المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(من أحكام الشهادات) - تيسير البيان لأحكام القرآن - جـ ٣

[ابن نور الدين]

فهرس الكتاب

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام النكاح)

- ‌(من أحكام الشهادات)

- ‌(من أحكام المواريث)

- ‌سُورَةُ المَائِدَةِ

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌(من أحكام الأطعمة)

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌(من أحكام الحج)

- ‌(من أحكام الصيد والذبائح)

- ‌(من أحكام الطهارة)

- ‌(من أحكام الحدود)

- ‌(الحرابة)

- ‌(السرقة)

- ‌(من أحكام أهل الكتاب)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الأشربة)

- ‌(من أحكام الهدي)

- ‌(من أحكام الشهادات)

- ‌سُورَةُ الأَنْعَامِ

- ‌(من أحكام الذبائح)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الذبائح)

- ‌(من أحكام اليتامى)

- ‌سُورَةُ الأَعْرَافِ

- ‌(من أحكام اللباس والزينة)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌سُورَةُ الأَنفَالِ

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الهجرة)

- ‌سُورَةُ التَّوْبَةِ

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الصدقة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌(من أحكام الزكاة)

- ‌(من أحكام الجهاد)

- ‌سُوْرَةُ يُوسُفَ

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌سُوْرَةُ النَّحْلِ

- ‌(من أحكام الطهارة)

- ‌(من أحكام الأيمان)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌(من أحكام المعاملات)

- ‌سُوْرَةُ الإسْراءِ

- ‌(من أحكام البر والصلة)

- ‌(من أحكام القصاص)

- ‌(من أحكام البيوع)

- ‌(من أحكام الصلاة)

- ‌سُوْرَةُ الأَنْبيَاءِ

- ‌(من أحكام المعاملات)

الفصل: ‌(من أحكام الشهادات)

(من أحكام الشهادات)

127 -

(24) قولُه عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} [المائدة: 106].

* أقول: إن هذه الآيةَ استَعْصَتْ على أهلِ العلمِ، وصَعُبَتْ عليهم، وذهبوا في تقريرِ أحكامِها وتأويلِ ألفاظِها كُل مَذْهَبٍ، وربما أفردَها بعضُهم بالتَّصْنيفِ، وما ذاكَ إلا لمخالَفَةِ ظاهرِها القواعدَ المُتَقَرِّرَةَ في الشريعةِ من ثلاثةِ أَوْجُهِ:

أحدُها: قبولُ شهادةِ غيرِ أهلِ مِلَّتِنا، واللهُ تعالى يقولُ:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وقال:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، وقال:{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15].

ثانيها: إيجابُ اليمينِ على الشاهِدَينِ، والشاهدُ لا يمنَ عليه إجماعًا، سواءٌ قامَتْ رِيْبَةٌ أو لم تقمْ.

ثالثها: اشتراطُ اثنينِ في اليمينِ منَ الذينَ استَحَقَّ عليهما عندَ الاطلاعِ على إثم الشاهدين، واشتراطُ تَعَدُّدِ الحالِفِ في الشريعَةِ غيرُ مَعْهود، وأما تَعَدُّدُ الحَلِفِ، فهو معهودٌ؛ كما في القَسامَةِ، وأَيْمانِ اللِّعانِ، وها أنا أذكرُ

ص: 222

سببَ نُزولِ هذه الآيةِ، ثم أذكرُ أقوالَ العلماءِ وتأويلاتِهم، ثم أعقِّب ذلكَ بالقول الحَقِّ -إن شاء الله تعالى-.

رويَ عن ابنِ عباس -رضي الله تعالى عنهما-: أنه قال: أما قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] بَلَغَنا -والله أعلمُ- أَنَّها نزلَتْ في مَوْلًى مِنْ موالي قُريشٍ، ثم لآلِ العاصِ بنِ وائلٍ السَّهْمِيِّ، انطلقَ في تجارةٍ نحوَ الشامِ، ومعه تَميمُ بنُ أوسٍ الداريُّ (1)، وعَدِيُّ بنُ بَداء، وهما نَصْرانِيّانِ يومئذ، فتوفيَ المَوْلى في مسيرهِ، فلما حَضَرَهُ المَوْتُ، كتبَ وَصِيَّتهُ، ثم جعلَها في مالِه ومتاعِه، ثم دفَعَها إليهِما، وقال لهما: أبلغا أَهْلي مالي ومَتاعي، فانطَلَقا لِوَجْهِهِما الذي تَوَجَّها إليه، فَفَتّشَا متاعَ المَوْلى المُتَوَفَّى بعدَ موته، فأخذا ما أعجَبَهما منه، ثم رَجَعا بالمالِ والمتاعِ الذي بقيَ إلى أهل الميتِ، فدفعوه إليهم، فلما فتشَ القومُ المالَ والمتاعَ الذي بقيَ، ففقدوا بعضَ ما خَرَجَ به صاحِبُهم معهُ من عندِهم، فنظروا إلى الوَصِيَّةِ، وهي في المَتاعِ، فوجدوا المالَ والمتاعَ فيهما مُسَمّى، فدعوا تميمًا وصاحبَه، فقالوا لهما: هل باعَ صاحِبنا شيئًا، أو اشْتُرِيَ ممّا كانَ عندَه (2)؟ فقالا: لا، قالوا: فهل مرضَ فطالَ مرضُه، فأنفقَ منهُ على نفسِه؟ قالا: لا، قالوا: فإنَّا نَفْقِدُ بعضَ الذي مضى بهِ صاحبُنا معه (3)، قالوا: ما لَنَا بما مَضى بهِ مِنْ علومٍ، ولا بما (4) كانَ في وَصِيَّتِه، ولكن دفعَ إلينا هذا المالَ والمَتاع، فَبَلَّغْناكُموهُ كما دَفَعَهُ إلينا، فرفعوا أمرَهُم إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذكروا له الأمرَ، فنزلتْ هذه الآية إلى {الْآثِمِينَ} هو، فقاما فَحَلَفا على مِنْبَرِ

(1)"الداري": ليس في "أ".

(2)

في "ب": "مما كان عنده أو اشترى".

(3)

"معه": ليس في "أ".

(4)

"ولا بما": ليس في "أ".

ص: 223

النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعدَ (1) صلاةِ العَصْرِ، فَخَلَّوا سبيَلُهما، ثم اطُّلِعَ بعدَ ذلكَ على إناءٍ من فِضَّةٍ منقوشٍ مُمَوَّهٍ بالذَّهَبِ عندَ تَميمٍ الدَّارِيِّ، فقالوا: هذا من آنيةِ صاحبنا التي مَضى بها معه، وقدْ قُلْتُما: إنه لم يبعْ من متاعِه شيئًا، فقالا: إنا اشترينَا منه، فَنَسينا أن نخبرَكُم به، فرفعوا أمَرهُمْ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فنزل:{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} إلى {الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 107 - 108]، فقامَ رجلانِ من أولياءِ السَّهْمِي، فحلفا باللهِ إنها في وَصِيَّتِهِ، وإنَّها لَحَقٌّ، ولقد خانَهُ تميمٌ وعَدِيٌّ، فأخذَ تميمٌ وعديٌّ بكلِّ ما وُجِدَ في الوَصِيّةِ لمّا اطُلِعَ على ما عِنْدَهُما منَ الخِيانة (2).

* وأما أقوالُ العلماءِ.

فإنهم اختلفوا في الضميرِ الذي في قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106].

فقال جُمهورُهم: أي: من غيرِ أهلِ مِلَّتِكُمْ، والخطابُ مع كافَّةِ المؤمنين.

وقال قومٌ كالحَسَنِ وعِكْرِمَةَ: أي: من غيرِ أهلِ قبيلتِكم، والخطابُ معَ أولياءِ المَيِّتِ، فاستدلُوا لقوله تعالى:{تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 106]، وأهلُ الصلاةِ هم أهلُ مِلَّتِنا دونَ غيرِهم، فدلَّ على كونهما مؤمِنَيْنِ (3).

(1) في "ب": "دبر".

(2)

رواه الترمذي (3059)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة المائدة، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(4/ 1231)، والطبراني في "المعجم الكبير"(12509)، والدارقطني في "سننه" (4/ 168). وانظر:"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 220 - 222).

(3)

انظر: "تفسير الطبري"(7/ 106)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (17/ 64)،=

ص: 224

وهذا ضعيفٌ جِدًّا، وضَعْفُهُ أشهرُ من أن يُظْهَرَ.

* ثم اختلفَ الجمهورُ.

فمنهم مَنْ قال: الآيةُ منسوخَةٌ (1) بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وبقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، وروى هذا عَطِيَّةُ عنِ ابنِ عَبّاسٍ -رضي الله تعالى عنهما-.

وهذا أضعفُ من الأولِ؛ فإن النسخَ لا يَصِحُّ إلا بتوقيفٍ، وعلمٍ بالمتأخِّر منهما، وليس قولُ هذا (2) القائل: هي منسوخة بِما ذُكِرَ بأولى من قولِ غيرهِ: هي ناسخةٌ لما ذُكِرَ، كيفَ والتعارُضُ بينَهما معدومٌ؛ فإنه يحتملُ أن تكونَ هذه الآيةُ مقيِّدَةً لإطلاقِ غيرِها ببعضِ الأحوال؛ كما قاله الآخرون، وهم قومٌ من السلف، قالوا: الآيةُ مُحْكَمَةٌ، ويجوزُ قبولُ شهادةِ الكِتابيِّ عندَ فَقْدِ المُسْلِمِ في السَّفَرِ خاصَّةً، وبه قالَ أبو حنيفة (3)، وأحمدُ (4) -رحمهما الله تعالى-.

وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأنهم لا يوجبونَ اليمينَ على الشاهدِ الكِتابيِّ عند الارتيابِ كما وردَ في ظاهرِ الآية والحديث.

= و"شرح مشكل الآثار" للطحاوي (11/ 469).

(1)

انظر: "المصفى بأكف أهل الرسوخ"(ص: 29 - 30)، و"ناسخ القرآن ومنسوخه" (ص: 32)، و"قلائد المرجان" (ص: 104).

(2)

"هذا" ليس في "ب".

(3)

ذهب الحنفية إلى أن الآية منسوخة في حق المسلمين، فلا تجوز شهادة الذمي على المسلم، وتجوز شهادتهم فيما بينهم. انظر:"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 163)، و "المبسوط" للسرخسي (4/ 521).

(4)

ذهب الحنابلة إلى أن شهادة أهل الكتاب تقبل في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم، وهو المذهب الذي سيقرره المصنف بعد قليل. انظر:"زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 452)، و"الكافي" لابن قدامة (4/ 521).

ص: 225

وإذا بطلَ تحليفُه، بَطَلَ القولُ بقبولِ شهادتهِ كَما ذكر.

فإن قلتم: فما قولُك الحَقُّ الذي وَعَدْتنَا به، فقد دَلَلْتَنا على فسادِ هذهِ الأقاويل؟

قلت: الآيةُ مُحْكَمَةٌ غيرُ منسوخةٍ واردة على سببٍ مشهورٍ من قصةِ تميمِ بنِ أوسٍ الداريِّ، وعديّ بنِ بَداء في حالِ تنَصُّرِهِما، وأنهما قَبَضا مال بُدَيْل، ليوصلاهُ إلى أهلِه، وسَمَّاهما اللهُ شاهِدَيْنِ لِمُشاهَدَتِهما أمرَ بديلٍ، وعِلْمِهِما بهِ، وهما وَصيّانِ في الحقيقةِ، وليسَ المقصودُ بشهادتِهما الشهادةَ الشرعيةَ المُتَعَبَّدَ بها؛ بدليل قوله تعالى:{لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107]، والوليّانِ ليسا بِشاهدَيْنِ شَرْعاً، وإنما هما شاهِدانِ عِلْماً، فالحكمُ مقصورٌ على سببهِ، لا يتعداهُ، فيجوزُ للمسلمِ أن يُوصِيَ إلى الذِّمِّيِّ عندَ عدمِ المُسْلِمِ، ولا يجوزُ عندَ وُجودِه، فلنْ يجعلَ اللهُ للكافرينَ على المُؤْمنين سبيلًا، وإنما شَرَطَ اللهُ سبحانه الضَّرْبَ في الأرضِ؛ لأنه مَظِنَّةُ عَدَمِ المُسْلِمِ، ومعلومٌ أن المسلمَ لا يُوصي إلى الذميِّ مع وجودِ المُسلم إلا نادرًا، ولو وجدَ بديلٌ مسلماً غيرَهما، ما وَصَّى إليهما، لكونه مُسْلِمًا مُهاجِراً.

ثم نقولُ: فإذا أوصى المسلمُ إلى الذميِّ، فإنْ صَدَّقناهُ، فلا خِصام، ولا تَحْليفَ، وإن ارتبنا منه، حَلَّفْناه بعدَ صلاة العَصْرِ كما غَلَّظَ اللهُ سبحانَه عليه، فإذا حلفَ فقدِ استحق علينا الحُكْمَ بِعَدَمِ المُطالَبةِ، ثم إن عَثَرْنا عليهِ (1) بالخِيانة، واستحقاقِ الإثم، وقامت عليه الحُجَّةُ بإقراره، لكنه أظهرَ دَعْوى تخالِفُ إقرارَهُ كما فَعَلَ تميمٌ وصاحبُه؛ حيثُ ادَّعيَا الشراءَ من بديلٍ، ولم يُقيما بَيِّنَةً، قمْنا مقامَهما بعدَ صلاةِ العصرِ، وحلَفْنا لهما إن كانَ

(1)"عليه" ليس في "أ".

ص: 226

الأَوْلَيان مِنّا اثنينِ كأولياءِ بُديلٍ، وولِيّاهُ عَمْرُو بنُ العاصِ، والمُطَّلِبُ بنُ أبي وَداعَة، إما بطريقِ الإرثِ لبديلٍ، لكونِه مولاهُما، أو بطريقِ المُلْكِ لهما، أو (1) لعل بديلًا كان وكيلاً لهما.

فقد وردَ في بعضِ رواياتِ هذا الحديث أن عمرَو بنَ العاصِ، والمُطَّلِبَ بنَ أبي وَداعَةَ السَّهْمِيّانِ بَعَثا معَ تميمٍ وعَدِيٍّ رَجُلاً يقال له بديلُ بنُ أبي مارية الرومي مولًى للعاصِ بنِ وائلٍ بِمَتاعٍ إلى أرضِ الشامِ فيه آنِيَة من ذَهَبٍ، وآنية من فِضَّةٍ، وآنية مُمَوَّهَة بالذَّهَبِ، فلما قدموا الشامَ، مرضَ بديلٌ، وكان مسلمًا، فكتب وصيتَهُ، ولم يعلمْ بها تميمٌ الداريُّ، ولا عَدِيٌّ، وأدخلَها في متاعِه، ثم توفُي، ولم يبعْ شيئًا من متاعِه، فقدمَ تميم الداريُّ وعديٌّ إلى المدينةِ، ودفعا المتاعَ إلى عمرِو بنِ العاصِ وإلى المُطَّلِب، وأخبراهما بموتِ بُديلٍ، فقال عَمْرو والمُطَّلِبُ: لقد مضى من عندنا بَأكثرَ من هذا، هل باعَ شيئًا؟ قالا: لا فمضوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وساق الحديثَ بنحوِ ما قدمتُه.

وقد ظهرَ لكمْ بهذا التحقيقِ أن الخِطاب معَ المُؤْمنين، وأن الآيةَ جارية على قوانينِ القياسِ، غيرُ مُخالِفَةٍ لهُ في شيء (2).

فَتُقْبَلُ شهادةُ الذميّ إذا كانَ وصِيًّا بهذِه الآيةِ، وأما إذا كانَ غيرَ وَصِيٍّ، فلا تقبَلُ شهادَتُه؛ بدليلِ قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، والشاهدانِ إذا كانا وَصِيَّيْنِ ذِمّيَّيْنِ، وشهدا على فعلِهما، ونَفيا ما يُدَّعَى عليهما نُحَلّفُهما بهذه الآية، وإذا كانا مسلمينِ، نُحَلّفُهما؛ بالقياسِ عليهما، وبغيرِ ذلكَ من الأدلة.

(1) في "أ": "و".

(2)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/ 350).

ص: 227

وإذا شَهِدا ولم يكونا وَصِيَّيْنِ، وعلى غير فِعْلِهما، قبلناهُما، ولم نُحَلّفْهما، بالإجماع.

وإذا قامَتِ الحُجَّةُ على خيانةِ الوَصِيّ، وادَّعى ما يُناقِضُها، حلفَ الوَليُّ إن كانا اثنين بهذه الآية.

وإن كانَ واحِداً، أو جماعَةً، حَلفوا بالإجماع، وبالقياس على الاثنين، وظهرَ أن كلَّ ذلك جرى بحُكْم الاتفاقِ.

وإذا اتفقَ ذلكَ في زمانِنا، قضينا فيه بقضاء الله، وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد اتفقَ ذلكَ بعدَ النبيّ صلى الله عليه وسلم عندَ أبي موسى الأشعريِّ -رضي الله تعالى عنه-.

روى الشعبيُّ: أنَّ رجلاً من خَثْعَمٍ خرجَ من الكوفَةِ إلى السَّوادِ، فماتَ بـ "دَقُوقا"(1)، فلم يجد أحداً يشهدُ على وصيتهِ، فأشهد رجلينِ من أهلِ الكتاب، فقدما الكوفةَ، فأتيا أبا موسى الأشعريُّ، وقَدِما بتركتهِ ووصِيَّتِه، فقال أبو موسى الأشعريُّ: هذا أمرٌ لم يكنْ بعدَ الذي كانَ في عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَحْلَفَهما، وأمضى شهادَتَهما بعدَ صلاةِ العصرِ بمسجدِ الكوفة باللهِ الذي لا إلهَ إلا هو ما كَتَما ولا غَيَّرا (2).

قال ابنُ عَبّاسٍ: كأني أنظرُ إلى العِلْجَيْنِ (3) حينَ انتهي بهما إلى

(1) دقوقا -بفتح أوله وضم ثانيه وبعد الواو قاف أخرى وألف ممدودة ومقصورة: مدينة بين إربل وبغداد. انظر: "معجم البلدان"(2/ 459).

(2)

انظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد (1/ 250)، و "مصنف ابن أبي شيبة"(22447)(4/ 493)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (7/ 110).

(3)

العلجين: العِلْجُ بوزن العِجْل: الواحد من كفار العجم، والجمع: علوج وأعلاج، وعِلْجة بوزن عنبة ومعلوجاء. "المختار" (مادة: علج) (ص: 188).

ص: 228

أبي موسى الأشعريِّ، ففتحَ الصحيفةَ، فأنكرَ أهلُ الميتِ، وخَوَّنوهما، فأراد أبو موسى أن يَسْتَحْلِفَهُما بعدَ صلاة (1) العصرِ، فقلتُ: لا يُبالون بعدَ (2) العصرِ، ولكنِ استَحْلِفْهُما بعدَ صلاتِهما ودينهما (3).

والحمدُ للهِ الذي هَدانا لِهذا، وما دَلَّنا على هذا التحقيقِ وسلوكِ سواءِ الطريقِ إلا الأحاديثُ المشهورةُ بسببِ هذهِ الآيةِ، ولولا الأسبابُ، ما عُرِفَتِ المُسَبَّباتُ، ولو نُقِلَتِ الأسبابُ بأحوالِها وقَرائِنِها ومقاصِدِها في واقعةٍ، ما اختلفَ فيها اثنان، إلا قليلًا.

وبعدَ كتابي هذا المَوْضِع بأربعِ سنينَ، وجدْتُ كلاما للشافعيّ في كتاب "الجزية" يرشدُ إلى مثلِ هذا (4).

* فإن قلتم: فهل يتعينُ اللفظُ الذي ذكرهُ اللهُ تَعالى في اليمينِ كَما في اللِّعان، أو يجوزُ بغيرِه مِمّا أَدّى معناه؟

قلت: لا يتعينُ، بل يجوزُ هو وما في معناه؛ كسائر الدعاوى، ألا ترى إلى ما قدمته من الحديثِ لفظَ اليمينِ فيه مُخالِفًا لِلَفْظِ اليمينِ في القرآن؟ فهذا بخلافِ اللِّعانِ، وسيأتي عليه الكلامُ -إن شاء الله تعالى-.

* ووَقَّتَ اللهُ سبحانه ليمينِ الوَصِيَّيْنِ اللَّذين ارتيبَ منهما بعدَ الصلاةِ، وهي صلاةُ العصرِ عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ لاتفاقِ أهلِ المِلَلِ على تعظيمِها، والتغليظُ بالوقتِ مشروعٌ، قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ على يمينٍ كاذِبةٍ بعدَ

(1)"صلاة" ليس في "أ".

(2)

"صلاة" ليس في "أ".

(3)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 235)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (7/ 110)، و"تفسير ابن كثير"(2/ 114).

(4)

وانظر: "الأم" للإمام الشافعي (6/ 141)، و (7/ 16 - 32).

ص: 229

العَصْرِ، لقيَ اللهَ وهُوَ عليهِ غَضْبانُ" (1).

واختلفوا في التغْليظِ بالمكان:

فرآه الشافعيُّ ومالِكٌ، وقالا: يُجْلَبُ في أيمانِ القَسامَةِ إلى مَكَّةَ مَنْ كانَ منْ عَمَلِها، فيحلفُ بينَ الركنِ والمَقام، ويُجْلَبُ إلى المدينةِ مَنْ كانَ من عَمَلِها، فيحلفُ عندَ المنبرِ؛ لما روى جابر -رضي الله تعالى عنه-: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حَلَفَ على مِنْبَري هذا بيمينِ آثِمَةٍ، تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ منَ النار"(2)، ولما رُوي: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لاعَنَ بينَ المَرْأَةِ والزوْجِ على المِنْبَرِ (3)(4).

(1) رواه البخاري (2240)، كتاب: المساقاة والشرب، باب: من رأى أن صاحب الحوض والقرابة أحق بمائة، عن أبي هريرة مرفوعًا، بلفظ: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة

ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم

".

(2)

رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 727)، ومن طريقه رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(153)، والنسائي في "السنن الكبرى"(6018)، وابن حبان في "صحيحه"(3468)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"(1782)، والحاكم في "المستدرك"(7810)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 398).

(3)

رواه الدراقطني في "سننه"(3/ 277)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 398)، عن عبد الله بن جعفر يقول: حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته

فلاعن بينهما بعد العصر عند المنبر".

(4)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (7/ 36)، و "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (7/ 412 - 412)، و "بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 349) وهو مذهب الحنابلة. انظر:"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 113)، و "المغني" لابن قدامة 16. انظر:"الأم" للإمام الشافعي (7/ 34)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (17/ 107). =

ص: 230

وأباه أبو حنيفةَ (1).

* واختلفَ مالكٌ والشافِعيُّ في قَدْرِ المالِ المُغَلَّظِ، فاعتبرَ مالكٌ نِصابَ السرقةِ عنده (2)، واعتبرَ الشافعيُّ مقدارَ النّصاب (3).

* * *

= 17. انظر: "الموطأ" للإمام مالك (2/ 728)، و"التمهيد" لابن عبد البر (22/ 83).

(1)

وهو مذهب الحنابلة. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (4/ 113)، و "المغني" لابن قدامة (10/ 212).

(2)

انظر: "الأم" للإمام الشافعي (7/ 34)، و"الحاوي الكبير" للماوردي (17/ 107).

(3)

انظر: "الموطأ" للإمام مالك (2/ 728)، و"التمهيد" لابن عبد البر (22/ 83).

ص: 231