الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام اللباس والزينة)
134 -
* في هاتين الآيتين دليلٌ على وُجوبِ سَتْرِ العَوْرَةِ في كلِّ حالٍ منَ الأحوالِ، في الصلاةِ وغيرِها؛ لأن اللهَ سبحانه وتعالى سَمَّاها سَوْءَةً، وسَمّاها فاحِشَةً، وعلى هذا أجمعَ المسلمون.
* والخطابُ مُتناوِلٌ للذكورِ والإناثِ، والعبيدِ والأحرار.
فأما الذكورُ.
فذهبَ مالِكٌ، والشافِعيُّ، وأبو حَنيفةَ إلى أنها ما بين السُّرَّةِ والرُّكْبَةِ (1)، إلا أنَّ مالِكاً وأبا حنيفةَ قالا: هي عورةٌ مخففَّةٌ (2).
(1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 89)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 197)، و"المبسوط" للسرخسي (10/ 164).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 307)، و"الهداية شرح البداية" للمرغيناني (1/ 44).
والدليلُ لهم ما روى ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "الفَخِذُ عَوْرةٌ"(1)، وما رواه زُرْعَةُ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ جَرْهَدٍ الأسْلَميِّ، عن أبيه، عن جَدِّه، وكان من أهلِ الصُّفةِ قال: جلسَ عندَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وفَخِذي منكشفةٌ، فقال:"خَمِّرْ عليكَ، أما عَلِمْتَ أن الفَخِذَ عَوْرَةٌ؟ "(2).
وقال قوم: العَوْرَةُ: السَّوْءَتانِ فقط؛ لما روى أنسٌ -رضيَ الله تعالى عنه-: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَسَرَ عن فخذِه، وظهرَتْ فخِذُهُ يومَ أجرى في زُقاقِ خَيْبَر (3).
قال البخاري: وحديثُ أنسٍ أَسْنَدُ، وحديثُ جَرهَدٍ أَحْوَطُ (4).
وأما عورةُ المرأةِ، فسيأتي بيانُها في "سورة النور" -إن شاء الله تعالى-.
وأما العبدُ فهو مثلُ الحُرِّ.
وأما الأَمَةُ، ففيها اخْتِلاف، وسيأتي أيضًا -إن شاء الله تعالى-.
* * *
136 -
(3) قوله جل ثناؤه: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
* جاءت هذهِ الآيةُ لإبطالِ ما كانتْ عليه الجاهليةُ من طَوافِهِمْ بالبيتِ
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه أبو داود (4014)، والترمذي (2795) وقال: هذا حديث حسن وما أرى إسناده بمتصل.
(3)
رواه البخاري (364).
(4)
قاله البخاري في "الصحيح"(1/ 145) بعد أن ذكره معلقًا.
عُراةً، حتى قالَتِ امرأةٌ منهم:[بحر الرجز]
اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُه أَوْ كُلُّهُ
…
وما بَدا مِنْهُ فَلا أحِلُّهُ (1)
فأمرنا اللهُ سبحانه في هذِه الآية بأَخْذِ الزينةِ عندَ كُلِّ مسجدٍ، والمرادُ بها الثيابُ التي سترُ العورةَ، وذلك واجبٌ في المسجدِ الحرامِ وفي غيرِه.
أما المسجدُ الحَرامُ؛ فلما ثبتَ في الصحيح أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أرسلَ عَلِيًّا يُنادي في المَوْسِمِ: أَلا لا يَحُجَّنَّ بعدَ العامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطوفَنَّ بالبَيْتِ عُريان (2).
وأما في غيرِه، فلعمومِ الخِطابِ، وهو وإنْ كانَ واردًا على سَبَبٍ، فالعِبْرَةُ بِعُمومِ اللفظِ، لا بخُصوصِ السَّبَبِ، ما لم يَصْرِفِ العُمومَ صارفٌ.
* ثم الأمرُ بأخذِ الزينةِ عندَ المسجدِ الحَرام:
يحتملُ أن يكونَ التَّخْصيصُ بذكرهِ إنَّما هو لأجلِ ما يُفْعَلُ في المسجدِ من العِبادَةِ التي شُرِّفَ من أجِلها، وهي الصلاةُ والطوافُ، فتدلّ الآية حينئذٍ بطريق الإيماءِ إلى التشريفِ أن سترَ العورة شرطٌ في الصلاةِ، وفرضٌ من فُروضِها، لا تَصِحُّ إلاّ به؛ لأن الأمرَ تنَاولٌ بخصوصها، وبه قالَ أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأحمدُ (3)، وبينه قولُه صلى الله عليه وسلم:"لا يقبلُ اللهُ صلاةَ حائِضٍ إلا بِخِمارٍ"(4) وما أَشْبَههُ من الآثار.
(1) رواه مسلم (3028) عن ابن عباس.
(2)
رواه البخاري (4378).
(3)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 205)، و"الشرح الكبير" للرافعي (4/ 80).
(4)
رواه أبو داود (641)، كتاب: الصلاة، باب: المرأة تصلي بغير خمار، والترمذي (377)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء لا تقبل صلاة المرأة إلا بخمار، وابن ماجه (655)، كتاب: الطهارة، باب: إذا حاضت الجارية لم تصل إلّا بخمار، والإمام أحمد في "المسند"(6/ 218)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده"(1284)، وابن خزيمة في "صحيحه"(775)، وابن حبان في=
وقال مالِكٌ في أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ: سترُ العورةِ فرضٌ إسلاميٌّ، لا يختصُّ بالصلاةِ (1)، واحتجَّ بما ثبتَ في الصحيح: أنه كانَ رجالٌ يُصَلُّونَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم عاقِدينَ أُزْرَهُمْ على أعناقهم كهيئةِ الصِّبيان، ويقال للنساء: لا تَرْفَعْنَ رُؤوسَكُنَ حتى يَسْتَوِيَ الرجالُ جلوسًا (2).
وبما روى عَمْرُو بنُ سَلمَةَ قال: لما رَجَعَ قومي من عندِ النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لهم:"ليَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قِراءَةً"، فدعَوْني، فعلَّموني الركوعَ والسُّجودَ، فكنتُ أُصَلِّي بهم، وكان عَلَى بُرْدَة مفتوقة، وكانوا يقولون لأبي: ألا تغطي عنا استَ ابْنِكَ (3)؟
* ولما كان أهلُ الجاهليةِ لا يأكلونَ في حَجِّهِمْ دَسَماً، ولا يأكلونَ إلا قوتاً؛ يُعَظِّمونَ بذلكَ حَجَّهُمْ، قالَ المسلمون: نحنُ أَحَقُّ أَنْ نفعلَ ذلكَ، فأَمَرَهُمُ اللهُ سبحانه أَنْ يأكلوا ويشربوا، ولا يُسْرِفوا بتحريمِ ما أحل اللهُ لهمْ منَ اللَّحْمِ والدَّسَم؛ إنه لا يُحِبُ المُسرفينَ المُشركين.
= "صحيحه"(1711)، والحاكم في "المستدرك"(917)، وابن الجارود في "المنتقى"(173)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 233)، عن عائشة.
(1)
هو قول بعض المالكية، وقد رجح بعضهم -كابن عبد البر وغيره- القول الأول بأن ستر العورة من فرائض الصلاة، انظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 196)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 82)، و"الذخيرة" للقرافي (2/ 101).
(2)
رواه البخاري (355)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب: إذا كان الثوب ضيقًا، ومسلم (441)، كتاب: الصلاة، باب: أمر النساء المصليات وراء الرجال أن لا يرفعن رؤوسهن من السجود حتى يرفع الرجال، عن سهل بن سعيد.
(3)
رواه النسائي (767)، كتاب: القبلة، باب: الصلاة في الإزار، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(7/ 90)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(3455)، والبيهقي في "السنن الصغرى"(558).
137 -
138 (4 - 5) ثم أمرَ اللهُ سبحانه نبيَّهُ بِمعاتَبَتِهم، فقال:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32 - 33].
* وقد اشتملتْ هذهِ الآيةُ على ثلاثةِ أحكامٍ من قواعِدِ الشريعةِ:
الحكم الأول: إحلالُ زينةِ الله التي مَنَّ بها على عِباده، وهي حَلالٌ بإجماعِ المسلمين، من أيِّ شيءٍ كانت، من صوفٍ أو شعرٍ أو جلدٍ أو شجر، إلا ما حَرَّمَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وهو الحريرُ، فقالَ مشيرًا إليه وإلى الذَّهَبِ:"إنَّ هذَيْنِ حَرامٌ على ذُكورِ أُمَّتِي، حَلالٌ لإِناثِها"(1)، ونَهى عن لُبْسِ القَسّيِّ (2) والمُعَصْفَرِ (3).
(1) رواه أبو داود (4057)، كتاب: اللباس، باب: في الحرير للنساء، والنسائي (5144)، كتاب: الزينة، باب: تحريم الذهب على الرجال، وابن ماجه (3595)، كتاب اللباس، باب: لبس الحرير والذهب للنساء، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 96)، والبزار في "مسنده"(886)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"(272)، وابن حبان في "صحيحه"(4534)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 425)، عن علي بن أبي طالب، وهذا لفظ ابن ماجه والبزار.
(2)
القَسِّيِّ: ثياب يُؤتى بها من مصر فيها حرير، مفتوحة والسين مكسورة مشددة والياء مشددة، قال أبو عبيد: أصحاب الحديث يقولون القِسي بكسر القاف وأما أهل مصر فيقولون القَسِّي، فينسب إلى بلد يقال له قَسٌّ، والصواب القَسِّي، وأما القِسي بكسر القاف فجمع القوس، فلا معنى له ها هنا. انظر:"غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 226).
(3)
رواه مسلم (2078)، كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر، عن علي بن أبي طالب.
المُعَصْفَر: قال ابن سيده العُصْفُر: هذا الذي يُصبَغُ به، منه ريفيٌّ ومنه برِّي،=
وبينَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن اللهِ سبحانه كيفيةَ الأخذِ، فبينَ ما يَحِلُّ مِنْها، وما يَحْرُمُ، وما يُكْرَهُ.
فَلَبِسَ القميصَ والسراويلَ والعِمامة، واتَّزرَ وارْتَدى.
وحَرَّمَ إسْبالَ الثوبِ، فقال:"لا ينظرُ اللهُ يومَ القِيامَةِ إلى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ"(1).
وكَرِهَ اشْتِمال الصَّمَّاءِ (2).
وبيَّنَ مع كتابِ اللهِ سبحانه أن اللباس الحَلالَ (3) يَحْرُمُ في بعضِ الأحوالِ، فقال:"لا يَلْبَسُ المُحْرِمُ القَميصَ، ولا السَّراويلَ، ولا البُرْنُسَ، ولا العِمامَةَ، ولا الخُفَّ، إلَّا ألّا يجدَ نَعْلَيْنِ، فَيَقْطَعُهما أسفلَ منَ الكَعْبَيْنِ، ولا يلبسُ من الثيابِ ما مَسَّهُ وَرْسٌ زعفرانُ"(4).
الحكم الثاني: إحلاُلهُ سبحانه الطيِّباتِ منَ الرزقِ، ثم بينه سبحانه في
= وكلاهما نبتٌ بأرض العرب. وقد عَصْفَرتُ الثوبَ فتعَصفَر.
"اللسان"(مادة: عصفر)(4/ 581).
(1)
رواه البخاري (5446)، كتاب: اللباس، في أوله، ومسلم (2085)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم جر الثوب خيلاء، عن عبد الله بن عمر.
(2)
رواه البخاري (360) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
واشتمال الصماء: هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فيبدو منه فرجه. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 118).
(3)
"الحلال": ليس في "أ".
(4)
رواه البخاري (5458)، كتاب: اللباس، باب: لبس القميص، ومسلم (1177)، كتاب: الحج، باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح، عن عبد الله بن عمر.
موضعٍ آخرَ فقال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، وكُلُّ طَيِّبٍ مُسْتَطابٍ فهو حَلالٌ، وكلُّ خَبيثٍ مُسْتَخْبَثٍ حرامٌ، فهو مِمَّا بيَّنَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم جُملة وتفصيلًا.
الحكم الثالث: الدَّلالَةُ على أَنَّ أصولَ الأشياء على الإباحَةِ.
فكلُّ طعامٍ لم يوجدْ فيه نَصٌّ بَتْحليلٍ ولا تَحْريمٍ، فهو حَلالٌ، وبهذا قالَ طائفةٌ من الفقهاءِ والأصوليِّينَ (1).
وقالت طائفةٌ: الأصلُ فيها التحريمُ.
وقالت طائفةٌ بالوَقفِ (2).
* * *
(1) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 336)، و"البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 143)، و"البحر المحيط" للزركشي (4/ 324)، و"فتح الباري" لابن حجر (13/ 269)، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص: 60).
(2)
انظر: "التبصرة في أصول الفقه" للشيرازي (1/ 535)، و"شرح التلويح على التوضيح" للتفتازاني (2/ 32)، و"حاشية رد المحتار" لابن عابدين (4/ 161).