الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(من أحكام الطهارة)
109 -
* أوجبَ اللهُ سبحانَه بهذه الآية الوضوءَ على المُؤمنين، وَبيَّنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم كَما فرضَه اللهُ تعالى بفعله، وقال:"لا يقبلُ اللهُ صلاةَ مَنْ أحدَثَ حَتّى يَتَوَضَّأَ"(1).
* وقد أجمعتِ الأمةُ على وُجوبه؛ كما فرضَهُ اللهُ سُبحانه.
* وعَلَّق اللهُ سبحانَه فَرْضَه بالقيامِ إلى الصَّلاةِ.
فيحتملُ أن يُرادَ به حقيقةُ التعليق، فيجبُ الوضوءُ عندَ كُلِّ قيامٍ إلى الصلاةِ.
(1) رواه البخاري (135)، كتاب: الوضوء، باب: لا تقبل صلاة بغير طهور، ومسلم (225)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب الطهارة للصلاة، عن أبي هريرة.
ويحتملُ أن يُرادَ به التعريفُ لوقتٍ خاصٍّ، وهو وقتُ الحَدَثِ، وبهذا المعنى خَصَّه عامَّةُ أهلِ العلمِ بالقرآنِ.
فقال ابنُ عباسٍ -رضي اللهُ تعالى عنهما-: إذا قُمتم إلى الصَّلاةِ وأنتم مُحْدِثون (1).
وقال زيدُ بنُ أَسْلَمَ: إذا قمتم إلى الصلاةِ من النومِ (2).
وحكيَ عن عِكْرِمَةَ وابنِ سِيرينَ (3): أنهما حَمَلا الخِطاب على حقيقتِه في التعليقِ، فأوجبا الوضوءَ لكلِّ صلاة.
قال ابنُ سيرينَ: كانَ الخُلَفاءُ يتوضَّؤونَ لكلِّ صلاةٍ (4).
وهما مَحْجوجانِ باتفاقِ العامَّةِ من أهلِ العلمِ، وببيانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كانَ يُصَلِّي الصَّلَواتِ بالوضوءِ الواحدِ، ولعلَّ الخلفاءَ فَعلوا ذلكَ للفَضْلِ، لا للحَتْم.
* فأوجَب الله سبحانهُ غسلَ الوجهِ واليدين إلى المِرْفقين، اتَّفق (5) العلماءُ على وُجوبِ ذلكَ (6)، وإنَّما اختلَفوا في تفاصيلهِ، فاختلَفوا في البَياضِ الذي خَلْفَ العِذارِ (7)، ودونَ الأُذُنِ.
(1) انظر: "تفسير ابن كثير"(2/ 22).
(2)
رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(6/ 112).
(3)
انظر: "تفسير الطبري"(6/ 112).
(4)
انظر: "تفسير ابن كثير"(2/ 23).
(5)
في "ب": "وأجمعت".
(6)
انظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 18)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 107).
(7)
العِذارُ: الشعرُ النابت في موضع العذار: وهو جانبا اللّحية. "القاموس"(مادة: عذر)(ص: 394).
- فذهبَ الشافعيُّ وأبو حَنيفةَ إلى أنهُ من الوَجْهِ (1).
- وقال مالِكٌ: ليسَ من الوَجْهِ (2).
والوَجْهُ مشتقٌّ من المُواجَهةِ: فمنهمُ من رَأى اسمَ الوَجْهِ صادقًا عليه، ومنهم مَنْ لم يَرَ ذلك.
وهذا أيضًا سَبَبُ اختلافِهم فيما نزلَ من اللِّحْيَةِ عن منابِتِها.
فأوجبَ مالكٌ غَسْلَهُ (3)، ولم يوجِبْه أبو حنيفةَ (4).
واختلفَ قولُ الشافعيِّ في ذلك (5).
* وأما اختلافهُم في اليدِ، ففي موضِعَينِ:
أحدُهما: في الحكم.
والثاني: في كيفيةِ الاستدِلالِ.
أما الحكمُ:
(1) انظر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 6)، و"رد المحتار" لابن عابدين (1/ 97)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 110).
(2)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (20/ 118)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 7).
(3)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (20/ 121)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 7).
(4)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 343)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 4).
(5)
وكذا اختلف قول الإمام أحمد في هذه المسألة. انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 25)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 130)، و"الكافي" لابن قدامة (1/ 27).
فقال جمهورُ أهلِ العلم: يجبُ إدخالُ المِرْفَقَيْنِ في الغَسْلِ (1).
وقال زُفَرُ (2)، وأبو بكرِ بنُ داودَ (3)، ومالكٌ في راويةِ أشهبَ: لا يجبُ (4).
وأما الاستِدْلالُ:
فإنَّ زُفَرَ ومُوافقيهِ أخذوا بظاهِرِ المعنى المشهورِ الموضوعِ لـ (إلى)، وهو الغايةُ.
وأما الجُمهورُ، فجعلوها بمعنى (مع)، وذلك شائعٌ في اللسانِ، جائزٌ عند كافَّةِ الكوفيينَ وبعضِ البَصْريِّين، قال امْرُؤ القيسِ:[البحر الطويل]
لَهُ كفَلٌ كالدِّعْصِ لَبَّدَهُ النَّدَى
…
إلى حاركٍ مثلِ الغَبيطِ المُذَأَبِ (5)
واستدلَّ الشافعيةُ، أو بعضُهم، بما روى (6) جابرٌ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهُ-: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضّأَ، أدارَ الماءَ على مِرْفَقَيه (7)، وقالوا: هذا بيان لِما وردَ في الآية مُجْمَلًا، وأفعالُه صلى الله عليه وسلم تُحْمَلُ على الوُجوبِ في بَيانِ المُجْمَلِ.
(1) انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 112)، و "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 128)، و "المغني" لابن قدامة (1/ 85).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(6/ 123)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 344).
(3)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (20/ 122)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 85)، و"المجموع" للنووي (1/ 447).
(4)
انظر: "تفسير الطبري"(6/ 123)، و"شرح البخاري" لابن بطال (1/ 286).
(5)
تقدم ذكره وتخريجه.
(6)
في "ب": "روي عن".
(7)
رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 83)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 56)، وابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف" (1/ 174).
وفي هذا ضَعْفٌ، فإن لفظَ الآيةِ ليسَ بِمُجْمَلٍ، بل هو في معنى الغايةِ أظهرُ من المَعِيّةِ؛ إذ هو المعنى الموضوعُ له، ولا تستعملُ في المعيةِ إلا تَجَوُّزًا.
وبعضُ أهلِ البَصْرَةِ مَنَعَهُ.
وحاولَ بعضُهم دلالَتَها مع بقائِها على أصلِ وَضْعِها، فقال:(إلى) هاهنا للإخراج، لا للإدخال؛ لأنَّ اسمَ اليدِ يُطْلَقُ (1) على العُضْوِ إلى المَنْكِبِ، فلو لم تردْ هذه الغايةُ، لوجبَ غَسْل اليدِ إلى المَنْكِبِ، فلما دخلتْ (إلى)، أخرجَتْ عن الغَسْلِ ما زادَ على المِرْفقَيْنِ، فانتهى الإخْراجُ إلى المِرْفقَيْنِ، فكأنه قالَ: واغْسِلُوا أيديَكُمْ، واتركوا من (2) المَناكِبَ إلى المرافقِ.
وفي هذا بعدٌ ظاهرٌ؛ لما فيه من إيصالِ الغايةِ بمعنى غيرِ مذكورِ، وفصلِها عن مَعْنًى مذكورٍ مقصودٍ، واحتمالُ مجاز (3) الاستِعارةِ أهونُ من ارتكابِ هذا المَجازِ البعيد.
ثم قال بعضُهم: وإن سَلَّمْنا أن (إلى) هنا معناها الغايةُ، فالمُغَيَّا يدخلُ في الغايةِ إذا كانت من جنِسه، والمِرْفَقُ من جنسِ اليدِ، ولا يدخلُ إن كانَ من غيرِ جنسه؛ كقوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
وما قالهُ هذا غيرُ خالٍ من النِّزاع، بل الصحيحُ عدمُ الدخولِ مُطْلَقًا، ووجهُ الدَّلالَةِ عندي من حَديثِ جابِرٍ -رضي الله تعالى عنه- قوله: كانَ إذا توضّأَ أدارَ الماءَ على مِرْفَقَيهِ، وهذا يدلُّ على التكْرار، مع أنه لم يُنْقَلْ أَنَّ
(1) في "أ": "ينطلق".
(2)
"من" ليست في "أ".
(3)
"مجاز" ليس في "أ".
النبيَّ صلى الله عليه وسلم اقتصرَ على دونَ المِرْفَقِ، فدلَّ على دُخوله وُجوبًا.
فإن قال قائل: كلمة (كان) لا تدلُّ على الاستغراقِ، على الصحيح عند الأصوليين.
قلتُ: لا تدلُّ على الاستِغْراقِ في ذي الأقسامِ والأنواع، وأما إن لم يكنْ للفعلِ أقسامٌ وأنواعٌ، كالوضوء، فإنها تدلُّ على التكرارَ وَضْعًا وعُرْفًا، أو عُرْفًا لا وَضْعًا؛ كما اختارهُ بعضُ المحققين.
فإن قال: لعلَّه صلى الله عليه وسلم فعلَ ذلكَ طَلَبًا لإطالةِ الغُرَّةِ، فهو محمولٌ على الاستِحْباب.
قلت: لا يُحملُ مثلُ هذا على طلبِ الغُرَّةِ، وإنَّما يُحمل عليه مثلُ ما رُوي عن أبي هريرةَ رضي الله عنه: أنه غسلَ يَدَه اليُمنى حتى شرعَ في العَضُدِ، ثم اليُسْرى كذلك، ثم غسلَ رِجْلَه اليُمنى حتى شرعَ في الساقِ، ثم اليُسْرى كذلك، ثم قال: هكذا رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ" (1) لإشعارِ الشُّروعِ في الأعضاءِ بطلبِ الفضيلةِ، وعدمِ إشعارِ الإرادة بذلك.
وهذا كلهُّ إن صَحَّ حديثُ جابرِ، ولستُ أعلمُ صِحَّته (2)، أما إذا لم يَصحَّ، فحجَّتُهم أظهرُ وأقوى.
* ثم أَمَرَهُم سُبْحانَه بِمَسحِ الرأسِ، وهو واجبٌ بإجماعِ العُلماء، لكنهمُ اختلفوا في مِقْدارِ الواجبِ منه.
- فذهب مالكٌ، والمُزَني، وأحمدُ -في إحدى الروايتين- إلى مَسْحِ كُلِّهِ
(1) رواه مسلم (246)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء.
(2)
قال الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير"(1/ 57): وقد صرح بضعف هذا الحديث ابن الجوزي، والمنذري، وابن الصلاح، والنووي، وغيرهم.
كسائرِ أعضاءِ الوضوء (1)؛ بدليلِ قولهِ تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6].
- وقَدَّرَهُ أبو حَنيفةَ بالرُّبُعِ (2).
- وذهبَ الشافعيُّ وجماعةٌ إلى أن الفرضَ مسحُ بعضِه (3).
واستدلَّ الحنفيةُ بما روى المغيرةُ بنُ شعبةَ -رضي الله تعالى عنه-: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مسحَ بِناصِيَتِهِ وعِمامَتِهِ (4).
والشافعيُّ لما رأى تخصيصَ فعلِه صلى الله عليه وسلم بعضَ الرأسِ، ورأى الناصِيَةَ لا تتقدرُ بربعِ الرأس، اكتفى بما يقعُ عليه اسم المسحِ، وبما يقعُ عليه اسمُ الرأس.
فإن قال: فحديثُ المغُيرةِ يدلُّ على وجوبِ مسحِ الجميعِ؛ لما فيه من التكميلِ بالعِمامَةِ، ولو لم يجبِ الجميعُ، لما كَمَّلَ بالعِمامة التي هي حائِلٌ.
قلنا: إنما ينتهِضُ (5) دليلُها للذي يُجَوِّزُ المَسْحَ على العِمامة، وينزلُها منزلةَ الرأس، وهو أحمدُ، ووافقه على ذلك جماعةٌ (6).
(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 130)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 86)، و"المجموع" للنووي (1/ 458).
(2)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 345)، و"المبسوط" للسرخسي (1/ 63).
(3)
وهو قول سفيان الثوري وداود. انظر: "أحكام القرآن" للإمام الشافعي (1/ 44)، و"المحلى" لابن حزم (2/ 52).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 249)، والنسائي في "السنن الكبرى"(168)، والطبراني في "المعجم الكبير"(20/ 1041).
(5)
في "ب": "ينهض".
(6)
انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 184).
وأما عندَ من لا يُجَوِّزُهُ؛ كمالِكٍ والشافعيِّ وأبي حنيفةَ، فلا يدلُّ (1).
وضُعِّفَ الاستدلالُ به على إيجابِ الجميعِ؛ لمخالفةِ القِياسِ؛ لما فيه من الجَمْعِ بينَ الأصلِ والبَدَلِ في فِعْلٍ واحِدٍ، وذلك لا يجوزُ.
والذي يظهرُ لي قوةُ الاستدلالِ به، وأنه موافق للقياسِ، وذلك أنه عُضْوٌ تدعو الحاجَةُ إلى سَتْرِهِ، ولا مَشَقَّةَ في مَسْحِ بَعْضِهِ، فوجبَ مسحُ المَيْسور؛ والاكتفاءُ بالبدلِ عن المَعْسورِ كما يُفْعَلُ في الجَبيرَةِ، ويخالفُ الخُفَّينِ؛ فإن في كشفِ بعضِ مَحَلِّ الفَرْضِ مشقةً، وقد يدعو نزعُ البعضِ إلى نزعِ الجميع، بخِلافِ العِمامة.
والعجبُ من الشافعيَّة كيف اعتمدوا هذا التَّضْعيفَ، وقالوا: يُسْتَحَبُّ (2) التكميلُ بالعِمامةِ، فجمعوا بين البَدَلِ والمُبْدَلِ، وتحكَّموا، وجعلوا الأصلَ فَرْضًا، والبَدَلَ نَفْلًا، فهو خِلافُ الأصول؛ فإنه ما جازَ أن يكونَ بَدَلًا في النَّفْلِ، جازَ أن يكونَ بَدَلًا في الفَرْضِ، ولم نجدْ شيئًا يكونُ بَدَلًا في النَّفْلِ، ولا يكونُ بَدَلًا في الفَرْضِ.
ثم اختلفَ أصحابُهم وغيرُهم من أهلِ المعاني في معنى الباء.
فذهبَ مَنْ قالَ بقولِ مالِكٍ إلى أن الباء إمّا زائدةٌ، وإما معناها الإلصاقُ الذي هُوَ موضوعٌ لها حقيقةً، أي: أَلْصِقوا المَسْحَ برؤوسِكُمْ (3).
وقيل: إن معناها الاستعانة والاعتمادُ، وإن في الكلامِ حذفًا وقلبًا، فإنَّ (مَسَحَ) يتعدّى إلى المُزالِ عنه بنفِسه، وإلى المُزيلِ بالباء، فالأصلُ:
(1) انظر: "الموطأ" للإمام مالك (1/ 35)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 357)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 355).
(2)
في "ب": "مستحب".
(3)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 96).
امسحوا رؤوسَكُم بالماء، ونظيرُه قولُ الشاعرِ (1):[البحر الكامل]
ومَسَحْتِ بِاللِّثَتَيْنِ عَضْفَ الإثْمِدِ
يقولُ: إن لِثاتِك تضربُ إلى السُّمْرَةِ، فكأنكِ مَسَحْتِها بمسحوقِ الإثْمِدِ، فقلبَ مَعْمولَيْ مَسَحَ (2).
وذهبَ بعضُ من قالَ بالتقدير إلى أنَّ معناها التبعيضُ (3)، أي: من رُؤوسِكُم، وهو معنًى صحيحٌ شائعٌ في اللسانِ، قال به الكوفيون وبعضُ البَصْريين، قال عَنْتَرَةُ:[البحر الكامل]
شَرِبَتْ بِماءِ الدُّحْرُضَيْنِ فَأَصْبَحَتْ
…
زَوْراءَ تَنفِرُ عنْ حِياض الدَّيْلَمِ (4)
أي: من ماءِ الدّحرضين.
وأجابَ الشافعيُّ عن احتجاجِه بقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6]، فقال بِمَسْحِ الوجهِ في التَّيَمُّمِ بدلًا من غَسْلِه، فلا بدَّ أن يأتيَ بالمَسْحِ على جميعِ مواضِع الغَسْلِ منه، ومسحُ الرأسِ أصلٌ، فهذا فرقُ ما بينهما.
* ثم أمرهمُ اللهُ سبحانه بغسلِ الرِّجْلَيْنِ، أو مَسْحِهما، على اخْتِلافِ القراءتين.
(1) هو خُفاف بن نُدبة، وصدر البيت:
كنواحِ ريشِ حمامةٍ نجديةٍ
وهو من "شواهد سيبويه"(1/ 9).
(2)
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 88)، و"مغني اللبيب" لابن هشام (1/ 143).
(3)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 344)، و"فقه اللغة" للثعالبي (ص: 80)، و"المبسوط" للسرخسي (1/ 63).
(4)
انظر: "ديوانه": (ص: 59).
وقد أجمعَ المسلمون على فَرْضِيَّة ذلك، لكنهم اختلفوا في أنواعِ طهارتهما.
فالذي عليهِ عَمَلُ الناسِ، وقال به الجُمهورُ: أنَّ طهارَتَهُما الغَسْلُ (1).
أما على قراءةِ النَّصْبِ، فالدَّلالَةُ ظاهِرةٌ.
وأما على قراءةِ الخَفْض، فقيلَ: المرادُ بالمَسْح الغَسْلُ.
قال أبو زيدٍ: المسحُ خَفيفُ الغَسْلِ، يقولُ العربُ: مسحَ اللهُ ما بك، أي: غَسَلَكَ وطَهَّرَكَ من الذنوبِ، فكذلك المسحُ يكون في الرِّجْلِ (2) هو الغَسْلُ الخفيفُ (3).
وقيل: إنه خَفْضٌ على الجِوار، فهو معطوف في اللفظِ دونَ المعنى (4)، وذلكَ جائزٌ موجودٌ في لسانِ العربِ؛ كقولهم: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ (5).
قال الشاعر (6): [البحر الطويل]
كَأَنَّ ثَبيرًا في عَرَانينِ وَبْلِهِ
…
كبيرُ أناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
(1) انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (1/ 221)، و "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 349)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 140).
(2)
في "ب": "الأرجل".
(3)
انظر: "الإنصاف في مسائل الخلاف" للأنباري (2/ 609)، و "المغني" لابن قدامة (1/ 92).
(4)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 139)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 91).
(5)
انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص 593 - 594)، و"لسان العرب"(2/ 593) مادة (مسح).
(6)
هو امرؤ القيس، والبيت في معلقته رقم (77)، (ص: 74) من "شرح المعلقات السبع" للزوزني.
وقال آخَرُ (1): [البحر الطويل]
فَهَلْ أَنْتَ إنْ ماتَتْ أَتانُكَ راحِلٌ
…
إلى آلِ بِشطامِ بنِ قيسٍ فخاطب
وقال آخَرُ (2): [البحر الكامل]
لَعِبَ الزَّمانُ بِها وغَيَّرَها
…
بَعْدي سوافي المُورِ والقَطْرِ
بخفض القطر.
ويدلُّ على أن المرادَ به (3) الغسلُ فعلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذلكَ في جميع الحالاتِ والمواطِنِ، ولم يُنْقَلْ إلينا قَطُّ أنه مَسَحَ القَدَمَيْنِ، ولو كانَ واجبًا أَو جائزًا، لَبَيَّنَهُ عن اللهِ سُبحانه كما أوجَب ذلك عليه.
وذهبتِ (4) الشيعةُ إلى أن الواجبَ المسحُ دونَ الغسلِ (5)، واحتجُّوا بقراءةِ الخَفْضِ (6)، وأجابوا عن قراءةِ النَّصْبِ بأنها عَطْفٌ على المَوْضِعِ؛
(1) هو الفرزدق انظر: "الأغاني"(21/ 332). وهناك رواية على هذه الشاكلة:
ألستَ إذا القعساء أنسلَ ظهرها
…
إلى آل بسطام بن قيس بخاطب
وانظر: "الأغاني"(9/ 327).
(2)
هو زهير بن أبي سلمى.
(3)
"به" ليس في "أ".
(4)
في "ب": "وذهب".
(5)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 123)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 11)، و"شرح السنة" للبغوي (1/ 429).
(6)
قرأ بها ابن عباس، وأنس، ومجاهد، وعلقمة، والضحاك، وقتادة، والشعبي، وعكرمة، والباقر، وابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر، وأبو جعفر. انظر:"تفسير الطبري"(10/ 60)، و"إعراب القرآن" للنحاس (1/ 485)، و"التيسير" للداني (98)، و"السبعة" لابن مجاهد (242)، و"تفسير الرازي"(3/ 368)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (3/ 437)، و"النشر" لابن الجزري =
كقولِ الشاعر (1): [البحر الوافر]
مُعاوِيَ إِنَّنا بشر فَأَسْجِحْ
…
فَلَسْنا بالجِبال ولا الحَديدَا
ويُروى هذا المذهبُ عن بعضِ الصَّحابةِ والتابعين (2).
قال محمدُ بنُ جَريرِ الطَّبَرِيُّ (3)، والجُبَّائيُّ من المُعْتَزِلَة (4): الواجبُ أحد الأَمْرَيْنِ؛ كالكَفَّارَةِ المُخَيِّرَةِ؛ إذْ ليسَ إحدى القِراءتينِ أَوْلَى منَ الأُخْرى.
وقال بعضُ أهلِ الظاهرِ: يجبُ الجمعُ بين الغَسْلِ والمَسْحِ (5).
* واختلفوا في دُخولِ الكَعْبينِ، كَما اختلَفوا في دُخول المِرْفَقَيْنِ.
* واختلفوا أيضًا في المُرادِ بالكَعْبَيْنِ.
فقال الجُمهورُ من أهلِ العلمِ: هما العَظْمان النَّاشِزانِ عندَ مفصِلِ الساقِ والقَدَمِ (6).
= (2/ 254). وانظر: "معجم القراءات القرآنية"(2/ 195).
(1)
هو عقبة بن الحارث يخاطب معاوية بن أبي سفيان، ويروى البيت بنصب "الحديد" وجره. وانظر:"سيبويه"(1/ 34)، و"خزانة الأدب"(1/ 343).
(2)
يروى هذا القول عن علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن وعكرمة والشعبي. انظر: "المحلي" لابن حزم (2/ 56).
(3)
نقل ابن حزم أن مذهب الطبري هو المسح، ونقل غيره أن مذهبه التخيير. انظر:"تفسير الطبري"(6/ 130)، و"معالم التنزيل" للبغوي (2/ 16)، و"المحلى" لابن حزم (2/ 56)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 71).
(4)
انظر: "المجموع" للنووي (1/ 476).
(5)
انظر: "المجموع" للنووي (1/ 476)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 268).
(6)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (20/ 130).
وقال محمدُ بنُ الحَسَنِ وبعضُ أصحابِ الحديثِ: هما العَظْمانِ النّاتِئانِ في ظَهْرِ القدمِ (1).
والدليلُ للجُمهورِ ما رواه البخاريُّ عن محمدِ بنِ زيادٍ قال: سمعتُ أبا هريرةَ، وكان يَمُرُّ بنا والناسُ يتوضَّؤون من المطْهَرَةِ، فقال: أَسْبغوا الوُضوءَ؛ فإن أبا القاسِم صلى الله عليه وسلم قال: "وَيْلٌ للأَعْقابِ منَ النارِ"(2).
* وكذلكَ اختلفوا في الترتيبِ لهذهِ الأفعالِ.
فذهبَ الجُمهور من الصحابةِ والتابعين إلى أنه ليسَ بواجبٍ، وبه قالَ مالكٌ، وأبو حنيفة (3)، وداودُ (4)، والمُزنيُّ (5)؛ لأن الواو لا تَقْتَضي تَرْتيبًا، ولا نَسَقًا، وإنما تقتَضي مُطْلَقَ الجَمْعِ.
وذهبَ الشافعيُّ، وأحمدُ (6)، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ إلى وجوبِ الترتيبِ (7).
(1) انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 128)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 140).
(2)
رواه البخاري (163)، كتاب: الوضوء، باب: غسل الأعقاب، ومسلم (242)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكمالهما.
(3)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 368)، و"المبسوط" للسرخسي (1/ 55)، و"التمهيد" لابن عبد البر (2/ 81).
(4)
وخالفه ابن حزم من الظاهرية فأوجب الترتيب. انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 92)، و"المجموع" للنووي (1/ 506)، و"المحلى" لابن حزم (2/ 67).
(5)
انظر: "المجموع" للنووي (1/ 506)، و"التمهيد" لابن عبد البر (2/ 81).
(6)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 138)، و"معرفة السنن والآثار" للبيهقي (1/ 183)، و"الكافي" لابن قدامة (1/ 31).
(7)
انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (1/ 226)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 92).
ويدلُّ لهم أن الفاءَ تقتضي الترتيبَ، وقد عُلِّقَتْ طَهارةُ الوجهِ بالقيام، فدلَّ على أنه لا يجوزُ أن يتقدمَ غيرُهُ عليه، ولأنَّ اللهَ سبحانه قطعَ النظيرَ عن النظيرِ، فأدخلَ مَمْسوحًا بينَ مغسولَيْنِ، وقَدَّمَ القريبَ على ما هو أقربُ منه، فقدَّمَ اليَدَيْنِ على الرأسِ، وهو محلُّ الوَجْهِ، فدلَّتْ هذه المقاصِدُ والأَماراتُ على وجوبِ الترتيبِ.
وقولُ الأولينَ: إن الواوَ لا تقتضي نَسَقًا ولا تَرْتيبًا غيرُ مُسَلَّمٍ (1)، بلْ نُحاةُ الكوفةِ قائلونَ باقْتِضائِها الترتيبَ (2)، ولم يُنْقَلْ إلينا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تركَ الترتيبَ في وضوئه، بل تَوَضَأَ مُرَتبًا، وقالَ:"هذا وُضوءٌ لا يقبلُ اللهُ الصلاةَ إلا بهِ"(3).
وأحسنُ عندي من ذلكَ كلِّه في الاستِدْلالِ ما استدلَّ بهِ الشافعيُّ في الكتابِ القديمِ من قولهِ صلى الله عليه وسلم في الصَّفا: "نَبْدَأُ بما بَدَأَ اللهُ بهِ"(4)، فجعلَ بِدايةَ اللهِ سُبْحانهُ سَبَبًا للتقديم (5).
* إذا تقرَّرَ هذا، فقد روى غير واحدِ من الصحابةِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:
(1) قولهم إن الواو لا تقتضي الترتيب هو القول الأشهر عند أكثر النحاة. انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (15/ 482)، و"أسرار العربية" لابن الأنباري (ص:267).
(2)
انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 12)، و"الذخيرة" للقرافي (4/ 67).
(3)
رواه ابن ماجه (419)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثًا، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(3/ 330)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 80)، عن عبد الله بن عمر.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} [البقرة: 158].
أنّهُ مَسَحَ على الخُفَّيْنِ (1).
قال الحسنُ البصريُّ -رضي الله تعالى عنه-: حَدَّثنَي سبعونَ من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ يمسحُ على الخُفَّيْنِ (2).
فيحتملُ أن يكونَ هذا قبلَ نُزولِ هذهِ الآيةِ، فيكونَ منسوخًا؛ كما رُوي عن عليٍّ وابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم-: سبقَ الكتابُ المَسْحَ على الخُفَّيْنِ (3).
ويحتملُ أن يكونَ بعدَ نزولِ هذه الآيةِ، فيكونَ: إمّا ناسِخًا لهذه الآية عندَ من يَجَوِّزُ النَّسْخَ للكتابِ بالسُّنَّةِ، وإما مُبيِّنًا لها أنَّ المرادَ بها غيرُ لابِسِ الخُفِّ، ولأجلِ هذا توقَّفَ قومٌ، وشَكُّوا في جوازه.
وذهب ابنُ عباس -رضيَ اللهُ تَعالى عنهُما- إلى أنه كانَ قبلَ نُزولِ المائدةِ، وقالَ: واللهِ مَّاَ مَسَحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعدَ المائدةِ (4).
ويروى مَنْعُ المَسْحِ عن عائِشَةَ، وعليٍّ، وابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهم (5) -.
(1) تقدم تخريجه. وانظر: "نظم المتناثر في الحديث المتواتر" للكتاني (1/ 60).
(2)
رواه ابن المنذر في "الأوسط"(1/ 433).
(3)
انظر: "سنن البيهقي الكبرى"(1/ 272 - 273)، و"الدراية في تخريج أحاديث الهداية" لابن حجر (1/ 76 - 77).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 323)، والطبراني في "المعجم الكبير"(12287).
(5)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 218).
قال عبد الله بن المبارك: ليس في المسح على الخفين عندنا خلاف، وإن الرجل ليسألني عن المسح فأرتاب به أن يكون صاحب هوى، وقال أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر: وذلك أن كل من روي عنه من أصحاب رسول الله (أنه كره المسح على الخفين فقد روي عنه غير ذلك. انظر: "السنن =
واستقرَّ على هذا مذهبُ الشيعةِ (1)، وهو روايةٌ عن مالِكٍ (2)، وأنكرها أصحابُه، وبعضُهم تأَوَّلَها على أنه كانَ يُؤثرُ الوُضوء على المَسْحِ.
وذهبَ جمهورُ أهلِ العلمِ وعامَّتُهم منَ الصحابةِ والتابِعينَ إلى جوازِه (3)، وتمسَّكوا بروايةِ جَريرِ بنِ عَبْدِ اللهِ البَجَلِيِّ له عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان يعجبُهم حديثُه؛ لأنَّ إسلامَهُ بعدَ نزولِ المائدةِ في شهرِ رمضانَ سنةَ عَشْرٍ، وفي بعضِ رواياتِه التصريحُ بأنه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يمسحُ على الخُفَّينِ بعدَ نُزولِ المائدةِ (4).
روى البَيْهَقِيُّ في "سُنَنِهِ" عن إبراهيمَ بنِ داودَ -رضيَ الله تعالى عنه-: أنه قالَ: ما سمعتُ في المسحِ على الخُفيْنِ أَحْسَنَ من حديثِ جريرٍ (5) -رضيَ اللهُ تَعالى عنه-.
وأما ما رُوي عنِ ابنِ عباسٍ من الإنكارِ، فإنه كانَ قبلَ أن يعلمَ ثبُوتَ المَسْحِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلما ثبتَ عندَهُ، قال به.
قال أبو بكرِ بنُ المُنْذِرِ: وروي عن موسى بن سَلَمَةَ بإسنادٍ صحيح: أنه (6) رخص فيه (7).
= الكبرى" للبيهقي (1/ 272).
(1)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 164).
(2)
انظر: "المدونة الكبرى"(1/ 39)، و"التمهيد" لابن عبد البر (11/ 139)، و"المجموع" للنووي (1/ 539).
(3)
انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (1/ 229)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 174).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 273)، لكن عن إبراهيم بن أدهم.
(6)
أي: ابن عباس رضي الله عنهما.
(7)
انظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 431).
وأما عائشةُ، فإنها أحالَتْ على عَلِيٍّ، فقالت للسائِلِ: ائْتِ عَلِيًّا؛ فإنه أعلمُ بذلكَ مني، فأتيتُ عَليًّا وسألتهُ عن المسحِ على الخفين، فقال: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأمرُنا أن نمسحَ على الخُفَّينِ يومًا وليلةً، وللمسافرِ ثلاثة أيامٍ، خرجه مسلم (1).
وما رُويَ من قولِ عليٍّ: سبقَ الكتابُ المَسْحَ على الخُفَّين، قال ابنُ المنذر: فليسَ لهُ إسنادٌ موصولٌ صحيحٌ تقومُ به حُجَّةٌ (2).
* ولما أحكمَ اللهُ سبحانَه فرضَ الوضوء، بيَّنَ لنا فَريضةَ الغُسْلِ، فقالَ:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، وقال في موضعٍ آخَرَ:{حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43].
* والتطهُّرُ والاغتسالُ يَقَعُ في اللسانِ على إفاضةِ الماءِ على البَدَنِ، معَ إِمرارِ اليدِ، وبدون إِمرارها؛ كما هو مذهبُ الجُمهور (3).
وأوجبَ مالكٌ (4) والمُزنيُّ (5) إمرارَ اليَد.
* وبين النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما فرضَهُ اللهُ سبحانَهُ بقولِه وفعلِهِ.
روينا في "صحيح البُخاريِّ" و"مُسْلِمٍ" عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها-: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا اغْتَسَلَ من الجَنَابَةِ، غسلَ وجهَهُ ويَدَيْه، ثم توضَّأ وضُوءَهُ للصلاة، ثم اغتسل، ثم يُخَلِّلُ بيديه شَعْرَهُ، حتى إذا ظَنَّ أنه
(1) رواه مسلم (276)، كتاب: الطهارة، باب: التوقيت في المسح على الخفين.
(2)
انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (1/ 339).
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 107)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 359).
(4)
وهو مذهب أحمد. انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 31)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 139).
(5)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 107).
قَدْ أروى بَشَرَتَهُ، أفاضَ عليهِ الماءَ ثَلاثَ مَرّاتٍ، ثم غسلَ سائرَ جسده (1).
وقال صلى الله عليه وسلم لأمِّ سَلَمَةَ لَمّا قالَتْ: يا رسولَ الله! إني امرأةٌ أَشدُّ ضَفْرَ رَأْسي، أَفَأَنْقُضُهُ لغسلِ الجنابة؟ فقال:"لا، وإنَّما يكفيكِ أن تَحْثي على رأسِكِ الماءَ ثلاثَ حَثَياتٍ، ثم تُفيضي عليكِ الماءَ، فإذا أنتِ قَدْ طَهُرْتِ"(2).
وليسَ بينَ الحديثينِ اختلافٌ، فحديثُ عائشةَ في بيانِ الأفضلِ، وحديثُ أمِّ سلمةَ في بيانِ الواجبِ.
وقد تقدَّمَ الكلامُ على الجَنابَةِ وحَدِّ المرضِ والسَّفَر، وبيانِ المُلامَسَةِ، وبيانِ الصَّعيدِ، وغيرِ ذلكَ من المباحِثِ النفيسةِ في "سورةِ النساء".
* وبيَّنَ اللهُ سُبْحانه هُنا، وفي "سور النِّساءِ" صِفَةَ التيمُّمِ فقال:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6].
* وقد قدمتُ قريبًا بيانَ الوَجْهِ، وأنه مشتقٌّ من المُواجَهَةِ.
* وأما اليدُ فتقعُ لغةً على الكَفِّ معَ الساعدِ، وتقعُ عليهما مع العَضُدِ.
ولأجلِ هذا الاشتراكِ وقعَ الاختلافُ بينَ أهلِ العلم.
فحملَ كثيرٌ منهمْ مُطْلَقَ اليَدِ على المُقَيَّدِ في الوضوء.
واستدلُّوا بحديثِ ابنِ الصِّمَّةِ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- قال: مررتُ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يبولُ، فمسح بجدارٍ، ثم يَمَّمَ وجْهَهُ وذِراعيه (3).
(1) رواه البخاري (269)، كتاب: الغسل، باب: تخليل الشعر، ومسلم (316)، كتاب: الحيض، باب: صفة غسل الجنابة، وهذا لفظ البخاري.
(2)
رواه مسلم (330)، كتاب: الطهارة، باب: حكم ضفائر المغتسلة.
(3)
رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(160)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 205).
وبما روى ابنُ عمرَ -رضي الله تعالى عنه-: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "التيمُّمُ ضَرْبتان: ضَرْبةٌ للوجهِ، وضربةٌ لليدينِ إلى المرفقين"(1).
وبهذا قال عليٌّ وابنُ عمرَ (2)، ومالِكٌ والشافِعيُّ وأبو حنيفةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم (3) -.
وحملَهُ قومٌ على الكفينِ.
واستدلوا بما رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ عن عمارِ بنِ ياسرٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- أنه قال: بعثني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حاجَةٍ، فأَجْنَبْتُ، فلمْ: أجدِ الماءَ، فَتَمَرَّغْتُ في الصَّعيدِ كما تَمَرَّغُ الدابَّةُ، ثم أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكرتُ ذلكَ له، فقال:"إنما يكفيكَ أن تقولَ بيديكَ هكذا" ثم ضربَ الأرضَ ضربةً واحدةً، ثم مسحَ الشِّمالَ على اليمينِ، وظاهرَ كَفَّيْهِ ووَجْهَهُ (4).
وبهذا قالَ الأوزاعيُّ، وأحمدُ، وإِسْحاقُ، وعامَّةُ أصحابِ الحديثِ (5).
فيحتمل أنهم رَجَّحوا حديثَ عَمَّارٍ؛ لصِحَّته، وأنهم حَملوا غيرَه على الاستحباب، والآخرونَ إنما قَدَّموا حديَث ابنِ الصِّمَّةِ على حديثِ عَمّارِ؛ لاتفاقِهِ، واختلافِ حديثِ عمارٍ.
فروى الزهريُّ عن عُبيدِ الله بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ عن أبيهِ: أن عَمّارَ بنَ
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 311).
(3)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 234)، و"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 37)، و"التمهيد" لابن عبد البر (19/ 282).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
وهو رواية عن مالك والشافعي وقول الظاهرية. انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 234)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 50)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 154)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/ 240).
ياسرٍ قال: تيمَّمْنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى المناكِبِ (1).
وروى الزهريُّ أيضًا عن عُبيد اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ عنْ أبيه: أن عمارَ بنَ ياسرٍ قال: كنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ، فنزلتْ آيةُ التيمم (2)، فتيممنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى المناكِب (3).
فهذا تصريحٌ بان هذا أولُ تَيمُّمٍ كان حينَ نزلتْ آيةُ التيمم.
فلا تخلو روايتُه التي قَدَّمناها: إمّا أن تكونَ ناسِخَةً لهذه؛ لخلوِّها عن (4) هذا التاريخ بالأولية، أو تكونَ مخالفةً لها من غير نسخ، فالأخذُ بمَنْ لم تختلفْ روايتُه أولى ممَّنِ اختلفَتْ روايتُه، ولأنُه أشبهُ بالقرآن من روايتي عمار، وأشبهُ بالقياس؛ لأن التيمُّمَ بَدَلٌ من الوُضوء، وينبغي أن يكونَ البَدَلُ مِثْلَ المُبْدَلِ منه.
ويظهرُ لي بَحْثٌ في الجَمْعِ بينَ حديثِ عَمَّارٍ وغيرِه من الأحاديثِ، وبينَ رواياتِ عمارٍ أيضًا، وهو أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قصدَ أن يردَّ على عَمَّارٍ فِعْلَهُ، ويبينَ له غلطَهُ، حيثُ عَمَّ بدنه بالتمرُّغِ، وتركَ الضربَ باليدينِ والمسحِ بهما، فبينَ له كيفيةَ العملِ، وأنه لا بدَّ من الضربِ باليدينِ، ولم يردْ بيان مقدارِ الواجب، فقال لهُ: "وأما أنت يا عَمَّارُ فلمْ يكُنْ ينبغي لكَ أن تَتَمَعَّكَ كما
(1) رواه النسائي (315)، كتاب: الطهارة، باب: الاختلاف في كيفية التيمم، وابن ماجه (566)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في السبب، والبزار في "مسنده"(1403)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"(1609)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(278)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 138).
(2)
وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} الآية [المائدة: 6].
(3)
رواه ابن ماجه (565)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في السبب. وانظر تخريج الحديث السابق.
(4)
في "ب": "من".
تَتَمَعَّكُ الدابَّةُ، إنَّما كان يُجزيك" وضربَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدِه إلى الأرضِ إلى الترابِ، ثم قال هكذا، فنفخَ فيها، ومسحَ وجهَه ويديه إلى المفْصِلِ (1).
وفي لفظٍ آخرَ: "إنما يكفيكَ أن تقولَ بيديكَ هكذا"(2)، ثم ضربَ الأرضَ، ولو كانَ مقصودُه بيانَ مقدارِ الواجبِ دونَ كَيْفِيَّتِهِ لقالَ له: إنه كانَ يكفيكَ هذا.
فإن قلتَ: فقد وردَ في بعضِ ألفاظِه: قال عمارٌ لعمرَ: تَمَعَّكْتُ، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقالَ:"يكفيكَ الوجه والكفين"(3).
قلنا: يحتملُ أن عمارًا قصدَ الاحتجاجَ على عمرَ لمّا منعَ التيمُّمَ عنِ الجَنابة، فروى عنِ النبي صلى الله عليه وسلم جوازَ التيمُّم عن الجنابةِ، فنقلَ بالمعنى أصلَ الجَواز، ولم يقصِدْ بيانَ الكيفية، فاختصرَ في الكلامِ، وحذفَ لَفْظَةَ "إنما"؛ كما اختصرَ أبو موسى في بعضِ طرقِ هذا الحديث؛ حَيْثُ قصدَ الردَّ والاحتجاجَ على عبدِ الله لما قالَ بما قالَ عمرُ.
روى شقيقُ بنُ سَلَمَةَ قال: كنتُ عندَ عبدِ اللهِ وأبي موسى، فقال أبو موسى: أرأيتَ يا أبا عبدِ الرحمن إذا أجنبْتَ فلم تجدْ ماءً، كيفَ تصنعُ؟ فقالَ عبدُ اللهِ: لا (4) نصلِّي حتى نجدَ الماءَ، فقال أبو موسى: فكيفَ تصنعُ
(1) رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"(648)، وعبد الرزاق في "المصنف"(914).
(2)
رواه مسلم (368)، كتاب: الطهارة، باب: التيمم.
(3)
رواه البخاري (334)، كتاب: التيمم، باب: التيمم للوجه والكفين، عن عبد الرحمن.
(4)
"لا" ليست في "أ".
بقولِ عَمَّارٍ حينَ قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "كان يكفيك"(1)، فاختصر، فدلَّ على أنهم لم يُريدوا حقيقةَ سِياقِ لفظِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ويحتملُ أن عَمَّارًا عَبَّرَ بالكَفَّينِ، وأراد بهما اليدين تَجَوُّزًا؛ بدليلِ ما رُوي في بعضِ طرقِ حديثِ عَمار "وأن تمسح بيدكَ إلى المِرْفقين"(2).
فإن قلتَ: فقولُه: "ثم مسحَ الشِّمالَ على اليمين، وظاهرَ كَفيهِ ووجهَه"، يدلُّ على أنه قصدَ أن يبينَ له مقدارَ الواجبِ في التيمُّم.
قلنا: مسحه بالشِّمال على اليمين يحملُ على طلب (3) تَخفيفِ الغُبار؛ كما وردَ في بعضِ ألفاظه: "ثم نَفَضَها"(4)، ثم بيَنَ لهُ مسحَ الوجهِ، وسكتَ عن اليدينِ، والسكوتُ يحتملُ أن يكونَ من عمارٍ، بدليلِ ما وردَ في بعضِ طرقِه:"وأن تَمْسَحَ بيديكَ إلى المِرْفَقَيْنِ"، والقضيةُ واحدةٌ.
ولو حملنا بيانه صلى الله عليه وسلم على بيانِ مقدارِ الواجبِ في التيمُّم، لكان مقدِّمًا لفرضِ اليدِ على الوجهِ في التيمُّم؛ بدليل ما ورد في بعض رواياته:"ثم مسحَ وجهه"(5)، بلفظةِ (ثم) الموجبةِ للترتيب، ولم يردْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم تقديمُ اليدين على الوَجْهِ في وضوءٍ ولا تيمُّمٍ، لا قولًا ولا فعلًا.
(1) رواه البخاري (339)، كتاب: التيمم، باب: إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت، أو خاف العطش، تيمم.
(2)
رواه أبو داود (328)، كتاب: الطهارة، باب: التيمم، عن عبد الرحمن بن أبزى.
(3)
"طلب" ليست في "أ".
(4)
رواه البخاري (340)، كتاب: التيمم، باب: التيمم ضربة، عن شقيق، عن ابن مسعود وأبي موسى الأشعري.
(5)
رواه البخاري (332)، كتاب: التيمم، باب: التيمم للوجه والكفين، عن عمار بن ياسر.
وهذا البحثُ يرفعُ الاختلافَ بين الأحاديثِ من طرقٍ كثيرة:
أحدها: في مقدار الواجبِ، فيكونُ الواجبُ مسحَ الوجهِ والذراعين.
ثانيها: في كيفيةِ المسحِ، ففي حديثِ عَمّارٍ ضربةٌ واحدةٌ، وفي غيره من الأحاديث الأمرُ بالضربتين، فيكون الواجبُ ضربتين، كما هو قول الجمهور.
وثالثها: بطلانُ ترتيبِ الوجهِ على اليدين.
ورابعها: الجمعُ بين روايتيه، فيكونُ مرةً ذكرَ الحديثَ مستوفًى، ومرةً ذكرَ بعضَه مختصرًا، فيزولُ بذلك الاختلافُ في روايته.
وأما روايةُ المناكِب فتحمَلُ على أنهم فَعلوا ذلكَ طَلَبًا لإطالَةِ الغُرَّةِ كما يَفْعلون في الوُضوء، وأقرَّهُمْ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وإطالة الغرة مستحَبٌّ في التيمُّمِ على الأَصَحِّ عندَ الشافعية.
فَلْيُنْظَرْ في هذا، فإن كانَ حَسنًا، فمنَ اللهِ، وله الحمدُ، وإن كان خَطَأً، فمنِّي، وأنا أستغفرُ اللهَ الكريمَ.
وحُكيَ عن الزُّهْرِيِّ ومحمدِ بنِ سلمة (1): أنهما أوجبا التيمُّمَ إلى المَنْكِبين؛ لما قدمتهُ من حديثِ عمار.
* إذا تمَّ هذا، فإن الباء في قولِه:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6] يجوزُ أن تكون للإلْصاقِ، أو للاعتِمادِ، أو للزيادَةِ والتوكيدِ؛ كما قدمتُ ذلكَ آنفًا، ولا يجوزُ أن تكونَ للتبعيضِ، وهذا مِمَّا يدلُّ لِمَنْ منعَ التبعيضَ في مَسْحِ الرأسِ، وأوجبَ تعميمَه بالمَسْحِ.
(1) انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 234)، و"المحلى" لابن حزم (2/ 153).
* وفي الآيةِ دليل على أن الجُنُبَ يجوزُ له أن يتيمَّمَ (1).
وعلى هذا استَقَّر الأمرُ بعدَ الخِلافِ في الصَّدْرِ الأَوَّلِ، فكان عمرُ وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ لا يجوزان التيمُّمَ للجُنُب (2).
روى البخاريُّ عن شَقيقِ بنِ سَلَمَةَ قال: كنتُ عندَ عبدِ اللهِ وأبي موسى، فقال له أبو موسى: أرأيتَ يا أبا عبد الرحمن إذا أجنَبَ فلم يجْد ماءً كيفَ يصنع؟ فقال عبدُ الله (3): لا يصلي حتى يجدَ الماءَ، فقال أبو موسى: فكيف تصنعُ بقولِ عَمَّارٍ حينَ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "كان يكفيك"؟ قال: ألم ترَ إلى عمرَ لم يقنعْ بذلكَ منه؟ فقال أبو موسى: فدعنا من قولِ عَمّارٍ، كيف تصنع بهذه الآية؟ فما دَرى عبدُ الله ما يقولُ، فقال: إنا لو رَخَّصْنا لهم في هذا، لأوشكَ إذا بردَ على أحدِهِمُ الماءُ أن يَدَعَهُ ويتيمَّمَ، فقلتُ لشقيقٍ: إنما كرهَ عبدُ الله لهذا؟ فقال: نعم (4). وقيل: إن عمرَ وابن مسعود رَجَعا عن ذلك (5)، والله أعلم.
* وكنت قَدَّمْتُ أولاً أنَّ مفهوم قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] لا يوجبُ تكَرار الوضوءِ لكلِّ صلاةٍ (6)، خلافاً
(1) انظر: "الإشراف على مذاهب العلماء" لابن المنذر (1/ 257)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (1/ 250).
(2)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (21/ 178)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 161).
(3)
في "أ": "عبد الرحمن"، وهو خطأ.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
انظر: "سنن الترمذي"(1/ 216)، و"معالم التنزيل" للبغوي (1/ 436).
(6)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 330)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 154).
لابنِ سيرين (1)؛ لأجلِ فعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالوضوءِ الواحد (2)، فهل يقتضي بمفهومه أنه يجبُ طلبُ الماءِ والتيمُّمُ لكلِّ صلاةٍ عندَ القيامِ، أو لا يجب كالوضوء (3)؟
فباقتضاء المفهومِ قالَ الشافعيُّ ومالِكٌ (4)، فأوجبا الطَّلَبَ والتيمُّمَ لكلِّ فريضةٍ.
وبتركِ المفهومِ قال أبو حنيفةَ، فلم يوجبْ ذلك (5).
* فإن قلتَ: فهل يدلُّ هذا المفهومُ عندَ مَنْ قالَ به على أنه لا يجوزُ فِعْلُ التيمُّمِ قبلَ دخولِ الوقت؟
قلتُ: يجوزُ أن يُقال: لا يَدُلُّ؛ لأن المُعَلَّقَ بالشَّرْطِ إنَّما هو الوجوبُ، والوجوبُ في وقتٍ لا يمنعُ الجَوازَ في غيرهِ.
ويجوزُ أن يقال: فيه دلالةٌ على التقييدِ بالوقتِ وجُوباً وجوازاً؛ فإنه عبادةٌ، وقد وردَ توقيتُ وجوبِها بوقتِ الصلاةِ، فلا يجوزُ في غيرهِ؛ كسائرِ
(1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 80)، و"تفسير ابن كثير"(2/ 23).
(2)
رواه مسلم (277)، كتاب: الطهارة، باب: جواز الصلوات كلها بوضوء واحد، عن بريدة الأسلمي: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه
…
".
(3)
"كالوضوء": ليست في "أ".
(4)
وهو مذهب أحمد.
انظر: "الأم " للإمام الشافعي (1/ 48)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 317)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 164)، و"المجموع" للنووي (2/ 320).
(5)
انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 15)، و"المبسوط" للسرخسي (1/ 108).
العبادات، وإنما خرج الوضوءُ بفعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَواتِ بوضوءٍ واحد، أو لأنه طهارةٌ لا عبادةٌ كما ذهبَ إليه أبو حنيفةَ والثوريُّ، ولهذا لم يوجبا النِّيَّةَ في الوضوء، وأوجباها في التيمُّم؛ لأنه عبادة (1).
وأما أبو حنيفةَ، فعلى أصلهِ في هذهِ المسألة منْ بُطلانِ المفهومِ، وأنه يجوزُ التيمُّمُ قبلَ دخولِ الوقتِ؛ كالوضوء.
(1) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 336)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 6).