المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(من أحكام الحدود) ‌ ‌(الحرابة) 110 - (7) قوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ - تيسير البيان لأحكام القرآن - جـ ٣

[ابن نور الدين]

فهرس الكتاب

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام الشهادات)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌سُورَةُ المَائِدَةِ

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌(من أحكام الأطعمة)

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌(من أحكام الصيد والذبائح)

- ‌(من أحكام الطهارة)

- ‌(من أحكام الحدود)

- ‌(الحرابة)

- ‌(السرقة)

- ‌(من أحكام أهل الكتاب)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الأشربة)

- ‌(من أحكام الهدي)

- ‌(من أحكام الشهادات)

- ‌سُورَةُ الأَنْعَامِ

- ‌(من أحكام الذبائح)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الذبائح)

- ‌(من أحكام اليتامى)

- ‌سُورَةُ الأَعْرَافِ

- ‌(من أحكام اللباس والزينة)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌سُورَةُ الأَنفَالِ

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الهجرة)

- ‌سُورَةُ التَّوْبَةِ

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الصدقة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌سُوْرَةُ يُوسُفَ

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌سُوْرَةُ النَّحْلِ

- ‌(من أحكام الطهارة)

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌سُوْرَةُ الإسْراءِ

- ‌(من أحكام البر والصلة)

- ‌(من أحكام القصاص)

- ‌(من أحكام البيوع)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌سُوْرَةُ الأَنْبيَاءِ

- ‌(من أحكام المعاملات)

الفصل: ‌ ‌(من أحكام الحدود) ‌ ‌(الحرابة) 110 - (7) قوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ

(من أحكام الحدود)

(الحرابة)

110 -

(7) قوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].

* اتفقَ العلماءُ على أن حكمَ هذهِ الآيةِ واقعٌ على المحارِبين منَ المسلمين، وإن اختلفوا في سببِ نُزولِها.

وبيانُها يَتَّضِحُ بذكرِ ثلاثةَ أقسام:

القسم الأول: في حَدِّ المحاربة.

وقد اتفقوا على أنها إشهارُ السلاحِ وقطعُ السبيلِ خارجَ المِصْرِ، وهذا هو الواقعُ على المحارَبَةِ في العُرْفِ (1).

واختلفوا في مسائلَ وراءَ هذا:

منها: إذا فعلَ المحارِبُ ذلكَ في المِصْر:

(1) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 94)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 340).

ص: 125

فقال أبو حنيفة (1)، وعَطاءٌ، والثوريُّ (2): لا تتعلقُ به هذه الأحكامُ، إلا إذا كان بالبريَّة (3).

وسَوّى مالِكٌ وأكثرُ الحنابِلَةِ بينَ المِصْرِ وغيرهِ (4)، ووافقه الشافعيُّ على ذلكَ، وخالفَهُ في اشتراطِ الشَّوْكَةِ.

فاشترط الشافعيُّ الشَّوْكَةَ والقَهْر في مَحَلٍّ ينقطعُ فيه الغوثُ، فإن تصورَ ذلكَ في المِصْرِ، كان فاعلُه محارِباً (5).

ولم يشترطْهُ مالِكٌ، فلو دخلَ إنسانٌ برجلٍ أو صبيٍّ موضِعاً، وأخذَ ما معه، كان محارباً، حتى جعل أصحابهُ من يسقي الناسَ المُسْكِرَ ليأخذَ ما معهُم محارباً (6).

ومنها: اشتراطُ السلاحِ:

فاشترطه أبو حنيفة (7)، ولم يشترطْه مالِكٌ والشافعيُّ (8).

فلو خرجَ بالعَصا، أو بالحِجارة، أو باليدِ، كان محارِباً؛ كما يكون

(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 60)، و"المبسوط" للسرخسي (9/ 201).

(2)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 94)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 124).

(3)

في "ب": "في البرية".

(4)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 94)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 340)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 124).

(5)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (6/ 152)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 360).

(6)

انظر: "المدونة الكبرى"(14/ 366)، و"الذخيرة" للقرافي (12/ 124).

(7)

انظر: "المبسوط" للسرخسي (9/ 201).

(8)

انظر: "الذخيرة" للقرافي (12/ 123).

ص: 126

الكافرُ إذا حارب بهِ حربياً، والمسلمُ مجاهداً، وهذا القولُ متعيِّنٌ، والله أعلم.

القسم الثاني: في جزاء هذه الجناية.

وقد حَصَرَ (1) اللهُ سبحانه جزاءها في أربعة أنواع، ونَسَّقَها بلفظ (أو) الموضوعة للتخييرِ حقيقةً، وللتنويعِ مَجازاً.

فمن أهلِ العلمِ من حَمَلَها على موضوعِها الحقيقيِّ، فقال: الإمامُ مُخَيَّرٌ في قتلهِ أوصلبهِ [أو نفيه] أو قطعِه من خِلافٍ.

ويروى عن الحسنِ، وإبراهيمَ، وابنِ المسيِّبِ، والضَّحَّاك، وعَطاءٍ، ومُجاهِدٍ (2).

ورواه الوالِبِيُّ عن ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما (3) -.

وبه قالَ مالكٌ وأبو ثَوْرٍ (4).

ومعنى التخييرِ عندَه: أن الأمرَ في ذلكَ منوطٌ باجتهادِ الإمامِ، فإن كانَ المحارِبُ من ذوي الرأي والتدبيرِ، فوجهُ الاجتهادِ قتلُه وصلُبه؛ لأن القطعَ

(1) في "ب": "خصَّ".

(2)

انظر: "تفسير الطبري"(6/ 214)، و"الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (7/ 238)، و"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 54)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 552).

(3)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 552)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 125).

(4)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 552)، و"الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (7/ 238)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 241)، و"مواهب الجليل" للحطاب (6/ 316)، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس (1/ 394).

ص: 127

لا يرفَعُ ضررَهُ، وإن كان من ذوي البَطْشِ دونَ الرأيِ، قَطَعَهُ من خلافٍ، وإن خَلا منَ الصفتين أخذَ بالضربِ والنفي.

ومنهم: من جعلهَا للتنويعِ بِحَسَبِ أنواعِ الجرائمِ.

فقال ابنُ عباسٍ: إذا قتلوا وأخذوا المالَ، قُتلوا وصُلِبوا، وإذا قَتَلوا ولم يأخذوا المالَ، قُتِلوا ولمْ يُصْلَبوا، وإذا أخذوا المالَ ولم يَقْتُلوا، قُطِعَتْ أيديهم وأرجلُهم من خلافٍ، ونفيُهم إذا هربوا أن يُطْلَبوا حتى يوجَدوا، فيقامَ عليهم الحَدُّ (1).

وبه قال الحسنُ، وقتَادةُ، والأوزاعيُّ، وابنُ جُبَيْرٍ (2).

وبه أخذَ الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، وأحمدُ، وإن اختلفوا في التنويع (3).

ولكنَّ الشافعيَّ تبعَ تفسيرَ ابنِ عباسٍ، وخَرَّجَهُ في "مُسندِه" (4) وله من الدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلاّ بإحدى ثلاثٍ: كفرٌ بعدَ إيمانٍ، أو زِنًى بعدَ إِحْصانٍ، أو قَتْلُ نَفْسٍ بغير حَقٍّ"(5)، ولأن هذا أشبهُ باعتبارِ الشرعِ في العُقوبات.

* واختلفوا في وقت الصَّلْبِ ومِقْدارهِ.

فقال الشافعيُّ: وقتُه بعد القتلِ، ومقداره ثلاثةُ أيام، إلا أن يُخافَ عليه

(1) انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (6/ 426).

(2)

انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (7/ 238)، و"معالم التنزيل" للبغوي (2/ 33).

(3)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (4/ 291)، و"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 54)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 341)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 125).

(4)

رواه الإِمام الشافعي في "مسنده"(ص: 336).

(5)

تقدم تخريجه.

ص: 128

التغييرُ؛ لأن الله سبحانهَ بدأ بالقَتْلِ (1).

وقال قومٌ: إنه يصلب حتى يموتَ جوعاً، وبه قالَ بعض (2) الشافعيَّةُ (3).

وقال أبو يوسُفَ: يُصْلَبُ حَيًّا ثلاثةَ أيامٍ، فإن ماتَ، وإلا قُتِلَ (4)، وحكى ابنُ القاصِّ هذا عن الشافعيِّ أيضاً، وأنكره سائِرُ الشافعيةِ، بل قال الشافعيُّ: أكرهُ أن يُقْتَلَ مَصْلوباً؛ لنهيِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن المُثْلَةِ (5)(6)(7).

* وصفةُ قطعِ الأيدي والأرجُلِ من خِلافٍ: أن تُقطعَ يدُه اليُمنى من الكُوع، وتقطَعَ رجلُه اليسرى من مَفْصِلِ القَدَمِ، ثم إن عادَ قُطعت يدُه اليسرى ورجلُه اليُمنى (8).

(1) وهو مذهب أحمد. انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 357)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 126).

(2)

"بعض "ليس في "أ".

(3)

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 357).

(4)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 58)، و"شرح فتح القدير" لابن الهمام (5/ 425).

(5)

روى البخاري (5197)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة، عن عبد الله بن يزيَّد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن النهبة والمثلة. وانظر: "الأم" للإمام الشافعي (4/ 245).

(6)

انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: 394)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 357)، و"روضة الطالبين" للنووي (10/ 157).

(7)

وعند المالكية خلاف في هذه المسألة. انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 241).

(8)

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 358)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 106)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 341).

ص: 129

* واختلفوا في صفةِ النَّفْيِ من الأرضِ.

فقال أبو حنيفةَ وأهلُ الكوفة: هو السجنُ، لأنه إذا حُبِسَ فقدْ نُفِيَ عن التَّقّلُّبِ في الأرضِ (1)، ويروى عن مالكٍ (2)، والشافعي (3).

وقال آخرون: هو أن يُنْفى من بلدٍ إلى بلدٍ، فيحبسَ في البلدِ الثاني إلى أن تظهرَ توبتُه، ويكون بينَ البلدينِ أقل مسافَةِ القَصْرِ.

ويروى عن مالِكٍ (4)، وخصَّ بالأرضِ مكانَ الجِناية، واستحسَنَهُ ابنُ سُرَيْجٍ من الشافعيةِ (5).

وقيل: يُطلبون بالحَدِّ أبداً، فيهربون، وأما أنه يُنْفى بعدَ أن يُقْدَر عليه، فلا، قاله ابنُ عباسٍ، وأَنَسٌ (6)، والزُّهْرِيّ، وقَتادَةُ (7)، ومالِكٌ (8).

(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 59)، و"المبسوط" للسرخسي (9/ 135).

(2)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 99)، و" الذخيرة" للقرافي (12/ 127).

(3)

فسر الإمام الشافعي النفي: بأن يُطلبوا فيمتنعوا فمتى قدر عليهم أقيم عليهم الحد، كما سيأتي.

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (6/ 146)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 355).

(4)

انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 342)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 152).

(5)

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 359)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 129).

(6)

انظر: "تفسير الطبري"(6/ 217)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 355)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 129)، و"المحلى" لابن حزم (11/ 181).

(7)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 99)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 152).

(8)

انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 129)، و"الأم" للإمام الشافعي (6/ 146)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 355)، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس (1/ 395).

ص: 130

وقال قومٌ: ينفى إلى بلدِ الشرك، قاله أنسٌ والزهريُّ (1):

هكذا نُقِلَت هذه الأقاويلُ.

ويظهر لي عدمُ الاختلافِ فيها، وأنها راجعةٌ إلى الاختلاف في التخيير والتنويع.

فمن قال: يُسْجَنُ إذا أخاف السبيلَ، ولم يأخذْ مالاً ولا نفساً، وهو أبو حنيفة والشافعي، أرادَ (2) إذا قُدِرَ عليهِ.

ومن اختارَ حَبْسَهُ في بلدٍ آخرَ، فإنما اختارَه لكونه أبلغَ في الزَّجْر والإيحاش، وليقطع عليه اسمُ النفي، وليس هو في الحقيقِة مُخالفاً للأولِ؛ لأنه ما عُوقِبَ إلا بالحَبْسِ حَتّى تظهرَ توبتُه.

ومن قال: يطلَبُ بالحَدِّ أبداً، فمراده: إذا وجَب عليهمُ الحَدُّ، ولم يُقْدَرْ عليهم، فإنَّ الإمَام يطلُبُهم أبداً لإقامةِ فرضِ الله سبحانه الذي بهِ صلاحُ البلادِ والعِباد، وهو في الحقيقةِ طلبُ الجزاءِ، لا حقيقةُ الجزاءِ.

ومن قال: ينفى إلى بلدِ الشِّرْكِ، فمراده: إذا وجبَ عليه الحَدُّ، ولم يُقْدَرْ عليه، فلا يجوزُ للإمام أن يُقِرَّهُ في البلاد التي في طاعَتِه - وهي بلادُ الإسلامِ - من غيرِ إقامةِ حَدٍّ، فيجبُ عليهَ طلبُهُ، ولو تعزَّزَ في الجبالِ، واحتاجَ تجهيزَ جيوشٍ كثيرةٍ، فإما أن يُظفر به في أطرافِ بلادِ الإسلامِ، أو لا يُقْدَرَ عليهِ لخروجهِ عن مَحَلِّ وِلايةِ الإمامِ التي هيَ دارُ الإسلام، وإذا خرج منها، دخلَ دارَ الشركِ، وقد رحمه الله سبحانه، وجعلَ له مَخْلَصاً من هذه العُقوبةِ بالتوبةِ، ومن دخُولِ دارِ الشرك، ولا يظنّ به أنه يأمرُ بإدخالِ

(1) انظر: "تفسير الطبري"(6/ 217)، "والجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 152).

(2)

في "ب" زيدة: "أَنْ".

ص: 131

مسلمٍ داراً أوجبَ اللهُ على المسلم الخُروجَ منها، ولأنه ربَّما فتنَهُ المشركون عن دينه، وأوقعناه في مَفْسَدَةٍ أكبرَ من الأولى.

* إذا علمتَ هذا، ففي الآيةِ إشارةٌ إلى أن هذا الجزاءَ حَدٌّ خالِصٌ للهِ تعالى عقوبةً لهم لأجلِ محاربةِ الله تعالى، والفساد في أرضه، وهو متفق عليه.

ويؤخَذُ منه أن المحارِبَ إذا قَتَل، وعفا عنه وليُّ الدم أنه لا يفيده العفو، وأنه إذا قَتَلَ مَنْ ليسَ كُفُؤاً له، أنه يُقْتلُ، وهو كذلك، وللشافعيِّ قولٌ ضعيفٌ أنه يفيدُهُ العفوُ، وأنه لا يُقْتلُ بغيرِ المُكافِئ.

* ويؤخذ منه أيضاً أنه يُقْطَعُ إذا أخذَ المالَ، وإن كانَ دونَ نِصابِ السرقةِ، وبهذا قال مالِكٌ (1).

وذهب الشافعيُّ إلى تحديده بالنِّصاب؛ قياساً على السرقة (2).

وليسَ هذا القياسُ بِمَرْضِيٍّ لفسادِ اعتبارِه، فإنَّ أمرَ المُحارَبَةِ أَغْلَظُ من السرقةِ، فلا يقاسُ المُغَلَّظُ على المُخَفَّفِ، كيفَ والحدودُ لا قياسِ فيها؟ ولأنه لم يُنقلْ في المالِ تحديدٌ من السُّنَةِ كما نُقِلَ في السرقة، ولا يَخْفى مثلُ هذا على أبي عبدِ الله، لكنَّهُ لما تردَّدَ عندَهُ القَتْلُ والقَطْعُ بينَ القِصاص والحَدِّ، جعلَهُ قِصاصاً في أحد القَوْلَيْن، ولم يجعلْه حَدًّا؛ لاعتبارِ الشارعِ (3) بِدَرْءِ الحُدودِ وإسقاطِها، ولأجلِ هذا المدرَكِ اعتبرَ النِّصابَ احْتِيَاطاً لحدودِ الله، والله أعلم.

(1) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 100)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 154).

(2)

وهو مذهب أحمد. انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 359)، و"الكافي" لابن قدامة (4/ 171).

(3)

في "ب": "المشرّع".

ص: 132

القسم الثالث: في التوبةِ من هذهِ الجنايةِ.

وقد قالَ بقبولِ توبةِ المُحارِبِ قبلَ القُدْرَةِ عليهِ كافَّةُ أهلِ العِلْم.

ثم اختلفوا في الذي تُسْقِطُهُ التوبةُ.

فقال الليثُ: يسقطُ بها حقوقُ اللهِ تَعالى، وحقوقُ الآدَمِيِّينَ من مالٍ ودمٍ (1)، أما حقوقُ اللهِ تَعالى، فللآية، وأما حقوقُ الآدميين، فلِما رُويَ أن عليَّ بنْ أبي طالبٍ - كرم اللهُ وجهَهُ في الجَنَّةِ - قبلَ توبةَ حارثةَ بنِ بَدْرِ (2) التَّميميِّ، وأَمَّنَهُ، وكتبَ له كِتاباً (3).

وقال مالِكٌ في روايةٍ نَحْوَه (4)، إلا أنه يُؤْخَذُ في المالِ بما وجد عينهُ في يده، ولا تتبع ذِمَّتَهُ؛ لأن إقرارَهُ في يده إقرارٌ على المُنْكَرِ، وكذا يؤخذُ بالدمِ إذا قام وليُّ المقتولِ بطلب دمه، وأما إذا لم يَطْلُبْهُ أحدٌ، فلا يؤخَذُ به.

وقال الشافعيُّ، ومالِكٌ، وأبو ثَوْرٍ، وأحمدُ: تسقطُ عنهُ حقوقُ اللهِ تعالى فقط، وأما حقوقُ الآدميين، فلا تسقطُ، وبه قالَ الحنفيةُ (5).

(1) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 101).

(2)

في "ب": "زيد"، وهو خطأ.

(3)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(32789)، وابن جرير الطبري في "تفسيره"(6/ 221)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(11/ 389)، عن الشعبي: أن حارثه بن بدر خرج محارباً، فأخاف السبيل، وسفك الدم، وأخذ الأموال، ثم جاء تائباً قبل أن يقدر عليه، فقبل علي بن أبي طالب توبته، وجعل له أماناً منشوراً، على ما كان أصاب من دم أو مال.

(4)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 552)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 101).

(5)

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 370)، و"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 60)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 129)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 342).

ص: 133

وهو أصحُّ الأقوالِ؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى لم يذكرْ إلا جزاءه، وحَظَّهُ من العقوبةِ فقط، ثم عقبه بذكرِ التوبةِ، وأما حقوقُ الآدميينَ فقد تظاهَرَتِ النُّصوصُ على أنها لا تَسْقُطُ إلا بإسقاطِ صاحبها، وليسَ في الآيةِ تَعَرُّضٌ لذكِرها.

* وأطلقَ اللهُ سبحانَه التوبَةَ هنا، ولم يقيدْها كما قَيَّدَها في آيةِ السَّرِقَةِ بالإصلاح، وهي على إطلاقِها، ولا يجوز أن تُقَيَّدَ بآيةِ السرقةِ (1)؛ لاختلافِ السببين، ولوضوحِ الفرق بين الجِنايَتين.

وذلك أن المحارِبَ مجاهِرٌ بفعلهِ، فإذا تابَ، فالظاهِرُ من حاله أنه لم يَتُبْ تَقِيَّةً، وإنما رجعَ عمَّا كان عليه، والسارِق مُسْتَخفٍ بفعلهِ، فإذا تابَ حُمِلَ على التَّقِيَّةِ، ولما في قَبولِ توبةِ المُحارِبِ من الصَّلاحِ وتركِ الفتنة، بخلافِ السارقِ، ولهذا لا تقبلُ توبتُه بعدَ القدرة عليه.

* إذا تمَّ هذا، فقد روى الشيخان عن أَنسِ بنِ مالِكٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - قال: قدمَ ناسٌ من عُكْلٍ او عُرَيْنَةَ، فاجْتَوَوُا المدينةَ، فأمرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لهمْ بلِقاحٍ، وأَمَرَهُم أن يشربوا من أبوالِها وألبانِها، فلما صَحُّوا، قَتَلوا راعِيَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النَّعَمَ، فجاءَ الخبرُ أولَ النَّهارِ، فبعثَ في آثارِهم، فلما ارتفعَ النَّهارُ، جيءَ بهم، فَأَمر بهم (2)، فَقُطِّعتْ أيديهم وأرجلُهم، وسُمِلَتْ أَعْيُنُهُمْ، وتُرِكوا في الحَرَّةِ يَسْتَسقونَ، فلا يُسْقَوْنَ (3).

(1) وهي قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].

(2)

"فأمر بهم": ليست في "أ".

(3)

رواه البخاري (231)، كتاب: الوضوء، باب: أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، ومسلم (1671)، كتاب: القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين.

ص: 134

وقدِ اختلفَ أهلُ العلمِ في الجَمْعِ بين الحديثِ والآية.

فقال بعضُهم: إنما سَمَلَ أَعْيُنَ أولئكَ؛ لأنهم سَمَلُوا أعينَ الراعي، فاقتصَّ منهم بمثلِ ما فعلوا، وهذا ما ذكرهُ مُسْلِمٌ في "صحيحه"(1).

ورويَ عن الزُّهْرِيِّ أيضاً في قِصَّةِ العُرَنِيِّيْنَ أنه ذُكِرَ أنهم قَتلوا يَساراً مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثم مَثَّلوا به (2)(3).

وقال الليثُ وابنُ سيرين: الحديثُ منسوخ بالآية (4).

وقال ابنُ شِهابٍ أيضاً بعدَ أن ذكرَ قِصَّتَهم: وذكروا - واللهُ أعلمُ - أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نُهِىَ بعدَ ذلكَ عنِ المُثْلَةِ بالآية التي في سورة المائدة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية، والتي بعدها، ونهى عن المُثْلَةِ وقال:"لا تُمَثِّلُوا بشيءٍ"(5).

(1) انظر تخريج الحديث السابق عند مسلم.

(2)

رواه ابن بشكوال في "غوامض الأسماء المبهمة"(1/ 284).

(3)

وانظر: "شرح البخاري" لابن بطال (8/ 422).

(4)

انظر: "إحكام الأحكام" لابن دقيق (4/ 108)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 341).

(5)

رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(6/ 207)، عن أنس بن مالك.

ص: 135