الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام الجهاد)
169 -
* أَعْلَم (1) اللهُ سبحانه وتعالى في غيرِ ما مَوْضِعٍ من كتابهِ العزيزِ تعظيمَهُ لشأنِ الأَشْهُرِ (2) الحُرُمِ.
وقد قَدَّمْتُ ذكرَ ذلكَ في مواضِعَ من كتابي هذا.
وكانَ تعظيمُها من دينِ إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السلام وتَمَسَّكَتْ بهِ العربُ، ثم غَيَّرَتْهُ بِالنَّسيءِ، فَأحَلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ، فأبطلَ اللهُ سبحانَهُ كُفْرَهُمْ وقَبيحَ ابتداعِهم، وحَرَّمَ علينا الظُّلْمَ فيهِنَّ، وخَصَّهُنَّ بالذِّكْرِ تعظيمًا لشأنِهِنَّ، وتَغْليظًا للظُّلْمِ فيهنَّ، وإنْ كانَ الظلمُ حرامًا في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.
وقد رُوي عن الصَّحابةِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- التَّغْليظُ في الجنايَةِ فيهنَّ وفي البَلَدِ الحرام.
(1) في "ب": "أعلمنا".
(2)
في "ب" زيادة: "الأربعة".
فروى ابنُ جُبَيْرٍ أَنَّ رجلًا قتلَ رجُلًا في البلدِ الحَرام، وفي الشَّهْرِ الحَرام.
فقال ابنُ عباسٍ: ديتُهُ اثْنا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وأربعةُ آلافٍ تغليظًا للحَرَمِ، وأربعةُ آلافٍ تغليظًا للشهر الحَرامِ (1)، فَكَمَّلَها عِشرين ألفًا.
وروي عن عُمَرَ -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: من قتلَ في الحَرَمِ، أو في الأشهُرِ الحُرُم، أو ذا رَحِمٍ محرمٍ، فعليه دِيَةٌ وثُلُثٌ (2).
وبهذا قال أكثرُ العلماءِ، فغلَّظُوا الدِّيَةَ بذلك؛ كابنِ المسيَّبِ، وابنِ جُبَيْرٍ، وعَطاءٍ، وطاوسٍ، ومُجاهدٍ، وسليمانَ بنِ يَسارٍ، وجابرِ بنِ زيدٍ، والزُّهْرِيِّ، وقتَادَةَ، وإليه ذهبَ الأوزاعيُّ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ (3).
وأما الباقونَ، فلم يُغَلِّظُوا بالجنايةِ في هذهِ الحرماتِ، ومنهم الشعبيُّ، والنخعيُّ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، ومالكٌ، وأبو حنيفةَ (4).
ثم اختلف القائلون بالتَّغْليظِ.
(1) رواه ابن حزم في "المحلى"(10/ 397).
(2)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 71).
(3)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 135)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 217)، و "المغني" لابن قدامة (8/ 298)، و"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 70)، و "مغني المحتاج" للشربيني (4/ 54)، و "الفروع" لابن مفلح (6/ 71)، و "الاستذكار" لابن عبد البرّ (8/ 137)، و "مصنف ابن أبي شيبة"(27610)، و (27611)، و (27612)، و (27617).
(4)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 210)، و"مصنف عبد الرزاق"(17295)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 313)، و "شرح منتهى الإرادات"(3/ 303).
فذهبَ أحمدُ إلى أن التغليظَ يكونُ بثلثِ الديةِ، وأنه (1) يُجْمَعُ بين تغليظَيْنِ؛ لما رويَ عن عمرَ وابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم (2) -.
وذهبَ الشافعيُّ في الجديد إلى أن التغليظَ إنما يكونُ بأسنانِ الإبلِ؛ كقتلِ العَمْدِ، وأنه لا يُجمع بينَ تَغليظين؛ كما لو قتلَ المُحْرِمُ صَيْدًا في الحَرَمِ؛ فإنه لا يجبُ إلَّا جزاءٌ واحدٌ (3).
* وأعلمنا اللهُ سبحانه أَن عِدَّتَها أربعةٌ، ولم يختلفِ الناسُ في أعيانِها، وإنما اختلفوا في ترتيبِها:
فقال الكوفيون: أَوَّلُها المُحَرَّمُ، ثم رَجَبٌ، ثم ذو القَعْدَةِ، ثم ذو الحجَّةُ، وجعلوها من سنةٍ واحدةٍ.
وجعلها أهلُ المدينةِ من سنتينِ.
ثُمَّ اختلفوا أيضًا في ترتيبِها، فقال بعضُهم: أولُها ذو القَعْدَة، ثم ذو الحِجَّة، لمَّ المُحَرَّمُ، ثم رجبٌ.
وقالَ بعضُهم: أولُها رجبٌ، ثم ذو القعدةِ، ثم ذو الحجة، ثم المحرمُ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قدِمَ المدينةَ في ربيعٍ الآخِرِ، وأولُ شهرٍ كانَ بعدَ قدومِه رَجَبٌ.
والذي أختارُه هو الثاني؛ اتِّباعًا لترتيبِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم (4).
(1) في "ب": "فإنه".
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 298)، و "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 302)، و "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 31).
(3)
انظر: "الأم" للشافعي (6/ 112)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (12/ 212)، و"مغني المحتاج" للشربيني (4/ 54)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 330).
(4)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 168).
روينا في "صحيح البخاري" عن أبي بكرةَ، عن أبيهِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الزمانَ قدِ استدارَ كهيئتِه يومَ خلقَ اللهُ السماواتِ والأرضَ، السنةُ اثنا عشرَ شَهْرًا، مِنْها أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثٌ مُتَوالِياتٌ: ذو القَعْدَةِ، وذو الحِجَّةِ، والمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بينَ جُمادى وشَعْبان"(1).
* ثم أمرنا اللهُ تبارك وتعالى بقتالِ المشركين كافَّةً كما يُقاتِلوننا كافَّةً، فيحتملُ أن يكونَ أرادَ أن نقاتِلَهُم بأجمَعِنا.
ويحتملُ أن يكونَ أرادَ أن نقاتلَ جميعَهم.
فإنْ قَدَّرْنا (كافة) حالًا مِنّا، فقد قالَ سبحانه وتعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] وقدْ قررتُ في "سورةِ البقرةِ" أنَّ الجهادَ فرضٌ على الكِفايَةِ، فالأمرُ هُنا محمولٌ على النَّدْبِ، أو على وَقْتِ الحاجَةِ إلى الكافَّةِ.
وإنْ قدرناهُ حالًا من المُشركين، فقدْ قالَ اللهُ سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} (2)[التوبة: 123].
فعلمنا بهذا أن الأمرَ يختلفُ بحسب اختلافِ الأحوالِ، فإنْ كانَ في المسلمينَ كَثْرَةٌ وقُوَّةٌ، فالأَوْلى للإمامِ أَن يبعثَ السَّرايا في كُلِّ ناحيةٍ من نواحي المشركينَ؛ ليعلمَهُمْ (3) بالجِهاد والنِّكايَةِ، فإنْ كانَ المسلمونَ دونَ ذلكَ، خَصَّ بِالقتال الذين يلونَهُ، وبدأ بالأَهَمِّ فالأَهَمِّ من قتالِهم؛ كما فعل ذلكَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والخلفاءُ من بعدِهِ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم-.
* * *
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر: "الدر المصون" للسمين الحلبي (6/ 45).
(3)
في "ب": "ليعمهم".
170 -
171 (16 - 17) قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38 - 39].
* اختلفَ الناسُ في هذهِ الآيةِ.
فقالَ قومٌ: إنها منسوخةٌ (1) بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] ، ونُسبَ إلى ابنِ عباسٍ، والحسنِ، وعِكْرِمَةَ -رضي الله تعالى عنهم- (2).
وقالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا نزلتْ هذهِ الآيةُ، اشتدَّ شأنُها على الناسِ، فنسخها اللهُ سبحانه، وأنزل:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} (3)[التوبة: 91].
وقيل: إنها محكمةٌ مخصوصةٌ بحالةِ الحاجةِ إلى كافَّتِهم، والمعنى: إلَّا تّنْفِروا إذا احْتِيجَ إلى كافَّتِكم، يُعَذِّبْكُمْ.
(1) انظر: "ناسخ القرآن ومنسوخه"(ص: 35).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 998)، و (6/ 1798)، وأبو داود في "ناسخه"، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" للسيوطي (2/ 591)، وانظر:"تفسير الطبري"(1/ 67 - 69)، ورواه عن ابن عباس البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 47).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(6/ 1803 - 1804)، وأبو الشيخ الأصبهاني في "تفسيره" كما ذكر السيوطي في "الدر المنثور" (4/ 208). وذكره ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" (ص: 176).
ويأتي ها هنا (1) تأويلٌ يرتفعُ به التَّعارُضُ والإشكالُ، وهو أنْ يقولَ: إنّ النَّفْرَ واجبٌ على الكافَّةِ منَ المؤمنين إذا نَفَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وواجِبٌ (2) على بعضِهم إذا لم ينفرْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ بدليلِ قولهِ تعالى:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِه} [التوبة: 120].
وقد قَدَّمْتُ أنَّ هذا مذهبُ جماعةٍ من السَّلَفِ.
ولكنَّ التخصيصَ بحالةِ الحاجةِ أشَدُّ وأَقْوى، وهوَ وإنْ كانَ باستِنْفارٍ واستِدْعاءٍ، فإنَّ الغزوةَ، وهي غزوةُ تبوكَ، تَسْتَدعي نَفْرَ الكافَّةِ؛ لبعدِها، وكثرةِ عَدوِّها، وعلى هذا فاحملْ جميعَ ما يأتي منْ هذا الباب مثل قوله تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] وما أشبهها.
* * *
(1) في "ب": "هنا".
(2)
في "أ": "وأوجب".