الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام الصدقة)
172 -
(18) قوله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
* أقول: خَصَّ اللهُ سبحانَهُ الصَّدقاتِ لهؤلاءِ الأصنافِ الثَّمانيةِ، فلا يجوزُ لغيرِهم.
وقد بَيَّنَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنحو هذا لَمَّا سأَلهُ رَجُلانِ الصدقَةَ، فَصَعَّدَ بصرَهُ إليهِما وصَوَّبَهُ، ثم قال:"أُعطيكُما بعدَ أَنْ أعْلِمَكُما أَنْ لا حَظَّ فيها لِغَنِيٍّ، ولا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ"(1)، أو كما قال.
* واتفقَ (2) أهلُ العلمِ على بقاءِ الحَظِّ للأصنافِ كُلِّها، ما خلا
(1) رواه أبو داود (1633)، كتاب: الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة، وحد الغنى، والنسائي (2598)، كتاب: الزكاة، باب: القوي المكتسب، والإمام الشافعي في "مسنده"(3791)، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 224)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(10666)، والدارقطني في "سننه"(12/ 119)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 14)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(38/ 46 - 47)، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، بلفظ:"إن شئتما أعطيتكما، ولا حَظَّ فيها لغنيٍّ، ولا لقوي مكتسب".
(2)
في "ب": "فاتفق".
المُؤَلَّفَةَ، فإنهم اختلفوا في بقاءِ سَهْمِهِمْ.
فذهبَ مالكٌ والشافعيُّ إلى أنه لا مؤلفةَ اليومَ (1)، وقد قطعهم عمرُ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه-، وقال: أَمَّا اليومَ، فقدْ أعزَّ اللهُ الإِسلامَ، فلا نُعطي على الإِسلامِ شيئًا (2)، وكذا عثمانُ وعليٌّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم-.
وقال أبو حنيفةَ ببقاءِ سَهْمِهِم (3).
* ثم اختلفوا في حقيقةِ الإضافةِ إلى الأَصْنافِ:
فرأى قومٌ، منهمُ: الحَسَنُ، وإبراهيمُ، وعَطاءٌ، والضَّحَّاكُ، وابنُ جُبَيْرٍ: أن مَعْناها بيانُ مَحَلِّ الصدقاتِ فقط، لا حقيقةُ الاستحقاقِ على التَّعيينِ.
ويروى عن عمرَ، وعليّ، وابنِ عباس، وحذيفةَ -رضي الله تعالى عنهم- (4).
(1) انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 201)، و "الاستذكار" لابن عبد البرّ (3/ 211)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 181)، والمذهب عند الشافعية: أنهم يعطون، انظر:"مغني المحتاج" للشربيني (3/ 109)، وانظر: أيضًا "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 497)، ومذهب الإِمام أحمد: أنه يدفع إليهم، انظر:"المغني" لابن قدامة (6/ 328)، و"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 271).
(2)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 20).
(3)
الصواب: أن مذهب أبي حنيفة سقوط سهمهم، انظر:"الهداية" للمرغيناني (1/ 112)، و "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 45)، و "ردّ المحتار" لابن عابدين (2/ 342)، و "شرح فتح القدير" لابن الهُمام (02/ 259).
(4)
انظر: "تفسير الطبري"(10/ 166)، و "الدر المنثور" للسيوطي (4/ 221)، و "تفسير ابن أبي حاتم"(6/ 1817)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 168).
وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ (1).
كأنهم التفتوا إلى المعنى الذي شُرِعَتْ له، وهو أنَّ المقصودَ بها سَدُّ الخَلَّةِ، ودَفْعُ الحاجَة، وهذا المعنى موجودٌ في الصنفِ الواحد.
ورأى قومٌ منهمْ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والزهريُّ، وعكرمةُ: أن معناها حقيقةُ الاستحقاقِ، وبه قالَ الشافعيُّ (2).
فإن قيل: فإنه يترجَّحُ من ثلاثةِ أَوْجُهٍ:
أحدها: اتِّباعُ موضوعِ الخِطابِ، فاللامُ موضوعةٌ للتمليكِ حقيقةً، والواوُ موضوعةٌ للتشريكِ حقيقةً، وحملُهما على التخصيصِ والتخييرِ مَجازٌ، والحقيقةُ خيرٌ من المَجاز.
ثانيها: قوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 60]: والفرضُ هو التقديرُ، وهذا يدلُّ على التقديرِ (3) بينَ الأصنافِ.
ثالثها: ما خرج (4) أبو داود عن زياد بن الحارث الصُّدائي: أنَّ رجلًا سألَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيَهُ من الصدقةِ، فقالَ لهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ لم
(1) انظر: "القوانين الفقهية" لابن جُزَيّ (ص 75)، و "جامع الأمهات" لابن الحاجب (ص 164)، و "حاشية الدسوقي"(1/ 498)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 201)، و "مواهب الجليل" للحطاب (2/ 342)، و "الاستذكار" لابن عبد البرّ (3/ 206 - 207)، و "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 46)، "وحاشية ابن عابدين"(2/ 344)، "شرح فتح القدير" لابن الهُمام (2/ 265)، وهو مذهب الإمام أحمد، انظر:"المغني" لابن قدامة (2/ 281).
(2)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 478 - 479)، و "مغني المحتاج" للشربينى (3/ 116 - 117).
(3)
"وهذا يدل على التقدير" ليس في "أ".
(4)
في "ب": "خرجه".
يَرْضَ بحكمِ نبيٍّ ولا غيرِه في الصَّدقات حتى حَكَمَ هو فيها، فَجَزَّأَها ثمانيةَ أجزاءٍ، فإنْ كنتَ من نلكَ الأجزاءِ، أعطيتُكَ (1) حَقَّكَ" (2)، فإن صَحَّ هذا الحديثُ فهوَ بمكانَةٍ من الظهورِ في الاستِحْقاق.
قلنا: هو كما ذكرتَ، ولكنه يدخلُه التأويلُ، فلقائلٍ أن يقولَ: إنما أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الله جَزَّأَ الصَّدَقاتِ إلى ثمانيةِ أجزاءٍ حتى يخرجَ من الصدقةِ مَنْ ليسَ من تلكَ الأجزاء، فيقطعَ طَمَعَهُم فيها كما قَطَعَ طَمَعَهُمْ رسولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم، فقال:"لا تَحِلُّ الصدقةُ لِغَنِيٍّ، ولا لِذي مِرَّةٍ سَوِي"(3).
وكذا معنى قوله: {فَرِيضَةً} يجوز أن يكونَ فريضة تفسيرًا لِحَصْرِ الصَّدَقاتِ في المذكورين في الآيةِ دونَ غيرِهم، فقد حصرَها اللهُ سُبْحانه لهم، وفيهم، لا بينهم.
وهذا هو الذي أُفْتي به، وأختارُه.
فلم يُنْقَلْ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قسمَ الصدقةَ أقسامًا، فأعطى كُلَّ صنفٍ منها (4) قِسْمًا، كما قسمَ الغنيمةَ بينَهُ وبينَ الغانِمينَ، وإنّما كان صلى الله عليه وسلم يسدُّ منها
(1) في "ب" زيادة "أو أعطيناك".
(2)
رواه أبو داود (1130)، كتاب: الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة، وحد الغنى، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(2/ 17)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(4/ 345 - 346)، والمزي في "تهذيب الكمال"(9/ 445 - 447).
(3)
رواه أبو داود (1634)، كتاب: الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة، وحد الغنى، والترمذي (652)، كتاب: الزكاة، باب: من لا تحل له الصدقة، وابن أبي شيبة في "المصنف"(10663)، والدارمي في "سننه"(1639)، والدارقطني في "سننه"(2/ 119)، والحاكم في "المستدرك"(1478)، وابن الجارود في "المنتقى"(363)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 13)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(4)
"منها"ـ: ليس في "أ".
خَلَّةَ المحتاجينَ على اختلافِ أنواعِهم.
وقد قَدَّمْتُ ما اخترتُهُ في خُمُسِ الغنيمةِ أن اللامَ ليستْ للاستحقاقِ، وسيأتي -إن شاءَ اللهُ تعالى- مزيدُ بيانٍ في الفيء.
ولأنه لو كانَ لحقيقةِ التمليكِ في السِّهام (1) كما قالَ هؤلاء، لوجبَ إذا فُقِدَ صنفٌ من هذهِ الأصنافِ أن يكونَ نصيبُه لبيتِ المالِ، ولا يُرَدُ على بقيةِ الأصنافِ؛ لأن لهم حَظًّا مَعْلومًا، فلا يُعْطَوْنَ شيئًا لا يَمْلِكونَه، ولَوَجَبَ إن (2) فَضَلَ على صِنْفِ (3) سهمُهم، ونَقَصَ على (4) الآخرين سَهْمُهُم أَلَّا يُرَدَّ عليهم، وهم لا يقولونَ بجميعِ ذلك.
فإن قلتَ: فهلْ نجدُ في الكتابِ أو في السُّنَةِ ما يَدُلُ على هذا؟
قلتُ: نعم: أما الكتابُ فقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 215] أيْ: يختص بهن (5) هؤلاءِ المذكورونَ.
وأما السنةُ، فقولُه صلى الله عليه وسلم لِمُعاذِ لَمّا بَعَثَهُ إلى اليمنِ:"وأعلمْهُمْ أنَّ عليهمْ صَدَقَةً تُؤخَذُ من أغنيائِهم، وتُرَدُّ على (6) فُقَرائِهم"(7)، فالآيةُ جاءتْ لبيانِ الاختصاصِ، لا لبيانِ الاستحقاق، وحديثُ مُعاذٍ قصرَها على بعضِ الأصنافِ.
(1) في "ب": "للسهام".
(2)
في "أ": "إذا".
(3)
"صنف" ليس في "أ".
(4)
في "ب": "عن".
(5)
في "ب": "به".
(6)
في "ب": "في".
(7)
تقدم تخريجه.
* إذا علمتَ هذا، فقد اختلفوا في صفاتِ بعضِ الأصنافِ، وهم الفقراءُ والمساكينُ والرقابُ وابنُ السبيلِ، واتَّفقوا في بعضٍ.
فأما الفقراءُ والمساكينُ: فقالَ الشافعيُّ: الفقراءُ: الزَّمْنَى الضعفاءُ الذينَ لا حِرْفَةَ لهم، وأهلُ الحِرَفِ الضعيفةِ الذين لا تقعُ حرفتُهم من حاجتِهم موقعًا. والمساكينُ: الذين لهمْ حرفةٌ تقع (1) موقعًا من كِفايَتِهم (2)، فهمْ أحسنُ حالًا من الفُقَراء.
وهذا قولُ قتَادَةَ وبعضِ أَهْلِ اللغةِ (3)، فكأَنَّ الحاجَةَ كَسَرَتْ فَقاره.
واحتجَّ له بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَتَعَوَّذُ من الفَقْرِ (4)، ويسألُ الله المَسْكَنَةَ (5)، وبقولهِ تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] ،
(1) في "ب": "وتقع".
(2)
انظر: "الأم" للشافعي (2/ 83)، و "أحكام القرآن" للإمام الشافعي (1/ 161 - 162)، و"معرفة السنن والآثار" للبيهقي (5/ 188 - 189)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 487).
(3)
انظر: "لسان العرب" لابن منظور (5/ 60)، و "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 43)، و "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 323).
(4)
روى أبو وداود (1544)، كتاب: الصلاة، باب: في الاستعاذة، والنسائي (5460)، كتاب: الاستعاذة، باب: الاستعاذة من الذلة، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 305)، وغيرهم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والقلة، والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أُظلم".
(5)
روى ابن ماجه (4126)، كتاب: الزهد، باب: مجالسة الفقراء، وعبد بن حميد في "المنتخب من المسند"(1002)، والطبراني في "الدعاء"(1425)، والحاكم في "المستدرك"(1179)، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم أحيني مسكينًا، وتوفني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين". وفي الباب: عن عبادة بن الصامت، وأنس بن مالك.
وبقول الشاعر (1): [البحر البسيط]
أَمَّا الفقيرُ الذي كانَتْ حلوبَتُهُ
…
وَفْقَ العِيالِ، فَلَمْ تَتْرُكْ لَهُ سَبَدا (2)
وذهبَ مالكٌ وأبو حنيفةَ وأكثرُ العلماءِ وأكثرُ أهلِ اللغةِ إلى أن المسكينَ أَمَسُّ حاجَةً من الفقيرِ (3)، واحتجُّوا بقولهِ تعالى:{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16]، أي: لَصِقَ بالتُّرابِ من الحاجَةِ، فلا بَيْتَ يُؤْويه، ولا شَيْءَ يَكْفيه، فكأنه قدِ استكانَ من الحاجة.
وأجابوا عن الآيةِ الأولى بأنه ذكرَ المَسْكَنَةَ على سبيلِ التَّرَحُّمِ من خَطَرِ المَلِكِ الغاصِبِ؛ كقولِ الشاعر (4): [البحر الطويل]
مساكينُ أَهْلُ الحُبِّ حَتَّى قُبورُهُمْ
…
عَلَيْها تُرابُ الله الذُّلِّ بَيْنَ المَقابِرِ
وعلى الجملةِ، فالفرقُ بينهما عسيرٌ ولا يَصْفى لأحدِهم دليلٌ، لوقوعِ كُلِّ واحدٍ من الاسمين على الآخَرِ عندَ الانفرادِ، ولهذا ذهبَ أبو يوسُفَ، وابنُ القاسمِ، وسائرُ أصحابِ (5) الشافعيِّ إلى التسويةِ بينهما.
(1) هو الراعي النميري. انظر: "أدب الكاتب"(34)، و"الجواليقي"(144)، و "الاقتضاب"(303)، و "إصلاح المنطق"(326).
(2)
السبد: ما يطلع من رؤوس النبات قبل أن ينتشر، والبقية من النبت، والقليل من الشعر، ويقال: ما له سبد ولا لبد، ما له قليل ولا كثير. اهـ "المعجم الوسيط"(1/ 413)، وانظر:"لسان العرب" لابن منظور (3/ 201) وما بعدها.
(3)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 209)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 202)، و "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 43)، و "لسان العرب" لابن منظور (5/ 60).
(4)
منسوب إلى سيدنا علي بن أبي طالب، بلفظ:"مساكين أهل الفقر .. ، انظر: "ديوانه".
(5)
في "ب" زيادة "مالك، وبعض أصحاب".
* فإنْ قلتَ: فقد عَلِمْتُ حَدَّ الفقيرِ الذي يستحقُّ الصدقةَ عندَ الشافعيِّ، فَما حَدُّهُ عندَ غيرِه؟
قلتُ: اختلفَ فيه أهلُ العلمِ اختلافًا كثيرًا:
فجعلَهُ أبو حنيفةَ مَنْ لمْ يَمْلِكِ النِّصابَ (1)؛ استدلالًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أن آخذَ الصدقةَ (2) من أغنيائِكم، فَأَرُدَّها على فُقرائكم"(3).
وقالَ أحمدُ، وإسحاقُ، والثوري: لا يأخُذُ مَنْ له خَمْسون دِرْهَما، أو قَدْرُها من الذهبِ، ولا يُعطى منها أكثرَ من ذلك، إلَّا أنْ يكونَ غارِمًا (4)؛ لما رُويَ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمَنْ لَهُ خَمْسونَ دِرْهَمًا"(5)، ولكنه ضَعَّفَه الحُفّاظُ.
ورُوي عن مالكٍ: أَنَّهُ اعتبرَ أربعينَ دِرْهَمًا (6)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ ولهُ أوقِيَّةٌ، أو عَدْلُها، فقدْ سَأَلَ إلْحافًا"(7)، والأوقيةُ أربعونَ دِرْهَمًا.
(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 331).
(2)
في "ب": "الزكاة".
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 277)، و "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 271).
(5)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 466)، والطبراني في "المعجم الكبير"(10199)، والدارقطني في "سننه"(2/ 121)، عن عبد الله بن مسعود.
(6)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البرّ (3/ 210)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 202).
(7)
رواه أبو داود (1627)، كتاب: الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة، وحد الغنى، والنسائي (2596)، كتاب: الزكاة، باب: الإلحاف في المسألة، والإمام مالك في "الموطأ"(2/ 999)، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 36)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(2/ 21)، وابن الجارود في "المنتقى"(366)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 24)، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد.
ومنهُمْ مَنِ اعتبرَ كفايةَ السَّنَةِ؛ استِدْلالًا بادِّخارِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قوتَ سَنَةٍ، مع قوله تعالى:{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8].
* وأَمَّا الرِّقابُ:
فيحتملُ بأن يكونَ المرادُ أن يُشترى رِقابٌ وتُعْتَقَ، ويكونَ ولاؤها للمسلمين.
وبهذا أخذَ مالكٌ وأحمدُ، ويروى عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما (1) -.
ويحتملُ أن يكونَ المرادُ عامَّةَ المُكاتبَين فيما يُؤَدُّونَ في كتابَتِهم، فيعتقونَ.
وبهذا أخذ الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ (2)، والليثُ، ويُروى عن ابنِ عباسٍ، وعليٍّ، وابن جبير -رضي الله تعالى عنهم (3) -.
وقال الزُّهْرِيُّ: يُقْسَمُ ذلك نِصفين، نصفٌ يُدْفعِ إلى المكاتبَين، ونصفٌ يُشْتَرى به عبيدٌ مِمن صَلَّى وصامَ وقَدُمُ إسلامُهم، فيُعتقونَ (4).
(1) انظر: "جامع الأمهات" لابن الحاجب (ص 165) ، و "بدية المجتهد" لابن رشد (1/ 202)، و "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 212)، و"المغني" لابن قدامة (6/ 330)، و "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 456)، و "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 280).
(2)
انظر: "الأم" للشافعي (2/ 69)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 502)، و "المجموع" للنووي (6/ 188)، و "الهداية" للمرغيناني (1/ 112)، و "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 45)، و "شرح فتح القدير" لابن الهُمام (2/ 263).
(3)
انظر: "معالم التَّنزيل" للبغوي (2/ 304)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 182).
(4)
أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كما في "الدر المنثور" للسيوطي (4/ 224).
* وأَمَّا سبيلُ اللهِ:
فذهبَ الجمهورُ، ومالِكٌ، وأبو حنيفة، والشافعيُّ إلى أنه الجهادُ؛ لغلبةِ عُرْفِ الشرعِ في ذلكَ، فيُعطْى المجاهدون المُطَّوِّعون ما يَسْتعينون بهِ على غَزْوِهِمْ من رِزْقٍ وسِلاحٍ وكُراعٍ (1).
وذهبَ أحمدُ وإسحاقُ إلى أنه الحَجُّ (2)؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 34] ، ولأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَمَلَ على إِبِلِ الصَّدَقَةِ للحَجِّ (3).
وإذا قلنا: المرادُ بِهِ الغُزاةُ في سبيلِ اللهِ، فهل يُعْطَوْنَ مُطْلقًا، أو بِتَقَيُّدٍ بحالةِ الفقر؟ فيه خلافٌ، وبالأولِ قالَ الشافعيُّ، وأحمدُ، والجمهورُ، وبالثاني قال أبو حنيفةَ.
كلا واتفقوا على أن الغارمَ المديونُ، وعلى أن ابنَ السبيل المسافرُ المُجْتاز، واختلفوا في المُنْشِئِ سفرًا من بلدِه، فأعطاهُ الشافعيُّ (4)،
(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 213)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 202)، و "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 45 - 46)، و "ردّ المحتار" لابن عابدين (2/ 343)، و "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 329)، و "الأم" للشافعي (2/ 72)، و "المجموع" للنووي (6/ 200)، و "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 111).
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 334)، و"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 458)، و"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 284)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 185).
(3)
رواه الإِمام أحمد في "المسند"(4/ 221)، والبخاري في "صحيحه" معلقا بصيغة التمريض (2/ 534)، عن أبي لاس. وانظر:"تغليق التعليق" لابن حجر (3/ 25).
(4)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 549 - 550)، و "المجموع" للنووي (6/ 203)، و "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 111 - 112).
ومنعه مالكٌ وأبو حنيفة (1).
* وعمومُ الآيةِ وإطلاقُها يقتضي جوازَ نقلِ الزكاةِ عن بلدِ المالِ.
وبه قال أبو حنيفةَ ومالكٌ؛ لأن المقصودَ من الصدقات سَدُّ خَلَّةِ الفقيرِ (2)، ولما روى الدارقطنيُّ أن مُعاذًا -رضي الله تعالى عنه- قال لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مَكانَ الذُّرةِ والشَّعير في الصَّدَقَةِ؛ فإنه أيسرُ عليكُمْ، وأنفعُ للمهاجرينَ بِالمدينة (3).
ومنعَ الشافعيُّ وأكثرُ أصحابِ مالكٍ نَقْلَها (4)؛ استدلالًا بقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذٍ -رضي الله تعالى عنه- حين بعثَه إلى اليمنِ: "وأعلِمْهم أن عليهم صَدَقَةً تُؤْخَذُ من أَغْنيائِهم، وتُرَدُّ في فُقرائِهم"(5)، ولا دلالةَ فيه؛ لأن فُقراءَ المسلمين بكلِّ مكان فقراؤهم؛ لكونِهم منهم، وإنما الدَّلَالَةُ لو قال: وتُرَدُّ في فُقراءِ بلدِهم.
* وبينَ النبيُّ أَنَّ آلَهُ -رضي الله تعالى عنهم- لم يرُادوا؛ لعموم
(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البرّ (3/ 213)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 202)، و "الهداية" للمرغيناني (1/ 112)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 46)، و "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 330).
(2)
انظر: "الهداية" للمرغيناني (1/ 115)، و "شرح فتح القدير" لابن الهُمام (2/ 279 - 280)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 175).
(3)
رواه الدارقطني في "السنن"(2/ 100)، وعلقه البخاري في "صحيحه"(2/ 525)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 113).
(4)
انظر: "الأم" للشافعي (2/ 78 - 79)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 481)، و "مغني المحتاج" للشربيني (3/ 118)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 175).
(5)
تقدم تخريجه.
الخطاب، فقال:"إنَّ الصدقَةَ لا تَحِلُّ لمحمدٍ، ولا لآلِ محمدٍ"(1).
ثم اختلف الفقهاءُ هل هذا العمومُ الذي خُصَّ به عُمومُ الكتاب مخصوصٌ، أو لا؟ فذهب مالكٌ إلى تَخْصيصهِ بغيرِ العاملِ، فَجَوَّزَ للعامِلِ أن يأخذَ من الصدقةِ أجرَ عملِه (2).
وأَبى أبو حنيفةَ والشافعيُّ تخصيصَهُ؛ لوجودِ العِلَّةِ، وهي قَرابَتُهُ صلى الله عليه وسلم (3).
* فإن قلت: فقد ذكرَ اللهُ سبحانَهُ مَصارِفَ الصَّدَقاتِ (4)، ولم يذكرْ تفصيلَها، ولا محلّ وُجُوبها، فهل ذكرَ ذلك في موضعٍ آخرَ من كتابِه جملةً أو تفصيلًا؟
قلتُ: نعم، ذكرها الله تعالى جملة، ووَكَلَ تفصيلَها وبيانَ مقاديرِها وأَنْصِباءَها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم.
أما صدقةُ النباتِ والثمارِ، فقد تقدَّم ذكرُها في "سورة الأنعام" عند قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].
وأما صدقة الذهبِ والفضةِ، فقد تقدَّم ذكرُها في هذه السورة.
وأما صدقةُ الماشيةِ، فذكرها الله سبحانه في آخر هذه السورة، وسيأتي الكلامُ عليها عندَ قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ومعلوم أن جلَّ أموالهِم الماشية.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 178).
(3)
انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 44)، و"شرح فتح القدير" لابن الهُمام (2/ 273)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (8/ 432) -433)، و "المجموع" للنووي (6/ 150).
(4)
في "ب": "الزكاة".
وفرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر للصائمِ صاعًا من تمر، أو صاعًا من بُرّ، أو صاعًا من شعير (1).
* * *
(1) رواه البخاري (1432)، كتاب: الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر، ومسلم (984)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، عن ابن عمر.