الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام الجهاد)
155 -
روينا في "صحيح البُخاري" عن البَراءِ -رضي الله تعالى عنه-: آخرُ آيةٍ نزلَتْ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]، وآخرُ سورةٍ نزلتْ: براءة (1).
وروينا فيه أيضاً عن حُمَيْدِ بنِ عبدِ الرحمن: أن أبا هريرةَ -رضي الله تعالى عنه- قال: بعثني أبو بكرٍ في تلك الحجَّةِ في المُؤَذِّنينَ الذين بعثَهُمْ يومَ النَّحْرِ يُؤَذِّنونَ بمِنًى: (2) ألا لا يَحُجُّ بعدَ العام مُشْرِكٌ، ولا يطوفُ بالبيت عُرْيانُ. قال حُمَيْدٌ: ثم أردفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بَعَلِيٍّ، فأَمرهُ أن يُؤَذِّنَ ببراءة.
قال أبو هريرةَ: فأذَنَ معنا عَلِيٌّ في أهلِ مِنًى يومَ النَّحْرِ ببراءة، وألاّ يَحُجَّ
(1) رواه البخاري (4377)، كتاب: التفسير، باب:{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)} .
(2)
"ألا" ليس في "أ".
بعدَ العامِ مشركٌ، ولا يطوفَ بالبيتِ عُرْيانُ.
وخَرَّجَهُ مُسلم أيضاً (1).
وخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عنِ ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما- قال: بعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكرٍ، وأمرَهُ أن يُنادِيَ بهؤلاءِ الكلماتِ، وأتبعه عَليًّا -رضيَ اللهُ تعالى عنه-، فبينما أبو بكرٍ في بعضِ الطريقِ؛ إذ سمعَ رُغاءَ ناقَةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم القَصْواءِ، فخرج أبو بَكْرٍ فَزِعاً، فَظَنَّ أنهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هُو عَلِيٌّ -رضيَ الله تعالى عنه-، فدفعَ إليه كِتابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأمرَ عَلِيًّا أن ينادِيَ بهؤلاءِ الكلماتِ، فقال: فنادى عَلِيٌّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- أيامَ التشريقِ: ذِمَّةُ اللهِ ورسولهِ بَرِيئَةٌ منْ كلّ مُشْرِكٍ، فَسيحوا في الأرضِ أربعةَ أَشْهُرٍ، ولا يَحُجَّنَّ بعدَ العامِ مُشْرِكٌ، ولا يطوفُ بالبيتِ عُريانُ، ولا يدخلُ الجنةَ إلا مؤمنٌ، فكان عليٌّ يُنادي بها، فإذا أعيا، قامَ أبو بكرٍ فَنادى بها (2).
وخَرَّجَ أيضاً عن زيدِ بنِ يُثَيعٍ قال: سألتُ عَلِيَّ بنَ أبي طالبٍ -رضي الله تعالى عنه-: بأيِّ شيء بُعِثْتَ في الحَجَّةِ؟ قال: بُعِثْتُ بأربعٍ: ألا يطوفَ بالبيتِ عُرْيانُ، ومن كانَ بينَهُ وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ، فعهدُهُ إلى مُدَّتِهِ، ومن لم يكنْ له عَهْدٌ، فَأَجَلُهُ أربعةُ أشهرٍ، ولا يدخلُ الجنةَ إلا نفسٌ مؤمنةٌ، ولا يجتمعُ المسلمون والمشركون بعدَ عامِهِمْ هذا.
(1) رواه البخاري (362)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب: ما يستر من العورة، ومسلم (1367)، كتاب: الحج، باب: لا يحج البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وهذا لفظ البخاري.
(2)
رواه الترمذي (3091)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة التوبة، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(9215)، والطبراني في "المعجم الكبير"(12128)، وفي "المعجم الأوسط"(938)، والحاكم في "المستدرك"(4375)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 224). وهذا لفظ الترمذي.
قال أبو عيسى التِّرْمِذِيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ (1).
* إذا تقرَّرَ هذا، فقد كانَ لمشركي العربِ معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أحوالٌ.
فمنهُمُ المُحارِبُ المُبايِنُ، ومنهمُ المُعاهِدُ المُوادِعُ، ثم المعاهِدون منهم: من نَقَضَ عَهْدَهُ، كقريشٍ وبني بكرٍ، ومنهم مَنِ استقامَ عليه؛ كبني ضَمْرَةَ وخُزاعة.
فلما أظهرَ اللهُ سبحانَه رسولَهُ صلى الله عليه وسلم، وفتحَ له مكةَ، أمهلَ منْ نقضَ عهدَهُ أربعةَ أشهرٍ يَسيحُ في الأرضِ، سَواءٌ كانتْ مُدَّتُهُ دونَها، أو فوقَها، ولم يؤاخذْهُ بنقضِ عهده مُعاجَلَةً، إظهاراً لقدرتهِ عليهم، ولطفاً منهُ بهم، لكي يتدبَّروا، فينظروا في عاقِبَةِ أمرِهم، وقَدَّر اللهُ سبحانه لهم أربعةَ أشهرٍ؛ لأنها مدةٌ يعتبرُ فيها العاقلُ فيفيءُ إلى طاعةِ مولاه، ولهذا ضربَها اللهُ سبحانهُ مُدَّةً في الإيلاء.
وأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم وسائرَ المؤمنين بالاستقامةِ على العهدِ لِمَنِ استقامَ لهم، ولم ينقضْ منهُ شيئاً، فإن كانتْ مُدَّةُ عهدِهم قبلَ انقضاءِ الأربعةِ الأشهرِ، فلهمُ الأمانُ أيضاً في بقيةِ الأشْهُرِ بالآيةِ الأُخْرى، وإن كانتَ فوقَ الأربعةِ الأشهرِ، فلهم الأمانُ إلى انقضائها بقوله تعالى:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} ، وهذا ظاهرٌ من خِطابِ الكتاب، ومن حديثِ عَلِيٍّ -رضي الله تعالى عنه-؛ حيث قال: ومن لم يكنْ بينَه وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عهدٌ، فأجلُه أربعةُ أشهرٍ، ولكنه حَرَّمَ عليهمُ الطوافَ في حالِ التَّعَرِّي، ودخولِ المسجد الحرام.
(1) رواه الترمذي (3092)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة التوبة، والبزار في "مسنده"(785)، والحاكم في "المستدرك"(4376)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(461).
* فإن قلتَ: فقد أمرَ اللهُ سبحانه بقتلِ المشركينَ عندَ انقضاءِ الأشهُرِ الحُرُمِ، فقال:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وهذا عامٌّ فيمن له عهدٌ، ومَنْ لا عَهْدَ له، وسواءٌ صادَفَ انقضاءَ الأربعةِ الأشهرِ، أم لا.
وحَرَّمَ قَتْلَهم في الأشهرِ الحُرُمِ، وهو يَقْتَضي تحريمَ قَتْلِهم، سواءٌ انقضى عَهْدُ المعاهدين وأربعةُ أشهرِ المُمْهَلين، أم لا، فكيف الجَمْعُ بينَ الآيتين؟
قلت: أما تحريمُ قتلهم قبلَ انسلاخ الأشهرِ الحُرُمِ، فلم يقلْ به إلا عَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، والحَكَمُ (1)، وهو قَوْلٌ قويُّ الدَّلالَةِ، وقد استوفيتُ بيانَه في "سورة البقرة".
وأما عمومُ الأمرِ بالقتلِ بعد انسلاخِ الأَشْهُرِ الحُرُمِ، فإنه أُريدَ بهِ الخُصوصُ، والتقديرُ: فإذا انسلخَ الأشهرُ الحُرُمُ، فاقتلوا المشركينَ الذين لا عَهْدَ لهم، ولا مُدَّةَ مُقَدَّرَةً من اللهِ سبحانه، حيث وَجَدْتُموهم، ولهذا قالَ ابنُ عَبّاسٍ -رضيَ الله تَعالى عنه- في رواية الوالبي: حَدَّ اللهُ تَعالى للذين عاهَدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أربعةَ أشهرٍ يَسيحون في الأرضِ حيثُ شاؤوا، وأَجَّلَ لِمَنْ ليسَ لهُ عهدٌ عندَ انسلاخِ الأشهرِ الحُرُمِ (2).
وروي عنه أنه قال: من كان له عهدٌ فوقَ أربعةِ أشهرٍ، حُطَّ إليها، ومَنْ كان دونَها، رُفِعَ إليها، ومَنْ لا عَهْدَ له، جُعِلَ أمانُهُ خمسين يوماً، أولها يومُ النَّحْرِ؛ لقوله تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (3)[التوبة: 5].
(1) انظر: "تفسير الطبري"(10/ 79)، و "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 367).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(10/ 60)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(6/ 1746).
(3)
انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (3/ 394).
وهذه الروايةُ بمعنى الرواية الأولى، أو أَبْيَنُ منها.
فإن قلتَ: فإنَّ قولَ عَلِيٍّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- في روايةِ زيدِ بنِ يُثَيْعٍ يَقْتضي أنَّ الأربعةَ الأشهُرَ أَجَلٌ لِمَنْ لا عهدَ له من مشركي العربِ؛ حيث قالَ قومٌ: من لا عَهْدَ له، فاجلُه أربعةُ أشهرٍ يخالف ما أَوَّلْتَ بهِ الآيةَ، وما رويَ عن ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما-.
قلت: المرادُ: ومَنْ لا عَهْدَ لهُ، أي: مُعْتبَرٌ؛ لأنَّ من نقضَ عهدَه لا عَهْدَ له.
والدليلُ عليه قولُه تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1]، فخص الخطابَ معهم، وأكثرُهم ناقِضون.
وقولُ عَلِيِّ -رضي الله تعالى عنه-: ومن كانَ بينَهُ وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عهدٌ، فعهدُه إلى مُدَّتِهِ، أي: عهدٌ معتبرٌ استقامَ عليهِ أهلُه، وإلاّ لمْ يكن لآيةِ النسخِ معنى، والدليلُ عليه قولهُ تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4]، وخصوا بهذا لأَجْلِ استقامَتِهم على عهدِهم، وتخصيصُ الذكرِ بالمسجدِ الحرامِ في قوله:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 7] جاءَ لتعريفِهم بهِ، لا للتقييد.
ويمكنُ الجمعُ بين آيةِ السيفِ وآيةِ النسخِ من وجهٍ آخَرَ (1)، وذلكَ أنَّ انسلاخَ الأشهُرِ الحُرُمِ موافِقٌ لانقضاءِ الأربعَةِ الأشهرِ على ما رُوي عنِ الزُّهْرِيِّ وغيره مِنْ أن نزولَ آيةِ النسخِ في شَوّال، فيكونُ انتهاؤها انسلاخَ الأشهُرِ الحُرُمِ؛ والمشهورُ أن ابتداءَ الأربعةِ الأشهُرِ من يومِ النَّحْرِ؛ لأنه كان
(1) انظر: "ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه"(ص: 35)، و"قلائد المرجان" (ص: 114 - 115).
فيه التبليغُ والنداءُ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ في روايةِ أبي صالحٍ.
وقيل: أولُها عاشرُ ذي القِعْدَةِ، وهو موسمُ حَجِّهم على حُكْمِ النَّساءِ، فاستقرَّتْ حِجَّةُ الوداعِ سنةَ عَشْرٍ في مَوْسِمِها.
وقيل: من رابعِ يومٍ يبلُغُهم فيهِ العلم.
وذهبَ قومٌ إلى الجمعِ بالتأويل، فقالوا: المرادُ بالأشْهُرِ الحُرُمِ هنا شهورُ العَهْدِ، وقيل لها: حُرُمٌ؛ لأن اللهَ تَعالى حَرَّمَ على المؤمنينَ فيها دماءَ المُشركين، والتعرُّضَ لهم، ويحكى هذا القولُ عن مُجاهِدٍ وابنِ إسحاقَ، وعَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ (1)، وهو بعيدٌ.
ويمكنُ الجمعُ أيضاً بين آيةِ السيفِ وآيةِ النسخِ وأَثرِ ابنِ عباسِ وأَثَرِ عَلِيٍّ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- من وجهٍ آخرَ:
وهو أن اللهَ سبحانَهُ أَجَّلَ في آيةِ السيفِ أربعةَ أشهُرٍ لمنْ عاهدَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ونقضَ عهدَه أو لم ينقضْه إذا لم يكنْ عندَ المسجدِ الحَرامِ، فيردُّ إلى الأربعةِ الأشهرِ، وهم المَعْنِيُّونَ بقولِ ابنِ عَبّاسٍ: ومنْ كانَ عهدُهُ فوقَ أربعةِ أشهرٍ، حُطَّ إليها.
ومن لم يكنْ له عهدٌ أصلاً، فأَجَلُهُ انقضاءُ الأشهرِ الحُرُمِ لتحريمِ اللهِ سبحانَه القِتالَ فيها في غيرِ آيةٍ من كتابهِ العزيز.
ومنْ له عهدٌ فوقَ الأربعةِ الأشهرِ، وهو عندَ المسجدِ الحرامِ، وهم خُزاعَةُ وبَنو ضَمْرَةَ، فأجلُه إلى مدَّتِهِ؛ كما قال الله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ} [التوبة: 4]، ثم قال:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]، وهمُ المَعْنِيُّونَ بقولِ
(1) انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (2/ 269)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 72)، و"تفسير الثعلبي"(5/ 12).
عَلِيٍّ -رضيَ اللّ تعالى عنه-: ومن كانَ بينَهُ وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عهدٌ، فعهدُه إلى مُدَّتِه (1).
والدليلُ على هذا قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]، وخصوا بهذا إمَّا لأَجْلِ مجاوَرَتهم المسجدَ الحَرام، وإما لكونِ العهدِ وقعَ في المسجدِ الحرام، وكان العهدُ في الحُدَيْبِيَةِ، وهي من الحَرَمِ على قولِ بعضِهم، أو بعضُها من الحَرَمِ على قولِ بعضِهم.
* واختلف الناسُ في يومِ الحَجِّ الأكبرِ:
فقال قومٌ: هو يومُ عَرَفَةَ، ويروى عن عُمَرَ، وعُثمانَ، وابنِ عباسٍ، وابنِ الزبيرِ، وابنِ المُسَيِّبِ، وعطاءٍ، وطاوسٍ، ومجاهِدٍ، وابنِ سيرينَ (2)، ونقله المالكيةُ عن الشافعيِّ، وليس بمعروفٍ عنه (3).
وقال قومٌ: هو يومُ النَّحْرِ، ويُروى عنِ ابنِ عباسٍ، وعَلِيٍّ، وابنِ عُمَرَ، وابنِ مَسْعودٍ، وابنِ أبي أوفى، والشَّعْبيّ، والنَّخَعِيِّ، وابن جُبَيْرٍ، وحُمَيْدِ بنِ عبدِ الرَّحْمنِ (4)، وبه قالَ مالِكٌ وَالشافعيُّ (5)؛ لما رواهُ أبو هريرةَ -رضي الله تعالى عنه- من تأذينِه وتأذينِ عَلِيٍّ في يومِ النَّحْرِ (6).
(1) رواه الترمذي (871)، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 79).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(10/ 68)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(6/ 1748).
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 116).
(4)
انظر: "تفسير الطبري"(10/ 69)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(6/ 1747).
(5)
وبه قال الحنابلة أيضاً: انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 126)، و"المجموع" للنووي (8/ 161)، و"المغني" لابن قدامة (3/ 229).
(6)
تقدم تخريجه.
وقال قومٌ: يومُ الحَجَّ حينَ الحَجَّ؛ كما يقال: يومُ صِفَّينَ، ويومُ الجَمَلِ، وكان ذلكَ أياماً (1).
* واختلفوا أيضاً في الآياتِ اللاتي أُذِّنَ بِهِنَّ؛ لاختلافِ آياتٍ وَرَدْنَ في ذلك:
فقيل: ثلاثُ آياتِ.
وقيل: تسعُ آيات إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].
وقيل: نحو أربعين إلى قوله: {يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
وقيل: أربع آيات إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]، وهو الصحيحُ؛ لصحةِ أثرِه عندهم (2)، والله أعلم.
* * *
158 -
(4) قول جل ثناؤه: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5].
اشتملتْ هذهِ الآيةُ على جملتين:
أما الجملةُ الأولى: فإنَّ اللهَ سبحانَهُ أمرَ أن نقتلَ المشركين حيثُ وَجَدْناهم، وهذه الآيةُ وما أَشْبَهَها تُسَمَّى آيةَ السيفِ، نَسَخَتْ (3) كُلَّ آيةٍ
(1) وهو قول سفيان ومجاهد. انظر: "تفسير الطبري"(10/ 74)، و "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 125).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 454).
(3)
انظر: "قلائد المرجان"(ص: 115).
ذكرَ اللهُ سبحانَهُ فيها الصَّفْحَ والإعراضَ عن المشركين، وقد قدمْتُ فيه بَحْثاً لطيفاً في "سورة النساءِ" عندَ ذِكْرِ الزَّواني.
ثم يحتملُ أن تكونَ هذه الآيةُ متناولةً لأهلِ الكتابِ بلفظِها؛ لأنهم مُشركون بقولهم: عُزَيْزٌ: ابنُ اللهِ، والمسيحُ: ابنُ الله، ويكونُ عمومُها مَخْصوصاً بقولهِ تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29].
ويُحتملُ أن تكونَ الآيةُ غيرَ مُتناوِلَةٍ لهمْ؛ لاختصاصِهِمْ باسمٍ يَخُصُّهُمْ، فلا يُحتاجُ إلى دليل يُخْرِجُهم من عمومِ هذه الآية.
وقد بَيَّنْتُ في "سورةِ البقرةِ" أنَّ هذهِ عامَّةٌ في الأمكنةِ، ويجوزُ تخصيصُها بقوله تعالى:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191].
* وقد اتفقوا على تخصيصِ عُمومها ببعضِ المُشركين، وأنه لا يجوزُ قَتْلُ بعضِهم، فنهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن قتلِ النِّساءِ والصِّبيان.
ولكن هَلْ عِلَّةُ القَتْل هو الإشراكُ باللهِ تعالى، أو هو الإشراكُ مع القُدْرةِ على القتالِ؛ بدليلِ قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]؟ فيه خلافٌ، منهم من عَلَّلَ بالاسمِ، ومنهم من عَلَّلَ بالقدرةِ على القِتال واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم لمّا وَقَفَ على امرأةٍ مَقْتولَةٍ:"ما كانتْ هذهِ لتُقاتِلَ"(1) ويظهرُ أثر العِلَّتَيْنِ في قَتْلِ
(1) رواه أبو داود (2669)، كتاب: الجهاد، باب: في قتل النساء، والإمام أحمد في "المسند"(3/ 488)، وعبد الرزاق في "المصنف"(10242)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(2751)، والروياني في "مسنده"(1464)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 82)، عن رباح بن ربيع.
الراهبِ والأَعْمى والعَسيفِ (1)(2).
* وبَيَّنَ اللهُ سُبْحانه في هذه الآيةِ لنا كيفيةَ القِتال والمصابرة معهم، من القتل والأخذ الذي هو الأَسْرُ والحَصْرُ.
وبين النبيُّ صلى الله عليه وسلم بفعله جوازَ رَمْيِهِمْ بالمَنْجَنيقِ، فرمى حِصْنَ الطائِف (3)، وذلك شيءٌ وراء الحَصْر، ولا بد من زيادة بحثِ هذا المعنى عندَ الوصولِ إلى "سورةِ مُحَمَّدٍ" صلى الله عليه وسلم.
أما الجملة الثانية: فإن الله سبحانه شَرَطَ في تخليةِ سبيلِهم إقامةَ الصَّلاةِ، وإيتاءَ الزَّكاةِ، وشَرَطَ في أخُوَّتهِم في الدينِ وصحةِ توبِتهم إقامةَ الصلاةَ، وإيتاءَ الزكاةِ أيضاً، وها أنا أتكلم عليهما معاً؛ لاتفاقِ معنيَيْهِما، فأقول:
* أما إقامُ الصَّلاةِ:
فقد أخذَ بظاهرِ الكتابِ العزيز آخِذون، وجعلوا إقامَ الصلاةِ شرطاً في الإيمانِ، ومنهم أحمدُ، وإسحاقُ، وابنُ المباركِ، وبعضُ الشافعية؛ للآية (4)، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"بين الرَّجُلِ وبينَ الشركِ والكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ"(5).
وذهبَ جمهورُ الفقهاءِ وبعضُ السَّلَفِ إلى أنه ليسَ بشرطٍ في الإيمانِ،
(1) العسيف: المملوك المُسْتَهانُ به، قال الشاعر:
أطعتُ النفسَ في الشهوات حتَّى
…
أعادتني عسيفاً عَبْدَ عَبْدِ
"اللسان"(مادة: عسف)(9/ 246).
(2)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 29)، و "المبسوط" للسرخسي (10/ 64)، و "بداية المجتهد" لابن الرشد (1/ 280).
(3)
انظر: "نصب الراية" للزيلعي (3/ 382).
(4)
عن الإمام أحمد روايتان، إحداهما هذه، والأخرى: أنه يقتل حداً. انظر: "المجموع" للنووي (3/ 17)، و"الشرح الكبير" لابن قدامة (1/ 384).
(5)
تقدم تخريجه.
والشرطُ في الآيةِ خرجَ مخرجَ الوَصْفِ بالغالِبِ؛ إذ المعهودُ مِمَّنْ أسلمَ منهمْ إقامُ الصلاةِ، ولا يتركُ الصلاةَ منهم -أعني: المُواجَهين بالخِطاب- إلا مُشْرِكٌ أو منافقٌ (1).
ثم اختلفَ هؤلاءِ في عُقوبةِ تارِكِ الصلاةِ: فذهبَ الشافعيُّ، ومالكٌ، وأبو ثورٍ إلى أن عقوبَتهُ القَتْلُ حَدًّا (2).
ويروى عن مكحولٍ، وحَمّادِ بنِ زيدٍ (3).
وذهب أبو حنيفةَ والثورِيِّ والمُزنِيِّ إلى أنه يُحْبَسُ ويُضرَبُ، ولا يُقْتَلُ (4)؛ لقولهِ صلى الله عليه وسلم:"لا يَحِلُّ دمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأني رسولُ اللهِ إلَّا بإحْدى ثلاثٍ: الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفسِ، والتاركُ لدينِه المفارِقُ للَجماعة"(5).
وهذا أقوى دليلاً، ولهذا اختارَهُ إمامُ الحَرَمين أبو المعالي.
هذا في حُكمِ الإيمانِ وأُخُوَّةِ الدينِ، وأما حُكْمُ الكَفِّ عَنْهُمْ، فإنَّ إقامَ الصلاةِ وإيتاءَ الزكاةِ شَرْطٌ فيه، لا خلافَ في ذلك علمتُه بينَ أهلِ العلمِ.
والدليلُ عليهِ مع الآيةِ ما رويناه في "صحيح مسلمٍ"، عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: لما تُوُفِّيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، واستُخْلِفَ أبو بكرٍ -
(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 271)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (2/ 527).
(2)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 255)، و"شرح مسلم" للنووي (2/ 70)، و"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 34).
(3)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 151).
(4)
انظر: "شرح مشكل الآثار" للطحاوي (8/ 206)، و"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 273).
(5)
تقدم تخريجه.
رضي الله تعالى عنه- بعدَهُ، وكَفَر مَنْ كَفَرَ من العربِ، قال عمرُ بنُ الخطابِ -رضي الله تعالى عنه- لأبي بكرٍ: كيف تقاتلُ الناسَ (1)، وقدْ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أُمِرْتُ أَنْ أقاتِلَ الناسَ حتى يقولوا: لا إلهَ إلا اللهُ، فمنْ قالَها، فقدْ عَصَمَ مِنِّي مالَهُ ونَفْسَهُ إلَّا بحَقِّهِ، وحسابُهم على الله"؟ فقال أبو بكرٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: واللهِ لأقَاتلنَّ من فَرَّقَ بينَ الصَّلاةِ والزكاةِ؛ فإنَّ الزكاةَ حَقُّ المالِ، والله لو مَنَعوني عِقالاً (2) مِمّا (3) كانوا يُؤَذُونَهُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، لَقاتلتُهُمْ على مَنْعِهِ، فقال عمرُ بنُ الخَطّابِ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: فواللهِ ما هُو إلا أنْ رأيتُ اللهَ قدْ شَرَحَ صَدْرَ أبي بكرٍ للقتالِ، فعرفْتُ أنه الحَقُّ (4).
وما رويناه في "صحيح مسلم" عنِ ابنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنه-: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يَشْهدوا أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ محمداً رسولُ الله، ويُقيموا الصلاةَ، ويُؤْتوا الزكاةَ، فإذا فعلوهُ، فقد (5) عَصَموا مني دِماءَهُم وأموالَهُم، وحسابُهم على الله"(6).
* فإن قلتَ: فما حُكْمُ الزكاةِ، هل إيتاؤها شرطٌ في الإيمانِ
(1)"الناس": ليس في "أ".
(2)
عِقالاً: العِقَالُ: زكاةُ عامٍ من الإبلِ والغنم، وقال بعضهم: أراد أبو بكر رضي الله عنه بالعِقال، الحبل الذي كان يُعْقَلُ به الفريضة التي كانت تُؤخذ في الصدقة إذا قبضها المُصَدِّق، وقيل: أراد ما يساوي عِقالاً من حقوق الصدقة.
"اللسان"(مادة: عقل)(11/ 464).
(3)
"مما" ليس في "أ".
(4)
رواه البخاري (1335)، كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، ومسلم (20)، كتاب: الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله
…
(5)
"فقد" ليس في "أ".
(6)
تقدم تخريجه.
وأخوةِ الدينِ كالصلاةِ عندَ مَنْ يشترطُ ذلك؟
قلتُ: أجمعَ المسلمونَ على أن مانِعَها مسلمٌ، وليسَ بكافرٍ، فقد مَنَعَها وغَلَّها في عَصْرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعَصْرِ أَصْحابه مانِعون، ولم يُكَفِّروهم (1).
فإن قلت: فأبو بكرٍ -رضي اللهُ تعالى عنهُ- حكمَ في مانِعي الزكاةِ بِحُكْمِ المُرْتَدِّ بِقَتْلِهِمْ وسَبْيِ ذُرِّيَّتِهِم.
قلتُ: لم يحكمْ فيهم بذلكَ لِمَنْعِ الزكاةِ وَحْدَهُ، بلْ لمنعِهم الزكاةَ، وبِجَحْدِهِمْ وُجوبَها (2)، وذلكَ أن العربَ افترقَتْ في زمنِه -رضيَ الله تعالى عنه- ثلاثَ فِرَقٍ.
1 -
منهم من ارتدَّ عن المِلَّةِ الحَنيفيةِ، ودَعا إلى نُبُوَّةِ مُسَيْلَمَةَ والأَسْوَدِ العَنْسِيِّ.
2 -
وقومٌ أنكروا الصلاةَ والزكاةَ وجميعَ الشرائع، وهؤلاءِ الذين سَبى أبو بكرٍ ذُرِّيَّتَهُمْ، وساعده على ذلكَ الصَّحابَةُ، واستولَدَ عَلِيٌّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- جارِيَةً مِنْ سَبْيِ بني حَنيفَةَ أمَّ مُحَمَّدٍ الذي يُدْعى ابنَ الحَنَفِيَّةِ.
3 -
وقومُ أَقَرُّوا الصَّلاةَ، وأنكروا الزكاةَ، وهؤلاءِ الذين وَقَعَتْ فيهمُ الشبهةُ لِعُمَرَ، ثم رجعَ إلى وِفاق أبي بكرٍ -رضي الله تعالى عنهما- لما احتجَّ بأنها في مَعْنى الصلاةِ، فدلَّ على أنهم قد أجمعوا على كُفْرِ جاحِدِ الصلاةِ؛ للنصوصِ التي لا تأويلَ فيها.
* ثم أجمعوا بعدَ ذلكَ على تكفيرِ جاحِدِ الزكاة، ولم يلتفتوا إلى تأويلِ الكافرينَ (3).
(1) انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 182).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 272).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 277).
* وأما مانعُ الزكاةِ بُخْلاً فيها، فلم يقلُ أحدٌ بكفرِهِ قديماً ولا حديثاً (1).
وهذا تحقيقٌ حَسَنٌ بَيِّنٌ، فاعتمدْه، فقدْ حصلَ في ذلك تخبيطٌ لجماعةٍ من الفقهاءِ والمُحَدِّثين.
* * *
159 -
(5) قوله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6].
أمر اللهُ سبحانَهُ في هذه الآيةِ بأَمانِ المُشْرِكِ، والكَفِّ عنهُ إذا دَخَلَ دارَ الإسلام لِيَسْمَعَ كلامَ اللهِ، وينظُرَ في الإسلامِ؛ لينقادَ للحقِّ إذا ظهرَ له حتى يسمَعَهُ ويَفْهَمَهُ، فإن قَبِلَ الحَقَّ، قَبِلناهُ، وإنْ أبى، رَدَدْناه إلى مَأْمَنَهِ.
وهذا الحكمُ متفقٌ عليهِ، والأمرُ في هذا للوجوبِ؛ إذ يجبُ إقامةُ حُجَّةِ اللهِ وإزالةُ الشبهة عن عبادِه، وإعانةُ طالبِ الحقِّ (2).
والخطابُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمرادُ بهِ جميعُ الأُمَّةِ، فيجوزُ لآحادِهم أن يُجيرَ آحادَ المشركينَ؛ لما رُوي عن عَلِيٍّ -رضي الله تعالى عنه-: أنه قال: ما عندي شيءٌ إلا كتابَ اللهِ، وهذهِ الصحيفةَ عن رسولِ الله: صلى الله عليه وسلم "إن ذِمَّةَ المُسلمينَ واحِدةٌ، فَمَنْ أَخْفَرَ (3) مُسْلِماً، فعليهِ لعنةُ اللهِ والملائِكَةِ والناسِ أجمعين"(4) ولقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمونَ تَتكاَفأْ دِماؤُهم، ويَسْعى بِذِمَّتِهِمْ
(1) انظر: "المجموع" للنووي (5/ 300).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 458)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (3/ 399).
(3)
أخفر: خَفَرَ به، خَفْراً وخُفُوراً: نَقَضَ عَهْدَه، وغَدَره، ومثله أخفره.
"القاموس"(مادة: خفر)(ص: 349).
(4)
رواه البخاري (1771)، كتاب: فضائل المدينة، باب: حرم المدينة، ومسلم (1370)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة.
أَدْناهُمْ، وهم يَدٌ على مَنْ سِواهُمْ" (1) إلا ما حُكِيَ عنِ ابنِ الماجشونِ أنه وقفَهُ على إذنِ الإمامِ (2)، وكذا وَقَفَهُ ابنُ حَبيبٍ على نَظَرِ الإمامِ (3)، وهذا ليسَ بِصَحيحٍ؛ لإطلاقِ الأحاديثِ، ولأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أجازَهُ وأَمْضاهُ، وقد فعلَه الصحابَةُ -رضي الله تعالى عنهم-، وأَمْضَوْهُ.
نعم، اختلفَ أهلُ العِلْمِ في الصِّفاتِ المُخِلَّةِ لمنصبِ الأمانِ مثلَ الأنوثةِ والرِّقِّ والصِّبا، فاعتبرهُ أبو حنيفةَ (4)، ولم يعتبرْهُ مالِكٌ والشافِعِيُّ؛ لعمومِ الأحاديث (5).
* وفي الآيةِ دَلالةٌ بطريقِ الإشارَةِ علي جَوازِ تَعْليمِ الكافِرِ القُرْآنَ إذا رَجَوْنا إسْلامَهُ، ولا يَجوزُ إذا خَشِينا استِخْفافهُ؛ فإنَّ السماعَ يلزَمُ منهُ الحِفْظُ لِكُلِّ ما سَمِعَ، ولا سِيَّما في حَقِّ بعضِ السامِعينَ الأذكياءِ (6).
* * *
(1) تقدم تخريجه.
(2)
مذهب ابن الماجشون: أن أمان المرأة موقوف على جواز الإمام، فإن أجازه جاز، وإن رده رُدَّ؛ لأنها ليست ممن يقاتل، ولا ممن لهم سهم في الغنيمة. انظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 262)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 280).
(3)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 76).
(4)
عند الحنفية يجوز أمان المرأة، ولا يجوز أمان العبد. انظر:"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 106).
(5)
وهو مذهب الحنابلة. انظر: "الاستذكار" لابن عد البر (2/ 263)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (13/ 145)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 195).
(6)
واختلفوا في تعليم الكافر القرآن، فقال مالك: لا يعلم القرآن ولا الكتاب، وعن الشافعي روايتان، أحدها الكراهية، والأخرى الجواز. انظر:"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 22)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 107).
160 -
(6) قوله عز وجل: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11].
تقدم بيانُه قريباً.
* * *
161 -
(7) قوله عز وجل: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12] الآية.
* قد علمنا بالنصِّ اليقينِ أنَّ المُعاهَدين إذا نَكَثوا أَيْمانَهُمْ، ونَقَضوا عَهْدَهُمْ، وَجَبَ قِتالُهُمْ، وقد قَدَّمْتُ أَنَّهم إذا استقاموا لنا على عَهْدِهم، وجبَ علينا أن نستقيمَ لهم.
* وأعلمنا اللهُ سبحانَهُ أنهم إذا طَعَنوا في ديننا؛ كَطَعْنهِم في القرآنِ العزيزِ، وسَبِّهِمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، انتقضَ عهدُهم.
والحكمُ مستقرٌّ على هذا كما ذَكَرَهُ اللهُ تعالى، حتى قالَ أبو الحَسَنِ الماوَرْدِيُّ من الشافعيةِ: يجبُ عليهمُ الكَفُّ عن قبيحِ القولِ والعَمَلِ في حَقِّ المسلمين، وبذلُ الجميل بينهما، فلو كانوا يكرمونَ المسلمينَ، فَصاروا يُهينونَهم، ويُضيفونهم فصاروا يَقْطَعونَهم، أو يُعَظِّمونَ كتابَ الإمام فصاروا يَسَخِفُّونَ به، أو نَقَضوا عَمَّا كانوا يُخاطبونَهُ به، سألَ الإمامُ عن سببِ فِعْلِهم، فإن أَظْهَروا عُذْراً، قَبلَهُ، وإلَّا أَمَرَهُمْ بالرُّجوعٍ إلى عادَتِهم، فإنْ فَعلوا، ثَبَّتَ عَهْدَهم، وإنِ امْتَنَعوَا، نقضَ عَهْدَهُمْ، وأَعْلمَهُمْ بِنَقْضِه (1).
(1) انظر: "الحاوي الكبير" للماوردى (14/ 383).
* فإن قلت: فان اللهَ سبحانَه إنَّما عَلَّقَ قَتْلَهم على أَمْرَيْنِ: نَكْثِ اليمينِ، والطَّعْنِ في الدينِ، وما عُلِّقَ على أمرين، لا يوجد إلَّا بهما، ولا يوجدُ بأحدهما.
قلنا: لَمَّا قامَ الإجماعُ على أن المُعاهَدَ إذا نَكَثَ اليَمينَ بما عاهَدَ عليه، انتقضَ عهدُه، ولا يحتاجُ إلى اشتراطِ شيءٍ آخر، دَلَّنا على أن الطَّعْنَ في الدينِ بِمُجَرَّدِهِ كافٍ في نقضِ العهدِ؛ كالنَّكْثِ في اليمينِ، وأن التعليق بالأمرينِ على سبيلِ الانفرادِ، لا على سبيلِ الجَمْعِ، وذلكَ شائعٌ في اللسانِ (1).
* فان قلتَ: فهل ينتقضُ عهدُ الذِّمِّيِّ بما ينتقضُ به عهدُ الحَرْبِيِّ؟
قلنا: عهدُ الحربيِّ أضعفُ من عهدِ الذميِّ، فعقد الذمَّةِ ينتقضُ بالنَّقْضِ، وهلْ ينتقضُ بالطَّعْنِ في ديننا؟ فيه خلافٌ منتشرٌ عندَ الشافعيةِ والمالكيةِ (2)، والصحيحُ عندَ الشافعيةِ عَدَمُ الانتقاضِ (3)، وبه قالَ أبو حَنيفةَ (4).
* * *
(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 275)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (3/ 404).
(2)
عند المالكية: ينتقض عهد الذمي بالطعن في الدين. انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 461).
(3)
الأصح عند الشافعية: أنه إن شرط انتقاض العهد بها انتقض، وإلا فلا. والأمر ليس على إطلاقه، وفي المسألة تفصيل.
انظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص: 164)، و"روضة الطالبين"(10/ 330)، و"منهاج الطالبين" كلاهما للنووي (ص: 140).
(4)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 275).
162 -
(8) قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17].
أكثرُ المُفَسِّرينَ حَمَلوا العبارَةَ هنا على دُخولِ المَسْجِدِ الحَرامِ، والقُعودِ فيه، قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إذا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتادُ المَسْجِدَ، فاشْهَدوا لهُ بالإيمان"(1)، وإنَّ الله تعالى قال:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18]، فنفى الله تعالى ذلك عنهم.
قال الحَسَنُ: يقول: ما كانَ للمشركين أن يُتْرَكوا فيكونوا أهلَ المسجدِ الحرام (2).
وهذا مَحْصورٌ على المشركِ، حتى لو أَوْصى بهِ لم تُقْبَلْ وصيتُه.
* * *
163 -
(9) قوله عز وجل: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].
قد سبقَ الكلامُ على مثل هذهِ الآيةِ في هذهِ السورة، وإنما ذَكَرَ هذهِ الصِّفاتِ للبيانِ والمَدْحِ بها، كذلكَ صفاتُ عبادِه المؤمنين، لا للاشْتِراطِ
(1) رواه الترمذي (3093)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة التوبة، وابن ماجه (802)، كتاب: المساجد والجماعات، باب: لزوم المساجد وانتظار الصلاة، والإمام أحمد في "المسند"(3/ 68)، والدارمي في "سننه"(1223)، وابن خزيمة في "صحيحه"(1502)، وابن حبان في "صحيحه"(1721)، والحاكم في "المستدرك"(770)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 66)، عن أبي سعيد الخدري.
(2)
انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (2/ 274).
والتعليق، وذكرتُ ما فيهِ من الاختلافِ.
وقصدَ اللهُ سبحانَهُ بهذا الردِّ على المشركين افتخارَهُمْ بذلكَ.
ثم قال: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 19] الآية.
قال ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- في رواية الوالبي: قالَ العباسُ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ حينَ أُسِرَ يومَ بَدْرٍ: لَئِنْ كنتمْ سبقتمونا بالإسلامِ والهجرةِ والجِهاد، لقد كُنّا نَعْمُرُ المَسْجِدَ الحَرامَ، ونَسْقي الحاجَّ، ونَفُكُّ العانِيَ، فأنزلَ اللهُ تعالى هذهِ الآيةَ، يعني:(أجعلتمُ سِقايةَ الحاجِّ)(1).
فأخبرَ أَنَّ عِمارتَهُمُ المَسْجِدَ، وقيامَهُمْ على السِّقايةِ لا يَنْفَعُهُمْ معَ الشِّرْكِ باللهِ، وأَنَّ الإيمانَ باللهِ والجهادَ معَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرٌ مِمّا هُمْ عليه.
فإن قيلَ: خَرَّجَ مسلمٌ في "صحيحه" عن النُّعْمانِ بنِ بَشيرٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- قال: كنتُ عندَ مِنْبَرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالَ رَجُلٌ: ما أُبالي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلاً بعدَ الإِسلام إلَّا أَنْ أَسْقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلاً بعدَ الإسلامِ إلا أَنْ أَعْمُرَ المَسْجِدَ الحَرامَ، وقال آخَرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أَفْضَلُ مِمَّا قلتُمْ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ وقالَ: لا تَرْفَعوا أصواتَكُم عندَ مِنْبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الجُمُعَةِ، ولكنْ إذا صليتُ الجمعة، دخلتُ فاستَفْتَيْتُهُ لكم فيما اختلفتُمْ فيه، فأنزلَ اللهُ تعالى:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 19] الآية (2).
وهذا يدلُّ على أنها لم تنزِل رَدًّا على مُشْركيهم، وإنما نزلتْ في المؤمنين.
(1) رواه الطبري في "تفسيره"(10/ 95)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(6/ 1768).
(2)
رواه مسلم (1879)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الشهادة في سبيل الله.
قلنا: أجابَ بعضُ المفسرينَ أن بعضَ الرواةِ تسامَحَ في قولهِ: فأنزل اللهُ الآيةَ، وإنَّما المرادُ قراءةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الآيةَ على عُمَرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- حين سأله، فظنَّ الراوي أنها نزَلَتْ حينئذ، وإنما استدلَّ بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَتَلا على عُمَرَ ما قدْ أُنْزِلَ عليه، لا أَنَّها نزلتْ في هؤلاء (1).
وهذا جوابٌ حَسَنٌ، ويدلُّ عليهِ قولُه تعالى {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] ، والظالمون يومئذٍ أهلُ مكة.
فإن قيل: يجوزُ الاستدلالُ على المؤمنينَ بما أُنزلَ على المشركين؟
قلنا: ليس ذلكَ ببعيدٍ؛ فقد قالَ عمرُ -رضيَ الله تعالى عنه- لو شِئْنا لاتَّخَذْنا سَلائِقَ (2) وشوى (3)، وتوضَعُ صَحْفَةٌ، وترفَعُ أُخرى، ولكِنّا سَمِعْنا قولَ الله تعالى:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} (4)[الأحقاف: 20] ،
(1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 92).
(2)
كذا في "أ" و"ب": "السلائق" -بالسين- وهي ما سُلِق من البقول؛ قال الأزهري: معناه طُبخ بالماء من يقول الربيع، وأُكل في المجاعات. "اللسان" (مادة: سلق) (10/ 160).
ووقع في "الزهد" لابن المبارك، و "طبقات ابن سعد":"الصلائق" -بالصاد- وفسرها الراوي بالخبز الرقاق.
(3)
شوى: شَوَى اللحم شيئَّا فانشوى واشتوى. والاسم الشواء.
"اللسان"(مادة: شوي)(14/ 446).
قلت: ومعنى الكلام: أي لو أردنا أن نتخذ من أصناف الطعام المطبوخ والمشوي لقدرنا على ذلك.
(4)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 204)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 279)، ولفظ ابن المبارك: قال عمر: إني والله! لقد أرى تعذيركم وكراهيتكم طعامي، وإني والله! لو شئْتُ لكنْتُ أطيبكم طعامًا وأرقكم عيشًا، أما والله! ما أجهل عن كراكر وأسنمة، وعن صلاء وعن صلائق وصناب قال جرير: =
فاستدَلَّ بِما وردَ في المُشركين عندَ وجودِ الصِّفةِ، ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ.
* * *
164 -
قيل: نزلَتْ فيمَنْ لم يهاجرْ مِمَّنْ أَسْلَمَ وآثَرَ حُبَّ أبيهِ وأخيهِ على حُبِّ اللهِ ورَسولهِ.
ولا شَكَّ أن المرادَ بهذهِ الموالاةِ حُبُّهم وحُبُّ أفعالِهم منَ الشِّرْكِ كما بيَّنَها اللهُ تعالى في قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24] ومَنْ أَحَبَّ فِعْلَ مُشْرِكِ، فقدْ كَفَرَ، ومنْ أَحَبَّ مُشْركًا أَكْثَرَ منَ الله تبارك وتعالى، ومِنْ رسولهِ صلى الله عليه وسلم، فقد كَفَرَ؛ فإنه لو أبغضَ فعلَه الذي هو الكُفْرُ باللهِ حقيقةَ البُغْضِ لأَبْغَضَهُ.
وليسَ المرادُ بهذهِ المُوالاةِ البّرَ والإحْسانَ، فقدْ أَوجبَ اللهُ سبحانَهُ ذلكَ في كتابِه العزيزِ فقال:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272] ، ولو كانَ المرادُ
= الصلاء الشواء، والصناب: الخردل، والصلائق: الخبز الرقاف ولكني سمعت الله تعالى عيَّر قومًا بأمرٍ فعلوه، فقال:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} .
بالولاية (1) هُنا هُوَ البِرَّ والإحسانَ، لما سَمَّاهُمْ ظالِمين، ولا فاسِقين (2).
* * *
166 -
(12) قوله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28].
* أمرنا اللهُ سبحانَهُ بحرمانِ المُشركينَ المسجدَ الحرام، ونَبَّهَنا على العِلَّةِ المُوجِبَةِ لِحِرْمانِهِم، وهي النَّجَسُ.
والنَّجَسُ: الشيءٌ المُسْتَقْذَرُ مِنْ كُل شيءٍ، قاله اللَّيْثُ (3).
وهو يقعُ على كل مُسْتَقْذَرٍ حِسًّا: كالمَيْتَةِ، والعَذِرَةِ، وعلى كُلِّ مُسْتَقْذَرٍ مَعْنًى: كالجنابَةِ، وسائِرِ الأَحْداثِ (4).
فيحتملُ أن يكونَ وصفَهم بالنجسِ؛ استقذارًا لَهُمْ؛ لكفرِهم، ويدلُّ عليه قولُ مُقاتِلِ: أي: هم خُبَثاءُ نَجَسٌ (5) بالكُفْرِ ظاهِرًا، وبالعَداوَةِ باطنًا (6).
(1)"بالولاية": ليس في "أ".
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 278)، و "أحكام القرآن" لابن العربي (462/ 2).
(3)
انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (7/ 146).
(4)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 4 - 5)، و"لسان العرب"(6/ 226) مادة (نجس)، و "أساس البلاغة" للزمخشري (620).
(5)
"نجس": ليس في "أ".
(6)
روى الطبري في "تفسيره"(10/ 105)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (6/ 1775) عن قتادة في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ؛ أي: أجناب.
وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره"(6/ 1775) عن ابن عباس قوله: في قوله: =
ويحتملُ وصفُهم بذلكَ لعدمِ تَطَهُّرِهِمْ من النجاسَةِ، والمعنى: ذَوو نَجَسٍ، وإليه يرشدُ قولُ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: يريد: لا يَغْتَسِلونَ من الجَنابة، ولا يَتَوَضَّؤون للهِ، ولا يُصَلُّون لهَ.
ويحتملُ أن يكونَ وصفَهم لنجاسةِ أعيانِهم، ويروى القولُ بنجاسَةِ أعيانِهم عن ابنِ عباسٍ، والحَسَنِ -رضي الله تعالى عنهم- (1).
وأوجبَ الحَسَنُ على مَنْ صافَحَهُمُ الوُضوءَ (2).
ويدلُّ عليه مفهومُ قولهِ صلى الله عليه وسلم لأبي هُريرةَ -رضي الله تعالى عنه-: "إنَّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ حَيًّا ولا مَيْتًا"(3).
وهذان (4) الاحتمالانِ ضعيفانِ، وحديثُ أبي هريرة مُتَأَوَّل، ويدلُّ على ذلكَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَبَطَ ثُمامَةَ بْنَ أُثالٍ في المسجدِ (5)، ودخلَ أبو سفيانَ
= {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ، قال: النجس: الكلب والخنزير. وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 103).
(1)
انظر: "الكشاف" للزمخشري (2/ 248)، و"تفسير الطبري"(8/ 103).
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(25727)(5/ 247)، والطبري في "التفسير"(10/ 206).
(3)
رواه البخاري (281)، كتاب: الغسل، باب: الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره، ومسلم (371)، كتاب: الحيض، باب: الدليل على أن المسلم لا ينجس، عن أبي هريرة بلفظ:"المؤمن لا ينجس"، وقد رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(11134)، وعلقه البخاري في "صحيحه"(1/ 432)، عن ابن عباس موقوفًا عليه من قوله بلفظ: "المؤمن لا ينجس
…
" وعند البخاري: "المسلم".
(4)
حصل في نسخة "ب" هنا سقط بمقدار لوحة كاملة، يبتدأ من قوله هنا:"وهذان الاحتمالان ضعيفان" وينتهي بقوله: (ص: 332): "فإن قلتَ: فأهل الكتابِ يقرون بالله واليوم الآخر .. ".
(5)
رواه البخاري (450)، كتاب: المساجد، باب: الاغتسال إذا أسلم، وربط =
مسجدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو مشركٌ عندَ إقبالِه لتجديدِ العهدِ حينَ خَشِيَ نَقْضَهُ بما أَحْدَثَهُ بنو بكرٍ على خُزاعَه (1).
ورُوي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنزلَ وَفْدَ ثَقيفٍ في المَسْجِدِ، فقيلَ: إنَّما هم قَوْمٌ أنجاسٌ، فقال:"ليسَ على وَجْهِ الأَرْضِ منْ أَنْجاسِ الناسِ شيءٌ، إنما أنجاسُهم على أَنْفُسِهِمْ"(2).
والحقُّ أن مَنْعَهُمْ ذلكَ لتشريفِ البُقْعَةِ الطَّاهِرَة مِنَ النَّجَسِ مَعْنَّى؛ لأنهُ أعظمُ مَفْسَدَةً من النَّجَسِ حِسًّا، ولم يأمُرِ اللهُ سبحانَهُ بتطهير المَسْجِدِ الحَرام الذي هو المُرادُ في هذهِ الآيةِ، وهو الحَرَمُ، منَ النجاسَةِ الحِسّيَّةِ أبدًا.
وقد بَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم صِفَةَ هذا التَّنْزيهِ فيما بَعَثَ بهِ عَلِيًّا -رضي الله تعالى عنه- ليبلغ عنهُ: ألا يَحُجُّ بعدَ العامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطوفُ بالبيتِ عُرْيانُ (3).
وجَوَّزَ أبو حنيفةَ للذِّمِّيِّ دُخولَ المَسْجِدِ الحَرامِ، حتى الكعبةِ (4).
واستدلَّ بحديثِ ثُمامَةَ بنِ أُثالِ، ووَفْدِ ثَقيفِ، وخَصَّصَ الآيةَ بمُشْركي العَرَبِ؛ لأنه لا يُقْبَلُ منهم إلا الإِسلامُ، أو السيفُ.
وتَخْصيصُهُ تَحَكُّمٌ لا دليلَ عليه؛ لأن اللهَ سبحانَهُ شَرَعَ ذلكَ تَنْزيهًا
= الأسير أيضًا في المسجد، ومسلم (1764)، كتاب: الجهاد والسير، باب: ربط الأصير وحبسه وجواز المن عليه، عن أبي هريرة.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(36902)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 312)، عن عكرمة مرسلًا، ورواه ابن حبان في "صحيحه"(5996)، عن ابن عمر، في حديث طويل.
(2)
رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 13)، عن الحسن البصري مرسلًا.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
انظر: "بدائع الصنائع" للكاسانى (5/ 128)، و "العناية شرح الهداية" للبابرتي (10/ 229).
وتَقْديسًا لِمَسْجِدِهِ الحَرامِ، وبينَ أن العِلَّةَ في ذلكَ هيَ نَجَسُ المشركينَ، والحَرْبِيُّ والكتابِيُّ في هذا المَعْنى سَواءٌ، فلا يُمَكَّنُ من دُخولِ الحَرَمِ، فإن تَعَدَّى ودَخَلَ وماتَ، نُبِشَ قَبْرُهُ، وأُخْرِجَ، وإن تَغَيَّرَ واستَرَمَّ (1)(2).
* ثم بَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ كتابِ الله تَعالى أَنَّ لحريمِ المَسْجِدِ الحَرام منَ التنزيهِ ما للمسجدِ؛ صيانَةً للحَرَمِ، فأجلى اليَهودَ منَ المدينةِ، وأوصى في مَرَضِ مَوْتهِ بإخْراجِ المُشْركينَ من جَزيرةِ العربِ (3).
فأخذَ قومٌ بعُمومِ الإطْلاقِ في الجزيرةِ.
وجزيرةُ العَرَبِ في قَوْلِ الأَصْمَعِيِّ من أَقْصى عَدَنٍ وما والاها منْ أرضِ اليَمَنِ كُلِّها إلى أطرافِ الشامِ طولًا، ومِنْ جُدَّةَ وما والاها منْ ساحِلِ البَحْرِ إلى أَقْصى العِراقِ عَرْضًا (4).
وفي قولِ أبي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بنِ المُثَنَّى: ما بَيْنَ حفرِ أبي موسى إلى أقصى
(1) استرم: رمَّ العَظمُ يَرِمُّ رِمَّةً: بليَ والرَّميمُ: الخَلَقُ البالي من كل شيء.
"اللسان"(مادة: رمم)(12/ 53).
(2)
ذهب الشافعية والمالكية والحنابلة إلى منع دخول المشرك المسجد الحرام، ثم إنهما اختلفوا هل يعمم الحكم على كل المساجد أم يبقى مخصوصًا بالمسجد الحرام؟ انظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (14/ 335)، و "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 469)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 286).
(3)
وذلك كما في البخاري (2888)، ومسلم (1637) عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاثٍ منها: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب".
(4)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 93).
وانظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 67)، "شرح مشكل الآثار" للطحاوي (7/ 188)، و "الفائق" للزمخشري (1/ 209)، و "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 169).
تِهامَةِ اليَمَنِ طولًا، وما يَبْرينَ إلى مُنْقَطَعِ السَّماوَةِ إلى ما وراءَ مَكَّةَ عرضًا.
قال: وما كانَ دونَ ذلكَ إلى أرضِ العراقِ، فهو نَجْدٌ (1).
وخَصَّهُ الشافِعيُّ بالحِجازِ، وهي مَكَّةُ والمَدينةُ واليَمامَةُ ومخاليفُها، أي: قُراها وأعمالُها (2).
قال إمامُ الحَرَمَيْنِ: قال الأصحابُ: الطائِفُ ووَجٌّ (3) وما يُضاف إليها منسوبةٌ إلى مَكَّةَ، معدودةٌ من أعمالِها، وخَيْبَرُ من مخاليفِ المَدينة (4).
وزادَ مالكٌ: اليَمَنَ ومَخاليفَها (5).
واستدل الشافعيُّ على التَّخْصيصِ بأنه لم يُعْلَمْ أَحَدٌ من الخُلَفاء أَجْلى مَنْ في اليَمَنِ من أهلِ الذِّمَّةِ، وهيَ من جزيرةِ العربِ (6).
* ثم اختلفوا أيضًا في إلْحاقِ هذه المواطِنِ الشريفَةِ ما كانَ في مَعْناها من سائرِ البِلاد.
فألحقها مالِكٌ، وقال: يُمْنَعون منَ المساجِد كُلِّها (7).
ولم يلحقْها الشافِعيُّ، وجَوَّزَ لهم دُخولَها بشرطِ اسْتِئذانِ أحدِ
(1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 67).
(2)
انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (7/ 130)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 76).
(3)
وَجٌّ: واد في الطائف، أو موضع بناحية الطائف.
(4)
انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 308).
(5)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 246)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 104).
(6)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (4/ 178).
(7)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 104)، و "الذخيرة" للقرافي (3/ 459).
المسلمين، واستدلَّ بحديثِ ثُمامَةَ بنِ أُثالٍ وأبي سفيان (1).
* * *
167 -
(13) قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
قد قدمتُ في "سورةِ البقرةِ" و"الأنفالِ" كيفيةَ الجَمْع بِينَ هذهِ الآيةِ وبينَ ما يعارِضُها.
ومن أجلِه قَصَرَ الشافِعِيُّ -رحمه الله تعالى- قَبولَ الجِزْيَةِ على أهلِ الكِتابِ؛ لمَفْهومِ هذه الآية، ولمفهومِ قوله صلى الله عليه وسلم في المَجوسِ:"سُنُّوا بهِم سُنَّةَ أهلِ الكِتابِ"(2)؛ وهذا يَقْتَضي تَخصيصَ سُنَّةِ الجِزْيَةِ بأهلِ الكتاب (3).
وفي مذهبهِ اختلافٌ في إِلحاق السَّامِرَة (4)، والصَّابِئينَ (5)، والمُتَمَسِّكينَ بِصُحُفِ إبراهيمَ وزَبورِ داودَ بأهلِ الكِتاب (6).
(1) انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 80)، و "شرح مسلم" للنووي (12/ 87).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 223)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 39).
(4)
السامرة: قبيلة من قبائل بني إسرائيل، قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم، إليهم نسب السامري.
انظر: "المحلل والنحل" للشهرستاني (1/ 218)، و "لسان العرب" لابن منظور (4/ 380).
(5)
الصابئون: صنف من النصارى وافقوهم على بعض دينهم وخالفوهم في بعضه، وقد يسمى باسمهم ويضاف إليهم قوم يعبدون الكواكب ويعتقدون أنها صانعة مدبرة. انظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 223).
(6)
انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 250)، و"الوسيط" للغزالي (7/ 61).
وذهب قومٌ إلى قَبولِ الجِزْيَةِ من كُلِّ مُشْرِكٍ، واعتمدوا حديثَ سُلَيْمانَ بنِ بُرَيْدَةَ الذي قَدَّمْتُهُ في "سورةِ البقرة"، وبهذا قالَ مالِكٌ (1).
وذهبَ آخرون إلى استثناءِ مُشْرِكي العرب، وبهِ قالَ أبو حنيفة (2).
ونقلَ بعضُ العلماءِ الاتفاقَ على استثناءِ القُرَشِيِّ، فلا يُقْبَلُ منه الجِزْيَةُ.
واختلفوا في عِلَّتِهِ: فقيلَ: تشريفًا لهُ عن الذِّلَّةِ والهَوان؛ لمكانِهِ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: لأنَّ قُرَيْشًا كانَتْ آمَنَتْ بعدَ الفَتْحِ، فلا يُقْبَلُ منه إلا الإِسلام (3).
ومُقْتَضى الخِطابِ أنهم إذا بَذَلوا الجِزْيَةَ، وَجَبَ الكَفُّ عن قتالِهم، وهو كذلكَ، إلا أن يُخاف غائِلَتُهم (4)، ويُخْشى منهمُ المَكْرُ والخَديعةُ.
وإذا بذلوا الجزيةَ فلا يجُب عليهم إعطاؤها إلَّا بعدَ الحَوْلِ من وقتِ التزامِها، فالإعطاءُ هو الالتزامُ، لا حقيقةُ الإيتاء.
* ومتى وَجَبَ قَبولُ الجِزْيَةِ، فلا بُدَّ من اقترانِها بالصَّغارِ والهَوانِ؛ كما أمرَ اللهُ سبحانه.
والصغارُ عندَ الشافِعيُّ، هو: التزامُهُمْ لِجَريانِ أحكامِ الإِسلامِ عليهم في عَقْدِ الذِّمَّةِ (5).
(1) انظر: "الكافي" لابن عبد البر (ص: 217).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 283)، و "البحر الرائق" لابن نجيم (5/ 120).
(3)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 111).
(4)
غائلتهم: الغَول: الخيانة، الغائلة والمَغَالة: الشَّرُّ، والغوائل: الدواهي.
"اللسان"(مادة: غول)(11/ 509).
(5)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (4/ 176).
وقالَ بعضُهم: هو أن تُؤْخَذَ منهمُ الجزيةُ من قِيامٍ، والآخِذُ قاعدٌ، ويروى عن عكرمة (1).
وزاد أبو حامدٍ الغزاليُّ: وأن يَضْرِبَ بيدِه في لَهْزَمَتِهِ (2)، وأنكرَهُ عليهِ أَبو زَكَرِيّا النَّوَوِيُّ، ومَنَعَهُ، وأَباهُ (3).
وقالَ بعضُهم: أن تؤخذ منهمُ الجزيةُ من قِيامٍ باليَسار.
وقال بعضهم: يمشون بها كارهين (4).
وأمَّا اليَدُ: فتقعُ على القُدْرَةِ مِنّا عليهم مَجازًا.
تقعُ على المِنَّةِ مِنّا عليهِم مَجازًا أيضًا (5)؛ حيث تَرَكْناهُم من القَتْل، وهو قولُ قتادةَ (6).
وتقع على حقيقةِ اليَدِ، وهو أن يُعْطوها بأيديهم، ولا يَبْعَثون بها، وقد فَسَّرَ ابنُ عباس -رضي الله تعالى عنهما- ذلك، فقالَ: هو أن يُعْطوها بأيديهم يَمْشون بِها كارهين، ولا يجيئون بها رُكبانًا، ولا يُرْسِلون بها (7).
(1) رواه الطبري في "التفسير"(10/ 110)، ولفظه: قال عكرمة: "أي: تأخذها وأنت جالس وهو قائم".
(2)
اللِّهْزِمَة: عظم ناتئ في اللّحى تحت الأذن. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 559).
(3)
انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 315).
(4)
انظر: "تفسير الثعلبي"(5/ 29)، و "تفسير الواحدي"(1/ 460).
(5)
انظر: "المحكم" لابن سيده (9/ 366).
(6)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 480).
(7)
ذكره الطبري في "التفسير"(10/ 110) وقال: روي عن ابن عباس بوجه فيه نظر.
وإن رأى الإمامُ المَصْلَحَةَ في وَضْع الصَّغارِ عن بعضِ أهلِ الكِتابِ على الخُصوص، جازَ؛ كما فعلَ عُمَرُ -رضي الله تعالى عنه- في نَصارى العرب، وهُمْ بَهْراءُ وتنَوخُ وَتغْلِبُ لَمّا امْتَنَعوا من بَذْلِ الجِزْيَةِ، وقالوا: نحنُ قومٌ عربٌ، لا نُؤَدِّي الجِزْيَةَ كما تُؤَدَّي العَجَمُ، ولكنْ خُذْ مِنّا بِاسْمِ الصَّدَقَةِ كما تَأْخُذُ من العربِ، فامتنعَ عمرُ من ذلك، فنفروا من ذلك، ولَحِقَ بعضُهُم بالرُّومِ، فقالَ النُّعْمانُ بنُ زُرْعَةَ، أو زُرْعَةُ بنُ النُّعْمانِ: يا أميرَ المؤمنين! إنَّ فيهم بأسًا وشِدَّةً، وإنهم عَرَبٌ يَأنَفونَ من الجِزْيَةِ، فلا تُعِنْ عَدُوَّكَ عليكَ، فخذ منهمُ الجزيةَ باسمِ الصَّدَقَةِ، فبعث إليهم عُمَرُ، ورَدَّهُمْ، وضاعَفَ عليهمُ الصَّدَقَةَ (1).
* فإن قلتَ (2): فأهلُ الكِتابِ يُقِرُّونَ بالله واليَوْمِ الآخِرِ، فما وَجْهُ وَصْفِهم بأنَّهم لا يؤمنونَ باللهِ ولا باليومِ الآخِرِ؟
قلنا: قد بيَّنَ اللهُ جل جلاله، وتقدَّسَتْ أسماؤه- وَجْهَ كُفْرِهِمْ بهِ، وعَدَمَ تقديسِهم لهُ، فقالَ حاكيًا عَنْهُمْ:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] ثم قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون} [التوبة: 31]، وقالوا في اليوم الآخر بافترائهم على الله سبحانه:{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]، وقالوا:{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] فهم لم يُؤْمِنوا بالله، ولا باليومِ الآخِرِ، ولم يَدينوا دِيْنَ الحَقِّ.
* ولما أمرَ اللهُ سبحانه وتعالى بقتالِ أهلِ الكتابِ، وكانَ لا يقاتِلُنا منهم
(1) رواه أبو عبيد في كتاب "الأموال"(ص 37)، وابن حزم في "المحلى"(6/ 112).
(2)
إلى هنا ينتهي السقط المشار إليه في نسخة "ب" كما تقدم (ص: 325).
إلا الرجالُ البالِغونَ القائِمونَ بالقِتال، استدلَلْنا بهذا (1) على أنَّ من لا قِتال منه؛ كالنِّساءِ والصِّبيانِ والرُّهْبانِ لا جِزْيَةَ عليهم؛ لكونِهم في أمانٍ من قَتْلِنا إياهُم، فلا يحتاجون إلى بَذْلِ جزيةِ الكَفِّ عنهم، وعلى هذا المعنى الذي اسْتَنْبَطَهُ أهلُ العِلْمِ دَلَّتِ السنَّةُ على اعتبارهِ.
فرُويَ أَنَّ عُمَرَ -رضيَ الله تعالى عنه- كتبَ إلى أمراءِ الأجناد: أَلاّ يَأْخُذوا الجِزْيَةَ من النِّساءِ والصِّبْيانِ (2).
* ثم اختلفوا في تفصيلِ هذا الاستنباطِ، هلِ الجزيةُ بدلٌ عن الدمِ خاصَّةً، أو بدلٌ عن الدَّمِ وسُكنى الدار؟
فيه خلافٌ، وبالأولِ أخذَ مالِكٌ (3)، وبالثاني أخذَ الشافِعِيُّ (4)، وقولُ مالِكٍ هُنا هو الظاهِرُ.
ويظهر أثرُ الخِلاف فيما إذا أسلمَ في أثناءِ الحَوْلِ، هل يجبُ عليهِ تسليمُ القِسْط؟ (5)
* وأطلقَ اللهُ سبحانَهُ الجزيةَ، ولم يَحُدَّها بِحَدٍّ.
وروي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "خُذْ منْ كُلِّ حالِمٍ دينارًا، أو عَدْلَهُ ثَوْبَ
(1)"بهذا": ليس في "أ".
(2)
رواه سعيد بن منصور في "سننه"(2/ 282)، وعبد الرزاق في "المصنف" (10096): أن عمر رضي الله عنه كان يكتب إلى أمراء الأجناد: "ألاّ يقتلوا إلا من جرت عليه المواسي، ولا يأخذوا الجزية إلا ممن جرت عليه المواسي، ولا يأخذوا من صبي ولا امرأة".
(3)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي "2/ 481"، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/ 113).
(4)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (14/ 313)، و "المهذب" للشيرازي (2/ 227).
(5)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 249).
مَعافِرَ" (1)، وهي ثيابٌ منسوبةٌ إلى معافِرَ من أرضِ اليَمَنِ، وبهذا أخذ أحمدُ في تحديدِ الجزيةِ، فلا يُزادُ عليه ولا يُنْقَصُ منه.
وجعله الشافعيُّ تحديدًا لأقلِّ الجزيةِ؛ لأنه لم يُنْقَلْ أَقَلُّ منها، ولا حَدَّ لأكثرِها، بل هو (2) ما يوافِقُهُمْ عليهِ الإمامُ (3).
وأخذ مالكٌ بما فَرَضَه عُمَرُ -رضي الله تعالى عنه- (4)، ففرضَ على أهلِ الذَّهَبِ أربعةَ دنانير، وعلى أهل الوَرِقِ أربعين دِرْهَمًا، ومع ذلك أرزاقُ المسلمين، وضيافَةُ ثلاثةِ أيامِ، لا يُزادُ عليهِ، ولا يُنْقَصُ منه (5).
وروي عنهُ أيضًا (6) أنه بَعَثَ عُثْمانَ بنَ حُنَيْفٍ، فوضعَ الجزيةَ على أهلِ السوادِ ثمانيةً وأربعينَ دِرْهَمًا (7)، وأربعةً وعشرينَ، واثني عَشَرَ (8)، وبهذا
(1) رواه النسائي (2450)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة البقر، والترمذي (623)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في زكاة البقر، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 230)، وعبد الرزاق في "المصنف"(6841)، وابن خزيمة في "صحيحه"(2268)، وابن حبان في "صحيحه"(4886)، والدارقطني في "سننه"(2/ 102)، والحاكم في "المستدرك"(1449)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 98)، عن معاذ بن جبل.
(2)
"و": ليس في "أ".
(3)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (4/ 179)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (14/ 299).
(4)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 244)، و"الذخيرة" للقرافي (3/ 451).
(5)
رواه مالك في "الموطأ"(1/ 279).
(6)
"أيضًا": ليس في "أ".
(7)
"درهمًا"ـ ليس في "أ".
(8)
رواه أبو عبيد في "الأموال"(ص: 50)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 134).
أخذَ أبو حنيفةَ، فخالَفَ بينَ الغَنِيِّ والفقيرِ، والمُعْتَمِلِ والمُتَوَسّطِ (1).
ولما رأى قومٌ أن ليسَ في التقديرِ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حديثٌ متفق على صِحَّته، ورأوا هذا الاختلافَ في التقديرِ، استدل على أنه باجتهادِ عمرَ -رضي الله تعالى عنه-، فأخذوا بظاهِرِ الكتِابِ، وقالوا: لا حَدَّ فيه، بل الحَدُّ مَصروفٌ إلى اجتهادِ الإمامِ، وبهذا قال الثَّوْرِيُّ وهو مذهبٌ قَوِيُّ الذَّليلِ (2).
* * *
(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 290)، و"شرح فتح القدير" لابن الهمام (6/ 46).
(2)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 246)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 295).