّلَفِ في الآيةِ قَوْلاً، وجعله مَذْهَبا وتأويلاً، وهو: إذا قتلَ الصيدَ مُتَعَمِّداً لقتلِهِ، ناسِياً لإحرامِه، فعليهِ الجزاءُ، فأما إذا قتلَهُ مُتَعَمِّداً ذاكراً لإحرامِه، فقد حَلَّ، ولا حَجَّ له؛ كما لو تكلَّمَ في الصلاة، أو أَحدَثَ فيها.
قال مُجاهدة لقوله تعالى بعدَ ذلك: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]، ولو كان ذاكِراً لإحرامِه، لَوَجَبَتْ عليهِ العُقوبةُ لأولِ مرة (1).
ونحوَ قوله قالَ سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ حين سُئِل عن ذلك، فقال: نعم، يُحْكَمُ
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 187) حيث ذكر عن عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال: متعمداً لقتله، ناسياً لإحرامه، فذلك الذي يحكم عليه، فإن قتله ذاكراً لإحرامه، متعمداً لقتله، لم يحكم عليه.
عليه، فَيُخْلَع (1)، أي: يخرجُ عن حُكْم المُحْرِمين.
وهذا المذهبُ فيه ضَعْفٌ؛ لما قدَّمتُه من الاحتمالِ الذي هو أحسنُ الأجوبةِ -إنْ شاء الله تعالى-.
ولا يَصِحُّ اعتبارُه بالصّلاةِ؛ لما بينَهُما منَ الاخْتِلاف في الشرائِطِ والصِّفاتِ.
* فإن قلت: فَبيَّنْ لنا ما حقيقةُ المِثْلِ الذي أوجَبَهُ اللهُ تعالى؟ فظاهِرُ الخِطابِ يَقْتَضي أن الجزاءَ مثلُ ما قَتلَ مِنَ النَّعَم لا ما قَتَلَ (2).
قلتُ: اختلفُ القُرَّاءُ في هذهِ الكلمةِ، فقرأ أهلُ الحِجازِ والبصرةِ والشامِ بتنوينِ (جزاء)، ورفع (مثل) على الصِّفَةِ للجَزاء، وقرأ أهلُ الكوفةِ بخَفْضِه على الإضافةِ (3).
فأما قراءةُ الرَّفْعِ فَسَليمَةٌ من الزيادَةِ والمَجاز.
وأما قراءةُ الخَفْضِ، فإنَّ المِثْلَ تَزيدُهُ العربُ لتفخيمِ المُشَبَّهِ بهِ، كقولِ الشاعرِ:[البحر السريع]
مِثْليَ لا تقْبلُ مِنْ مِثْلِكا (4)
(1) رواه الطبري في "التفسير"(7/ 59).
(2)
"من النعم لا ما قتل" ليس في "أ".
(3)
بقراءة "فجزاءُ مثلِ" قرأ بها نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف، وقرأ "فجزاء مثلُ" الباقون. انظر:"إعراب القرآن" للنحاس (1/ 518)، و"تفسير الطبري"(11/ 13)، و"السبعة" لابن مجاهد (247)، و"التيسير" للداني (100)، و"تفسير الرازي"(3/ 447)، و"تفسير القرطبي"(6/ 309)، وانظر:"معجم القراءات القرآنية"(2/ 237).
(4)
انظر: "تفسير الثعلبي"(1/ 283)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 151).
ومنه قولُه تعالى: {ليَس كَمِثلِه شَيْءٌ} [الشورى 11].
وحقيقةُ المِثْلِ في لسانِ العربِ الشبهُ في الصورَة، فأوجَبَ شِبْة الصَيْدِ من النَّعَمِ الذي هُوَ من (1) غَيْرِ جِنْسِه؛ لكونه يشبهُهُ من بعض الوجوه.
وبهذا قالَ جمهورُ العلماءِ (2)، إلا أبا حنيفةَ (3)، فإنه تأولَ المِثْلَ بالمِثْل المَعنَوِيِّ، وحملَهُ على القيمةِ؛ لأن ذلك هو القياسُ في سائرِ المُتْلَفات، فالعبدُ يغرمُ بالقيمةِ، ولا يغرمُ بعبدٍ آخرَ منْ جنسِه، فكيف من غيرِ جِنْسِه؛ لأنها تعمُّ الصيدَ الذي لهُ مِثْلٌ في الصورةِ، والذي لا مِثْلَ له، ولأنها تعمُّ الصغيَر والكبيرَ، وعادَته اتباعُ القِياسِ، وتَركُ الظَّواهِرِ.
وهذا القولُ محجوجٌ بخمسةِ أَوْجُهٍ لا تأويل لها:
أحدُها: تقييدُ القرآنِ بكونهِ من النعَمِ، فبيَّنَ جنسَ المِثْلِ الذي هو الجَزاء، وحملُهُ على أن النَّعَمَ هو الصيدُ خلافُ المعروفِ من اللسانِ.
ثانيها: القراءةُ بالرفعِ والتنوينِ مبيِّنَةٌ لقراءةِ الإضافةِ، ولو لم يُحْمَل عليها، أَدَّى إلى تعارُضِ القراءتين.
ثالثُها: قوله تعالى: {هدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، والهدي يُطْلَقُ في عُرفِ اللُّغَةِ والشَّرعِ على ما ساقَهُ المُحْرِمُ إلى البيتِ.
رابعُها: إجماعُ الصحابةِ -رضي الله تعالى عنهم- على الحكم بالنَّعَم في الجزاءِ، دونَ القيمةِ.
(1)"من" ليس في "أ".
(2)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (7/ 147)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 286)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 148)، و"المغني" لابن قدامة (3/ 268).
(3)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 134)، و"المبسوط" للسرخسي (4/ 82).
خامسها: استعمالُ المِثْلِ في الصُّورَةِ حقيقةً، وفي القيمةِ مَجازاً، والحقيقةُ مقدَّمَةٌ على المجاز.
ثم نقول (1): لا يخفى على ذي نَظَرٍ اعتناءُ الشرعِ بإراقَةِ الدماء على وَجْهِ النُّسُكِ، لما فيهِ من القربانِ والتعظيمِ لشعائرِ اللهِ جل جلاله، قال الله سبحانه وتعالى:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]، وإمساكُ الأدبِ معَ وُرودِ الشرع أَوْجَبُ على علماءِ الشريعةِ (2)، وأَلْيَقُ بهم، ولا سِيَّما في مناسكِ الحَجِّ، فَأكثَرُها مِمّا لا يُعقَلُ معناها.
فإن قلتَ: فقد قالَ اللهُ سبحانه: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، والطعامُ والصِّيامُ ليسا بِمِثْل صُوَرِه، فدلَّ على اعتبارِ المِثْلِ المعنَوِيِّ.
قلت: سبحانَ اللهِ! ما أَحسَنَ ما قُلْتَ؛ حيثُ أنطقَكَ اللهُ بالحُجَّةِ عليكَ، أما ترى الله سبحانه وصفَ الطعامَ والصِّيامَ بكونِهمِا كَفَّارَةً، ووصَفَ الجزاءَ مِنَ النَّعَمِ بكونه مِثْلاً، فَبَيَّنَ أنَّ هذا الجَزاءَ كَفَّارَةٌ كسائرِ الكَفّاراتِ، والكَفّاراتُ مَنْصوصاتٌ لا يجوزُ عندَكَ القِياسُ فيها.
* وفي الآيةِ دَلالةٌ على أن الجَماعَةَ إذا قَتَلوا صَيْداً، ليسَ عليهِم إلَّا مثلُ ما قَتَلوا، وهو جزاءٌ واحدٌ؛ لأن الجزاءَ في مقابَلَةِ المقتولِ، لا في مُقابَلَةِ القَتْلِ.
- وبهذا أخذَ الشافِعِيُّ (3)، ويدلُّ لهُ قضاءُ عُمَرَ، وعبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ
(1) في "أ": زيادة "ثم لا نقول"، وهو خطأ.
(2)
في "ب": "الشرع".
(3)
وهو الصحيح عند الإمام أحمد. انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 321)، و"المغني" لابن قدامة (3/ 277).
الآتي قريباً، وما رُوي عنِ ابنِ عَبّاسٍ -رضي الله تعالى عنهم- في قومٍ أَصابوا ضَبُعاً، فقال: عليهم كَبْشٌ يَتَخارجونه بينهم (1)، وخَرَّجَ الدَّارَقُطْنيُّ مِثْلَهُ عنِ ابنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما (2) -.
- وقال مالِكٌ وأبو حنيفةَ: على كُلِّ واحدٍ جَزاءٌ؛ لأنَّ كُل واحد منهما ارْتَكَبَ مَحْظوراً في إِحرامه (3).
وعلى قياسِ هذا ما إذا قَتلَ الجَماعَةُ صَيْداً في الحَرَمِ، وبه قالَ أبو حَنيفةَ والشافِعِي (4)(5).
كما تشتركُ الجماعةُ في غَرامَةِ الدَّابَّةِ إذا قتلوها.
وقال مالكٌ: على كلِّ واحد جَزاءٌ؛ لأنهم إذا دخلوا الحَرَمَ صاروا مُحْرمين (6).
ونرجعُ إلى المسألةِ الأولى.
* فنقول: لمَّا كانَ معرفةُ المِثْل الخَلْقيِّ الصُّورِيِّ مما يَغْمُضُ إدراكُه، جعلَ اللهُ الحُكْمَ فيه إلى ذَوَيْ عَدلٍ منّا؛ ليتعاوَنا في النظرِ في دقائقِ الأشباه (7)، كما شَرَعَ بَعْثَ الحَكَمينِ عندَ شِقاقِ الزوجينِ، وجَعَلَهما من
(1) رواه الدارقطني في "السنن"(2/ 250).
(2)
رواه الدارقطني في "سننه"(2/ 250)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 204).
(3)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 126)، و"المبسوط" للسرخسي (4/ 81)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 314).
(4)
في "ب": "وفاقاً للشافعي".
(5)
انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 202)، و"المجموع" للنووي (7/ 366).
(6)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 190)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 262).
(7)
في "أ": "الأشياء".
أهلِهِما؛ لقربِ اطِّلاعِهِما على باطنِ حالِهِما، وقُوَّةِ عِلْمِهِما بِمَصالِحِهما.
روى بَكُرْ بنُ عبدِ اللهِ المُزنيُّ قال: كانَ رَجُلانِ من الأعرابِ مُحرِمَيْنِ، فحاشَ (1) أحدُهُما صيداً، فقتلَهُ الآخَرُ، فأَتيَا عُمَرَ وعَبْدَ الرَّحْمنِ بْنَ عَوْفٍ، فقالَ لهُ عُمَرُ: ما ترى؟ قال: شاةٌ، قال: وأنا أَرى ذلك، اذهبا واهدِيا شاةً، فلما مَضَيا قالَ أحدُهُما لصاحِبهِ: ما درى أميرُ المؤمنينَ ما يقولُ حتى سَأَلَ صاحِبَهُ! فسمعَهُ عُمَرُ، فردّهما، فقال: هل تقرأان "سورة المائدة"؟ فقالا: لا، فقرأ عليهما:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا} [المائدة: 95]، ثم قال: استعنْتُ بصاحِبي هذا (2).
* وقد اتفقوا على أنه لا بُدَّ من ذوي العدلِ.
* وإذا حكم ذوا عدل من الصحابة -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- في مِثْلٍ، فلا يُعاد فيهِ الحُكْمُ عندَ الشافِعِيِّ؛ لأنها قضيةٌ معقولةُ المعنى حَكَمَ فيها عَدْلانِ، فوجبَ علينا تنفيذُ حُكْمِهِما واتباعُه (3).
وقال مالِكٌ: يستأنف الحكم، وكأنه اعتقده عِبارةً غيرَ مَعقولةِ المَعْنى، فوجبَ الإتيانُ بِها عندَ وجودِ سَبَبِها، وهذا في غيرِ مَحَلِّ الإجماعِ والنَّصّ، وأما الإجماعُ والنصُّ فلا يُعاد فيه الحكمُ، قولاً واحداً (4).
(1) حاش: حُشْنا الصَّيْدَ، حوشاً وحِياشاً، وأحَشْناه وأَحْوَشْناه: أخذناه من حواليه لنَصْرَفه إلى الحبالة، وضممناه.
وحُشتُ عليه الصيد والطين، حوشاً وحياشاً، وأحشه عليه وأحوشته عليه وأحوشته إياه، عن ثعلب: أعنته على صيدهما. "اللسان"(مادة: حوش)(6/ 290).
(2)
رواه الطبري في "تفسيره"(7/ 48).
(3)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 291)، و"المهذب" للشيرازي (1/ 216).
(4)
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 261).
* فإن قلت: فهل يجوزُ أن يكونَ الجاني أحدَ الحَكَمَيْن؟
قلت:
يحتملُ أن يجوزَ؛ لأن الله سبحانه لم يشترطْ إلا ذَوَيْ عَدْلٌ، وهو عدلٌ.
وبهذا قال الشافعيُّ في أحدِ قولَيْه (1).
ويحتمل أَلَّا يجوزَ، وبه قالَ مالِكٌ وأبو حنيفةَ؛ لأن مضمونَ الخِطاب يَقْتَضي جانياً وحَكَمَيْنِ، والأصولُ تقضي أنه لا يجوزُ أن يَحكُمَ لِنَفْسِه (2).
وللشافعيّ أن يقولَ: هو حاكمٌ على نفسه، لا لها، وأنه مُفْتٍ، لا حاكمٌ وقوله:{يَحْكُمُ بِهِ} [المائدة: 95]، أي: يفتي بحُكْم الله تعالى فيه.
* واتفقوا على أنه لا بُدَّ من بُلوغِ الهديِ مَكَّةَ؛ لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95].
* واختلفوا في الاكتفاء بالحَرَمِ.
فأقامَهُ الشافعيُّ وأبو حنيفةَ مقامَ مَكَّة (3).
وأباه مالكٌ؛ لتَخْصيصه بالكَعْبَةِ (4)، واستثنى هديَ الفِنيَةِ، فأجازه بغيرِ
(1) وهو مذهب الحنابلة. انظر: "الشرح الكبير" للرافعي (7/ 503)، و"المغني" لابن قدامة (3/ 270).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 195)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 313).
(3)
انظر: "المجموع" للنووي (7/ 400)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 352).
(4)
المقصود: الذبح بمكة لا عند الكعبة والمسجد الحرام، فقد أجمعوا أنه لا يجوز الذبح في المسجد الحرام ولا في الكعبة. انظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 299).
مَكَّةَ، والذبْحَ للعمرَةِ، فأجازه بمنًى (1).
* واختلفوا في اشتراطِ سَوْقِهِ منَ الحِلِّ.
فقالَ مالِكٌ باشتراطِ سَوْقِهِ من الحِلِّ إلى مَكَّةَ، لِتَضَمُّنِ قوله تعالى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] أن يُهْدَى من مكانٍ يبلغُ منه إليها (2).
وقال الشافعيُّ: لا يشترط الحِلُّ (3).
ومن أجلِ هذا نَشَأَ الخِلافُ بينهما في جزاءِ الصَّغيرِ من الصَّيْدِ.
فقالَ مالِكٌ: جزاؤه القيمةُ؛ لأن الهديَ الصَّغيرَ لا يُمْكِنُ سَوْقُه إلى الحَرَمِ (4).
وقال الشافعيُّ: جزاؤه صَغير منِ النَّعَمِ؛ لأنه يبتاعُهُ في الحَرَمِ، ويهديه، ولأن الصحابةَ قَضَتْ في الصَّغيرِ بصغيرٍ، وفي الكبيرِ بكبير (5).
وبهذا القضاءِ يظهرُ ضعفُ دَلالةِ الإشارةِ والتَّضَمُّنِ، وأن المُعتبَرَ إنما هو حصولُ الدَّمِ بالحرم لأجلِ مساكينِ مَكَّةَ، وأما السَّوْقُ، فلا فائدةَ فيه للمساكين.
(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 272 - 299)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 276).
(2)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 248)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 275).
(3)
وهو مذهب الحنابلة. انظر: "المجموع" للنووي (8/ 144)، و"الشرح الكبير" لابن قدامة (3/ 577).
(4)
وروي عن مالك: أن صغير الهدي مثل كبيره. انظر: "الكافي" لابن عبد البر (ص: 157)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 187).
(5)
وهو مذهب الحنابلة. انظر: "المجموع" للنووي (7/ 369)، و"المغني" لابن قدامة (3/ 270).
* ولما ذكر اللهُ سبحانَه الجزاءَ الذي هو الهديُ، وفَصَّلَ أحكامَهُ، ذكرَ الطعامَ والصيامَ بلفظ (أو) الموضوعةِ للتخييرِ، وسَمَّاها كفارةً.
وبالتخييرِ أخذَ الشافِعيُّ، ومالك، وأبو حنيفةَ (1).
ومن أهلِ العلمِ من قالَ بالترتيب؛ لما فيه من تقديمِ الأثقلِ فالأثقل؛ كما وردَ في حَدِّ المُحارَبَة.
وهو مذهبُ ابنِ عباسٍ (2)، وبه قالَ زُفَرُ والشافِعيُّ في قوله القديم (3).
* فإن قلت: فقد بينَ اللهُ سبحانُه مقدارَ الصَيامِ بأنهُ عَدلُ الطَّعامِ، ولم يبينْ مقدارَ الطَّعامِ، ولا مقدارَ المساكين.
قلتُ: أما مقدارُ الصيامِ، فقدِ اتفَّقوا على أنه مُعادل بالطَّعامِ؛ كما ذكرَ اللهُ سبحانه.
وإنما اختلفوا في صورة التعديل.
فقال مالكٌ والشافعيُّ وأهلُ الحجاز: يصومُ عن كُلِّ مُدّ يوماً، وهو مقدارُ طعامِ المساكينِ عندهم (4).
(1) انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 299)، و"المبسوط" للسرخسي (4/ 84)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 261).
(2)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 299)، "المحلى" لابن حزم (7/ 221).
(3)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" للطحاوي (2/ 209)، و"المبسوط" للسرخسى (4/ 84).
(4)
وهو مذهب أحمد. انظر: "الموطأ" للإمام مالك (1/ 355)، و"الأم" للإمام الشافعي (2/ 161)، و"المغني" لابن قدامة (3/ 276).
وقال أبو حنيَفةَ وأهلُ الكوفة: يصومُ لِكُلِّ مُدَّيْنِ يوماً، وهو مقدارُ طعامِ المساكينِ عندهم أيضاً (1).
وعَدَلَهُ ابنُ عَبَّاسٍ أيضاً بالطعام؛ كما عَدَلَهُ اللهُ سبحانه، ولكنه قَدَّرَهُ كما قَدَّرَ الطعامَ، فروي عنه أنه قال: إذا قتلَ المُحْرِمُ ظَبْياً، أو نَحْوَهُ، فعليهِ شاةٌ تُذْبَحُ بمكة، فإن لم يجدْ، فإطعامُ ستةِ مساكينَ، فإن لم يجدْ، فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ، فإن قَتل أيلاً، أو نحوَه، فعليهِ بقرة، فإن لم يجدْ، أطعمَ عشرينَ مسكيناً، فإن لم يجدْ فصيامُ عشرينَ يوماً.
وإن قَتلَ نَعامَةً أو حِمارَ وحْشٍ، فعليهِ بدنة، فإن لم يجد، فعليه بَدلُه مِنَ الطَّعامِ ثلاثين مِسْكيناً، فإن لم يجن فصيامُ ثلاثين يوماً (2).
وقد تبين بِهذا مقدارُ طعامِ المساكينِ.
وأما مقدارُهما:
فقد اتَّفقوا على التقويمِ بالدَّراهِمِ، ثم الدراهم طعاماً، ويُطْعِمُ كلَّ مسكينٍ مُدًّا على قولِ أهل الحجاز، ومُدَّينِ على قولِ أهلِ العراق.
واختلفوا في ماهِيَّةِ المُقَوَّمِ، هل هو الصَّيْدُ المجزى، أو جزاؤهُ من النَّعَمِ؟
فبالثاني قال الشافعيُّ (3)، وبالأول قالَ مالكٌ.
قال ابنُ وَهْبٍ: قال مالِكٌ: أَحسَنُ ما سَمِعْتُ في الذي يَقْتل الصَّيْدَ،
(1) انظر: "المبسوط" للسرخسي (4/ 85)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 201)، و"الهداية" للمرغيناني (1/ 170).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(7/ 51)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(4/ 1208).
(3)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 299)، و"المجموع" للنووي (7/ 368).
ويحكَم عليه فيه: أنه يُقَومُ الصيدُ الذي أصاب، فينْظَرُ كم ثمنُهُ من الطعامِ، فيُطْعِمُ كل مسكينٍ مُدًا، أو يصومُ مكانَ كُلِّ مُدٍّ يوماً (1).
وقال ابنُ القاسِمِ عنه: إن قوّمَ الصيدَ دراهمَ، ثم قَوَّمَها طعامًا، أجزأهُ (2).
وقولُ مالِكٍ أَلْيقُ بالتخيير، وأَقْوَمُ في المعنى؛ لأنه نظيرٌ لا بديل، ولو كانَ بَدَلاً، لكان ترتيباً.
وقولُ الشافعي أَحْوَطُ؛ إذ قيمة البَدَنَةِ أكثرُ منَ النَّعامةِ، وقيمةُ البقرةِ الإنسيةِ أكثرُ من الوَحشِيةِ، وقيمةُ الشاةِ أكثرُ من الظَّبْيِ.
* وقيد الله الهديَ ببلوغ الكعبة وأطلقَ الطعامَ والصيامَ.
فاتفقَ العلماءُ على إطلاقِ الصَّوم، ولا يختصُ بمكانٍ؛ خلافاً لأبي حنيفةَ، حيثُ خَصَّصَهُ بِمَوْضِعِ الإصابةِ (3).
واختلفوا في الإطعامِ.
فحملَ الشافعيُّ إطلاقَه على تقييدِ الهديِ؛ بِجامِعِ الكَفارةِ، وانتفاعِ فقراءِ الحَرَمِ به؛ كالذبحِ، فأوجبَ إخراجَه بمكَّةَ، وهو قولُ طاوسٍ (4)،
(1) انظر: "الموطأ" للإمام مالك (1/ 355).
(2)
في "المدونة الكبرى": الصواب من ذلك أن يقوم طعاماً، ولا يقوم دراهم، ولو قوِّم الصيد دراهم ثم اشترى بها طعاماً لرجوت أن يكون واسعاً، ولكن الصواب من ذلك: أن يحكم عليه طعاماً، فإن أراد أن يصوم نظر كم ذلك الطعام من الأمداد، فيصوم مكان كل مد يوماً، وإن زاد ذلك على شهرين أو ثلاثة. انظر:"المدونة الكبرى"(2/ 434).
(3)
المشهور عن الحنفية الإطلاق كالجمهور. انظر: "المبسوط" للسرخسي (3/ 82)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 201).
(4)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 389).
ولأنه إمَّا بَدلٌ لِلهديِ على قولِ الترتيبِ، أو نظيرٌ لهُ على قولِ التخييرِ، وكلاهُما يوجبُ تقييدَ أحدِهما بتقييدِ الآخر (1).
وبهذا قالَ مالكٌ في إحدى رِوايتيه، وبها صَرَّحَ في "مُوَطَّئِهِ"(2)، وقالَ في الرواية الأخرى: يُكَفِّرُ بموضعِ الإصابة للصَّيدِ، وهو قولُ (3) مجاهدٍ (4).
ومنهم من قال: يطعمُ حيثُ شاءَ؛ كسائرِ الإطعامات؛ فإنه يجوزُ بكلِّ مكاني، وهو قولُ عطاءٍ، ومحمدِ بنِ جَريرٍ الطَّبَرِيِّ (5).
وقد قدمتُ ما قيل في قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95].
* إذا تَمَّ هذا، فقد بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أنه حَرَّمَ المدينةَ كما حَرَّمَ اللهُ مَكَّةَ، فلا يُصادُ صيدُها، ولا يُعضَدُ شَجَرُها (6).
(1) انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 231).
(2)
لكن في "الموطأ" ما يشير إلى خلاف هذا القول، حيث قال: والذي يُحْكم عليه بالهدي في قتل الصيد أو يجب عليه هدي في غير ذلك، فإن هديه لا يكون إلا بمكة، كما قال الله تبارك وتعالى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ، وأما ما عدل به الهدي من الصيام أو الصدقة فإن ذلك يكون بغير مكة حيث أحبَّ صاحبه أن يفعله فعله. انظر:"الموطأ" للإمام مالك (1/ 387).
(3)
في "ب": "وبه قال".
(4)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 149)، و"الذخيرة" للقرافي (3/ 334).
(5)
وهو قول الحنفية. انظر: "تفسير الطبري"(7/ 55 - 56)، و"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 143).
(6)
وذلك كما في حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها" رواه مسلم (1363).
وخالفَ في ذلكَ أبو حنيفةَ، وقال: يجوزُ اصْطِيادُ صَيْدِها (1).
والجمهورُ على خلافِهِ؛ للحديثِ الصَّحيح (2).
* وإنما اختلفوا في جزاءِ صيدِها.
فمنهم من أوجبه؛ كجزاءِ صيدِ مكة، ومنهم من أسقطَهُ، ومنهم من جَعَلَ الجَزاءَ سَلْبَ القاتلِ (3).
125 -
(22) قوله تبارك وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96].
* أقولُ: لما بَيَّنَ اللهُ سبحانه في الآيةِ الأولى قتلَ الصيدِ وجَزاءهُ، بينَ في هذهِ الآيةِ حُكْمَ الأكلِ، وبينَ حُكْمَ صيدِ البحرِ، ومَيَّزَ بينَه وبينَ صيدِ البر.
* أما صيدُ البَرِّ فَحُرِّمَ على المُحرِمِ أَكلُهُ؛ لقولهِ تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، وهذا مُطْلَقٌ في جميع الأحوال، سواءٌ صادَهُ مُحْرِم أو حَلالٌ.
وقد حُكِي عن جماعةٍ من السَّلَفِ العَملُ بظاهرِ الإطلاقِ.
(1) وقالوا: المقصود بالتحريم: التعظيم. انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 191 - 196)، و "البحر الرائق" لابن نجيم (3/ 43).
(2)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 362)، و"التمهيد" لابن عبد البر (6/ 313)، و"المحلى" لابن حزم (7/ 237).
(3)
الجمهور على أن لا جزاء فيه، وللشافعي في القديم أن جزاءه سلب القاتل وهو رواية عن أحمد. قال النووي: وهو المختار. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 233)، و"المغني" لابن قدامة (3/ 171)، و "المجموع" للنووي (7/ 400).
ورُوي عن عَلِيٍّ أنه كانَ عندَ عثمانَ بنِ عفانَ -رضي الله تعالى عنهما- فَأُتِي عثمانُ بِلَحْمِ صَيْدٍ صادَهُ حَلالٌ، فأكلَ عثمانُ، وأبى عليٌّ أن يأكل، فقال: واللهِ ما صِدنا، ولا أَمَرنا، ولا أشَرنا، فقال عليٌّ:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (1)[المائدة: 96].
ورويَ عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أنه كَرِهَ لَحمَ الصيدِ وهو مُحرِم، أُخِذَ لَهُ، أو لَمْ يُؤْخَذْ، وإن صادَهُ الحَلالُ (2).
وعن أبي هريرةَ مثلُه، وكذا عنِ ابنِ عَمرٍو، وسَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وطاوسٍ مثلُه أيضاً (3).
ولهم من الدَّليلِ حديثُ الصَّعْبِ بنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ الثابتِ في "الصحيحين": أنه أَهْدَى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حِماراً وحْشياً، وهو بالأَبْواءِ، أو بِوَدّانَ، فردَّه عليهِ، فلما رأى ما في وَجْهِهِ قال:"إنَّا لم نَرُدَّهُ عليكَ إلَّا أنا حُرُمٌ"(4).
وذهبَ أكثُر الناسِ إلى تقييدِ هذا الإطلاقِ، فقال بعضُهم -وأظنُّه أبا حنيفة (5): يحرُم عليهِ إن صادَهُ، أو صيدَ بإذنِه، أو دِلَالتِه، وإن صيدَ بغيرِ
(1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 71)، عن الحارث بن نوفل، عن أبيه.
وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 199).
(2)
روى ابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 75)، عن ابن عباس: أنه قال في الآية: جعل الصيد حراماً حلال، وإن صاده حرام لحلال، فلا يحل له أكله.
(3)
انظر: "مصنف عبد الرزاق"(4/ 428)، و"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 308)، و"تفسير الطبري"(7/ 71).
(4)
روى البخاري (1729)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: إذا أهدى للمحرم حماراً وحشياً حياً لم يقبل، ومسلم (1193)، كتاب: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم، عن عبد الله بن عباس، عن الصعب بن جثامة الليثي.
(5)
"أبا حنيفة": ليس في "أ".
إذنِه ودِلالته، حَلَّ (1)؛ بدَلالةِ حديثِ أبي قَتادَةَ الثابتِ في "الصحيحين": أنه كانَ في قومٍ مُحرِمينَ، وهو حَلالٌ، فبينما هُم يسيرونَ، إذْ رَأَوْا حِمارَ وَحشٍ، فحملَ أبو قَتادةَ على الحُمُرِ، فَعَقَرَ منها أتانًا، فنزلْنا فأكلْنا من لحمِها، ثم قلنا: أنأكلُ لحمَ صيدٍ ونحنُ مُحرِمون؟ فحملْنا ما بقيَ من لحمِها، فأدركْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فسألْناه عن ذلكَ، فقال:"هل منكُم أحدٌ أمرَهُ أن يحمِلَ عليها، أو أَشار إليها؟ " فقالوا: لا، قال:"فكلوا ما (2) بقي من لحمها"(3).
وقال بعضُهم: يحرُم عليهِ إن صادَه أو صِيْدَ لأجلِه، سواءٌ كان بإذنِه أو بغيرِ إذنه، وبه قالَ مالِكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاق (4)، واستدلُوا بما روى الترمِذِيُّ عن جابر رضي الله عنه؛ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"لَحمُ الصيدِ لكمْ حَلالٌ ما لم تصيدوهُ، أو يُصادَ لكم"(5). قال أبو عيسى: هو أحسنُ حديثٍ في البابِ.
وتأول الشافعيُّ حديثَ الصعبِ بنِ جَثّامَةَ بأنه صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنهُ صيدَ لأجلِه،
(1) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (2/ 175)، و"المبسوط" للسرخسي (4/ 87).
(2)
في "ب": "مما".
(3)
رواه البخاري (1728)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال، ومسلم (1196)، كتاب: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم.
(4)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 124)، و"المجموع" للنووي (7/ 271).
(5)
رواه الترمذي (846)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في أكل الصيد للمحرم، وأبو داود (1851)، كتاب: المناسك، باب: حل الصيد لمحرم، والنسائي (2827)، كتاب: المناسك، باب: إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال، والإمام الشافعي في "مسنده"(186)، والإمام أحمد في "المسند"(3/ 362).
وتأوَّلَ حديثَ أبي قَتادة بأنه لم يَصِده لأَجْلِهم؛ بدليلِ كراهتِهِم لفعله؛ حيثُ لم يناولوه سَوْطَهُ، فجعلَ حديثَ جابرٍ مُفَسِّراً للأحاديثِ (1).
فإن قلت: كان الأَوْلى أن يُجْعَلَ حديثُ أبي قتادَةَ مُفَسِّراً لحديثِ جابر؛ لأن الغالبَ ألاّ يُصادَ للرجلِ إلا بإذنِه؛ بدليلِ حديثِ أبي قَتَادَةَ؛ حيثُ لم يعتبرْ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلا (2) الأمرَ أو الإشارةَ.
قلت: هذا لَعَمري حَسَنٌ كما تقولُ، ولكن تبقى المُعارَضَةُ بينَهُ وبينَ حديثِ الصَّعبِ بنِ جَثَّامة، وإذا جُعل حديثُ جابرِ مُفَسّراً لحديثِ أبي قتادَةَ، ولحديثِ الصَّعْبِ، أَمكَنَ الجمْعُ بينَ الأحاديثِ كُلِّها، وزالَ التعارُضُ والاختلافُ، وهذا أحسنُ من ذلكَ، ولهذا اختارَ هذا المسلكَ أبو عبدِ الله الشافعيُّ، رحمه الله.
* فإن قلت: فهل جاءتِ الآيةُ بياناً لتحريمِ لحمِ الصيدِ، أو لتحريمِ الاصطيادِ؛ كما قاله بعضُ العلماء، أو كثير منهم؟
قلت: لا ينبغي أن يكونَ لبيانِ الاصطياد، لأن الخِطابَ مَسوقٌ لبيانِ الأكلِ، لا للاصطياد.
فإن قلتَ: فما ذلك.
قلت: وصفَ اللهُ صيدَ البحرِ وطعامَه بأنهُ متاعٌ لنا وللسَّيَّارَةِ، ثم عطفَ عليهِ صيدَ البَرّ، فلَهُ حُكْمُهُ، والاصطيادُ ليسَ بِمَتاعٍ.
ولبيانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لِعُموم هذهِ الآيةِ؛ حيثُ قال: "صيدُ البر لَكُم حَلال
(1) انظر: "اختلاف الحديث" للإمام الشافعي (ص: 544)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (4/ 305)، و"معرفة السنن والآثار" للبيهقي (4/ 198).
(2)
"إلا" ليس في "أ".
ما لَمْ تصيدوهُ، أو يُصَدْ لكم" (1)، ولأن كافةَ العلماءِ من الصَّحابةِ والتابعينَ منهم مَنْ تمسَّكَ به في تحريمِ الأكلِ مطلقاً؛ كما روينا عن على وغيرِه.
ومنهم من استدلَّ بالسُّنَّةِ على تَخْصيصه، ولم يقولوا: المرادُ بهِ الاصطيادُ دونَ الأكلِ، وهذا تفسيرُ ابنِ عباس تَرجُمانِ القرآنِ يَشْهدُ بذلكَ في صيدِ البَحرِ الذي عُطِفَ عليه هذا، قال: يريد: ما أصبتَ من داخلِ البَحرِ، ولم يقلْ: يريدُ الإصابةَ.
فإن قلتَ: فما قولُك في قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1]، هل المرادُ بهِ الصيدُ، أو الاصطياد؟
قلت: يحتملُ أن يرادَ بهِ الصيدُ؛ استدلالاً بهذه الآية، ويحتملُ أن يُرادَ به الاصطيادُ؛ استدلالاً بالآيةِ التي بعدها:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2].
* وأما صيدُ البحرِ، فإن الله سبحانَه أَحَلَّهُ للمُحْرِم، وأجمعَ عليهِ المُسلمون.
* وأما طعامُ البحرِ.
فقالَ قوم: طعامُه ما طَفا عليه مَيْتاً، قاله أبو بكرٍ وعمرُ وقتَادةُ.
وقال قومٌ: طعامُه ما حَسَرَ عنهُ الماءُ، وأخذه الناسُ.
وقد ذكرتُ أقوالَ العلماءِ في مَيْتة البَحْر فيما سلف (2)، والصحيحُ تحليلُها مُطْلَقاً (3)؛ للأحاديث التي ذكرتُها، ولقوله تعالى: {متاعًا لكُمْ
(1) تقدم تخريجه.
(2)
في "أ": "سبق".
(3)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 196)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 265).
وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]، فأحله في حالتِي الاختيارِ والاضطِرارِ، ولم يبحْ ميتَة البَرِّ إلا في حالِ الاضطرار، والله أعلم.
126 -
(23) قولُه عز وجل: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97] الآية.
أي: صَلاحاً للناس، قاله سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ (1)، ومثلُه عنِ ابنِ قُتيبة، وجعل ذلك لعلمِه بما فيهِ صلاحُ أمورهم، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك في أول السورة.
(1) رواه الطبري في "التفسير"(7/ 77).