الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[96] باب معنى شهادة أن لا إله إلا الله وبيان مقتضياتها
[قال الإمام]:
أشهد أن لا إله إلا الله .. أي: لا معبود بحق في الوجود إلا الله الواجب الوجود لذاته تعالى. ذكره القاري وغيره.
هذا هو معنى هذه الشهادة التي تحقن دم قائلها، وتنجيه يوم لقائه الله تعالى؛ إذا عمل بمقتضاها، ولم يقتصر على التلفظ بها.
ولقد ضل كثير من المسلمين حين فهموا منها: أنه لا رب ولا خالق إلا
الله تعالى.
وبنو على ذلك: أن من عَبَدَ غيره تعالى بنوع من أنواع العبادات؛ كالاستغاثة بغيره سبحانه، والذبح لغيره، وما شابه ذلك أنه صحيح الاعتقاد، سليم الإيمان! مع أن حقيقة هذه الشهادة: توحيد الإله في هذه العبادات، وغيرها؛ فإنه هو الفارق بين المؤمن الموحد، وبين الكافر المشرك؛ ذلك لأن المشركين الذي بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يعتقدون هذا المعنى الخاطئ لهذه الشهادة، ولكنهم كانوا يقتصرون على ذلك؛ فلا يؤمنون بأن لا معبود بحق في الوجود إلا الله تعالى.
فهم موحدون من ناحية، مشركون من ناحية أخرى؛ موحدون في توحيد
الربوبية، كافرون بتوحيد الألوهية. هذا هو الذي دل عليه القرآن الكريم بنصوصه الصريحة.
أما إيمانهم بتوحيد الربوبية وأنه: المتفرد بالخلق والرزق؛ فقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} وقال تعالى: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا
إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 84 سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ 85 قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ 86 سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ 87 قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 88 سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون:84 - 89) وقال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} .
وأما كفرهم بتوحيد الألوهية-الذي هو المراد من هذه الشهادة-؛ فأقرأ قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} وكانوا إذا دعاهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإيمان بهذه الشهادة؛ يقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص:5).
وكذلك كان كفر من قبلهم من المشركين؛ كانوا يكفرون بتوحيد الألوهية، وإلى هذا التوحيد كان يدعوهم أنبياؤهم صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما قال تعالى:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (الأعراف:65). {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (الأعراف:70) وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
…
} الآية (هود:61). {قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (هود: 62). وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ} . أي قائلين لأممهم: أن اعبدوا الله وحده. فأفاد بقوله: في كل أمة: أن جميع الأمم لم تُرسل إليهم الرسلُ إلا لطلب توحيد العبادة، لا للتعريف بأنه هو الخالق للعالَم، وأنه رب السماوات والأرض؛ فإنهم كانوا مُقِرّين بهذا بباعث الفطرة-كما سبق عن الجاهليين-؛ ولهذا لم ترد الآيات في ذلك في الغالب؛ إلا
بصيغة استفهام التقرير؛ نحو: {أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} . {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} .
ومما سبق تعلم أن المشركين لم يتخذوا الأصنام والأوثان شركاء لله تعالى في الربوبية؛ أي: أنهم [ما] اعتقدوا فيهم أنهم شركاء لله في الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، كلا؛ فإنهم نفوا ذلك بأنفسهم، وإنما اتخذوهم شركاء لله سبحانه في العبودية والألوهية؛ كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3). فهم مُقِرّون بأن المقصود بالذات هو الله تعالى، وأنهم إنما عبدوا أوثانهم؛ وسيلة توصلهم إلى الله.
وفي «صحيح مسلم» (4/ 8)،و «المختارة» للضياء المقدسي عن ابن عباس:«كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك» .قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«ويلكم قَدْ قَدْ» .فيقولون: إلا شريكاً هو لك، تملكه، وما ملك. يقولون هذا، وهم يطوفون بالبيت!
ومعنى عبادة المشركين لأوليائهم وأصنامهم هو: أنهم خَصُّوهم بنوع من العبادات: كالاستغاثة بهم، والنذر، والنحر لهم، وغيرها؛ مما يدل على منتهى الخشوع والخضوع، وهم لم يفعلوا ذلك إلا لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله تعالى، وتشفع لهم لديه. فأرسل الله الرسل تأمر بترك عبادة كل ما سواه، وأن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل، والتقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده، وهو توحيد العبادة.
وقد كان المشركون، منهم: من يعبد الملائكة، وينادونهم عند الشدائد، ومنهم: من يعبد تماثيل لبعض الصالحين، ويهتف بها عند الشدائد، فبعث الله
إليهم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم؛ يدعوهم
إلى الله وحده بأن يفردوه بالعبادة-كما أفردوه بالربوبية-وأن لا يدعوا مع
الله أحداً؛ قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ
لَهُم بِشَيْءٍ}.
وأمر عباده أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . ولا يُصدق قائل هذا إلا إذا أفرد العبادة لله تعالى؛ وإلا كان كاذباً، منهياً عن أن يقول هذه الكلمة؛ إذ معناها: نخصك بالعبادة ونفردك بها، وهو معنى قوله:{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} . {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} . كما عرف من علم البيان: أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر؛ أي: اعبدوا الله، ولا تعبدوا غيره، واتقوه ولا تتقوا غيره.
فإفراد الله تعالى بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله له، والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستعانة بالله وحده، واللجوء إلى الله، والنذر والنحر له تعالى، وجميع أنواع العبادات من الخضوع، والقيام لله تعالى، والركوع، والسجود، والطواف، والتجرد عن الثياب، والحلق، والقصر كله لا يكون إلا لله عز وجل، ومن فعل ذلك لمخلوق حي، أو ميت، أو جماد، أو غيره؛ فهذا شرك في العبادة والألوهية، وفي النهي عن ذلك نزل قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . وصار من يُفعل له هذه الأمور إلهاً لعابده سواء كان ملكاً، أو نبياً، أو ولياً، أو قبراً، أو غير ذلك، وصار بهذه العبادة، أو بأي نوع منها عابداً لذلك المخلوق، وإن أقر بالله وحده وعبده؛ فإن إقرار المشركين بالله، وتقربهم إليه؛ لم يخرجهم عن الشرك؛ قال الله عز وجل في الحديث القدسي: