الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام الزكاة)
168 -
(14) قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34].
* توعَّدَ الله سبحانه على تركِ النفقةِ منَ الذهبِ والفِضَّةِ بالعذابِ الأليم.
والكَنْزُ في كَلامِ العَرَبِ: الجَمْعُ، ومنه لَحْمٌ مُكْتَنِزٌ، أي: مُجْتَمِعٌ (1).
فأوجَبَ اللهُ علينا الإنفاقَ منها.
ومعلومٌ أنه لم يُرِدْ إنفاقَ جَميعِها.
قال ابنُ عباس -رضي الله تعالى عنهما-: لا يُؤَدُّونَ زَكاتَها، وما أُدِّيَ زَكاتُهُ فليسَ بِكَنْرٍ (2).
واعتقدَ قومٌ عُمومَ الإنفاقِ في جميعِها، فادَّعوا نسخَها (3) بقولهِ تَعالى:
(1) انظر: "لسان العرب"(5/ 401) مادة (كنز).
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(10520)، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" للسيوطي (4/ 177).
(3)
انظر: "ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه"(ص: 35)، و"قلائد المرجان" (ص: 115).
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، ورويَ ذلكَ عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ وعِراكِ بنِ مالِكٍ (1).
وروى البخاريُّ، عن ابنِ عُمَرَ -رضيَ الله تعالى عنهما-: أنَّ هذا قبلَ أن تنزلَ الزكاةُ، فلما أُنزلتْ، جعلها اللهُ طُهْرًا للأمْوالِ (2).
والصحيحُ عدمُ النسخِ، إذ لا تَعارُضَ بينَهُما.
* وبيّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم القَدْرَ الذي يَجِبُ فيه الإنفاقُ.
فقال: "ليس فيما دونَ خَمْسَةِ أَوْسقٍ صَدَقَةٌ"(3)، وفي رواية:"ليسَ فيما دونَ خَمْسِ أواقٍ من الوَرِقِ صَدَقَة"(4) والأُوقِيَّةُ أربعونَ دِرْهَمًا.
وبيَّنَ القدرَ الواجبَ، فقال:"وفي الرَّقَةِ رُبُعُ العُشْرِ"(5).
وعلى الحُكْمِ في الفِضَّةِ وقعَ الإجماعُ (6).
* وأما الذَّهَبُ، فاختلفوا في نِصابِهِ:
فذهبَ جُمهورُ أهلِ العلمِ؛ كمالِكٍ، والشافعيِّ، وأبي حنيفةَ، وعامَّةِ فُقهاءِ الأَمْصارِ إلى أنه عِشرْون دينارًا (7).
(1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(6/ 1789)، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" للسيوطي (4/ 179).
(2)
رواه البخاري (1339)، كتاب: الزكاة، باب: ما أبي زكاته فليس بكنز.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
رواه البخاري (1390)، كتاب: الزكاة، باب: ليس فيما دون خمس ذود صدقة، ومسلم (979) في أول كتاب: الزكاة، عن أبي سعيد الخدري.
(5)
رواه البخاري (1386)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الغنم، عن أنس بن مالك، عن أبي بكر الصديق.
(6)
انظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص 43).
(7)
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 186)، و"مواهب الجليل" للحطاب =
واستدلوا بما رواهُ عَمْرو بنُ شُعَيْبِ، عن أبيهِ، عن جَذه عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "ولا في أقلَّ من عشرينَ مِثْقالًا مِنْ ذَهَبٍ شيِءٌ"(1)، وبما رواه الحسنُ بنُ عُمارَةَ عن أبي إسحاقَ، عن عاصمِ بنِ ضمْرَةَ، عَنْ علىٍّ -رضي الله تعالى عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"قَدْ عَفَوْتُ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ والرَّقيقِ، فهاتوا مِنَ الرِّقَةِ رُبُعَ العُشْرِ، مِنْ كُلِّ مِئَتَي درهمٍ خَمْسَةُ دَراهِمَ، ومن كُلِّ عِشرينَ دينارًا نصفُ دينارٍ، وليسَ فيِ مِئَتَي درهمٍ شيءٌ حتى يَحُولَ عليها الحَوْلُ، ففيها خمسةُ دَراهِمَ، وما زادَ فَفي كُلِّ أربعينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، وفي كُلِّ أربعةِ دَنانيرَ تزيدُ على العِشرين دينارًا دِرْهَمٌ حتى تبلغَ أربعينَ دينارًا، ففي كُلِّ أربعينَ دينارًا دينارٌ، وفي كُلٍّ أربعةٍ وعشرينَ نِصْفُ دينارٍ ودِرْهَمٌ"(2).
واستدل مالِكٌ بعملِ أهلِ المدينةِ، فقال في "الموطأ": السنَّةُ التي لا اختلافَ فيها عندنا أن الزكاةَ تجبُ في عِشْرينَ دينارًا كما تَجِبُ في مئتي درهمٍ (3).
= (2/ 291)، و "الأم" للشافعي (2/ 40)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (3/ 267)، و "المجموع" للنووي (6/ 3)، و "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 389)، و "ردّ المحتار" لابن عابدين (2/ 295)، و "شرح فتح القدير" لابن الهُمام (2/ 214)، وهو مذهب الإِمام أحمد، انظر:"المغني" لابن قدامة (2/ 319)، و "الفروع" لابن مفلح (2/ 343)، و "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 228).
(1)
رواه الدارقطني في "سننه"(2/ 93)، والديلمي في "مسند الفردوس"(5206).
(2)
رواه الترمذي (620)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في زكاة الذهب والورق، وعبد الرزاق في "المصنف"(7077)، والدارمي في "سننه"(1629)، والخطيب البغدادي مختصرًا في "تاريخ بغداد"(7/ 141)، عن علي بن أبي طالب.
(3)
انظر: "الموطأ" للإمام مالك (1/ 246).
وذهب قومٌ وأكثرُ أهلِ الظاهِرِ إلى أن نِصابَ الذهبِ أربعون دينارًا (1).
واعتلُّوا بأنه لم يثبتْ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الذَّهَبِ كما ثَبَتَ في الفِضَّةِ، أما حديثُ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، ففي إسنادِه ضَعْفٌ، وأما حديثُ الحَسَنِ بنِ عُمارَةَ، فقالوا أيضًا: ليسَ مِمَّا يجبُ العملُ به؛ لانفرادِ الحَسَنِ به، واستَمْسَكوا بمَحَلِّ الإجماع، وهو أربعون دينارًا.
وذهبَ قومٌ منهم عطاءٌ والزهريُّ إلى اعتبارِ الذهبِ بالفِضَّةِ، وجعلوها أصلًا للذَّهَبِ فيما دونَ أربعينَ دينارًا، فأوجبوا فيهِ الزكاة (2)، وإذا بلغَ صَرْفُهُ مئتي دِرْهَمٍ، وإن كانَ وزنُه دونَ العِشْرين دينارًا حتى يبلغَ أربعينَ دينارًا، فإذا بلغَتْها اعْتبُرَ بنفِسه، وتمسَّكوا فيما دون مَحَلِّ الإجماعِ بقولِه صلى الله عليه وسلم:"ليسَ فيما دونَ خَمْسِ أواقٍ من الرِّقَةَ صَدَقَةٌ"(3) وقالوا: إن الرِّقَةَ الذهَبُ والفِضَّةُ.
ولكنهم لم يسلمْ لهم ذلكَ، بل قالَ أكثرُ الناسِ: الرِّقَةُ الفِضَّةُ خاصَّةً، وقال بعضُهم: الرِّقَةُ الدَّراهِمُ خاصَّةً، وهو ضعيفٌ.
* وفي عُموم الآيةِ دَلالةٌ على وجوبِ الزكاة في الحُلِيِّ.
وبهِ قالَ عمرُ بنُ الخطابِ، وابنُ عَبّاسٍ، وابنُ مسعودٍ، وابنُ عُمَرَ، والزُّهْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حَنيفَةَ، والشافِعيُّ في أَحَدِ قوليه (4).
(1) انظر: "المحلى" لابن حزم (6/ 72).
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 319)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (3/ 267).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
انظر: "الأم" للشافعي (2/ 41)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (3/ 271)، و "المجموع" للنووي (6/ 23 - 26)، و "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 17 - 18)، والأظهر عند الإِمام الشافعي: أنه لا زكاة في المباح من الحلي، انظر:"مغني المحتاج" للشربيني (1/ 390).
واستدلُّوا بما رُوي أنَّ امرأةً من اليَمَنِ أَتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ومَعَها ابْنَتُها، وفي يدِها مُسْكَتانِ غَليظَتانِ منْ ذهَبٍ، فقالَ رسولُ اللهِ عليه الصلاة والسلام:"أَتُؤدِّينَ زكاةَ هذا؟ " فقالت: لا، فقالَ عليه الصلاة والسلام:"أَيَسُرُّكِ أن يُسَوِّرَكِ اللهُ بسِوارَيْنِ منْ نارٍ؟ " فخلعَتْهما، وألقتهما، وقالت: هما للهِ ولرسوله (1).
وقال قومٌ: لا تجبُ في الحُلِيِّ زكاةٌ؛ قياسًا على ثيابِ البَدَنِ وعَوامِلِ الإِبِلِ والبَقَرِ.
وبهِ قالَ جابِرٌ، وعائشةُ، والحَسَنُ، وابنُ المُسَيِّبِ، والشَّعْبِيُّ، ومالِكٌ، واللَّيْثُ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، واختارَهُ الشافِعِيُّ بِمِصْرَ (2).
* إذا تَمَّ هذا، فقد نقلَ أبو الحسنِ الواحِدِيُّ عن أكثرِ المفسرينَ: أَنَّ قولَه تَعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] مُسْتَأْنَفٌ نازِلٌ في هذهِ الأُمَّةِ.
وعن قومٍ منهم أَنَّها فينا وفي أهلِ الكتابِ.
وخَرَّجَ البخاريُّ عن زَيْدِ بن وَهْبٍ قالَ: مَرَرْتُ على أبي ذَرٍّ بالرَّبَذَةِ، فقلت: ما أنزلكَ بهذهِ الأرض؟ قال: كُنّا بالشامِ، فقرأتُ: {وَالَّذِينَ
(1) رواه أبو داود (1563)، كتاب: الزكاة، باب: الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي، والنسائي (2479)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الحلي، والدارقطني في "سننه"(2/ 112)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 140)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(2)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 126)، و"الاستذكار" لابن عبد البرّ (3/ 519)، و "معرفة الآثار والسنن" للبيهقي (3/ 293)، و"المغني" لابن قدامة (2/ 322)، و "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 431)، و"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 234).
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] قال مُعاوِيَةُ: ما هذه (1) فينا، ما هذه إلا في أهلِ الكِتابِ، قال: قلت: إِنَّها لَفينا وفيهم (2).
فإن قيل: فالكنايَةُ إلامَ ترجعُ؟
فالجوابُ: أنه يجوزُ أن ترجع إلى الكنوزِ، ويجوز أن ترجع إلى الفضة، إمّا لأنها أعَمُّ من الذهبِ، أو لأنَّها أقربُ في الذِّكْرِ كما قال الشاعرُ (3):[البحر الخفيف]
إنَّ شَرْخَ الشَّبابِ والشَّعَرَ الأَسْـ
…
ـود ما لَمْ يُعاصَ كانَ جُنونا
أو للاكتفاء بذكرِها عن ذكرِ الذهبِ؛ كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] وكقول الشاعِر (4): [البحر المنسرح]
نَحْنُ بما عِنْدَنا وأَنْتَ بِما
…
عِنْدَكَ راضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
* * *
(1) في "أ": "هذا".
(2)
رواه البخاري (4383)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
…
}.
(3)
هو حسان بن ثابت. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 17)، و "لسان العرب" لابن منظور (3/ 29).
(4)
نسب في "خزانة الأدب"(2/ 190)، وفي "لسان العرب"(5/ 46) لعمرو بن امرئ القيس الأنصاري من قصيدة يخاطب بها مالك بن العجلان. وعند "سيبويه"(1/ 38) لقيس بن الخطيم.