الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام الطهارة)
182 -
(1) قولُه جل جلاله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)} [النحل: 80].
أقولُ: هذه الآيةُ تشتملُ على حكمينِ:
الأول: في جلود الأنعام، أطلقَ اللهُ سبحانَهُ الانتفاعَ بجلودِها، ولمْ يُقَيِّدْه بالذَّكاةِ قبلَ المَوْتِ، ولا بالدِّباغِ بعدَ الموتِ، فأخذَ الزهريُّ والليثُ بجَواز (1) الانتفاعَ بجلد المَيْتَةِ قبلَ الدِّباغِ (2).
فإن قلتَ: هذا الإطلاقُ يعارضُهُ عمومُ قولِه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، والواجبُ عندَ تعارُضِ العُمومَيْنِ أَلَّا يُقَدَّمُ أحَدُهما على الآخَرِ إِلَّا بدليلٍ.
قلتُ: لهما أن يقولا: ليستْ آيةُ "البقرةِ"(3) عامَّةً مُعارِضَةً لهذهِ الآية،
(1) في "أ": " فجوَّزا".
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 142)، و"التمهيد" لابن عبد البرّ (4/ 156)، و"التفسير الكبير" للرازي (5/ 15)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (10/ 156).
(3)
وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ
…
...
…
...
…
...
…
...} [البقرة: 173].
فإنما المقصودُ منها تحريمُ الأكل؛ بدليلِ قولهِ صلى الله عليه وسلم في شاةِ مَيْمونَةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنها-: "أَلا انْتَفَعْتُمْ بجلدِها" فقالوا: يا رسول الله إنها ميتةٌ، فقالَ:"إنَّما حرمَ أكلُها"(1).
وأبى عامةُ أهلِ العلمِ إلَّا تقييدَ هذهِ الآيةِ بجلودِ الأنعام المُذَكَّاةِ أو بِما بعد الدِّباغِ، واستدلُّوا بقولهِ صلى الله عليه وسلم:"أَيُّما إهابٍ دُبغَ فَقَدْ طَهُرَ"(2)، وبقوله صلى الله عليه وسلم في شاةِ مَيمونَة:"هَلّا أخذتُمْ إهابَها فَدَبَغْتَمُوهُ فانْتَفعْتُمْ بهِ"(3).
وقد أفتى بطهارَتهِ عاقَةُ الفُقَهاءِ من أهلِ الحجازِ وغيرِهم (4)، إلا مالكًا؛ فإنَّه قالَ في روايةِ ابنِ عبدِ الحَكَمِ: لا يَطْهُرُ بالدِّباغِ، ولكنَّهُ ينتفع بهِ في الأشياءِ اليابسةِ، ولا يُصَلَّى عليه، ولا يؤكل فيه، والمشهورُ عنهُ مثلُ عامةِ الفقُهاء (5).
وأبعدَ أحمدُ فمنعَ الانتفاعَ بالجُلودِ بعدَ الدِّباغِ (6)، واستدلَّ بما خَرَّجَهُ
(1) رواه البخاري (1421)، كتاب: الزكاة، باب: الصدقة على موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم (363)، كتاب: الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ، عن ابن عباس.
(2)
رواه مسلم (366)، كتاب: الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ، والنسائي (4241)، كتاب: الفرع والعتيرة، باب: جلود الميتة وغيرها، عن ابن عباس، وهذا لفظ النسائي.
(3)
رواه مسلم (363)، كتاب: الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ، عن ابن عباس.
(4)
انظر: "المجموع" للنووي (1/ 271) وما بعدها، و"الهداية" للمرغيناني (1/ 20)، و "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 85)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 57)، و "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 101).
(5)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البرّ (4/ 156)، و "الاستذكار" لابن عبد البرّ (5/ 300).
(6)
انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 53)، و "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 54).
أبو داودَ عن عبدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ قال: قُرئ علينا كتابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بأرضِ جُهَيْنَةَ، وأنا غلامٌ شابٌّ: أَلَّا تسْتَمْتِعوا منَ المَيْتةِ بإهابٍ ولا عَصَبٍ (1).
وفي بعض رواياتِه: قَبْلَ موتِه بشَهْرٍ (2).
وهذا القول ضعيفٌ؛ لأنَّ يحيى بنَ معينٍ ضَعَّفَ هذا الحديثَ، وقال: ليسَ بشيءٍ، إنما يقولُ: حَدَّثَنا الأَشْياخُ، وإن كانَ ثابِتًا، فالإهابُ إنَّما يقعُ على ما لَمْ يُدْبَغْ، وإن أُطْلِقَ عليهِ وإطلاقُه مقيَّدٌ بقولهِ صلى الله عليه وسلم:"أَيُّما إهابٍ دُبغَ فقدْ طَهُرَ"(3)، فهذا عمومٌ مُؤَكَّدٌ بـ (ما) الزائدةِ، مُقَيَّدٌ بالدِّباغِ، محكومٌ له بالطهارة، يكادُ يُشارِفُ النَّصَّ.
* ولأجل هذا اختلفوا في جلدِ الكلبِ والخِنْزيِر هل يَطْهُرانِ بالدِّباغ أو لا؛ فذهبَ داودُ وسحنونٌ وابنُ عبدِ الحكمِ إلى طهارتهِ؛ عملًا بعُموم هذا الحديثِ (4).
ومنعَهُ الشافعيُّ مُطْلَقًا؛ لأنه -وإنْ كانَ عامًا - فلا يتناولُ صورةً نادرةً؛ لأنَّ العربَ لم يعتادوا الانتفاعَ بجلد الكَلْبِ والخِنزير ودباغِه، ولأنه ليسَ
(1) حصل في نسخة "ب" هنا سقط كبير، يبتدأ من قوله "عصب" إلى قول المؤلف:"جاز لك تقديم أيهما شئت؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} ".
(2)
رواه أبو داود (4127، 4128)، كتاب: اللباس، باب: من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة، والنسائي (4249)، كتاب: الفرع والعتيرة، باب: ما يدبغ به جلود الميتة، والترمذي (1729)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في لبس الفراء، وابن ماجه (3613)، كتاب: اللباس، باب: من قال: لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البرّ (4/ 178)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (10/ 158).
دِباغُهُما بأقوى مِنْ ذكاتهما، والذكاةُ لا تفيدُ في حَقِّهِما طَهارةً (1).
ومنعهُ مالِكٌ في الخِنزيِر وَحْدَهُ؛ لقولِه بطهارةِ الكَلْبِ (2).
الحكم الثاني: الشُّعورُ:
أحلَّها اللهُ سبحانَه مُطْلَقًا:
فيحتمل أن يكونَ مقيَّدًا بما بعدَ الذكاةِ؛ كما تقدمَ تقييدُ الجُلودِ بِما بعد الذكاةِ، أو بعدَ الدِّباغِ.
ويحتملُ أن يكونَ حلالًا مُطْلَقًا على كُلِّ حالٍ؛ لِخُلُوِّها عنِ الحياة، وبهذا قالَ الجمهورُ كأبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعىِّ في أحدِ أقواله (3).
واستحَبَّ المالكيةُ غَسْلَهُ مخافَةَ أنَّ يكونَ عَلِقَ بهِ وَسَخٌ؛ لما رَوَتْ أَمُّ سَلَمَةَ -رضيَ الله تعالى عنها-: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا بَأْسَ بِمَسْكِ المَيْتَةِ إذا دُبِغَ، وشَعْرِها وصوفِها إذا غُسِلَ"(4)، وتأويلُهم هذا أحسنُ من قولِ الحسنِ البصريِّ والليثِ والأوزاعي: إن الشعورَ نجسةٌ، ولكنها تطهُرُ بالغَسْلِ (5).
وقالَ الشافعيُّ في أحدِ أقوالِه بنجاسَتِها إلا مِنْ مُذَكًّى، وهو الصحيحُ
(1) انظر: "الأم" للشافعي (1/ 9)، و "المجموع" للنووي (1/ 271).
(2)
انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 101)، و"القوانين الفقهية" لابن جُزَيّ (ص 26).
(3)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 149)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (10/ 155)، و"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 89)، و"المجموع" للنووي (1/ 289).
(4)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(23/ 538)، والدارقطني في "السنن"(1/ 47)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 24)، وابن الجوزي في "التحقيق"(90/ 1 - 91).
(5)
انظر: "المجموع" للنووي (1/ 295).
عندَ أصحابِه؛ لما فيها منَ النُّمُوِّ، فهي كسائرِ أجزائِهِ.
والراجحُ عندي قولُه الآخَرُ الموافِقُ للجُمهورِ؛ لما قدمتُه، وأما النموُّ، فلا دَلالَةَ فيه على وجودِ الحياةِ وحلُولِ الروح؛ بدليلِ نُمُوِّ النباتِ والأشجار، والله أعلم.
* * *