الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[215] باب تحرير القول في مسألة زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع سرد جملة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة في هذا الباب
[قال الإمام في معرض كلامه على أخطاء البوطي في كتاب فقه السيرة]:
قال [أي البوطي في "فقه السيرة"](ص 521) وهو يسرد الوجوه الدالة على مشروعية زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول: هذا كذب على الأئمة الأعلام، وبخاصة ابن تيمية شيخ الإسلام، فإن أحداً منهم لم يرو عن المذكورين زيارتهم للقبر الشريف كلما مروا على الروضة فضلاً عن أن ينقلوا الإجماع عليه!! بل نص الإمام مالك على كراهة ذلك. وأقوال العلماء الشاهدة لما أقول كثيرة، اجتزئ منها على قولين اثنين: أحدهما لابن تيمية المفُترى عليه، والآخر للإمام النووي باعتباره من أئمة الشافعية الذين يقلدهم الدكتور البوطي!
1ـ أما ابن تيمية فأقواله كثيرة جداً في هذا الصدد وإليك نصين منها:
الأول قوله: «ولم يكن الصحابة يدخلون إلى عند القبر، ولا يقفون عنده خارجاً، مع أنهم يدخلون إلى مسجده ليلاً ونهاراً، وكانوا يقدمون من الأسفار للاجتماع بالخلفاء الراشدين وغير ذلك فيصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة وعند دخول المسجد والخروج منه ولا يأتون القبر، إذ كان هذا عندهم مما
لم يأمرهم به ولم يسنه لهم، وإنما أمرهم وسن لهم الصلاة والسلام عليه في الصلاة وعند دخولهم المساجد، وغير ذلك، ولكن ابن عمر كان يأتيه فيسلم عليه وعلى صاحبيه عند قدومه من السفر، وقد يكون فعله غير ابن عمر أيضاً، فلهذا رأى من رأى من العلماء هذا جائزاً اقتداء بالصحابة رضوان الله عليهم. وابن عمر كان يسلم ثم ينصرف ولا يقف، يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف. ولم يكن جمهور الصحابة يفعلون كما فعل ابن عمر، بل كان الخلفاء وغيرهم يسافرون للحج وغيره، ويرجعون، ولا يفعلون ذلك، إذ لم يكن هذا عندهم سنة سنّها لهم، وكذلك أزواجه كن على عهد الخلفاء وبعدهم يسافرن إلى الحج، ثم ترجع كل واحدة إلى بيتها كما وصاهن بذلك. وكانت أمداد اليمن الذين قال الله تعالى فيهم:{فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} على عهد أبي بكر وعمر يأتون أفواجاً من اليمن للجهاد في سبيل الله، ويصلون خلف أبي بكر وعمر في مسجده، ولا يدخل أحد منهم إلى داخل الحجرة، ولا يقف في المسجد خارجاً منها، لا لدعاء ولا لصلاة ولا لسلام ولا لغير ذلك، وكانوا عالمين بسنته كما علمتهم الصحابة والتابعون».
كذا في كتابه «الجواب الباهر في زوار المقابر» . (ص60 - الطبعة السلفية)
الثاني: قوله في رده على الأخنائي (ص45):
«وأما ما يظن أنه زيارة لقبره صلى الله عليه وآله وسلم مثل الوقوف خارج الحجرة للسلام والدعاء فهذا لا يستحب لأهل المدينة، بل ينهون عنه. لأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان- الخلفاء الراشدين وغيرهم-كانوا يدخلون إلى مسجده للصلوات الخمس وغير ذلك، والقبر عند جدار المسجد، ولم يكونوا يذهبون إليه، ولا يقفون عنده، وقد ذكر هذا مالك وغيره من العلماء ذكروا أنه لا
يستحب بل يكره للمقيمين بالمدينة الوقوف عند القبر للسلام أو غيره لأن السلف من الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك إذا دخلوا المسجد للصلوات الخمس وغيرها على عهد الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يصلون بالناس في المسجد، وكان الناس يقدمون من الأمصار يصلون معهم، ومعلوم أنه لو كان مستحباً لهم أن يقفوا حذاء القبر ويسلموا أو يدعوا أو يفعلوا غير ذلك لفعلوا ذلك، ولو فعلو لكثر وظهر واشتهر. لكن مالك وغيره خصوا من ذلك عند السفر لما نقل عن ابن عمر، قال القاضي عياض: قال مالك: ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج على سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر. قيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر، ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة وفي الأيام المرة أو المرتين أو أكثر من ذلك عند القبر يسلمون ويدعون ساعة؟ فقال: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده».
2 -
قال النووي «في كتابه» مناسك الحج» (29/ 2 - مخطوط):
قلت: وهذه الأقوال من الإمام النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية، صريحة في
إبطال الإجماع الذي نقله البوطي، بل هي ناطقة بعدم مشروعية ما ذكره، وأنه كذب على العلماء عامة، وابن تيمية خاصة فيما عزاه إليهم من الرواية.
فماذا يقول المنصف المتجرد في مثل هذا الإنسان الذي لا يبالي بما يخرج من فيه. فإلى الله المشتكي.
ثم قال الدكتور: «الوجه الثالث: ما ثبت من زيارة كثير من الصحابة قبره صلى الله عليه وآله وسلم منهم بلال رضي الله عنه رواه ابن عساكر بإسناد جيد» .
قلت فيه أمور:
أولاً: أنه أبهم على القراء نص رواية ابن عساكر واكتفى بالإشارة إليها، لأنه لو ساقها بتمامها لتبين للناس بطلانها، ولو لم يقفوا على ضعف إسنادها، فكان لابد لي من أن أسوق الرواية ليتيقن القراء الكرام معنا أن الدكتور لا يجري فيما يكتب على منهج علمي محقق، وانما هو الهوى والغرض وعلى القاعدة المزعومة «الغاية تبرر الوسيلة»! فروى الحافظ ابن عساكر في «تاريخ دمشق» في ترجمة إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء الأنصاري (ج2ق254/ 1) بإسناده عنه قال: حدثني أبي محمد بن سليمان عن أبيه سليمان ابن بلال عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال (فذكر قصة قدوم بلال إلى الشام في عهد عمر ثم قال):
«ثم إن بلالاً رأى في منامه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول له، ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورني يا بلال؟ فانتبه حزينًا وجلاً خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة، فأتي قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، وأقبل الحسن والحسين، فجعل يضمهما ويقبلهما، فقالا له: يا بلال نشتهي نسمع أذانك الذي
كنت تؤذنه لرسول صلى الله عليه وآله وسلم في السحر، ففعل فعلا سطح المسجد، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلما أن قال:«الله أكبر» عجت المدينة فلما أن قال: «أشهد أن لا إله إلا الله» زاد عجيجها، فلما أن قال:«أشهد أن محمداً رسول الله» ^ خرج العواتق من خدورهن، فقالوا:«أبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فما رؤي يوم أكثر باكياً ولا باكية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك اليوم» .
قلت: فهذه الرواية باطلة موضوعة، ولوائح الوضع عليها ظاهرة من وجوه عديدة أذكر أهمها:
1 -
قوله: «فأتي قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يبكي عنده» فإنه يصور لنا أن قبره صلى الله عليه وآله وسلم كان ظاهراً كسائر القبور التي في المقابر يمكن لكل أحد أن يأتيه! وهذا باطل بداهة عند كل من يعرف تاريخ دفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجرة عائشة رضي الله عنها وبيتها الذي لا يجوز لأحد أن يدخله ألا بإذن منها، كذلك كان الأمر في عهد عمر رضي الله عنه، فقد ثبت أنه لما طُعن رضي الله عنه أمر ابنه عبد الله أن يذهب إلى عائشة ويقول لها: إن عمر يقول لك إن كان لا يضرك ولا يضيق عليك فإني أحب أن أدفن مع صاحبي فقالت: أن ذلك لا يضرني ولا يضيق علي قال: فادفنوني معهما. أخرجه الحاكم (3/ 93).
ثم أخرج (3/ 7) بإسناده الصحيح عنها قالت: «كنت أدخل البيت الذي
دفن معهما عمر والله ما دخلت إلا وأنا مشدود على ثيابي حياء من عمر رضي
الله عنه».
ولقد استمر القبر الشريف في بيت عائشة إلى ما بعد وفاتها بل إلى آخر قرن الصحابة رضي الله عنهم ثم أدخلوا البيت ضموه إلى المسجد لتوسعته فصار
بذلك في المسجد على النحو المشاهد اليوم، فيظن من لا علم عنده بحقيقة الأمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما مات دفنه الصحابة في المسجد وحاشاهم من ذلك وإنما دفنوه في البيت ثم حدث بعد ذلك ما ذكرنا، خلافاً لما يظنه كثير من الجهال ومنهم واضع هذه القصة، الذي أعطي صورة للقبر مخالفة للواقع يومئذ وللصحابة رضي الله عنهم كما شرحه شيخ الإسلام وغيره من المحققين، وذكرت طرفاً منه في كتابي «تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد» ، فليراجعه من شاء.
2 -
قوله: «ويمرغ وجهه عليه» .قلت: وهذا دليل آخر على وضع هذه القصة وجهل واضعها، فإنه يصور لنا أن بلالاً رضي الله عنه من أولئك الجهلة الذين لا يقفون عند حدود الشرع إذا رأو القبور، فيفعلون عندها ما لا يجوز من الشركيات والوثنيات، كتلمس القبر والتسمح به وتقبيله، وغير ذلك مما هو مذكور في محله وإن كان يجيز ذلك بعض المتفقهة، الذين لا علم عندهم بالكتاب والسنة ينير بصائرهم وقلوبهم ممن يسايرون العامة على أهوائهم، ويبررون لهم كثيراً من ضلالاتهم.
ولقد أعجبني حقاً أن لا يكون الدكتور البوطي منهم في هذه المرة، فقد رأيته يقول في آداب زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم (ص523):
فهذا القول من الدكتور على مافيه من التردد في حكم ما ذكر مما يدل على أنه لم يفقه بعد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «كل بدعة صلالة وكل ضلالة في النار» يدل دلاله واضحة على أنه لا يمكن أن يعتقد أن بلالاً مرغ وجهه على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو
الحق، وحينئذ فكيف يحتج الدكتور برواية ابن عساكر هذه وفيها هذا المنكر!؛ لأنه لا يملك الوسائل التي تمكنه من ذلك، فهو يأخذ من الرواية الواحدة ما يشتهي ويحتج به، ويعرض عمالا يشتهي بل وينكره!! وإلا فماذا يقول الدكتور لمن قد يحتج عليه من المبتدعة والمتفقهة برواية ابن عشاكر هذه على جواز التمرغ بالقبر الشريف، وهو نفسه قد احتج بها وقواها؟!
قوله «خرج العواتق من خدورهن .... » الخ كلام شعري خيالي ظاهر الوضع، وإلا فما علاقة خروجهن بسماعهن الشهادة الأخرى وقولهن، أبعث سول الله صلى الله عليه وآله وسلم»! من أجل ذلك جزم الحافظ ابن حجر بأن هذه القصة موضوعة كما يأتي.
ثانياً: قول البوطي: «رواه ابن عساكر بإسناد جيد» .
فأقول: فيه مؤاخذتان:
الأولى: أن هذا التجويد ليس من علم الدكتور واجتهاده، لأنه لا علم عنده مطلقا يؤهله لإصدار مثل هذا الحكم، كما عرف القراء من المقالات السابقة، وإن كان هذا الحكم خطأ في ذاته كما يأتي، فكان من الواجب عليه أن يعزوه إلى من نقله عنه، لكي لا يتشبع بما ليس له لقوله صلى الله عليه وآله وسلم، «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» متفق عليه.
الثانية: أن القول المذكور إنما هو للشيخ السبكي الشافعي قال في كتابه «شفاء السقام في زيارة خير الأنام» وقد رده عليه الحافظ المحقق محمد بن
عبد الهادي الحنبلي في كتابه العظيم: «الصارم المنكي في الرد على السبكي» (ص 210 - 215) وأطال النفس فيه بما حاصله أن إسناده لا يصلح الاعتماد عليه ولا يرجع عند التنازع إليه عند أحد من أئمة هذا الشأن. وسأبين علته قريباً إن شاء
الله تعالى، فهل الدكتور على علم بهذا ومع ذلك آثر عليه قول السبكي لا لشيء إلا لأنه شافعي المذهب مثله، أم أنه لم يعلم به مطلقاً؟ الأمر كما قيل: فإن كنت لا تدري
…
الثالثة: أن إسناد القصة أبعد ما يكون عن الجودة، فانه عند ابن عساكر كما سبق-من رواية إبراهيم بن محمد بن سليمان عن أبيه سليمان بن بلال .. وهذا إسناد مظلم فيه مجهولان:
الأول: سليمان بن بلال، قال الحافظ ابن عبد الهادي «غير معروف، بل هو مجهول الحال (كذا الأصل) قليل الرواية، لم يشتهر بحمل العلم ونقله، ولم يوثقه أحد من الأئمة فيما علمنا، ولم يذكر البخاري ترجمته في كتابه، وكذلك ابن أبي حاتم، ولا يعرف له سماع من أم الدرداء» .
قلت فهو مجهول العين، وما في الأصل «مجهول الحال» لعله خطأ مطبعي، أو سبق قلم من المؤلف رحمة الله تعالى. وتبعاً للبخاري وابن أبي حاتم لم يذكره الذهبي في «الميزان» ولا الحافظ في «اللسان» .
والآخر: إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال، قال الحافظ ابن عبد الهادي «شيخ لم يعرف بثقة وأمانة ولا ضبط وعدالة، بل هو مجهول غير معروف بالنقل، ولا مشهور بالرواية، ولا مشهور بالرواية، ولم يرو عنه غير محمد بن الفيض، روى عنه هذا الأثر المنكر» .
وأورده الذهبي في «الضعفاء» وقال: «لا يعرف» وقال في «الميزان» «فيه جهالة، حدث عنه محمد بن الفيض الغساني» .
وأقره الحافظ ابن حجر في «اللسان» وزاد عليه، فقال:
قلت: وقد أشار إلى ضعف هذه القصة كل من الحافظين المزي، وابن كثير أما الأول ففي ترجمة بلال في كتابه «تهذيب الكمال» والآخر في ترجمته من كتابه «البداية» (2/ 102)، فهؤلا خمسة من الحفاظ المشهورين- وكلهم شافعية من حظ البوطي! -إلا ابن عبد الهادي جزموا بعدم صحتها ما بين مصرح بالوضع ومضعف، يقابلهم السبكي وحده الذي جود إسنادها، والنقد العلمي يقطع بوهمه؛ إن لم يقل باتباعه لهواه ومع هذا قلده فضيلة الدكتور دون أولئك! فماذا يقول كل متجرد عن الهوى منصف في هذا الدكتور الذي يؤلف في السيرة، ويقرر أحكاماً شرعية، وهو لا يحسن الاتباع ولا التقليد!! فاللهم هداك.
(تنبيهان):
الأول: محمد بن سليمان بن بلال ترجمه الحافظ ابن عبد الهادي (ص 224) بما يؤخذ منه أنه مجهول الحال، لكني وجدت ابن أبي حاتم روى في «الجرح والتعديل» (3/ 2/267) عن أبيه أنه قال فيه:«ما بحديثه بأس» .وبذلك تجنبت إعلال القصة به أيضاً.
والآخر: أورد البوطي رواية ابن عساكر السابقة عن بلال محتجا بها على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله في مخالفته-بزعم البوطي- الإجماع القائل بمشروعية زيارة قبره عليه الصلاة السلام، وهي فرية على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حمل رايتها الشيخ الأخنائ والسبكي وغيرهما قديماً، وزيني
دحلان وأمثاله في محاربته لمجدد دعوة التوحيد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه ومن تبعهم عليها من المتقدمين والمتأخرين، ومنهم البوطي المسكين، فقال (ص 520):
(واعلم أن زيارة مسجده وقبره صلى الله عليه وآله وسلم من أعظم القربات إلى الله عز وجل أجمع على ذلك جماهير المسلمين في كل عصر إلى يومنا هذا. لم يخالف في ذلك إلا ابن تيمية غفر الله له. فقد ذهب إلى أن زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم غير مشروعة).
ثم استدل عل الإجماع المذكور بوجوه أربعة منها راوية ابن عساكر، ثم قال:(فاعلم أنه لا وجه لما انفرد به ابن تيمية رحمه الله من دفعه هذه الأوجه في غير ما دافع، والقول بأن زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم غير مشروع).
قلت: وهذا كذب وافتراء عظيم من هذا الدعي على شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فكتبه وفتاويه طافحة مصرحة بمشروعية زيارة قبور المسلمين عامة، وزيارة قبره عليه الصلاة والسلام خاصة، كما يعلم ذلك كل من اطلع على شيء من كتب الشيخ ودرسها، ومن ذلك كتابه "الرد على الأخنائي"، وهو من المعاصرين للشيخ الذين ردوا عليه بظلم مقروناً بالافتراء عليه، ومن ذلك هذه التهمة التي تلقفها البوطي عنه أو عن أمثاله من المفترين الكذابين، دون أن يرجع إلى بعض كتب الشيخ ليتبين حقيقة الأمر، فقد قال الشيخ رحمه الله في أول "الرد على الأخنائي" بعد أن ذكر فريته المذكورة عليه:
(والمجيب (يعني نفسه) قد عرفت كتبه، وفتاويه مشحونة باستحباب زيارة القبور، وفي جميع مناسكه، يذكر استحباب زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد، ويذكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل مسجده والأدب في ذلك).
وقال في أول كتابه "الجواب الباهر في زوار المقابر"(ص14):
(وقد ذكرت فيما كتبت من المناسك أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج عمل صالح مستحب، وذكرت السنة في ذلك، وكيف يسلم عليه، فهل يستقبل الحجرة أم القبلة على قولين
…
).
وقد شرح هذا ابن عبد الهادي في رده على السبكي، فليراجعه من شاء الزيادة، فماذا يقول القائل في الدكتور البوطي وفريته هذه؟ هل لم يطلع على هذه المصادر التي تحول بينه وبينها؟ أم أنه اطلع وعلم أن شيخ الإسلام بريء منها، ثم أصر على اتهامه بها لما في قلبه من الغل والحقد على شيخ الإسلام ابن تيمية بصورة خاصة والسلفيين بصورة عامة غير مبال بمثل قوله تعالى:{إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم} ، وقوله عز وجل:{والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} .
وسواء كان هذا أم ذاك، فالله سبحانه هو حسيب البوطي وأمثاله، ونحن إنما علينا أن ندافع عن الذين آمنوا نبرئ ساحتهم مما اتهموا به من الأكاذيب والأباطيل التي يكون الدافع عليها تارة الجهل وأخرى الظلم، وقد يجتمعان!
ومن النوع الأول قوله: "لم يخالف في ذلك إلا ابن تيمية".فإن من الواضح أن اسم الإشارة (ذلك) يرجع إلى كل من زيارة مسجده صلى الله عليه وآله وسلم وزيارة قبره، وهذه فرية جديدة تفرد بها البوطي دون أسلافه المشار إليهم، فإن زيارة مسجده صلى الله عليه وآله وسلم مما يقول شيخ الإسلام بمشروعيته أيضاً، بل إنه يقول بمشروعية السفر إليه خاصة كما سبق دون السفر لزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وظاهر كلام البوطي أنه لايفرق بين
الزيارتين، كأسلافه السابقين، ومن الدليل على ذلك قوله عقب ما سبق نقله
عنه آنفاً.
(وجملة ما اعتمده ابن تيمية في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد
…
)، وهذا إنما استدل به ابن تيمية لإثبات مشروعية السفر إلى المسجد دون القبر، فيرد البوطي استدلاله بأن الحديث كناية عن أولى الأماكن بالاهتمام للتوجه إليها من مسافات بعيدة، هذه المساجد الثلاثة بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخص أماكن أخرى غير هذه المساجد بالزيارة (!).
فتأمل كيف يخلط بين الزيارة بسفر، وهو المنفي في الحديث الأول، وبين الزيارة بدون سفر، وهو المثبت في حديث قبا فلا تعارض بينهما، كما هو ظاهر، وهو ما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى؛ لأنه يقول بمشروعية زيارة مسجد قباء وزيارة قبور البقيع والشهداء وغيرها من القبور، ولكنه لا يجيز السفر إليها كما يدل عليه الحديث الأول، فهو قائل بالحديثين، بينما البوطي -هداه الله- ليس عنده من العلم ما يوفق بينهما لو كانا متعارضين-إلا بتعطيل دلالة الأول منهما بأنه كناية! وهذا خلاف ما فهمه السلف من الصحابة وغيرهم، فقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه نهى رجلاً أراد الذهاب إلى الطور فقال له:(دع عنك الطور فلا تأته) واحتج عليه بحديث النهي عن شد الرحال، وثبت نحوه عن غير واحد من الصحابة كما تراه مبسوطاً في كتابي "أحكام الجنائز"(ص224 - 231) فلو كان الحديث يعني ما ذهب إليه البوطي ما استقام نهي ابن عمر عن الذهاب إلى الطور ترى البوطي أصاب أم ابن عمر؟! فاللهم هداك.
وليس غرضي الآن مناقشة البوطي في كل ما جاء في هذه المسألة من تخاليط
لأن لهذا مجالاً آخر وهو الذي سبقت الإشارة إليه في بيان الأخطاء الفقهية-وما أكثرها- وإنما هو التنبيه فقط على افترائه على شيخ الإسلام ابن تيمية وتحذير القراء من أن يغتروا بمثله، والله تعالى المسؤول أن يسدد خطانا، ويخلص نوايانا ويوفقنا للعمل الصالح الموافق للكتاب والسنة.
15 -
ثم قال الدكتور في حاشية (ص521):
(هنالك أيضاً طائفة من الأحاديث الواردة عنه صلى الله عليه وآله وسلم في فضل زيارة قبره لا يخلو معظمها من ضعيف أو لين، وهي وإن كانت ترتقي في مجموعها إلى درجة القوة، فقد آثرنا أن لا نسوقها مع هذه الدلائل التي ذكرناها حتى لا يتعلق المخالفون بما قد يطيب لهم التعلق به من لين أو ضعف فيها، فيجدوا بذلك منفذاً للانتصار لرأي ابن تيمية على ما فيه من شذوذ)!
أقول: لقد ذكرني هذا بالمثل المشهور: أحمق من نعامة! ذلك لأنها إذا رأت الصياد أدخلت رأسها في الرمل لكي لا يراها الصياد لحماقتها، وهكذا صنع الدكتور، فإنه بإيثاره أن لا يسوق تلك الأحاديث، توهم أن ينجو من النقد والكشف عن الخطأ، وما هو بناج، فالأحاديث المشار إليها معروفة الضعف والنكارة-سواء ساقها أم لم يسقها.
ولو أنه أراد النجاة حقاً لاستغنى عن هذه الحاشية ولما سود بها كتابه! ولم يفتح باب الانتقاد عليه ولكن يأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره، ويظهر للناس الحقيقة الجلية وما ينبغي الاضطلاع بهذا العلم الشريف، حتى لا يغتروا بالمؤلف وبكتابه مرة أخرى، فيضلوا سواء السبيل. ويبدو أن الذي اضطره إلى هذا القول إنما هو شعوره بجهله وعجزه عن إثبات ما زعمه من القوة، فلم يسعه إلا الدعوى التي لا
يعجز عنها أي جاهل ولم يكتفِ بها حتى لجأ إلى تبريرها بما يضحك الثكلى وليس هذا فقط، بل إنه أعرض عن أقوال الأئمة الصريحة في تضعيف جميع طرق الأحاديث المشار إليها، وفيهم جماعة من كبار أئمة الشافعية الذي يتعصب لهم الدكتور عادة، كالإمام النووي والحافظ ابن حجر العسقلاني فضلاً عن غيرهم من الحفاظ المحققين كما سأبينه بإذن الله تعالى، مفصلاً ما في قوله هذا من الجهل والتجاهل والافتراء والتقليد الأعمى واتباع الهوى.
1 -
لقد قلد في دعواه ارتفاع حديث فضل زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم إلى درجة القوة بعض الفقهاء المتقدمين المقلدين الذين لا علم عندهم بهذا العلم الشريف مثل الأخنائي والسبكي وغيرهما من المتأخرين، وهو يعلم أن الذين ردوا عليهم من أهل المعرفة بهذا العلم قد بينوا بطلان الدعوى المذكورة بما لا يدع شبهة، فهذا هو الأخنائي يقول:
(ورد في زيارة قبره أحاديث صحيحة وغيرها مما لم يبلغ درجة الصحيح، لكنها يجوز الاستدلال بها على الأحكام الشرعية ويحصل بها الترجيح).
فرد ذلك عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بوجوه يهمنا منها بعضها، فقال رحمه الله (ص87) وكأنه يرد على البوطي لتشابه ما بينه وبين الأخنائي!
(الثالث) أنه قول لم يذكر عليه دليلاً، فإذا قيل له: لا نسلم أنه ورد في ذلك حديث صحيح احتاج إلى الجواب. وهو لم يذكر شيئاً من تلك الأحاديث فبقي ما ذكره دعوى مجردة تقابل بالمنع.
(الوجه الرابع) أن نقول: هذا قول باطل لم يقله أحد من علماء المسلمين العارفين بالصحيح، وليس في الأحاديث التي رويت بلفظ: زيارة قبره حديث
صحيح عند أهل المعرفة، ولم يخرج أرباب الصحيح شيئاً من ذلك، ولا أرباب السنن المعتمدة، كسنن أبي داود والنسائي ونحوهم، ولا أهل المسانيد التي من أهل هذا الجنس كمسند أحمد وغيره، ولا في موطأ مالك، ولا مسند الشافعي ونحو ذلك. ولا احتج إمام من أئمة المسلمين كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم بحديث فيه ذكر زيارة قبره، فكيف يكون في ذلك أحاديث صحيحة ولم يعرفها أحد من أئمة الدين ولا علماء الحديث؟ ومن أين لهذا وأمثاله أن تلك الأحاديث صحيحة وهو لا يعرف هذا الشأن؟
(الوجه الخامس) قوله: وغيرها بما لم يبلغ درجة الصحيح .. فنقول له لا نسلم أنه ورد من ذلك ما يجوز الاستدلال به، وهو لم يذكر إلا دعوى مجردة،
فتقابل بالمنع.
(الوجه السادس) أن يقال: ليس في هذا الباب ما يجوز الاستدلال به، بل كلها ضعيفة، كما بسط في مواضع، وذكرت هذه الأحاديث، وذكرت كلام الأئمة عليها حديثاً حديثاً، بل ولا أعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم بلفظ زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم البتة، فلم يكن هذا اللفظ معروفاً عندهم، ولهذا كره مالك التكلم به (1) بخلاف لفظ (زيارة) مطلقاً، فإن هذا اللفظ معروف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن أصحابه
…
).
أقول: فما الذي صرف الدكتور البوطي عن الاعتماد على هذا الكلام لشيخ الإسلام وهو أعلم من السبكي وغيره ممن يقلده البوطي بما لا يصح المفاضلة
(1) قلت: وقد يستنكر الدكتور البوطي وأمثاله من ذوي الأهواء ثبوت هذا عن مالك، فماذا يفعل وهو في "المدونة"(2/ 132)؟ [منه]
بينهما كما يقول مالك بكراهة التكلم بزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن غيره من أئمة الحديث كما يأتي-لولا الهوى وخوف أن يقال فيه "وهابي"! أم أن الدكتور لضيق عطنه وقلة اطلاعه، لا علم عنده بوجهة نظر ابن تيمية هذه، وأقوال الموافقين له من العلماء، وهذا مما استبعده، وسواء كان هذا وذاك فأحلاهما مر!
وكذلك ما الذي منعه من الانتفاع بنقد الحافظ محمد بن عبد الهادي للشيخ السبكي في كتابه "الصارم المنكي في الرد على السبكي". وقد تتبع فيه أحاديث السبكي في الزيارة حديثاً حديثاً وبين عللها، وأقوال أئمة الحديث فيها من (ص10 - 171) وفصل القول فيها تفصيلاً لا يدع أي شك في قلب أحد من المنصفين بضعفها، وعدم ثبوت شيء منها إطلاقاً، وأنه ليس فيها ما يقوي بعضه بعضاً لشدة ضعفها واضطراب أسانيدها، وتضارب ألفاظها، ولذلك فإني أرى لزاماً على أن أوجز الكلام عليها هنا بمقدار ما يكشف عن عللها، وتقوم الحجة به على البوطي وأمثاله من المقلدين والمغترين بها (ليحيى من حيّ عن بينة) محيلاً لمن شاء التفصيل إلى كتاب الحافظ ابن عبد الهادي فإنه جمع فأوعى، وكتاب التلخيص لابن حجر (ج2/ 266و 367) وإلى كتابي "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" فقد كنت بسطت الكلام فيه على بعضها رقم (25و 47و 204).
الحديث الأول عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ:
«من زار قبري وجبت له شفاعتي» وله عنه طرق):
الأولى: من رواية موسى بن هلال العبدي وهو مجهول، وقد اضطرب في إسناده فقال مرة: عن عبد الله بن عمر، وقال: عن عبيد الله بن عمر عن نافع عنه. قال البيهقي:
(وسواء قال عبيد الله، أو عبد الله فهو منكر عن نافع عن ابن عمر لم يأت به غيره) وقال فيه العقيلي:
(ولا يصح حديثه ولا يتابع عليه).ثم ساقه بإسناده وقال عقبه:
(والرواية في هذا الباب فيها لين).وفي نقل الحافظ ابن حجر عنه أنه قال:
(ولا يصح في هذا الباب شيء. والمعنى واحد، وهو أن طرقه كلها ضعيفة) وذلك مما صرح به الحافظ في آخر كلامه على الحديث.
وعبيد الله المصغر-ثقة، بخلاف أخيه عبد الله -المكبر- فإنه ضعيف ورجع ابن عدي أنه هو صاحب هذا الحديث، ووافقه الإمام ابن خزيمة وصرح بأن الثقة لا يروي هذا الخبر المنكر كما قال الحافظ ابن حجر: ولذا قال النووي:
(إسناده ضعيف جداً).
الثانية: من رواية عبد الله بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر.
وعبد الله بن إبراهيم وهو ابن أبي عمرو الغفاري متهم بالكذب والوضع. ونحوه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فإنه ضعيف جداً، وهو راوي حديث توسل آدم عليه السلام بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم وهو موضوع كما بينته في "الأحاديث الضعيفة" رقم (25) وقد قال النووي في هذه الطريق أيضاً:
"إسناده ضعيف جداً".
الثالثة: من رواية مسلمة بن سالم الجهني عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن سالم عنه بلفظ: «من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقاً على أن أكون
له شفيعاً يوم القيامة».
ومسلمة هذا مجهول، ويقال فيه مسلمة بن سالم الجهني، قال أبو داود: ليس بثقة. وقد اضطرب في إسناده فرواه مرة هكذا. وقال مرة: عن عبد الله بن عمر عن نافع. وهذا هو الأشبه أنه من روايته عن عبد الله بن عمر العمري المكبر المضعف، فيكون الجهني هذا متابعاً لموسى بن هلال الذي في الطريق الأولى، إلا أن متابعته له مما لا يفرح بها العلماء، لأنه غير ثقة كما عرفت، ولو نفعت لم يتقوى الحديث بها لأن فوقهما عبد الله بن عمر الضعيف، على أنه ليس فيه زيارة القبر الشريف! فيمكن حمله على زيارته في حياته، وهذا مما لا شك في شرعيته فتنبه ولا تكن من أهل الأهواء الغافلين!
ثم إن المحفوظ في هذا المعنى ما رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل أشهد (وفي رواية: أشفع) لمن مات فيها» . فهذا هو أصل الحديث ولفظه، فحرفه أولئك المجهولون والضعفاء عمداً أو سهواً، واغتر بهم من لا علم عندهم!
الرابعة: من رواية حفص بن سليمان أبي عمر عن الليث بن أبي سليم عن مجاهد عنه بلفظ: «من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي زاد بعضهم وصحبني» .
وهذا منكر جداً، حفص بن سليمان وهو الأسدي القارئ الغاضري متروك متهم بالكذب والوضع، وقد تفرد به كما قال البيهقي، وليث بن أبي سليم ضعيف مختلط، وهو مخرج في "الضعيفة" برم (47).
الخامسة: من راوية محمد بن محمد بن النعمان بن شبل: حدثني جدي قال:
حدثني مالك عن نافع عنه بلفظ: «من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني» .
وهذا موضوع، كما قال ابن الجوزي والذهبي والزركشي وغيرهم كما تراه في "الضعيفة"(45)، والآفة من محمد بن محمد، أو من جده النعمان بن شبل، وكلاهما متهم، ورجح ابن عبد الهادي الأول فليراجعه من شاء. وليس فيه أيضاً ذكر زيارة القبر الشريف.
الحديث الثاني: عن عمر مرفوعاً بلفظ: «من زار قبري، أو قال: من زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً» . يرويه سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي: حدثني رجل من آل عمر عنه.
وهذا متن مضطرب، وإسناد مظلم، سوار هذا مجهول لا يعرف، وبعض الرواة يقلبه فيقول: ميمون بن سوار. وشيخه رجل لم يسم وهو أسوأ حالاً من المجهول، وقد اضطربوا فيه، فبعضهم يقول:"رجل من آل عمر"، كما في هذه الرواية، وبعضهم يقول:"رجل من ولد حاطب". وبعضهم يدخل بينه وبين سوار هارون أبا قزعة وهو مجهول أيضاً، وبعضهم يقول فيه هارون بن أبي قزعة، وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود في "الضعفاء"! وقال "البيهقي":"هذا إسناد مجهول".
الحديث: الثالث: عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ:
«من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتب له حجتان مبرورتان» .
وهذا موضوع، آفته أسيد بن زيد الجمال الكوفي، قال ابن معين: كذاب، سمعته يحدث بأحاديث كذب ومع ذلك فليس فيه ذكر القبر مطلقاً.
وله عنه طريق آخر بلفظ: «من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي،
ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً أو قال شفيعاً».
وهذا موضوع أيضاً، في إسناده فضالة بن سعيد بن زميل مجهول لا يعرف إلا في هذا الخبر الذي تفرد به ولم يتابع عليه. وقال الذهبي:"هذا موضوع".
الحديث الرابع: عن علي مرفوعاً: «من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن حج ولم يزر قبري فقد جفاني» .
وهذا موضوع، آفته أنه من رواية النعمان بن شبل المتقدم، اتهمه الحافظ موسى بن هارون الحمال، وقال ابن حبان: يأتي عن الثقات بالطامات، وعن الأثبات بالمقلوبات. وهو يرويه عن محمد بن الفضل بن عطية، وكان كذاباً، كما قال ابن معين، وقال أحمد: حديثه حديث أهل الكذب. وهذا يرويه عن جابر الجعفي، وهو رافضي متروك شديد الضعف، قال أبو حنيفة رحمه الله: ما رأيت أكذب منه.
الحديث الخامس: عن ابن مسعود مرفوعاً بلفظ: «» من حج حجة
الإسلام، وزار قبري، وغزا غزوة، وصلى في بيت المقدس، لم يسأله الله فيما افترض عليه».
وهذا حديث باطل ظاهر البطلان، ولذلك قال السيوطي وغيره: إنه حديث موضوع، وهو مخرج في "الأحاديث الضعيفة" برقم (204).
الحديث السادس: عن أبي هريرة مرفوعاً:
«من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي» .
وهذا موضوع، في إسناده خالد بن يزيد العمري، قال ابن معين، وأبو حاتم:
"كذاب". وقال ابن حبان: "يروي الموضوعات عن الأثبات".
قلت: والسند إليه مظلم، فيه من لا يعرف.
الحديث السابع: عن أنس، وله عنه لفظان بطريقين:
الأول بلفظ: «» من زارني محتسباً كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة».
وفي إسناده سليمان بن يزيد الكعبي، قال أبو حاتم:"منكر الحديث".
ثم هو منقطع، لأن الكعبي هذا لم يسمع من أنس.
والآخر بلفظ: ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر".
وهذا موضوع، في سنده سمعان بن المهدي، قال الذهبي:
"ولا يكاد يعرف، ألصقت به نسخة مكذوبة رأيتها، قبح الله من وضعها".
قلت: وإسناده إليه ظلمات بعضها فوق بعض، وليس فيه ذكر القبر أيضاً.
الحديث الثامن: عن رجل عن بكير بن عبد الله مرفوعاً:
«من أتى المدينة زائراً وجبت له شفاعتي يوم القيامة» .
وهذا باطل كما قال ابن عبد الهادي، وإسناده مرسل أو معضل، وفيه الرجل المبهم، وليس فيه ذكر القبر.
قلت: هذه هي الأحاديث التي أشار إليها الدكتور البوطي، وتلك طرقها التي زعم أن الحديث يرتقي بمجموعها إلى درجة القوة! دون أن يجري أي دراسة حولها -لو كان يستطيعها- ليعلم شدة ضعفها وتنافر متونها، فيحول ذلك بينه وبين الزعم المذكور. ولكن إذا كان لا يستطيع تلك الدراسة، فهل لا يحسن التقليد
أيضاً؟ فهو بدل أن يقلد شيخ الإسلام الذي صرح بتضعيف الحديث من جميع طرقه كما رأيت، يقلد الاخنائي، أو بدل أن يقلد الإمام النووي الذي ضعف جداً طريقيه المتقدمين -وهما أشهر طرقه- قلد السبكي الذي قوى الحديث خلافاً لكل من تكلم على الحديث من المتقدمين عليه- علماً وزمناً- الذين جزموا بأنه حديث منكر كابن خزيمة والبيهقي وغيرهما ممن تكلموا على مفردات طرقه وضعفوها كلها ممن سبق ذكرهم كالعقيلي الذي صرح بضعف جميع طرقه والعسقلاني والذهبي والسيوطي، فضلاً عن ابن تيمية وابن عبد الهادي، فلو أن الدكتور كان يحسن التقليد على الأقل لقلد هؤلاء لاختصاصهم بهذا العلم وكثرة عددهم وتقدمهم، ولكن صدق الله العظيم:«ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور» .
واعتقادي أن الدكتور يظن (وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً) أن أي حديث كثرت طرقه تقوى بها! وهذا جهل مخالف لما هو مقرر في علم مصطلح الحديث، قال ابن الصلاح في "المقدمة"(ص36 - 37) بعد أن ذكر الحديث الحسن لغيره وهو الذي جاء من أكثر من وجه ليس فيه مغفل كثير الخطأ.
(لعل الباحث الفهم يقول: إنا نجد أحاديث محكوماً بضعفها مع كونها رويت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة مثل حديث: «الأذنان من الرأس» ونحوه، فهلا جعلتم ذلك وأمثاله من نوع الحسن، لأن بعض ذلك يعضد بعضاً كما قلتم في الحسن على ما سبق آنفاً؟ وجواب ذلك أنه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت، فمنه صنف يزيله ذلك، بأن يكون ضعفه ناشئاً من ضعف حفظ راويه، مع كونه من أهل الصدق والديانة، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه، ولم يختل فيه ضبطه، وكذلك إذا كان ضعفه
من حيث الإرسال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر. ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك، لقوة الضعف، وتقاعد هذا الجابر عن جبره، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي، متهماً بالكذب، أو كون الحديث شاذاً. وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة).
أقول: أي والله إنه لمن النفائس العزيزة التي يغفل عنها كثير من المشتغلين بهذا العلم، فضلاً عن غيرهم ممن لا معرفة لهم به مطلقاً، كهذا الذي نحن في صدد الرد عليه، والتحذير من آثار جهله، ولذلك فإنه لما لخص الحافظ ابن كثير كلام ابن الصلاح هذا في "مختصره" (1) (ص43) وأقره عليه. علق عليه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله بقوله:
(وبذلك يتبين خطأ كثير من العلماء المتأخرين في إطلاقهم أن الحديث الضعيف إذا جاء من طرق متعددة ضعيفة ارتقى إلى درجة الحسن أو الصحيح، فإنه إذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي أو اتهامه بالكذب، ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع ازداد ضعفاً، لأن تفرد المتهمين بالكذب أو المجروحين في عدالتهم بحيث لا يرويه غيرهم، يرفع الثقة بحديثهم، ويؤيد ضعف روايتهم
وهذا واضح).
قلت: إذا أمعن القارئ النظر في تلك الطرق المتقدمة لحديث الزيارة لم يجد فيها أي صفة من تلك الصفات التي ذكرها ابن الصلاح في الطرق التي يتقوى الحديث بها، فليس فيها مثلاً راوٍ واحد على الأقل هو من أهل الصدق، علمنا أنه
(1) كذا ولعل صوابها: مختصره.
ضعيف الحفظ، بل هم من المتهمين بالكذب، أو المعروفين بالضعف الشديد، أو من المجهولين، أو المبهمين مع عدم سلامة الحديث من الاضطراب والنكارة في المتن، كما أنه ليس فيها طريق واحدة مرسلة، أرسلها إمام حافظ!!
من أجل ذلك نجد كثيراً من الأحاديث الضعيفة، قد جزم العلماء بضعفها مع أن لها طرقاً كثيرة، وقد ضرب ابن الصلاح لذلك مثلاً بحديث:«الأذنان من الرأس» ، وفيه عندي نظر من وجوه أهمها أنني وجدت له طريقاً قوية الإسناد، ولذلك خرجته في "صحيح أبي داود"(123) و"سلسلة الأحاديث الصحيحة" برقم (26) وهذا مطبوع، فليراجعه من شاء.
ولذلك، فالأولى عندي التمثيل بحديث:«من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من السنة كنت له شفيعاً له يوم القيامة» كما فعل الحافظ السخاوي في "فتح المغيث"(1/ 71) وقال عقبة:
"فقد نقل النووي اتفاق الحفاظ على ضعفه مع كثرة طرقه".
والجهل بهذه القاعدة الهامة يؤدي إلى تقوية كثير من الأحاديث الضعيفة من أجل طرقها، بل وقد يؤدي إلى الالتحاق ببعض الفرق الضالة، فهذا مثلاً حديث:«إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه» فقد روي من حديث أبي سعيد، وعبد الله بن مسعود، وجابر، وسهل بن حنيف، وغيرهم، ومع ذلك فهو معدود في جملة الأحاديث الموضوعة (1).ومثله حديث:«على خير البشر، من أبي فقد كفر» له طرق كثيرة أيضاً (2). والأمثلة من هذا النوع كثيرة جداً لا تكاد تحصر، فراجع إن
(1) انظر "اللآلئ المصنوعة" للسيوطي (1/ 425)، و"تنزيه الشريعة"، لابن عراق (82) و"الفوائد المجموعة" للشوكاني (رقم 1198) وغيرها. [منه]
(2)
"تنزيه الشريعة"(1/ 353). [منه]