الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر ابن عبد الهادي عن شيخ الإسلام ابن تيمية:
وبالجملة فإنما أدخلوا قبر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مسجده لحاجة توسيعه، والظاهر أنهم لم يجدوا فسحة من الجهات الأخرى ليزيدوا منها إلى المسجد وقد كان عمر وعثمان رضي الله عنهما قد زادا فيه من جهة القبلة فاضطروا إلى أخذ الزيادة من جهة الحجرات، فصار بذلك قبره في المسجد الشريف، ولكنهم- مع حاجتهم إلى هذا العمل- قد احتاطوا للأمر حيث فصلوا القبر عن المسجد فصلاً تاماً بالجدر المرفوعة حسماً للمحذور كما سبق ذكره عن النووي، والله تعالى أعلم.
"الثمر المستطاب"(1/ 479 - 486).
[143] باب حرمة الصلاة في المساجد المبنية على القبور
[قال الإمام]:
[لا تجوز الصلاة في] المساجد المبنية على القبور لما في الصلاة فيها من التشبه باليهود والنصارى وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم فيهم:
«إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً،
وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» وقال:
الحديث الأول هو من حديث عائشة رضي الله عنها: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير فذكرنا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال
…
فذكره
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد وابن شيبة في «المصنف» .
والحديث الثاني هو من رواية جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم
…
» الحديث
تفرد بإخراجه مسلم، دون الستة، وقد نسبه الشوكاني للنسائي أيضاً، وكأنه يعني «سننه الكبرى» وإلا فإني لم أجده في «الصغرى» له، ولم ينسبه في (الذخائر) إلا لمسلم.
وفي الباب عن عائشة وابن عباس معاً، وعن أبي هريرة، وعن ابن مسعود، وقد مضت أحاديثهم قريباً وعن ابن عباس أيضا بلفظ:
«لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» .
أخرجه الأربعة إلا ابن ماجه والحاكم والبيهقي والطيالسي وأحمد، وهو بهذا اللفظ ضعيف إلا الجملة الأولى منه فهي صحيحة؛ لمجيئها من طريق أخرى عن أبي هريرة وحسان بن ثابت، وقد فصلت القول في ذلك في «التعليقات الجياد» بما لا يوجد في كتاب، والحمد لله.
واعلم أن الحديث الأول يفيد تحريم بناء المساجد على القبور، وذلك يستلزم تحريم الصلاة فيها من باب أولى؛ لأنه- كما لا يخفى- من قبيل النهي عن الوسيلة- وهو البناء- لكي لا تتحقق الغاية- وهي العبادة في هذا البناء الذي أقيم على معصية الله تعالى-؛ لما يترتب من وراء ذلك من المفاسد الاعتقادية كما هو الواقع.
وأما الحديث الثاني فهو أعم من الأول؛ لأنه بلفظه يشمل الوسيلة والغاية فاتخاذ المكان مسجداً معناه الصلاة فيه (1) ومعناه البناء عليه من أجل الصلاة والسجود فيه، فكل منهما مستلزم للآخر، كما أفاده المناوي في «الفيض» ومن المعلوم بالبداهة أن اليهود والنصارى الملعونين إنما بنوا تلك المساجد للصلاة فيها، فمن صلى في مسجد فيه قبر، ولو لم يقصد القبر، فقد شابه أولئك المغضوب عليهم والضالين، وقد نهينا عن التشبه بهم في نصوص عامة وخاصة، ولذلك قال العلامة ابن الملَك- وهو من علمائنا الحنفية- في شرح حديث ابن عباس المذكور آنفا:
«إنما حرم اتخاذ المساجد عليها لأن في الصلاة فيها استناناً بسنة اليهود» .نقله الشيخ علي القاري في «المرقاة» .
يضاف إلى ما تقدم أن الصلاة في المساجد المبنية على القبور قد تفضي بصاحبها أو بمن يقتدي به من العوام والجهال إلى تخصيص الميت ببعض
(1) قال شيخ الإسلام في «الاقتضاء» : وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً، بل كل موضع يصلى فيه، فإنه يسمى مسجداً وإن لم يكن هناك بناء كما قالص:«جعلت لي الأرض مسجدا وطهوراً» . [منه].
العبادات الخاصة بالله تعالى كالاستغاثة والسجود، كما هو واقع في أكثر المساجد المبنية على القبور، وهو مشاهد، فنهى عن ذلك سداًّ للذريعة، فهو كالنهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة المكروهة تحريماً، بل المفسدة في تلك المساجد أوضح وأظهر منها في هذه الأوقات كما يشهد به الواقع.
وهذا كله فيمن لم يقصد الصلاة في تلك المساجد، وأما قصدها لأجل صاحب القبر متبركاً به معتقداً أن الصلاة عنده أفضل من الصلاة في المساجد المجردة عن القبور فهو عين المشاقة والمحادة لله ولرسوله، وهذه الصلاة حقيق بها قول من قال ببطلانها، كما يأتي عن بعض العلماء.
وإن مما يتعجب منه المؤمن البصير في دينه تهاون أكثر الفقهاء بهذه المسألة الخطيرة، حيث إنهم لم يتعرضوا لها بذكر صريح في كتبهم وفتاويهم فيما علمت، ولذلك كان من العسير إقناع المقلدين بها على وضوح الحجة فيها، وأنى لهم أن يأخذوا بها وهم أو أكثرهم يقدمون قول الإمام- بل قول بعض أتباعه ولو من المتأخرين- على قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولذلك سأُعنى بصورة خاصة بنقل بعض أقوال العلماء المحققين حول هذه المسألة ليعلم الواقف على كتابنا هذا أننا لم نأت بشيء من عندنا بدعة في الدين، ولم نسيء فهم أحاديث سيد المرسلين، بل هو الحق من ربك، فلا تكونن من الممترين.
وقد اعتنَى بهذه المسألة عناية خاصة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجزاه عن المسلمين خيراً، فقلما ترى كتاباً له لا يتعرض فيه لهذه المسألة بإسهاب أو اختصار، ولذلك فسأنقل عنه ما يناسب المقام من أقواله وفتاويه مع بعض اختصار وتلخيص.
قال رحمه الله في «القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة» :
«واتخاذ المكان مسجداً هو أن يتخذه للصلوات الخمس وغيرها، كما تبنى المساجد لذلك، والمكان المتخذ مسجداً إنما يقصد فيه عبادة الله ودعاؤه لا دعاء المخلوقين، فحرم صلى الله عليه وآله وسلم أن تتخذ قبورهم مساجد بقصد الصلاة فيها، كما تقصد المساجد، وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده؛ لأن ذلك ذريعة إلى أن يقصد المسجد لأجل صاحب القبر، ودعائه، والدعاء به، والدعاء عنده، فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى الشرك بالله، والفعل إذا كان يفضى إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ينهى عنه كما نهى عن الصلاة في الأوقات الثلاثة لما في ذلك من المفسدة الراجحة، وهو التشبه بالمشركين الذي يفضي إلى الشرك، وليس في قصد الصلاة في تلك الأوقات، ولهذا تنازع العلماء في ذوات الأسباب فسوغها كثير منهم في هذه الأوقات، وهو أظهر قولي العلماء؛ لأن النهي إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه في هذه الأوقات، ويفوت إذا لم يفعل فيها، فتفوت مصلحتها، فأبيحت لما فيها من المصلحة الراجحة، بخلاف ما لا سبب له فإنه يمكن فعله في غير هذه الأوقات فلا تفوت بالنهي عنه مصلحة راجحة، وفيه مفسدة توجب النهي عنه، فإذا كان نهيه عن الصلاة في هذه الأوقات لسد ذريعة الشرك لئلَاّ يفضي ذلك إلى السجود للشمس ودعائها وسؤالها، كما يفعله أهل دعوة الشمس والقمر والكواكب الذين يدعونها ويسألونها؛ كان معلوماً أن دعوة الشمس والسجود لها هو محرم في نفسه أعظم تحريماً من الصلاة التي نهى عنها لئلا يفضي ذلك إلى دعاء الكواكب.
كذلك لما نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد فنهى عن قصدها للصلاة عندها لئلا يفضي ذلك إلى دعائهم والسجود لهم- كان دعاؤهم والسجود لهم أعظم تحريماً من اتخاذ قبورهم مساجد».
وقال في «الاقتضاء» :
ثم قال فيه:
«فإن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد يتضمن النهي عن بناء المساجد عليها وعن قصد الصلاة عندها، وكلاهما منهي عنه باتفاق العلماء، فإنهم قد نهوا عن بناء المساجد على القبور، بل صرحوا بتحريم ذلك كما دل عليه النص، واتفقوا
أيضاً على أنه لا يشرع قصد الصلاة، والدعاء عند القبور
ولم يقل أحد من المسلمين: إن الصلاة عندها والدعاء عندها أفضل منه في المساجد الخالية عن القبور، بل اتفق علماء المسلمين على أن الصلاة والدعاء في المساجد التي لم تبن على القبور أفضل من الصلاة والدعاء في المساجد التي بنيت على القبور، بل الصلاة والدعاء في هذه منهي عنه مكروه باتفاقهم، وقد صرح كثير منهم بتحريم ذلك، بل وبإبطال الصلاة فيها، وإن كان في هذا نزاع، والمقصود هنا أن هذا ليس بواجب ولا مستحب باتفاقهم بل هو مكروه باتفاقهم».
وقال في «الجواب الباهر في زوار المقابر» (1):
ثم قال:
«ومن اعتقد أنه قبل القبر لم تكن فيه فضيلة، وإنما حدثت له الفضيلة في خلافة الوليد لما أدخلت الحجرة فيه، فهو جاهل مفرط في الجهل، أو كافر مكذب لما جاء به عليه السلام، مستحق للقتل» وقد أفتى رحمه الله مراراً بكراهة الصلاة في المساجد المبنية على القبور، فقد جاء في الفتاوى له ما نصه:
«مسألة: في المسجد إذا كان فيه قبر والناس يجتمعون فيه لصلاة الجماعة فهل تجوز الصلاة فيه أم لا؟ وهل يمهد القبر أم لا؟
(1) رسالة جامعة لما تفرق في كتبه الكثيرة مما يتعلق بهذا الموضوع، وهي من مخطوطات المكتبة الظاهرية تحت رقم (129) مجموع. وما نقلناه منها في الورقة (22 و55). [منه].
الجواب: اتفق الأئمة على أنه لا يبنى مسجد على قبر لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» ، وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد، فإن كان المسجد قبل الدفن غُيِّرَ: إما بتسوية القبر، وإما بنبشه إن كان جديداً، فإن كان المسجد بني بعد القبر، فإما أن يزال المسجد، وإما أن يزال صورة القبر، فالمسجد المبني على القبر لا يصلى فيه فرض، ولا نفل، فإنه منهي عنه. والله أعلم»
وله فتوى أخرى نحو هذه انظرها- إن شئت- في الجزء الثاني صفحة (192)(1).
وقال الشيخ محمد يحيى الكاندهلوي الهندي الحنفي في كتابه «الكوكب الدري على جامع الترمذي» ما نصه:
«وأما اتخاذ المساجد عليها فإنما فيه من الشبه باليهود في اتخاذهم مساجد على قبور أنبيائهم وكبرائهم، ولما فيه من تعظيم الميت، وشبه بعبدة الأصنام، لو كان القبر في جانب القبلة، وكراهة كونه في جانب القبلة أكثر من كراهة كونه يميناً أو يساراً، وإن كان خلف المصلي فهو أخف كراهة من كل ذلك، لكن لا يخلو عن كراهة» وقد ذكر الحافظ في «الفتح» والعيني في «العمدة» :
(1) وقال تلميذه المحقق ابن القيم في «زاد المعاد» (3/ 22):
«فيهدم المسجد إذا بني على قبر، كما ينبش إذا دفن في المسجد، نص على ذلك الإمام أحمد وغيره، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق، فلو ضماًّ معاً لم يجز، ولا يصح هذا الوقف، ولا يجوز، ولا تصح الصلاة في هذا المسجد؛ لنهي رسول اللهص عن ذلك، ولعنه من اتخذ القبر مسجداً، أو أوقد عليه سراجاً. فهذا دين الإسلام الذين بعث الله به رسوله ونبيه، وغربته بين الناس كما ترى. [منه].