المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام الشهادات)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌سُورَةُ المَائِدَةِ

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌(من أحكام الأطعمة)

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌(من أحكام الصيد والذبائح)

- ‌(من أحكام الطهارة)

- ‌(من أحكام الحدود)

- ‌(الحرابة)

- ‌(السرقة)

- ‌(من أحكام أهل الكتاب)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الأشربة)

- ‌(من أحكام الهدي)

- ‌(من أحكام الشهادات)

- ‌سُورَةُ الأَنْعَامِ

- ‌(من أحكام الذبائح)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الذبائح)

- ‌(من أحكام اليتامى)

- ‌سُورَةُ الأَعْرَافِ

- ‌(من أحكام اللباس والزينة)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌سُورَةُ الأَنفَالِ

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الهجرة)

- ‌سُورَةُ التَّوْبَةِ

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الصدقة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌سُوْرَةُ يُوسُفَ

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌سُوْرَةُ النَّحْلِ

- ‌(من أحكام الطهارة)

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌سُوْرَةُ الإسْراءِ

- ‌(من أحكام البر والصلة)

- ‌(من أحكام القصاص)

- ‌(من أحكام البيوع)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌سُوْرَةُ الأَنْبيَاءِ

- ‌(من أحكام المعاملات)

الفصل: ‌(من أحكام الأشربة)

(من أحكام الأشربة)

121 -

(18) قوله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].

حَرَّمَ اللهُ سُبْحانَهُ في هذهِ الآيةِ الخَمرَ، وبَيَّنَ تَحْريمَها بياناً شافِياً، وبَيَّنَ عِلَّةَ تَحريمِها، وقَرَنَ تحريمَها بتحريمِ عبادةِ الأوثانِ، وأكلِ المَيْسِرِ؛ مُبالَغَةً في النَّهْيِ عن مُلابَسَتِها.

قال ابنُ عَباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما-: لما حُرِّمَتِ الخَمرُ، مشى أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بعضُهم إلى بعضٍ، فقالوا: حُرِّمَتِ الخَمرُ، وجُعِلَتْ عِدْلاً للشرْكِ (1).

* والخمرُ اسمٌ للشَرابِ المُتَّخَذِ من كلِّ عصيرٍ يَتَخَمَّرُ، سواءٌ كانَ من العِنَبِ، أو العَسَل.

وسُميَتْ خَمراً؛ لِمُخامَرَيها العَقْلَ (2).

(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(12399)، والحاكم في "المستدرك"(7227)، وابن عبد البر في "التمهيد"(1/ 247)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(192).

(2)

انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (174)، و"لسان العرب"(4/ 254) مادة (خمر).

ص: 186

* وقد أجمعَ المسلمونَ على تحريمِ قليلِها وكثيرِها، وأجمعوا على تحريمِ القَدرِ المُسْكِرِ من جميعِ الأنبِذَةِ (1).

* واختلفوا في القَدْرِ الَذي لا يُسْكِرُ.

فقالَ جُمهورُ فقهاءِ الحِجاز، وجُمهورُ المُحَدِّثينَ بالتسويَةِ بينَ قليلِها وكثيرِها، وأنهُ مُنْدَرِجٌ في اسمِ الخَمر (2).

وذهبَ فقهاءُ العراقِ والكوفةِ وأكثرِ أهلِ البَصرَةِ إلى التَّفرِقَةِ بينَ المُسْكِرِ وغيرِه، وأنَّ اسمَ الخمر ليسَ بواقع عليه (3).

فاحتجَّ الأَوَّلونَ للتَّحريمِ بما رواهُ أبو داودَ والترْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ عن جابر -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أَسْكَرَ كثيرُهُ، فقليلُهُ حَرام"(4)، وهذا نصٌّ في مَحَل الخِلاف.

واحتجُّوا لوقوعِ اسمِ الخمرِ عليه باللُّغَةِ والشَّرعِ.

- أما اللغةُ، فإنه شرابٌ يُخامِرُ العقلَ، ولهذا قالَ عمرُ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: والخمرُ ما خامَرَ العقل.

(1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (4/ 166)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 24)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 345).

(2)

انظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 64، 111).

(3)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 123)، و "المبسوط" للسرخسي (24/ 13).

(4)

رواه أبو داود (3681)، كتاب: الأشربة، باب: النهي عن المسكر، والترمذي (1865)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء: ما أسكر كثيره فقليله حرام، وابن ماجه (3393)، كتاب: الأشربة، باب: ما أسكر كثيره فقليله حرام. وقد رواه النسائي (5607)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم كل شراب أسكر كثيره، لكن عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

ص: 187

- وأما الشَّرْعُ، فما رواه مسلمٌ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كلُّ مُسْكِرٍ خَمرٌ، ومن الزبيبِ خمرٌ، ومنَ الحِنْطَةِ خمرٌ، وأنا أنهاكُم عن كل مُسْكِرٍ"(1)، وبِما روى أنسٌ -رضي اللهُ تعالى عنه- قال: كنتُ قائِماً على عُمومَتي أسقيهِم -وأنا أصغرُهُم- الفَضيخَ (2)، فقيل: حُرِّمَتِ الخَمرُ، فقالوا: اكْفَأها، فكفأتها، قيلَ لأَنسٍ: ما شرابُهُم؟ قالَ: رُطَبٌ وبُسْرٌ (3).

وفي روايةٍ: قالَ أنسٌ: كانت خمرُهم يومئذٍ (4).

وفي رواية: إن الخمرَ حُرِّمَتْ، والخمرُ يومئذٍ البُسْرُ والتَّمر (5).

وقال ابنُ عمرَ: نزلَ تحريمُ الخمرِ، وإنَّ في المدينةِ أشربةً ما فيها شرابُ العِنَبِ (6).

(1) رواه مسلم (2003)، كتاب: الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام، عن عبد الله بن عمر بلفظ "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام". وروى الشطر الثاني منه: "ومن الزبيب خمر، ومن الحنطة خمر

": أبو داود (3677)، كتاب: الأشربة، باب: الخمر، ممّ هي، والترمذي (1872)، كتاب: الأشربة، باب: في الحبوب التي يتخذ منها الخمر، وابن ماجه (3379)، كتاب: الأشربة، باب: ما يكون منه الخمر، عن النعمان بن بشير.

(2)

الفضيخ: فَضَخَ الرُّطبة ونحوها من الرطب يفضَخها فضخًا: شَدَخَها والفضيخ هنا: شراب يُتخذ من البُسْر المفضوخ وحده، من غير أن تمسَّه النار. "اللسان" (مادة: فضخ) (3/ 45).

(3)

رواه البخاري (5261)، كتاب: الأشربة، باب: نزل تحريم الخمر وهي من البر والتمر.

(4)

انظر تخريج الحديث السابق.

(5)

رواه البخاري (5262)، كتاب: الأشربة، باب: نزل تحريم الخمر وهي من البسر والتمر.

(6)

رواه البخاري (4340)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} .

ص: 188

وقال أنسٌ: ما كانَ لنا خمرٌ غيرَ فَضيخِكِم هذا الذي تُسَمُّونَهُ الفَضيخَ (1).

واحتجَ الآخرون بآثار رَوَوْها.

فمن أشهرِها عندَهُم ما رويَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حُرِّمَتِ الخَمرُ بِعَيْنِها، والمُسْكِرُ من غَيْرِها"(2).

قالوا: وهذا نَصُّ لا يَحْتَملُ التأويل، وضَعَّفَهُ أهلُ الحِجاز.

وبما روى ابنُ مسعودٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- أنه قالَ: شَهِدتُ تحريمَ النبيذِ كما شَهِدتُم، ثم شَهِدتُ تحليله، فَحَفِظْتُ، ونَسيتُم (3).

وخَرَّجَ الطَّحاوِيُّ: أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إنِّي كنْتُ نَهيْتكُم عنِ الشَّرابِ في الأَوْعِيَةِ، فاشْربَوا فيما بَدا لكم، ولا تَسْكروا"(4).

وخَرَّجَ الطحاويُّ أيضًا عنْ أبي موسى قال: بعثني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنا

(1) رواه البخاري (4341)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} .

(2)

لم أجده هكذا، وقد ذكره ابن رشد في "بداية المجتهد"(1/ 346)، عن ابن عباس، مرفوعاً، ثم قال:"وقالوا: هذا نص لا يحتمل التأويل، وضعفه أهل الحجاز" ا. هـ، نعم قد رواه النسائي (5684)، كتاب: الأشربة، باب: ذكر الأخبار التي اعتلّ بها من أباح شراب السكر، وابن أبي شيبة في "المصنف"(24067)، والطبراني في "المعجم الكبير"(10837)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 297)، عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ:"حرمت الخمر بعينها، القليل منها، والكثير، والمسكر من كل شراب".

(3)

ذكره ابن رشد في "بداية المجتهد"(1/ 346).

(4)

رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 288)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(2966)، والعقيلي في "الضعفاء"(1/ 114)، عن أبي بردة بن نيار الأنصاري.

ص: 189

ومعاذٌ إلى اليَمَنِ، فقالَ: يا رسول الله! إن بِها شرابَيْنِ يُصنَعان من البُرِّ والشَّعيرِ، أَحَدُهما يُقالُ له: المِزْرُ، والآخرُ يُقالُ له: البِتْعُ، فما يشربُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اشربا ولا تسكرا"(1).

قالوا: ولأن الله سبحانَه نَصَّ على العِلَّةِ المُوجِبَةِ للتَّحْريمِ، وهي كَوْنُها تُوقعُ العَداوةَ والبَغْضاء وتَصُدُّ عن ذِكْرِ اللهِ وعَنِ الصَّلاةِ، وهذهِ العِلَّةُ لا تُوجَد إلا في القدرِ المُسْكِرِ منَ الخَمرِ والنَّبيذِ، ولكن الإجْماعَ انعقدَ على تحريمِ القليلِ منَ الخَمرِ، فبقيَ النَّبيذُ على مُقْتَضى العِلةِ (2).

وقال الحِجازيُون: السَّبَبُ المُوجِبُ لِهذِهِ العِلَّةِ هو حُدوثُ الشدَّةِ المُطْرِبَةِ، وهي موجودةٌ في النبيذِ، فالواجبُ أن يُلْحَقَ بالخَمرِ ما وُجِدَتْ عِلَّتُه فيه، كما ذلكَ سنةُ القِياس (3).

* ثم سَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحَدَّ على شارِبِها (4)، فجَلَدَ شاربَ الخَمرِ أربعينَ، أو نَحْوَها بالنِّعالِ وأطرافِ الثيابِ، وجلدَهُ أبو بَكْرِ وعُمَرُ، ثم استقرَّ تحديدُ جلدِه بثمانينَ جَلْدَةَ في زَمَنِ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه (5) -.

* وأما المَيْسِرُ، وهو القِمار، فقد تقدَّمَ ذكرُه في أولِ "سورةِ المائِدَة"، وأنه من عَمَلِ الجاهليَّةِ، ويلحقُ به كُلُّ قِمار في مَعْناه.

وما أقبحَ وأشنعَ قولَ صاحبِ "عين المعاني" حيث قال: وقريب منه

(1) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 220)، والبزار في "مسنده"(3152).

(2)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 128)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 346).

(3)

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 398).

(4)

في "ب": "شاربه".

(5)

تقدم تخريجه.

ص: 190

قُرْعَةُ الشافِعِيِّ في إعتاقِ عبدٍ (1) وحِرْمانِ آخَرَ!.

فالشافعيُّ لم يقلْ ذلكَ بدعواهُ، ولا ارْتَكَبَهُ بِهواه، وإنَّما اتّبَعَ فيه ما ثَبَتَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ونظرُ العَقْلِ باطِل عندَ وُجودِ سُنَّتِهِ صلى الله عليه وسلم، فما يَنْطِقُ عنِ الهوى، وللهِ سُبْحانه أن يَسُنَّ على لِسانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم ما شاءَ، ويُوجِبَ ما شاءَ، ويُسْقِطَ ما شاءَ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وهُمْ يُسْأَلون، كيفَ وقد ظهرَ لنا من اعْتِناءِ الشارِع بتكميلِ الحُرِّيَّةِ وعَدَمِ تبعيضِها ما يفتحُ العقولَ لِما فيه من المَصالح الكُليَّةِ من شُهوده الجِهادَ، واستقلالِهِ بكَسْبِهِ، وقيامِه بالفرائِض التي هي دعائِمُ الإسلام، وتَطَوُّعِهِ بِنوافِلها أيضاً، ووجوبِ القِصاص على قاتِله، وتكميلِ دِيَتِهِ، وتكثيرِ نِسائه التي بِهِنَّ يَكْثُرُ نَسْلُه، وغيرِ ذلك مِمّا يخرجُ به من حَيِّزِ الأموالِ إلى حَيِّزِ المُكَلَّفينَ المُكَرَّمين؟!

ولأجلِ هذا أوجبَ الشارعُ صلى الله عليه وسلم على من أَعْتَقَ شِرْكاً لهُ في عبدٍ قيمةَ الباقي، وكَمَّلَ عتقَ من حَرَّرَ بعضَ رقيقِه، وإن لم يقصِدْ ذلكَ مالكُه.

وأيُّ نَظَرٍ يوجِبُ على الإنسان بَذْلَ مالِهِ بطاعةٍ عَمِلَها، وقرية أتاها؟ وأيُّ نظير يوجبُ على الشريكِ أخذَ قيمةِ مُلْكِهِ بغيرِ رضاه؛ ولقد ارتكبَ خَطَراً، وقالَ شَطَطًا؛ فإن القُرْعَةَ قُرْعَةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والأنبياءِ من قبلهِ صلى الله عليه وسلم.

قال اللهُ سبحانه في يونس عليه السلام: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141].

وقال في زَكرِيّا وأصحابِه -عليهُمُ الصَّلاةُ والسَّلام-: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادَ سَفَراً، أَقْرَعَ بينَ نسائه (2).

(1) في "ب": "شخص".

(2)

رواه البخاري (2453)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: هبة المرأة الغير=

ص: 191

وروى عمرانُ بنُ الحُصَيْنِ أن رجلاً ماتَ، وقد أعتقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ له، لا مالَ له غيرُهم، فأقرعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينَهُم، فأعتقَ اثنين، وأَرَقَّ أَرْبَعَةً (1). فنعوذ باللهِ من عَثْرَةِ اللَّسانِ، ولا سيَّما في علومِ القرآنِ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ العَلِيِّ العَظيِم.

وأما الأنصابُ، فهي الأصنامُ التي تُعْبَدُ من دونِ اللهِ جل جلاله.

وأما الأزلامُ، فواحِدُها زَلَمٌ -بالفَتْحِ والضَّمِّ- وهي قِداحٌ يكتبونَ على أَحَدِها: أَمَرَني ربِّي، وعلى الآخَرِ: نَهاني رَبِّي، كانت الجاهليةُ تَسْتَقْسِمُ بها عندَ إرادةِ الأمور، تَطْلَبُ بها عِلْمَ ما قُسِمَ لها، فإن خرجَ الأمرُ، مضى لأمرِه، وإن خرج النَّهْيُ، تركَ (2).

* ويلحقُ بهذا كُلُّ ما في معناه، كالحُكْمِ بالنُّجومٍ والإسْطِرلابِ، وغيرِ ذلك من تنفيرِ الطُّيورِ، والتَّطيُّرِ بأصواتها، ومنهُ تطيُّرُ العامَّةِ وكثيرٍ من المُتَّفقةِ في زمانِنا بِعِدَّةِ أيامٍ من الشَّهْرِ، ويَروونَ ذلكَ عن جَعْفَرٍ الصادِقِ، وحاشا اللهِ، ومعاذَ اللهِ أن يكونَ هذا منه.

وما أحسنَ قولَ بعضِ الفُضَلاءِ العُقلاءِ: [البحر الخفيف]

طيرَةُ النَّاسِ لا تَرُدُّ قَضاءً

فاعْذُرِ الدَّهْرَ لا تَشُبْهُ بِلَوْمِ

أَيُّ يَوْمٍ نَخُصُّهُ بِسُعودٍ

والمَنايا يَنْزِلْنَ في كُلِّ يَوْمِ

= زوجها .. ، ومسلم (270)، كتاب: التوبة، باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، عن عائشة.

(1)

رواه مسلم (1668)، كتاب: الأيمان، باب: من أعتق شركاً له في عبد.

(2)

انظر: "تفسير الطبري"(6/ 76)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 310)، و "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 624)، و"النهاية في غريب الحديث"(2/ 311)، و"لسان العرب"(12/ 271).

ص: 192

ليسَ يومٌ إلا وفيهِ سُعودٌ

ونُحوسٌ تَجْري لِقَوْمٍ فَقَوْمِ (1)

وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يكرَهُ الطِّيَرَةَ، ويحبُّ الفَألَ (2).

* فإن قلتَ: قد علمتُ تحريمَ هذهِ الأعيانِ الأربعةِ من أمرِ الله سبحانه باجتنابِها، وتعليلِها بأنّها رِجْسٌ فَهلْ هيَ رجس بوصف الله أم لا (3)؟

قلنا: الذي ذهبَ إليه جُمهورُ أهلِ العِلْمِ أَنَّ الخَمرَ نَجِسَةٌ بِوَصْفِ اللهِ سُبْحانَه لَها بأنها رِجْسٌ، والرِّجْسُ هو النَّجِسُ (4).

ولكنْ لا دَلالةَ لهم في هذا على التَّنْجيسِ؛ لأن الرِّجْسَ اسم مُشْتَرَك يقعُ على مَعان سأذكرُها في "سورةِ الأنعامِ" -إن شاءَ اللهُ تعالى-.

ولا يجوزُ بأن يُرادَ بهِ مَعْنى النَّجسِ؛ لأن الله تَعالى وصفَ بهِ الأعيان، ومعلومٌ قَطْعاً أن الميسرَ والأزلام والأنصابَ طاهرةُ الأعيان، فلا يكون صفة لموصوفاتٍ مختلِفَةٍ، وإن أريدَ به المَعْنى المتعلِّقُ بها؛ فإن المعانيَ (5) لا تُوصَفُ بالنَّجَسِ، فتعيَّنَ أن مَعْنى النَّجَسِ هنا المُسْتَقْذَرُ، وهذا أمرٌ لا يوجبُ التنجيسَ، ولهذا ذهبَ الليثُ بنُ سعدٍ، وربيعةُ إلى طهارَةِ الخَمرِ، واختارَهُ المُزَنيُّ وبعضُ المُتَأَخِّرينَ من المالكيةِ (6).

(1) انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 397)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (13/ 214).

(2)

روى مسلم (2223)، كتاب: السلام، باب: الطيرة والفأل، وما يكون فيه من الشؤم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة، وأحب الفأل الصالح".

(3)

في "أ": "نجسة أم لا".

(4)

انظر: "المجموع" للنووي (2/ 520).

(5)

في "ب": "فالمعاني".

(6)

انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 192).

ص: 193

* وفي أمرِ الله سبحانه باجتنابِهِ دليل على أنه لا يجوزُ الانتفاعُ به في شيء.

وقد أجمعَ العلماءُ على أنه لا يجوزُ بيعُها، ولا إمساكُها، ولا تَخْليلُها (1)، وإنما اختلفوا في جوازِ التداوي وتَطْفِئَةِ العَطَشِ بها (2).

122 -

(19) قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93].

* قال المفسرون: لما نزلَ تحريمُ الخَمرِ والمَيْسِرِ، قالوا: يا رسَول الله! ما نقولُ في إخْوانِنا الذينَ مَضَوْا وهم يشربونَ الخمرَ، ويأكلون الميسرَ، فأنزل الله هذه الآيةَ.

روى البخاريُّ عن أنسٍ رضي الله عنه: لما حُرْمَتِ الخمرُ، قال بعضُ القوم: قُتِلَ قَوْمٌ وهي في بُطونهم، قال: فأنزلَ الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية، إلى قوله:{الْمُحْسِنِينَ} (3)[المائدة: 93].

وقد اتفقَ العلماءُ بالقرآنِ على أن هذهِ الآيةَ مقتد بسببها وبشَرْطِها الذي هو التقوى، وعلى تَخْطِئَةِ مَنْ تأَوَّلَها (4) على عُمومِها وإطلَاقِها.

(1) انظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 90).

(2)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 159)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (115/ 170) و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 231).

(3)

رواه البخاري (2332)، كتاب: المظالم، باب: صب الخمر في الطريق.

(4)

في "أ": "أولها".

ص: 194

روى الدَّارَقُطْنِيُّ عن ابنِ عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: إن الشُّرّابَ كانوا يُضْربونَ على عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنِّعالِ والعِصِيِّ حتى تُوُفِّيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فكان في خِلافَةِ أبي بَكْبر أكثر منه في عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكبر يجلِدُهم أربعينَ جَلْدَة حتى تُوُفِّيَ، وكان عمرُ من بعدِه يجلِدُهم كذلك أربعين، ثم أتى رجل من المُهاجرينَ الأَوَّلينَ، وقد شربَ، فأمر به أن يُجْلَدَ، فقال: أتجلِدُني؟ بيني وبينَكَ كتابُ الله، فقالَ عمر: أفي كتابِ اللهِ تجدُ أَلَّا أجلِدَكَ؟ فقالَ: إن الله تعالى يقولُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة: 93]، شَهِدْتُ معِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بَدراً وأحُداً والخَنْدَقَ، والمشاهِدَ كُلَّها، فقال عمرُ: ألا ترُدُّونَ عليه ما يقولُ؟ فقال ابنُ عباسٍ: إنَّ هؤلاءِ الآياتِ أُنْزِلْنَ عُذْراً لِمَنْ صَبَرَ، وحُجَّةً على الناس، لأن الله يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية، ثم قرأ حتى أَنْفَدَ الآية الأخرى، فإنْ كانَ من الذينَ آمنوا وعَمِلوا الصالِحاتِ، فان الله سبحانَه قَدْ نهاهُ أن يَشْرَبَ الخَمْر.

فقال عمرُ: صَدَقْتَ، فقالَ عمرُ -رضيَ اللهُ تعالى عنهُ-: ماذا تَرَوْنَ؟ فقال علي -رضيَ اللهُ تعالى عنه- إذا شَرِبَ سَكِرَ، وإذا سَكِرَ هذَى، وإذا هذَى افْتَرَى، وعلى المُفْتَري ثمانونَ جَلْدَةً، فأمرَ به، فجُلِدَ ثمانين (1).

(1) رواه الدارقطني في "السنن"(3/ 166)، قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 76): وفي صحته نظر لما ثبت في "الصحيحين" عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر، ولا يقال: يحتمل أن يكون عبد الرحمن وعلي أشارا بذلك جميعاً، لما ثبت في "صحيح مسلم" عن علي في جلد الوليد بن عقبة: أنه جلده أربعين، وقال: جلد رسول الله أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا =

ص: 195