المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(من أحكام الصيد والذبائح) - تيسير البيان لأحكام القرآن - جـ ٣

[ابن نور الدين]

فهرس الكتاب

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام الشهادات)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌سُورَةُ المَائِدَةِ

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌(من أحكام الأطعمة)

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌(من أحكام الصيد والذبائح)

- ‌(من أحكام الطهارة)

- ‌(من أحكام الحدود)

- ‌(الحرابة)

- ‌(السرقة)

- ‌(من أحكام أهل الكتاب)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الأشربة)

- ‌(من أحكام الهدي)

- ‌(من أحكام الشهادات)

- ‌سُورَةُ الأَنْعَامِ

- ‌(من أحكام الذبائح)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الذبائح)

- ‌(من أحكام اليتامى)

- ‌سُورَةُ الأَعْرَافِ

- ‌(من أحكام اللباس والزينة)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌سُورَةُ الأَنفَالِ

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الهجرة)

- ‌سُورَةُ التَّوْبَةِ

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الصدقة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌سُوْرَةُ يُوسُفَ

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌سُوْرَةُ النَّحْلِ

- ‌(من أحكام الطهارة)

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌سُوْرَةُ الإسْراءِ

- ‌(من أحكام البر والصلة)

- ‌(من أحكام القصاص)

- ‌(من أحكام البيوع)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌سُوْرَةُ الأَنْبيَاءِ

- ‌(من أحكام المعاملات)

الفصل: ‌(من أحكام الصيد والذبائح)

(من أحكام الصيد والذبائح)

106 -

(3) قوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3].

أقول: فصَّل لنا ربُّنا جل جلاله في هذه الآيةِ ما حَرَّمه علينا، وها أنا أذكره حُكْمًا حُكْمًا.

* أما الميتةُ، فإنها حَرامٌ بإجماعِ المسلمين؛ لهذه الآية، ولغيرِها من الآيات.

* واتفق أهلُ العلم على أن هذا اللفظَ ليسَ على عمومه، واختلفوا في المُخَصِّصِ (1) له.

فذهبَ أبو حنيفةَ إلى تخصيصهِ بكل ما لَا دمَ لهُ، وعمَّمه في سائِر المَيْتاتِ، بريَّةً كانَتِ الميتةُ أو بحريةً (2).

(1) في "ب": "التخصيص".

(2)

يقصدون بميتة البحر: الطافي من غير اصطياد. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص =

ص: 73

واستدلَّ بأمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَقْلِ الذُّبابِ (1) إذا وقعَ في الطعامِ (2)، ورأى أنَّ الدمَ علَّةُ التحريم، يوجدُ باحتباسِه، ويعدَمُ بإهراقه.

وزاد قومٌ آخرون على ما استثناه ميتةَ البحر؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96].

وإليه ذهبَ مالكٌ (3).

وذهب الشافعيُّ إلى استثناءِ ميتةِ البحر خاصَّةً (4)، فجمعَ بين الآياتِ والآثارِ.

أما الآياتُ فخصَّ بخُصوصِ آيةِ البحرِ عمومَ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3].

واستدلَّ على تخصيصها لآية التحريم دونَ أن تكونَ آيةُ الميتةِ مخصِّصَةَ لصيدِ البحر بقوله صلى الله عليه وسلم: "أحِلَّتْ لنا مَيْتَتانِ ودَمانِ"(5) وبقوله صلى الله عليه وسلم في البحر:

= (1/ 135)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 35)، و"الهداية شرح البداية" للمرغيناني (4/ 69).

(1)

مَقْل الذباب: المَقْلُ: الغَمْسُ يقال: مَقَلَه في الماء: غمسه. "القاموس"(مادة: مقل)(ص:953).

(2)

روى البخاري (5445)، كتاب: الطب، باب: إذا وقع الذباب في الإناء، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فليغمسه كله، ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاء، وفي الآخر داء".

(3)

انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 56)، و "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 79)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 318).

(4)

وهو مذهب أحمد. انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (15/ 61)، و"المستصفى" للغزالي (ص: 187)، و "المغني" لابن قدامة (9/ 338).

(5)

تقدم تخريجه.

ص: 74

"هو الطَّهورُ ماؤهُ الحِلُّ مَيْتتهُ"(1)، وبما رواه جابر -رضي الله تعالى عنه-: أنهم أكلوا من الحوتِ الذي رماهُ البحرُ أيامًا، وتزودوا منه، وأنهم أخبروا بذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فاستحسنَ فِعْلَهُم، وسألهم:"هل بقيَ منه شيء؟ "(2)(3).

وضعف الشافعيُّ الاستدلالَ بأن ظاهرَ الكتابِ يقتضي تنويعَ المُحَرَّمِ إلى ميتةٍ ودمٍ، فالميتةُ تَحِلُّ بالذكاةِ، بخلافِ الدمِ، فلا يكون أحدُهما عِلَّةً لتحريم الآخر، ورأى أن العلَّة للمَقْلِ (4) هو ما فَصَّلَتْه الإشارةُ النبويةُ من الداءِ بقوله:"فإنَّ في أَحَدِ جَناحَيْهِ داءً، وفي الآخَرِ دَواءً"(5)، فجعله الشافعيُّ من بابِ العفوِ؛ لِمَشَقَّةِ الضَّرَر، وهذا من محاسنِ نظرهِ - رحمة الله عليه، وعليهم أجمعين (6) -.

فإن قال قائلٌ: فقد أفتى الشافعيُّ بتحليلِ جنينِ الذبيحةِ إذا خرجَ ميتًا (7).

(1) تقدم تخريجه.

(2)

رواه البخاري (2821)، كتاب: الجهاد، باب: حمل الزاد على الرقاب، والإمام أحمد في "المسند"(3/ 303)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"(1954)، وابن الجارود في "المنتقى"(878)، وغيرهم.

(3)

انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (15/ 65)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 86).

(4)

أي: الغمس.

(5)

رواه البخاري (3142)، كتاب: بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 263)، عن أبي هريرة، وهذا لفظ أحمد.

(6)

انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 56).

(7)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 234)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (15/ 148).

ص: 75

قلنا: ألحقهُ الشارعُ بالمُذَكَّى حُكْمًا ولَفْظًا، فقال صلى الله عليه وسلم:"فإنَّ ذَكاتُه ذَكاةُ أُمِّهِ"(1).

وبهذا القولِ قالَ مالكٌ (2)، إلا أنه اشترطَ وجودَ ما يدلُّ على الحياةِ في الجنينِ من تمامِ الخَلْقِ وإنباتِ الشَّعرِ؛ لإشعارِ قوله صلى الله عليه وسلم:"فإنَّ ذَكاتَه ذَكاةُ أُمِّه"؛ فإنه يقتضي كونَه مَحَلًا للذكاة، مع ما روي أن أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: إذا أشعرَ الجنينُ، فذكاتُه ذَكاةُ أُمِّهِ (3).

وأما الشافعيُّ فلم يشترطْ ذلكَ، وتمسك بالمعنى؛ فإنه إنما جعل ذكاتَه؛ ذَكاتَها لكونه جزءًا منها، فلا مَعْنى لاشتراطِ الحياةِ (4)، مع ما روى ابنُ أبي ليلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذَكاةُ الجَنينِ ذَكاةُ أُمِّهِ، أَشْعَرَ أو لَمْ يُشْعِرْ"(5)، لكن هذا مُرْسَلٌ، وابنُ أبي ليلى سَيِّئُ الحفظ عندَ أهل الحديث (6).

(1) رواه أبو داود (2827)، كتاب: الأضاحي، باب: ما جاء في ذكاة الجنين، والترمذي (1476)، كتاب: الأطعمة، باب: في ذكاة الجنين، وابن ماجه (3199)، كتاب: الذبائح، باب: ذكاة الجنين ذكاة أمه، والإمام أحمد في "المسند"(3/ 31)، والدارقطني في "سننه"(4/ 274)، وابن الجارود في "المنتقى"(900)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 335)، عن أبي سعيد الخدري.

(2)

انظر: "الموطأ" للإمام مالك (2/ 490)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 263).

(3)

رواه عبد الرزاق في "المصنف"(8641)، عن عبد الله بن كعب بن مالك.

(4)

وهو قول الحنابلة. انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 234)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (15/ 150)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 319).

(5)

رواه عبد الرزاق في "المصنف"(8649)، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. وقد رواه الدارقطني في "سننه"(4/ 271)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 335)، عن عبد الله بن عمر مرفوعًا، وصحح البيهقي وقفه على ابن عمر.

(6)

أما الحنفية فقالوا: لا يؤكل الجنين إلا أن يكون حيًا فيذكى. انظر: "أحكام =

ص: 76

* وأما الدمُ، فقد أطلقه الله سبحانه هنا، وقيدهُ في موضعٍ آخر بكونه دمًا مسفوحًا، والمسفوحُ هو المَصْبوبُ، قال طَرَفَةُ:[البحر الكامل]

إنِّي وجَدِّكَ ما هَجَوْتُكَ وَإلا

نْصابُ يُسْفَحُ فَوْقَهُنَّ دَم" (1)

* وقد أجمع المسلمون على تحريمِ المسفوحِ؛ لهذه الآية، ولغيرها من الآيات (2).

* واختلفوا في غيرِ المسفوحِ.

فقال الجمهورُ بتحليل القليلِ الغيرِ المسفوحِ؛ تقديمًا لمفهومِ التقييدِ على الإطلاق.

وقال قومٌ بتحريمِ الدَّمِ مطلقًا، إما تقديمًا للقياس على المفهوم؛ فإن كلَّ حَرامٍ لا يَتبَعَّضُ ولا يُفَرَّقُ بين قليلهِ وكثيرِه، وإما حَمْلًا للمفهوم على الجامِدِ كالكَبد والطِّحالِ، بدليلِ الأثرِ:"أُحِلَّتْ لنا مَيْتتَانِ ودَمانِ، أَمَّا المَيْتَتانِ: فالحَوتُ والجَرادُ، وأما الدَّمانِ: فالكَبِدُ والطَّحالُ"(3)(4).

* ثم اختلفوا أيضًا:

فمنهم من عمل بعمومِ اللفظ، فحكمَ بنجاسةِ الدمِ كله من الحيوانِ البرِّيِّ والبحريِّ (5).

= القرآن" للجصاص (1/ 137)، و "المبسوط" للسرخسي (12/ 6).

(1)

انظر "ديوانه": (ق 60/ 1)، (ص: 170)، من قصيدة قالها معتذرًا إلى عمرو بن هند.

(2)

انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (22/ 230).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 291)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 342)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (7/ 124).

(5)

وهو رواية عن الإمام مالك، وقول عند الشافعية، وبه أخذ أبو يوسف من=

ص: 77

ومنهم من خَصَّهُ بغيرِ البحري، فأقاسَ دَم الصيدِ على ميتته، فخصَّصَ العمومَ بالقياسِ، وبهذا قالَ بعضُ الشافعيةِ، ومالكٌ في أحدِ قوليه (1)، والله أعلم.

* وأما ما أُهِلَّ بهِ لغيرِ الله، فإنه حَرامٌ بإجماعِ المسلمين أيضًا، وقد حرمه اللهُ سبحانه في غير موضعين كتابه العزيز، وكرَّر تحريمهُ في أولِ هذهِ الآية، وفي وسطها، فقال:{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3].

* وأصلُ الإِهلال في اللسان: رفعُ الصوتِ عندَ رؤيةِ الهِلال، ثم أطلقَ على رفعِ الصوتِ مُطْلقًا (2)، قال النابغةُ:[البحر الكامل]

أَوْ دُرَّةٍ صَدَفيَّةٍ غَوَّاصُها

بَهِجٌ متى يرَها يُهِلَّ ويَسْجُدِ (3)

ثم أُطلق على رفعِ الصوتِ باسمِ الصَّنَمِ عندَ الذَّبحِ، ثم أطلق على الذبحِ وحدَه؛ لملازمتِه رفعَ الصوتِ في عادتهم.

وهو المرادُ في كتابِ الله تعالى حيث وردَ كما بينه اللهُ سبحانه هنا، فقال:{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3].

فإن قال قائل: فلعلَّ المرادَ بالذي في أولِ الآيةِ غيرُ الذي في آخرها،

= الحنفية. انظر: المصادر التالية.

(1)

وهو قول الحنفية والحنابلة. انظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 47)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 57)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 152)، و"المحلى" لابن حزم (1/ 105)، و"المبسوط" للسرخسي (1/ 87)، و"الكافي" لابن قدامة (1/ 88)، و"المجموع" للنووي (2/ 514)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (2/ 222).

(2)

انظر: "النهاية في غريب الحديث"(5/ 270)، و"لسان العرب"(11/ 702).

(3)

انظر: "ديوانه": (ق 2/ 10)، (ص: 32)، ورواية البيت في الديوان:

كمضيئة صدفية غوّاصها

بهج متى يرها يَهِلَّ ويسجُدِ

ص: 78

فالمراد بالذي في آخرها ما ذُبح على النُّصُب، والمُراد بالذي في أولها ما رُفع بهِ الصوتُ بغيرِ اسم الله، ولم يُذْبَحْ، فيجبُ تحريمهُ إهانةً لشِعار الشركِ؛ كما يجبُ تعظيمُ ما أهِلَّ به للهِ من البُدْنِ تَعظيمًا لِشعائِر اللهِ سبحانه.

قلت: ما أظن أحدًا من أهل العلم قالَ بهذا، بل هو حلالٌ إذا وقع في أيدي المسلمين قبلَ الذبحِ على النُّصُبِ، وإنما كررهُ الله سبحانه تأكيدًا لتحريمِه، فذكَره بلفظَي الحقيقةِ والمَجاز.

* إذا تقرر هذا:

فيحتملُ أن يكونَ المرادُ بقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} [المائدة: 3] العُمومَ لكلِّ ما ذُبِحَ لغير اللهِ، إما لصنمٍ، أو غيرِه.

ويحتمل أن يكونَ المرادُ به الخصوصَ، وهو ما ذُبح باسمِ النُّصبِ خاصّةً؛ بدليلِ قوله تعالى:{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3].

* ولأجل هذا اختلفَ أهلُ العلمِ في الذي ذبحَهُ الكتابيُّ باسمِ الكنائسِ، واسمِ موسى وعيسى- عليهما الصلاة والسلام-.

فمنهم من حَلَّلَهُ، وقصرَ التحريمَ على النُّصُبِ، وإليه ذهبَ مالكٌ وأصحابه (1).

وذهبَ الشافعيُّ إلى التعميمِ (2)؛ عملًا باللفظِ والمعنى:

(1) في نسبة هذا القول إلى الإمام مالك نظر، فقد نقل ابن عبد البر عن الإمام مالك قوله: ما ذبحوه لكنائسهم أَكْرَهُ أكله، وما سمي عليه باسم المسيح لا يؤكل. انظر:"المدونة الكبرى"(3/ 56)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 258)، و"مواهب الجليل" للحطاب (3/ 213)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 76).

(2)

وهو مذهب الحنفية والحنابلة. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 154)، و"المبسوط" للسرخسي (11/ 246)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (15/ 94)، =

ص: 79

أما اللفظُ فلعمومِه.

وأما المعنى، فلوجودِ التعظيمِ الذي هو علَّةُ التحريمِ حتى أطلقَ أصحابُه التحريمَ على ما يُذْبَحُ للسلطانِ عندَ استقباله؛ إذ المقصودُ بذلكِ التعظيمُ لا التكريمُ.

* ثم ذكر الله سبحانه خمسةَ أشياءَ، وعَقَّبها بالاستثنناءِ، فقال:{وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3].

وبينَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم تحريمَ ذلك؛ كما ذكره الله سبحانه، فقالَ لعديِّ بنِ حاتِمٍ -رضي الله تعالى عنه- لمّا سألَه عن صيدِ المِعْراضِ (1):"إذا أصابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وإذا أصاب بِعرضِه، فقتلَ، فإنه وَقيذٌ (2) فلا تأكلْ"(3).

* ولما حرم الله سبحانه الدمَ، وحرمَ هذه الأشياءَ، عقبها بذكرِ الذَّكاةِ، وجعل الذكاةَ علَّةَ التحليل، علمنا أن عِلَّةَ التحليل خُروجُ الدمِ بالذَّكاةِ، وأن عدمَ خروجِ الدمِ علةٌ للتحريمِ.

فاستدللنا بذلك على أن كل حيوانٍ حلالٌ لا دمَ فيه؛ كالجرادِ لا يحتاجُ إلى ذكاةٍ.

= و"المغني" لابن قدامة (9/ 321).

(1)

المِعْراضِ: على وزن (مِحراب): سهمٌ بلا ريش، رقيق الطرفين، غليظ الوسط، يصيب بعرضه دون حدّه. "القاموس" (مادة: عرص) (ص: 581).

(2)

وقيذ: الوَقذُ: شدَّةُ الضرب، وشاةٌ وقيدٌ وموقوذةٌ: قتلتْ بالخشب. "القاموس"(مادة: وقذ)(ص: 307).

(3)

رواه البخاري (5159)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: صيد المِعْراض، ومسلم (1929)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة.

ص: 80

وبهذا قال الشافعيُّ (1).

وأوجب مالِكٌ الذكاة (2).

وذكاتُه قتلُه، إما بقطعِ رأسِه، أو غيرِ ذلك.

واستدللنا أيضًا بذلكَ على أنَّ كلَّ حيوانٍ تحلُّ ميتتُه لا يَحتاج إلى ذكاةٍ؛ كصيدِ البحرِ، وهذا إجماع بين (3) المسلمين أيضًا (4).

فإن قال قائل: فهل هذا الاستثناءُ متصلٌ أو منفصلٌ؟ وهل هو راجعٌ إلى المُحَرَّماتِ كُلِّها، أو يختصُّ بالأخيرِ منها؟

قلت: رجوع الاستثناء على الجملة الأخيرة، وهي ما أكل السبع مُتَّصِلٌ؛ لصدقِ اسمِ الأكيلِ عليه عندَ حُصول التذكية، وإن لم يزهقْ روحَه.

وأما الأمورُ الأربعةُ، فمن لاحظَ وقوعَ اسمِ المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة عليها قبل الموت مجازًا، كان الاستثناءُ عندهُ مُتَّصِلًا أيضًا، وهذا هو الأقربُ إن -شاء الله تعالى-.

ومن لاحظَ صدقَ الأسماءِ حقيقةً؛ إذ لا تسُمى هذه المحرماتُ قبلَ الموتِ منخنقةً ولا موقوذة ولا مترديةً ولا نطيحةً إلا على سبيل التجوُّز، منعَ عودَ الاستثناء إلى هذه الجملِ الأربعِ، اللهمَّ إلا أن يجوزَ حملُ اللفظِ الواحدِ على معنيين مختلفين، فيحمل الاستثناءُ على الاتصال في أكيلِ السبعِ، وعلى الانفصال في الذي قبله، وفي ذلك خلاف عندَ أهلِ النظر.

(1) وهو مذهب الحنفية والحنابلة. انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 233)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (15/ 59)، و"المبسوط" للسرخسي (11/ 229)، و"الهداية شرح البداية" للمرغيناني (4/ 70)، و"الكافي" لابن قدامة (1/ 447).

(2)

انظر: "المدونة الكبرى"(3/ 58)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 382).

(3)

في "أ": "من".

(4)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 382).

ص: 81

وأما عودُه إلى الخنزير، فلا يجوزُ قطعًا؛ لأن الذكاةَ لا تعمل فيه شيئًا، وكذا لا يجوز عودُه إلى ما أُهِل بهِ لغير الله؛ لأنه استثناءٌ منقطعٌ؛ لاختلاف الحكم فيه (1).

* إذا تمَّ هذا، فقد اتفقوا على أن الأكيلةَ والمنخنقةَ والموقوذةَ والمترديةَ والنطيحةَ إذا رُجي حياتُها، حَلَّتْ بالذكاة.

وإن انتهتْ إلى حالٍ لا تُرجى حياتُها.

فقال قوم: تحل بالذكاة، ويروى عن عليِّ وابنِ عباسٍ (2).

وبه قال أبو حنيفةَ (3).

وقال قومٌ: لا يحلُّ، وإليه ذهبَ الشافعيُّ وأبو يوسفَ (4).

وعن مالكٍ قولان، كالمذهبين (5).

(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 299)، و "التمهيد" لابن عبد البر (5/ 140)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 25)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 322).

(2)

انظر: "تفسير الطبري"(6/ 72)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 253)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 299).

(3)

وهو الراجح من مذهب الإمام أحمد. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 300)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 51)، و "رد المحتار" لابن عابدين (6/ 295)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 323).

(4)

وقول محمد بن الحسن من الحنفية أيضًا. انظر: "مختصر المزني"(ص: 283)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (5/ 50).

(5)

ولعل الراجح من مذهبه أنها لا تحل. انظر: "التمهيد"(5/ 141)، و"الاستذكار" كلاهما لابن عبد البر (5/ 253)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 26).

ص: 82

* ثم بين النبيُّ صلى الله عليه وسلم صفةَ الذكاةِ والآلَةَ التي يجوزُ بها الذكاةُ، ونهى عن السِّنِّ والظُّفُر (1).

* ونهانا الله سبحانَه عن الاستقسامِ بالأزلام، وسماه فِسْقًا؛ لما فيه من أكلِ المالِ بالباطلِ، وإيقاعِ العداوةِ والبغضاءِ، وقدْ عافانا الله الكريمُ منه، فله الحمدُ.

والاستقسامُ هو استقسامُ لحمِ الجَزورِ بالمَيْسِرِ.

والأزلامُ هي السهامُ التي كانتِ الجاهليةُ يستقسمون بها، وكانت عشرة.

منها سبعةٌ ذواتُ الحَظِّ والنصيب، وأسماؤها: الفَذُّ، والتَّوْأَمُ، والرَّقَيبُ، والجلسُ، والنافسُ، والمسبلُ، والمُعَلى.

ومنها ثلاثةٌ بلا حَظٍّ ولا غُرْمٍ، وأسماؤها: الوغدُ، والسفيحُ، والمنيح (2).

وكانوا يجعلونها في خَريطةٍ، ويجعلونَ الجزورَ على ثمانيةَ عشَر سَهْمًا، ويخرجُها رجلٌ واحدًا واحدًا على أسمائهم، فللفذِّ سهمٌ، وللتوءَمِ سهمان، وللرقيبِ ثلاثةٌ، ومن بقيَ بلا سَهْمٍ، غرمَ ثمنَ الجَزورِ على قدر السهامِ.

وقيل فيه من التأويل غيرُ ذلك، ولكن الظاهرَ ما ذكرتُه.

* * *

(1) روى البخاري (5179)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: التسمية على الذبيحة، ومن ترك متعمدًا، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه، فكل، ليس السنَّ والظفر، وسأخبركم عنه: أما السنُّ فعظم، وأما الظفر فمُدى الحبشة".

(2)

انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 469)، و"تفسيري الثعلبي"(2/ 150)، و"المخصص" لابن سيده (4/ 16)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 193).

ص: 83

* قوله عز وجل: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3].

قد تقدم الكلامُ عليه.

* * *

107 -

(4) قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة: 4].

* أحل الله سبحانه بهذه الآية شيئين: الطيباتِ من الرزق، والصيدَ.

* والمُراد بالطيبِ في هذه الآيةِ ما تَستطيبه نفوسُ العربِ.

وعزاهُ الواحديُّ إلى عامَّةِ المفسرين، فقال: قال المفسرون: أحل الله للعرب ما استطابوا ممّا لم ينزلْ تحريمُه تلاوةً مثلَ الضبابِ، واليَرابيعِ (1)، والأرانب، وغيرها، فكلُّ حيوان استطابتهُ العربُ فهو حلالٌ، وكلُّ حيوانٍ استخبثتهُ العربُ، فهو حرامٌ (2).

وهذا التفسيرُ ظاهرٌ من قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].

* ثم أحل الله الكريمُ لنا في هذه الآية صيدَ البرّ بإمساكِ الجَوارح المُكَلَّبةِ فقال: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] أي: وصيدُ ما عَلَمْتُم من الجوارح، وأحله أيضًا لنا في غير هذه الآية بإصابةِ السلاح؛ حيث قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94].

(1) اليرابيع: مفرده: يَرْبُوع: قال الأزهري: هي دويبَّةٌ فوق الجُرَذ، الذكر والأنثى فيه سواء. "اللسان" (مادة: ربع) (8/ 111).

(2)

انظر: "تفسير الواحدي"(1/ 309).

ص: 84

وبين النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلكَ كما أحلَّه الله تُعالى، فقال لأبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ لما سأله:"فَما أَصَبْتَ بقوسِكَ فاذْكُرِ اسمَ اللهِ عز وجل، ثم كُلْ، وما أَصَبْتَ بكلبِك المُعَلَّمِ، فاذْكُرِ اسمَ اللهِ عز وجل، ثم كلْ، وما أصبتَ بكَلْبكَ الذي ليسَ بمُعَلَّمٍ، فأدركْتَ ذكاتَه، فَكُلْ"(1).

* وقد اتفق العلماءُ على أن التعليمَ المذكورَ في الآية والحديثِ للاشتراطِ والتقييدِ، فيحل صيدُ المُعَلَّمِ، ويحرمُ صيدُ غيرِ المعلم، إلا أن يدركَ ذكاتَه.

والحكمة في ذلك أنه يصير (2) كسائرِ الآلاتِ التي لا اختيارَ لها، فيشترطُ فيه أن يُجيبَه إذا دعاه، وأن ينبعثَ إذا أشلاه (3)، وأن ينزخر (4) إذَا زجرهُ.

* ثم لمّا خصصَ الله سبحانه تحليلَ صيدِها بكونِه مُمْسَكًا عَلينا، فهمنا تحريمَ ما أمسكتهُ الجائعة على غيرنا، وقد بينه النبيُّ صلى الله عليه وسلم كذلك، فقال لعديِّ بنِ حاتِمٍ -رضي الله تعالى عنه- لما سأله:"إذا أَرْسَلْتَ كلْبَكَ، وذكرتَ اسمَ الله، فكلْ، فإن أكلَ منهُ، فلا تأكلْ منه (5)؛ فإنما أمسكَ على نفِسه" قلت: فإن وجدْتُ مع كلبي كَلْبًا آخَرَ، فلا أدري أَيُّهما أخذَ، قال:

(1) رواه البخاري (5161)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: صيد القوس، ومسلم (1930)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، وهذا لفظ مسلم.

(2)

في "ب": "أن تصير".

(3)

أشلاه: أشليتُ الكلبَ على الصيدَ: أغريته. "اللسان"(مادة: شلى)(14/ 144).

(4)

في "أ ": "يزدجر".

(5)

"منه" ليست في "ب".

ص: 85

"فلا تأكلْ، فإنما سَمَّيْتَ على كلبِك، ولم تُسَمِّ على غيره"(1).

وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، وأحمدُ (2)، والثوريُّ (3)، وهو (4) قولُ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما (5) -، وبه نأخذُ.

وذهب قومٌ إلى إباحةِ ما أكلَ منهُ الكلبُ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ثعلبة الخشني: "إذا أرسلتَ كلبكَ المُعلَّم، وذكرتَ اسمَ اللهِ فَكُلْ"، قال أبو ثعلبة: قلت: وإن أكلَ منهُ يا رسول الله؟ قال: "وإن أكلَ"(6)، رواه أبو داود.

وبهذا قال مالكٌ والشافعيُّ في أضعفِ قوليه (7).

ويروى عن ابنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما (8) -.

قال أهلُ العلمِ بالترجيحِ (9): وحديثُ عديّ أرجحُ؛ لكونه

(1) رواه البخاري (5168)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: إذا وجد مع الصيد كلبًا آخر، ومسلم (1929)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة.

(2)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 226)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 312)، و "الهداية شرح البداية" للمرغيناني (4/ 117)، و"المغنى" لابن قدامة (9/ 297).

(3)

انظر: "شرح السنة" للبغوي (11/ 195)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 70).

(4)

في "ب": "وهذا".

(5)

انظر: "مصنف عبد الرزاق"(8513)، و "تفسير الطبري"(6/ 92).

(6)

رواه أبو داود (2852)، كتاب: بالصيد، باب: في الصيد.

(7)

انظر: "الكافي" لابن عبد البر (ص: 182)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 75).

(8)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 226)، و"مصنف عبد الرزاق"(8516)، و"شرح السنة" للبغوي (11/ 195).

(9)

سلكت طائفة مسلك الجمع بين الحديثين وقالوا: لا تعارض بين الحديثين على =

ص: 86

مُتَّفَقًا عليه، ولهذا رواه البخاريُّ ومسلمٌ.

قلت: ولكونه أحوطَ.

* ثم اختلفَ أهلُ العلم في اختِصاص الجوارحِ بالكلابِ.

فقال فريقٌ منهم بالتخصيص، ومنعوا الصيدَ بغيرِها من جوارحِ السباعِ والطيورِ.

وبه قالَ مُجاهد (1).

وتمسكوا بظاهرِ قوله تعالى: {مُكلَّبِينَ} [المائدة: 4]، واعتقدوه للتقييد لا للتعريف.

وبعضُ هؤلاء استثنى البازِيَّ وحدَهُ (2)؛ لحديثٍ رواه الترمذيُّ عن عديِّ بنِ حاتِمٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن صيدِ البازي، فقال:"ما أَمْسَكَ عليكَ فَكُلْ"(3).

وقال جمهورُ العلماء بالتعميمِ.

= تقدير الصحة ومحمل حديث عدي في المنع على ما إذا أكل منه حال صيده لأنه إنما صاده لنفسه ومحمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أكل منه بعد أن صاده وقبله ونهى عنه ثم أقبل عليه فأكل منه فإنه لا يحرم لأنه أمسكه لصاحبه وأكله منه بعد ذلك كأكله من شاة ذكاها صاحبها أو من لحم عنده فالفرق بين أن يصطاد ليأكل أو يصطاد ثم يعطف عليه فيأكل منه فرق واضح.

انظر: "شرح سنن أبي داود" لابن القيم (8/ 42).

(1)

انظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 473)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 277).

(2)

انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 334).

(3)

رواه الترمذي (1467)، كتاب: الصيد، باب: ما جاء في صيد البزاة، والطبراني في "المعجم الكبير"(17/ 168)، وابن جرير الطبري في "تفسيره"(6/ 91)، وابن عبد البر في "الاستذكار"(5/ 168).

ص: 87

وبه قالَ فقهاءُ الأمصارِ (1)، ويروى عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما (2) -.

وتمسَّكوا: إما بالقياسِ على الكلابِ، فكل ما قَبِلَ التعليمَ فهو آلةٌ لذكاةِ الصيد، وإما بأنه مشتق من الكَلَبِ الذي هو الشدة، لا من اسمِ الكَلْب، فيكونُ معناه: مُغْرينَ للجوارحِ على الصيد، وبهذا فسرهُ ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-.

* فإن قال قائل: فهل الإغراءُ أو الإرسالُ واجبٌ في الاصطيادِ، أولا؟.

قلت: هو واجب في قولِ جمهور العلماء، فلا يَحِلُّ ما أمسكه الكلبُ باسترساله؛ لقوله تعالى:{مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، أي: مُغْرين؛ كما فسره ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أرسلتَ كلبكَ المُعَلَّمَ".

فإن قال: فهل تجُدُ في الآية دليلًا غيرَ تفسير ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-؟ قلت: نعم، قوله تعالى:{وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، أي: على الاصطياد؛ إذ لا يجوزُ عودُ الضَّميرِ على الأكل، ويكون المرادُ التسميةَ عندَ الأكل، وإذا تعيَّنَ ذلك، وتعين وجوبُ التسمية عند من يقول به، تعينَ القولُ عنده بوجوبِ الإرسال (3).

(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 309)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (15/ 6) و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 277)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 296).

(2)

انظر: "مصنف عبد الرزاق"(8497)، و"تفسير الطبري"(6/ 90).

(3)

انظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 467)، و"معالم التنزيل" للبغوي (2/ 12)، و"الكافي" لابن قدامة (1/ 482).

ص: 88

فإن قال: ما دلَّك على ما قلتَ من أن المرادَ التسميةُ عندَ الإرسال، لا عند الأكل؟

قلت: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبكَ المعلَّمَ وذكرتَ اسمَ اللهِ فَكُلْ"(1).

* وقد أجمع المسلمون على مشروعية التسمية عندَ الإرسالِ على الصيد، وعند الرمي، وعند الذبح.

وإنما اختلفوا هل ذلك على الوجوب، أو على الندب؟

فقال أهلُ الظاهرِ بوجوبِها مطلقًا (2)، وهو الصحيح عندَ أحمدَ في صيدِ الجوارحِ دونَ السهمِ (3)، ويروى عن ابنِ سيرينَ وأبي ثورٍ (4).

وقال قومٌ باستحبابها مطلقًا، وبه قال الشافعيُّ ومالكٌ في إحدى الروايات عنه (5).

وقال جمهورُ أهلِ العلم: إن ترَكها سهوًا، حَلَّتِ الذبيحةُ والصيدُ، وإن تركَها عمدًا، فلا، وبه قالَ مالكٌ، وأبو حنيفةَ (6)، والثوريُّ (7).

(1) تقدم تخريجه.

(2)

انظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 462)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 293).

(3)

انظر: "مختصر الخرقي"(ص: 134)، و"الكافي"(1/ 482)، و"المغني" كلاهما لابن قدامة (9/ 292).

(4)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 250)، و"شرح السنة" للبغوي (11/ 193)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 293).

(5)

انظر: "المدونة الكبرى"(3/ 54)، و"الأم" للإمام الشافعي (2/ 227)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (15/ 10).

(6)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 289)، و "المبسوط" للسرخسي (11/ 239)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 250).

(7)

انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 250)، و"شرح البخاري" لابن بطال (5/ 380).

ص: 89

وسيأتي الكلام على ذلك -إن شاء الله تعالى- في الآية التي تليها، وهي قوله تعالى:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5].

قال ابنُ عباسِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-: طعامُهم: ذبائُحهم (1).

* وقد أجمع العلماءُ على العملِ بهذه الآية، فأحلوا ذبائحَ أهلِ الكتاب كما أحلَّها الله تعالى، وإنما اختلفوا في بعضِ التفاصيل (2).

* وأطلق اللهُ سبحانه حِلَّ ذبائِحِهم، ولم يقيدْهُ بذكرِ التسميةِ كما ذكرها في قوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، وقوله:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118].

وهذا أيضًا مطلَق في أهل الكتاب وغيرِهم.

فيحتمل أن يقيدَ إطلاقُه في المائدة بتقييده هناك، فلا تحل ذبائحُ أهل الكتابِ إلا إذا سمَّوا الله عليها.

ويحتمل أن يقيدَ إطلاقُه في الأنعام بتقييده هنا، ويكون المعنى: فكلوا ممَّا ذُكِر اسمُ الله عليهِ من غيرِ ذبائحِ أهل الكتاب.

فقال فريقٌ بالأول، فجعل آيةَ المائدةِ مقيدةً بآية الأنعامِ، فلا تحلُّ لنا ذبائحُ أهلِ الكتابِ إلا إذا علمْنا أنهم سَمَّوا اللهَ عليها، ذكر ذلك عنهم مَكَيُّ بنُ أبي طالب، ونسبه إلى عليٍّ وعائشةَ -رضي الله تعالى عنهما-، وهذا منه خطأٌ وغَفْلَةٌ، وإنما المرويُّ عن عليٍّ وعائشةَ وغيرِهما: أن ذبيحةَ

(1) رواه البخاري في "صحيحه"(5/ 2097) تعليقًا، ورواه البيهقي موصولًا في "السنن الكبرى"(9/ 282)، عن ابن عباس.

(2)

كاختلافهم فيما إن ذكر عليها اسم المسيح، واختلافهم فيما إن ذبحها للكنيسة، واختلافهم في حل ذبائح نصارى العرب، وغيرها من المسائل.

ص: 90

الكتابيِّ لا تحل إذا سمعه يُسَمّي غيرَ الله، وهذا شيء قد قدمتُه (1) عندَ قوله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} [المائدة: 3].

والذي عليه جمهورُ أهلِ العلمِ العملُ بآيةِ المائدةِ، وأن ذبائحَهم حلالٌ مطلقا؛ كما أطلقه اللهُ سبحانه، سواءٌ سَمَّوا اللهَ عليها، أم لا (2).

وادعى بعضُهم الاتفاقَ عليه (3)، ونسبه إلى عليٍّ رضي الله تعالى عنه (4).

ثم اختلفت بهم (5) الطرقُ.

فرويَ عن أبي الدرداءِ وعُبادة بنِ الصامتِ وعِكرمة (6): أنهم قالوا: آيةُ المائدةِ ناسخةٌ لآيةِ الأنعام (7).

والذي عليه جُمهور السلفِ والخلفِ العملُ بآية المائدة، فمن يشترطُ التسميةَ يقولُ بالتخصيص، ومن لم يشترطْها يقولُ بالتأويل، وأما القولُ بالنسخِ فبعيدٌ؛ لإمكانِ الجمعِ بين الآيتين (8).

(1) في "ب": "قدمناه".

(2)

انظر: "المجموع" للنووي (9/ 75)، و "الكافي" لابن عبد البر (ص: 187)، و "المبسوط" للسرخسي (24/ 27)، و "شرح السنة" للبغوي (11/ 195).

(3)

لعله يقصد الكيا الطبري. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 76).

(4)

انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 439)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 296).

(5)

في "ب": "بهؤلاء".

(6)

انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (1/ 439)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 76).

(7)

انظر: "المصفى بأكف أهل الرسوخ"(ص: 27 - 28)، و"ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه" (ص: 33)، و"قلائد المرجان" (ص: 108).

(8)

انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (1/ 442)، و "تفسير ابن كثير"(2/ 171).

ص: 91

والذي أختارهُ ما ذهبَ إليه أبو عبدِ الله الشافعيُّ -رحمه الله تعالى (1) -: أن (2) التسميةَ غيرُ واجبة؛ فإن آية الأنعام مَخْصوصَةٌ بما ذُبح للأصنامِ، وذلك أن الجاهليةَ كانتْ تعظِّم آلهتَها، فتُهدي إليها، وتتقربُ إليها بالذبحِ عليها، وفعلُها هذا يتضمَّن ثلاثةَ أمورٍ قبيحةٍ شنيعةٍ:

أحدها: الإهلالُ لغير اللهِ تعالى.

وثانيها: ذبحُها تعظيمًا لآلهتها.

وثالثها: تركُ ذكرِ اسم اللهِ عليها، وتعويضُه باسمِ آلهتها.

ولا شكَّ أن قربانَ الإسلامِ بعكسِ ذلك، في هذهِ الأمورِ كلِّها، فحرم الله سبحانه قُربانَ الجاهليةِ، وكرر ذلكَ علينا، وعلقَ التحريمَ بكلِّ فردٍ من هذهِ الأمورِ الثلاثة التي تضمَّنها فعلُهم القبيحُ؛ تنبيهًا على اشتمالها على أنواعِ القبائحِ، فعلقه تارةً بالإهلالِ لغيرِ الله تعالى، وتارةً علَّقه بحقيقةِ الذبحِ على النُّصُب، وتارةً علَّقه بعدمِ ذكرِ الله تعالى، فقال:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121].

فإن قلت: فهلْ تجدُ في القرآن دليلًا على هذا؟

قلت: بل أدلةً:

أحدها: الطلبُ من الله سبحانه لأهلِ الشركِ، وحَثُّه إياهُمْ على الأكلِ مِمَّا ذُكِرَ اسمُ الله عليه، فقال:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118] حتى جعلَ ذلكَ شرطًا في الإيمانِ.

ثانيها: ذَمُّ الله سبحانه لهم على تركِ الأكلِ مما ذُكر اسمُ الله عليه،

(1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 231)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (15/ 10)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 250).

(2)

في "ب": "بأن".

ص: 92

فقال: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 119] الآية، فاستدللنا بهذا (1) على أن المرادَ بقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ما ذُبح باسمِ النُّصُبِ، والدليل على ذلك أيضًا وصفُه له بكونه فِسْقًا، والفِسْقُ ما أُهِلَّ بهِ لغيرِ الله؛ بدليل قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 144، 145]، ولم يقل: أو فسقًا لم يُسَمَّ اللهُ عليه.

فإن قلت: فإنا نجدُ في القرآنِ والسنةِ ظواهرَ تدلُّ على طلبِ التسمية؛ كقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ، وذَكَرْتَ اسمَ الله عليهِ، فَكُلْ"(2)، وغير ذلك من الآثار.

قلت: هذه الظواهرُ محمولة عندنا على الاستِحباب، والخِطابُ جرى على غالب الوجودِ من أحوالِهم، بدليلِ ما قدمتهُ.

فإن قلتَ: فهل تجدُ في السنةِ دليلًا على ما قلتَ من صرفِ هذهِ الظواهرِ إلى ما أُريد بها؟

قلت: نعم، روى البخاريُّ عن هشامِ بنِ عُروةَ عن أبيه (3) عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها-: أن قومًا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قومًا يأتونا باللَّحم لا ندري أَذَكَروا اسمَ اللهِ عليهِ، أم لا؟ فقال:"سَمُّوا عليهِ أنتم وكلوه"(4)،

(1)"بهذا" ليس في "ب".

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

"عن أبيه" ليس في "أ".

(4)

رواه البخاري (5188)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: ذبيحة الأعراب ونحوهم.

ص: 93

فهذه التسميةُ هيَ المندوب إليها عندَ الأكلِ، وليست هي التسيمةُ عندَ الذكاة، ولو كانَ حَرامًا، لم يأمرْهُم.

* * *

108 -

(5) قوله عز وجل {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5].

* إذا تَمَّ هذا، فهذه الإضافةُ للطَّعامِ الى أهلِ الكتابِ:

يَحتمل أن يُرادَ بها عامَّةُ ذبائِحهم.

ويحتملُ أن يُرادَ بها ما يَحِلُّ لهم مِمَّا يَطْعَمونه دونَ ما يحرم عليهم كذواتِ الظفرِ، وشحومِ الغنمِ والبقر.

وبالمعنى الأولِ قالَ الشافعيُّ (1)، وابنُ وَهْبٍ، وابنُ عبدِ الحَكَمِ (2).

وبالمنع قالَ ابنُ القاسمِ (3).

وفرق أشهبُ بينَ ما كانَ مُحَرَّمًا بالتوراةِ، وما كانَ مُحرَّمًا من قِبَلِ أَنْفُسهم، فأباح ما ذبحوا مِمّا حَرَّموه على أنفسهم (4).

وكذلك اختلفَ قولُ مالكٍ في الشحوم (5).

(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (12/ 102).

(2)

انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 330).

(3)

انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 330)، و "شرح مسلم" للنووي (12/ 102).

(4)

انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 330).

(5)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 296)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 331)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (7/ 126).

ص: 94

وبالإباحةِ قالَ الشافعيُّ (1)، ويدلُّ له ما رُوي أنَّ عبدَ اللهِ بنَ مُغَفَّلٍ أصابَ جرابَ شَحْمٍ (2) يومَ خَيْبَر، ورآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأقرَّهُ على أخذه، ولم ينهَه (3).

* واتفق عامةُ أهلِ العلمِ على أن المرادَ بأهلِ الكتاب اليهودُ والنصارى من بني إسرائيلَ والرومِ والحبشة، ومنهم السامرةُ (4)؛ لما روي (5): أن عاملًا لعمرَ كتبَ إليه: إن ناسًا من قِبَلِنا يُدْعَوْنَ السّامِرَةَ، يسبِتون يومَ

(1) وهو مذهب الحنفية والحنابلة. انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 243)، و"المجموع" للنووي (9/ 67)، و"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 193)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 360).

(2)

جراب شحم: الجِرابُ: المِزْوَد، أو الوعاء. جمعُه: جُرُب وجُرْب، وأَجْرِبَة. "القاموس" (مادة: جرب) (ص: 63).

(3)

رواه مسلم (1772)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب.

(4)

قال الشافعي: إن وافقت السامرة اليهود في أصول العقائد حلت ذبائحهم ومناكحتهم وإلا فلا. انظر: "المجموع" للنووي (9/ 76).

والسامرة: فرقة من اليهود، وإليها ينسب السامري، لا يؤمنون بنبي غير موسى وهارون ويوشع وإبراهيم فقط، ويخالفونهم في القبلة، فاليهود تصلي إلى بيت المقدس، والسامرة تصلي إلى جبل عزون ببلد نابلوس، وتزعم أنها القبلة التي أمر الله موسى أن يستقبلها، وأنهم أصابوها وأخطأتها اليهود، وأن الله أمر داود أن يبني بيت المقدس بجبل نابلوس، وهو عندهم الطور الذي كلم الله عليه موسى، فخالفه داود وبناه بمايليا، فتعدى وظلم بذلك، ولغتهم قريبة من لغة اليهود وليست بها، وهم فرق كثيرة تشعبت عن فرقتين دوسانية وكوسانية.

انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (12/ 293)، و"الملل والنحل" للشهرستاني (1/ 218)، و"أحكام أهل الذمة" لابن القيم (ص: 229).

(5)

في "أ": "لما روى ابن عباس"، والصواب المثبت، كما في "ب"، و"السنن الكبرى" للبيهقي.

ص: 95

السبتِ، ويقرؤون التوراةَ، ولا يؤمنون بيومِ البعثِ، فما ترى يا أمير المؤمنين في ذبائحهم؟ فكتبَ: هم طائفة من أهلِ الكتابِ، وذبائحُهم ذبائحُ أهلِ الكتاب (1)(2).

* واختلفوا في نَصارى العربِ:

فذهبَ الجُمهور إلى تحليلِ ذبائحِهم (3)؛ لعموم الكتاب، وهو قولُ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما (4) -.

وذهبَ قومٌ إلى تحريمِها، فكان على وعمرُ -رضي الله تعالى عنهما- ينهيان عن ذبائحِ بني تغلِبٍ (5)، وبه قال الشافعيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعالى (6) -.

* وكذلك اختلَفوا في الصابِئينَ:

فمنَ الناس من أطلقَ عليهمُ اسمَ أهلِ الكتِاب، وبهِ قال جابرُ بنُ زيدٍ، فألحقَهُمْ بأهله (7).

ومنهم من قالَ: لَيْسوا من أهلِ الكِتاب، وبه قالَ ابنُ عباسٍ ومُجاهِدٌ (8).

(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 173)، لكن عن غضيف بن الحارث.

(2)

ورواه عبد الرزاق في "المصنف"(6/ 74) عن غضيف بن الحارث.

(3)

انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (3/ 441)، "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 322)، و "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 258).

(4)

انظر: "الموطأ" للإمام مالك (2/ 489)، و"تفسير الطبري"(6/ 101).

(5)

انظر: "مسند الشافعي"(ص: 340)، و"تفسير الطبري"(6/ 101).

(6)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 232)، و "المجموع" للنووي (9/ 71).

(7)

انظر: "الأموال" لأبي عبيد (ص: 655)، و"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 283).

(8)

انظر: "مصنف عبد الرزاق"(6/ 125)، و"تفسير الطبري"(1/ 319).

ص: 96

* وكذلك اختلَفوا في المَجوسِ.

فذهبَ الجمهورُ إلى أنه لا تَحِلُّ ذَبائِحُهم، كما لا يَحِلُّ نِكاحُ نِسائِهم (1)؛ لكونهم ليسوا من أهلِ الكتاب، وهو قولُ عليٍّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه (2) -.

وذهب قومٌ إلى تَحْليِلها، وهو قولُ ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما (3) -؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتاب"(4).

وخَصَّصَ الأَوَّلونَ الحديثَ ببعضِ الأحكامِ، وهو التقريرُ بِبَذْلِ الجِزْيَةِ،

(1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 232)، و"الإجماع" لابن المنذر (ص: 58)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 281)، و"المبسوط" للسرخسي (24/ 27).

(2)

انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية ابنه عبد الله"(ص: 264).

(3)

لم أقف على نسبة هذا القول لابن عباس، إنما وقفت على أنه لأبي ثور، وعُدَّ قوله هذا خرق للإجماع واستنكروه كثيرًا، فقال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، وقال الإمام أحمد: ها هنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأسًا ما أعجب هذا، يُعرِّض بأبي ثور. انظر:"الحاوي الكبير" للماوردي (9/ 225)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 313).

(4)

رواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 278)، والإمام الشافعي في "مسنده"(209)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(10765)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 189)، عن عمر بن الخطاب.

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(6/ 261): هذا منقطع مع ثقة رجاله، وقال ابن كثير في "تفسيره" (2/ 21): لم يثبت بهذا اللفظ، وإنما الذي في "صحيح البخاري": عن عبد الرحمن بن عوف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر. ولو سلم صحة هذا الحديث، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الأشربة {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} ، أو أن المراد: سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط، كما يدل عليه سياق الحديث.

ص: 97

واستدلُوا بكونهم لا تَحِلُّ نِساؤُهم إجماعًا، فخرجوا بذلكَ من سُنَّةِ أَهْلِ الكتابِ في النكاح، فكذلكَ في الذبائحِ؛ لأن الأصلَ فيهما التحريمُ.

وبقيةُ الآيةِ قد تقدَّم شرحُه في "سورةِ البقرةِ" و"النساءِ".

* * *

ص: 98