الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1). و {إِنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِي} (2).
"تحذير الساجد"(ص33 - 46)
[139] باب حكمة تحريم بناء المساجد على القبور
[قال الإمام]:
من الثابت في الشرع أن الناس منذ أول عهدهم كانوا أمة واحدة على التوحيد الخالص ثم طرأ عليهم الشرك، والأصل في هذا قول الله تبارك وتعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (3).قال ابن عباس رضي الله عنه: «كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين» (4).
قال ابن عروة الحنبلي في «الكوكب» (6/ 212/1):
(1) سورة النساء الآية 115. [منه].
(2)
سورة ق الآية 37. [منه].
(3)
سورة البقرة الآية 213. [منه].
(4)
رواه ابن جرير في «تفسيره» (4/ 275 بتحقيق أحمد شاكر رحمه الله والحاكم (2/ 546) وقال:
صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي.
قلت: وعزاه ابن عروة الحنبلي لصحيح البخاري وهو وهم. وأما ما رواه العوفي عن ابن عباس: (كان الناس أمة واحدة) يقول: كانوا كفارا (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) فلا يصح عن ابن عباس لأن العوفي ضعيف لا يحتج به، ولقد أخطأ الفخر الرازي وغيره من المفسرين في حكايتهم لهذا القول عن ابن عباس ساكتين عنه، ولهذا قال الحافظ ابن كثير (1/ 250):
وهذا القول هو الذي صححه ابن القيم في «إغاثة اللهفان» (2/ 205). [منه].
«وهذا يرد قول من زعم من أهل التاريخ من أهل الكتاب أن قابيل وبنيه عبدوا النار» .
قلت: وفيه رد أيضا على بعض الفلاسفة والملاحدة الذين يزعمون أن الأصل في الإنسان الشرك وأن التوحيد هو الطارئ.
ويبطل هذا، ويؤيد الآية السابقة حديثان صحيحان:
الأول: قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم (1) عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً» (2).
الثاني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟»
قال أبو هريرة: «واقرؤوا إن شئتم {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (3).الآية» (4).
إذا تبين هذا فإن من المهم جداً أن يتعلم المسلم كيف طرأ الشرك على المؤمنين بعد أن كانوا موحدين؟
(1) أي استخفتهم فجالوا معهم في الضلال يقال: جال واجتال: إذا ذهب وجاء منه الجولان في الحرب. «نهاية» ونحوه في «غريب الحربي» . [منه].
(2)
رواه مسلم (8/ 159)، وأحمد (4/ 162)، والحربي في «الغريب» (5/ 24/2) والبغوي في حديث «هدبة بن خالد» (1/ 251/2) وابن عساكر (15/ 328/1). [منه].
(3)
سورة الروم آية 30. [منه].
(4)
رواه البخاري (11/ 418) ومسلم (18/ 52)، والدولابي (1/ 98) وغيرهم وقد خرجته في (الإرواء) رقم 1220. [منه].
لقد ورد عن جماعة من السلف روايات كثيرة في تفسير قول الله سبحانه في قوم نوح: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (1) أن هؤلاء الخمسة ودًّا ومن ذكر معه كانوا عباداً صالحين، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن يعكفوا على قبورهم، ثم أوحى إلى الذين جاؤوا من بعدهم أن يتخذوا لهم أصناماً،
وزين لهم ذلك بأنه أدعى لهم على أن يذكروهم فيقتدوا بأعمالهم الصالحة، ثم أوحى إلى الجيل الثالث أن يعبوهم من دون الله تعالى وأوهمهم أن آباءهم كانوا يفعلون ذلك فأرسل الله لهم نوحاً عليه السلام آمراً لهم أن يعبدوا الله تعالى وحده، فلم يستجيبوا له إلا قليلاً منهم. وقد حكى الله عز وجل قصته معهم في
سورة نوح.
جاء في صحيح البخاري (8/ 543) عن ابن عباس:
«أن هؤلاء الخمسة أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت» . ونحوه في تفسير ابن جرير وغيره عن غير واحد من السلف رضي الله عنهم.
وفي «الدر المنثور» (6/ 269):
«وأخرج عبد بن حميد عن أبي مطهر قال:
ذكروا عند أبي جعفر (وهو الباقر) يزيد بن الملهب، فقال: أما إنه قتل في أول
(1) سورة نوح الآية 23. [منه].
أرض عبد فيها غير الله ثم ذكر «ودًّا» قال:
«وكان ود رجلاً مسلماً، وكان محبباً في قومه، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان، ثم قال: أرى جزعكم على هذا فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به؟ قالوا:
نعم فصور لهم مثله فوضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن أجعل لكم في منزل كل رجلا منكم تمثالاً مثله فيكون في بيته فتذكرونه؟ قالوا: نعم، فصور لكل أهل بيت تمثالاً مثله فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به، قال: وأدرك أبناؤهم، فجعلوا يرون ما يصنعون به، وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلهاً من دون الله (1) قال: وكان أول ما عبد غير الله في الأرض «ود» الصنم الذي سموه بود «(2).
فاقتضت حكمة الإله تبارك وتعالى وقد أرسل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الرسل، وجعل شريعته خاتمه الشرائع أن ينهي عن كل الوسائل التي يخشى أن تكون ذريعة- ولو بعد حين- لوقوع الناس في الشرك الذي هو أكبرا الكبائر فلذلك نهى عن بناء المساجد على القبور كما نهى عن شد الرحال إليها واتخاذها أعياداً (3)
(1) زاد في «الكواكب» من رواية أبن حاتم: «أولاد أولادهم» . [منه].
(2)
قلت: ورواه ابن أبي حاتم أيضاً «كما في «الكواكب الدري» لابن عروة الحنبلي (6/ 112/2) وساق إسناده، وهو حسن إلى أبي المطهر هذا ولم أعرفه ولم يورده الدولابي في «الكنى والأسماء» ولا مسلم في (الكنى) من «فهرست رجال الشيعة» . [منه].
(3)
قال: النووي آداب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم من كتابه «مناسك الحج» (69/ 2) وهو مخطوط في ظاهريه دمشق (عام 3656): «كره مالك رحمه الله لأهل المدينة كلما دخل أحدهم وخرج الوقوف بالقبر قال: وإنما ذلك للغرباء قال: ولا بأس لمن قدم من سفر وخرج إلى سفر أن يقف عند قبر النبيص فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. قال الباجي: فرَّق مالك بين أهل المدينة والغرباء، لأن الغرباء قصدوا ذلك، وأهل المدينة مقيمون بها، وقد قال ص: «اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد» . [منه].
والحلف بأصحابها، إذ كل ذلك يؤدي إلى الغلو بها وعبادتها من دون الله تعالى لاسيما عند انطفاء العلم وكثره الجهل وقله الناصحين وتعاون شياطين الجن والإنس على إضلال الناس وإخراجهم من عبادة الله تبارك وتعالى.
ولا يخفى أنه إذا كان من المسلَّم عندنا معشر المسلمين أن من حكمة النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة هو سد الذريعة وعدم التشبه بالمشركين الذين يعبدون الشمس في تلك الأوقات، فالذريعة في التشبه بهم في بناء المساجد على القبور والصلاة فيها أقوى وأوضح، ألا ترى أننا حتى اليوم لم نجد أي أثر سيء لصلاة بعض الناس في هذه الأوقات المنهي عنها، بينما نرى أسوأ الآثار للصلاة في هذه المساجد والمشاهد المبنية على القبور من التمسح بها (1)،
والاستغاثة بأصحابها والنذر لها والحلف بل والسجود لها وغير ذلك من الضلال مما هو
(1) قال: النووي في كتابه «مناسك الحج» (68/ 2):
«لا يجوز أن يُطاف بقبرهص، ويكره إلصاق البطن والظهر بجدران القبر، قاله الحليمي وغيره، ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد منه
…
هذا هو الصواب. وهو الذي قاله العلماء، وأطبقوا عليه، وينبغي أن لا يغتر بكثير من العوام في محالفتهم ذلك، فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بأقوال العلماء، ولا يلتفت إلى محدثات العوام وجهالاتهم، ولقد أحسن السيد الجليل أبو علي الفضيل بن عياض في قوله ما معناه «اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين» ومن خطر في باله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة، فهو من جهله وغفلته لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال العلماء وكيف يبتغي الفضل في مخالفه الصواب؟!».
قلت: رحم الله الإمام النووي فإنه بهذه الكلمة أعطى هؤلاء المشايخ الذين يتمسحون بالقبور فعلاً، أو يحبذونها قولاً ما يستحقونه من المنزلة، حيث جعلهم من العوام الذين لا يجوز أن يلتفت إلى جهالاتهم (فهل من مذكر)؟. [منه].
مشاهد معروف فاقتضت حكمته تبارك وتعالى تحريم كل هذه الأمور حتى يعبد الله تبارك وتعالى وحده ولا يشرك به شيء فيتحقق بذلك أمر تعالى بدعائه وحده في قوله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1).
وإن مما يأسف له كل مسلم طاهر القلب أن يجد كثيراً من المسلمين قد وقعوا في مخالفة شريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت بالابتعاد عن كل ما يخدج بالتوحيد، ثم يزداد أسفاً حين يرى قليلاً أو كثيراً من المشايخ يقرونهم على تلك المخالفة، بدعوى أن نياتهم طيبه! ويشهد الله أن كثيراً منهم قد فسدت نياتهم، وران عليها الشرك بسبب سكوت أمثال هؤلاء المشايخ، بل تسويغهم كل ما يرونه من مظاهر الشرك بتلك الدعوى الباطلة (2)؟
أين النية الطيبة يا قوم من أناس كلما وقعوا في ضيق جاءوا إلى ميت يرونه صالحاً فيدعونه من دون الله ويستغيثون به، ويطلبون منه العافية والشفاء وغير ذلك مما لا يُطلب إلا من الله وما لا يقدر عليه إلا الله؟! بل إذا زلت قدم دابتهم نادوا: يا الله يا باز! بينما هؤلاء المشايخ قد يعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع يوما بعض الصحابة
(1) سورة الجن، الآية 18. [منه].
(2)
ولقد جرى نقاش طويل بعد بضع سنين من تأليف هذا الكتاب بيني وبين أحد الخطباء يوم الجمعة في بيته حول الاستغاثة بغير الله، فصرح الشيخ بجوازها بحجة أن المستغيث يعلم أن الميت لا يضر ولا ينفع! فقلت له: لو كان الأمر كذلك فلماذا يناديه؟ قال: واسطة قلت: الله أكبر: قلتم: كما قال غيركم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (سورة الزمر الآية 3)، ثم قلت له: فإذا كنتم تعتقدون حقا أنهم لا يعتقدون فيهم ضراً ولا نفعاً فهل ترى باساً من أن يكشف المستغيث بغير الله عن عقيدته التي تزعمها بقوله «يا باز؟ يا من لا يضر ولا ينفع» فقال: نعم يجوز قلت: فهذا أكبر دليل على أنك أنت فضلا عن العامة ترى أن في ندائهم نفعا وإلا سويتم بين ندائهم وبين نداء الجمادات والأحجار بل الأصنام وما أظنكم ترون جواز ندائها أيضا بحجة أنها لا تضر ولا تنفع فبهت. (فاعتبروا يا أولي الأبصار). [منه].
يقول له: ما شاء الله وشئت فقال: أجعلتني لله نداً (1)؟!
فإذا كان هذا إنكار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على من آمن به صلى الله عليه وآله وسلم فراراً من الشرك، فلماذا لا ينكر هؤلاء المشايخ على الناس قولهم: يا الله يا باز! مع أنه في الدلالة على الشرك أوضح وأظهر من كلمة ما شاء الله وشئت؟ ولماذا نرى العامة يقولون دون أي تحرج: «توكلنا على الله وعليك» و «مالنا غير الله وأنت» ؟ ذلك لأن هؤلاء المشايخ إما أنهم مثلهم في الضلال وفاقد الشيء لا يعطيه وإما أنهم يدارونهم، بل يداهنوهم كي لا يوصموا ببعض الوصمات التي تقضي على وظائفهم ومعاشاهم غير مبالين بقول الله تعالى {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يعلنهم الله ويعلنهم اللاعنون} (2).
يا حسرة على هؤلاء المسلمين لقد كان المفروض فيهم أن يكونوا دعاة لجميع الناس إلى دين التوحيد، وسبباً لإنقاذهم من الوثنية وأدرانها، ولكنهم سبب جهلهم بدينهم وإتباعهم أهواءهم عادوا مضرب مثل للوثنية من قبل المشركين أنفسهم فصاروا يصفونهم بأنهم كاليهود في بنائهم المساجد على القبور فقد
جاء في كتاب «دعوة الحق» للأستاذ عبد الرحمن الوكيل رحمه الله تعالى (ص176 - 177):
«وقد سجل على المسلمين هذه الوثنية المستشرق الانكليزي اللئيم «ادوارد لين» في كتابه «المصريون المحدثون» فقال (ص 167 - 181):
(1) حديث صحيح، تجد تخريجه في «الأحاديث الصحية» (139). [منه].
(2)
سورة البقرة الآية 159. [منه].
«ويحمل المسلمون- وبخاصة المصريون- على اختلاف مذاهبهم- ما عدا الوهابيين- للأولياء المتوفين احتراماً وتقديساً لا سند لهما من القرآن أو الأحاديث أكثر مما يحملون للأحياء منهم، ويشيدون فوق أغلب قبور الأولياء المشهورين مساجد كبيرة وجميلة وينصبون فوق قبور من هم أقل شهرة منهم بناء صغيرا مبيضاً بالكلس ومتوجاً بقبة، ويقام فوق القبر مباشرةً نصب مستطيل من الحجر أو القرميد يسمى «تركيبة» أو من الخشب ويسمى تابوتاً، ويغطى النصب عادة بالحرير أو الكتان المطرز بالآيات القرآنية، ويحيط به قضبان أو ستر من الخشب يسمى مقصورة، وأكثر أضرحة الأولياء في مصر مدافن إلا أن أكثرها يحتوي على آثار قليلة لهم، وبعضها ليست إلا قبورا فارغة أقيمت تذكاراً للميت. إلى أن يقول: وقد جرت العادة أن يقوم المسلمون كما كان يفعل اليهودُ بتجديد بناء قبور أوليائهم، وتبيضها، وزخرفتها، تغطية التركيبة أو التابوت أحيانا بغطاء جديد، وأكثر هؤلاء يفعلون ذلك رياءً (1) كما يفعل اليهود».
علم الكفار الغربيون هذه الضلالة التي وقع فيها كثير من المسلمين لا سيما الشيعة منهم، فاستغلوها حتى في سبيل تحقيق مطامعهم الاستعمارية، فقد قال فضيلة الأستاذ الشيخ أحمد حسن الباقوري في فتوى له في النهي عن زخرفة القبور وبناء القباب والمساجد عليها:
«وبهذه المناسبة، أذكر أن أحد كبار الشرقيين حدثني عن بعض أساليب الاستعمار في آسيا أن الضرورة كانت تقضي بتحويل القوافل الآتية من الهند إلى بغداد عبر تلك المنطقة الواسعة إلى اتجاه جديدٍ للمستعمر فيه غاية، ولم تجد أية وسيلة من وسائل الدعاية في جعل القوافل تختاره.
(1) قلت: هذا من بعضهم وأما الآخرون فيفعلونه تعبدا وتقربا إلى الله بزعمهم. [منه].
وأخيراً اهتدوا إلى إقامة عدة أضرحةٍ وقباب على مسافات متقاربة في هذا الطريق.
ما هو إلا أن اهتزت الإشاعات بمن فيها من الأولياء وبما شُوهد من كراماتهم! حتى صارت تلك الطريق مأهولة مقصودة عامرة!
وأحب أن أرسلها كلمة خالصةً لوجه الله إلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أن يقلعوا عن تضخيم المقابر فإنها نُعَرَةٌ للفرد، ودعوةٌ إلى الأنانية، وإلى الارستقراطية الممقوتة التي قتلت روح الشرق.
وأن يعودوا إلى رحاب الدين التي تسوي بين الناس جميعاً أحياءً أو أمواتاً.
لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى وما قدمت يداه من أعمال خالصة
لوجه الله» (1).
وقال الكاتب القدير والمؤرخ الشهير الأستاذ المحقق رفيق بك العظم في خاتمة ترجمة أبي عبيدة رضي الله عنه من كتابه «أشهر مشاهير الإسلام» (ص 521 - 524) تحت عنوان «كلمة في القبور» :
«لا نريد بهذا العنوان البحث عن تاريخ القبور كالنواويس والأهرام وما شاكلها من معالم الوثنية الأولى وإنما نريد الوقوف بفكرة القارئ عند اختلاف المؤرخين في مكان قبر أبي عبيدة كاختلافهم في تعيين كثير من قبور جلة الصحابة الكرام الذين دوخوا هذا الملك العظيم وتحلوا بتلك الشيم الشماء وبلغوا من الفضل والتفضل والتقوى والصلاح غاية لم يبلغها أحد من الأولين والآخرين وقد بسط المؤرخون أخبار أولئك الرجال العظام وعنوا بتدوين آثارهم العظيمة في
(1)«ليس من الإسلام» (ص 174) للأستاذ محمد الغزالي. [منه].
فتوح الممالك والبلدان حتى لم يتركوا في النفوس حاجة للاستزادة ونعم ما خدموا به الأمة والدين.
إن القارئ إذا وقف بفكره عند هذا الأمر وقفة المتأمل، لا يلبث أن يأخذه العجب لأول وهلة من ضياع قبور أولئك الرجال العظام واختفاء أمكنتها عن نظر نقلة الأخبار، ومدوني الآثار على جلالة قدر أصحابها وشهرتهم التي طبقت الآفاق وملأت النفوس إعظاماً لقدرهم وإقراراً بفضيلة سبقهم للإيمان ونشرهم دعوة القرآن.
لا جرم أن القارئ أقل ما تحدثه به النفس عند التأمل في هذا الأمر: أن أولئك الرجال ينبغي أن تُعلم قبورهم بالتعيين، وتشاد عليها القباب العاليات ذات الأساطين، إذا لم يكن لشهرتهم بالصلاح والتقوى وصدق الإيمان وصحبتهم للنبي عليه الصلاة والسلام، فلما أتوه من كبار الأعمال التي تعجز عنها أعاظم الرجال فكيف غابت قبورهم عن نظر المؤرخين، ودرست أجداثهم التي تضم أكابر الصحابة والتابعين حتى اختلف في تعيين أمكنتها أرباب السير وعفي على أكثرها الأثر إلا ما علموه بعد بالحدس والتخمين، وأظهروا أثره بالبناء عليه بعد ذلك الحين، مع أن المشاهد عند المسلمين صرف العناية إلى قبور الأموات بما يبلغ الغاية بالتأنق في رفعها وتشييدها ورفع القباب عليها واتخاذ المساجد عندها لا سيما قبور الأمراء الظالمين الذين لم يظهر لهم أثرٌ يشكر في الإسلام، والمتمشيخة والدجالين الذين كان أكثرهم يجهل أحكام الإيمان، ولا نسبة بينهم وبين أولئك الرجال العظام كأبي عبيدة بن الجراح وإخوانه من كبار الصحابة الكرام، الذين نقلوا الدين غضاً طرياً، وبلغوا بالتقوى والفضيلة مكاناً قصياً؟
والجواب عن هذا: أن الصحابة والتابعين لم يكونوا في عصرهم بأقل تقديراً
لقدر الرجال، وتعظيماً لشأن من نبغ فيهم من مشاهير الأبطال وأخيار الأمة، إلا أنهم كانوا يأنفون من تشييد قبور الأموات، وتعظيم الرفات لتحققهم النهي الصريح عن ذلك من صاحب الشريعة الغراء، الحنيفية السمحة، التي جاءت لاستئصال شأفة الوثنية، ومحو آثار التعظيم للرفات، أو العكوف على قبور الأموات، ويرون أن خير القبور الدوارس (1)، وأن أشرف الذكر في أشرف الأعمال، لهذا اختفت عمن أتى بعد جيلهم ذلك قبور كبار الصحابة وجلة المجاهدين إلا ما ندر.
ثم اختلفت نقلة الأخبار في تعيين أمكنتها باختلاف الرواة وتضارب ظنون الناقلين.
ولو كان في صدر الإسلام أثر لتعظيم القبور والاحتفاظ على أماكن الأموات بتشييد القباب والمساجد عليها، لما كان شيء من هذا الاختلاف، ولما غابت عنها إلى الآن قبور أولئك الصحابة الكرام كما لم تغب قبور الدجاجلة والمتمشيخين، التي ابتدعها بعد العصور الأولى مبتدعة المسلمين، وخالفوا فعل الصحابة والتابعين، حتى باتت أكثر هذه القباب تمثل هياكل الأقدمين، وتعيد سيرة الوثنية بأقبح أنواعها وأبعد منازعها عن الحق وأقربها إلى الشرك، ولو اعتبر المسلمون بعد باختفاء قبور الصحابة الذين عنهم أخذوا هذا الدين وبهم نصر الله الإسلام، لما اجترؤوا على إقامة القباب على القبور وتعظيم الأموات تعظيماً يأباه العقل والشرع وخالفوا في هذا كله الصحابة والتابعين الذين أدوا إلينا أمانة نبيهم
(1) قلت: هذا ليس بحديث والسنة رفع القبر عن الأرض نحو شبر وبيانه في كتابي «أحكام الجنائز وبدعها» (ص 208 - 209) طبع المكتب الإسلامي). [منه].
فأضعناها، وأسرار الشريعة فعبثنا بها.
وإليك ما رواه في شأن القبور مسلم في «صحيحه» عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفا إلا سويته. وفي «صحيحه» أيضاً عن ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم بـ «ردوس» فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها (1).
هكذا بلغونا الذين أدوا إلينا أمانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تأكيداً لعهد الأمانة بدؤوا بكل ما أمرهم به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنفسهم لنستن بسنتهم، ونهتدي بهدي نبيهم، ولكن قصرت عقولنا عن إدراك معنى تلك الجزئيات، وانحطت مداركنا عن مقام العلم بحكمة التشريع الإلهي والأمر النبوي القاضي بعدم تشييد القبور، اتقاء التدرج في مدارج الوثنية فلم نحفل بتلك الحكمة، وتحكمنا بعقولنا القاصرة بالشرع فحكمنا بجواز تشييد القبور استحباباً لمثل هذه الجزئيات، حتى أصبحت كليات وخرقاً في الدين، وإفساداً لعقيدة التوحيد، إذ ما زلنا نتدرج حتى جعلنا عليها المساجد وقصدنا رفاتها بالنذور والقربات، ووقعنا من ثم فيها لأجله أمرنا الشارع بطمس القبور (2)، كل هذا ونحن لا نزال في غفلة عن حكمة الشرع نصادم الحق ويصادمنا، حتى نهلك مع الهالكين».
(1) الأحاديث الواردة بالنهي عن تشييد القبور وتعظيمها ولعن من يتخذها مساجد ويقصدها بالنذور كثيرة قد استقصى الكلام عليها كثير من الأئمة المصلحين كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأمثالهما فلتراجع في مظانها من كتب القوم كالواسطة وإغاثة اللهفان وغيرهما.
قلت: وراجع لذلك كتابنا «أحكم الجنائز» . [منه].
(2)
انظر تعليقنا السابق. [منه].
قلت: وقد يظن بعض الناس خاصة من كان منهم ذا ثقافة عصريةٍ أن الشرك قد زال وأنه لا رجعة له بسبب انتشار العلوم واستنارة العقول بها!
وهذا ظن باطل، فإن الواقع يخالفه، إذ أن المشاهد أن الشرك على اختلاف أنواعه ومظاهره لا يزال ضارباً أطنابه في أكثر بقاع الأرض، ولا سيما في بلاد الغرب عقر دار الكفر، وعبادة الأنبياء والقديسين، والأصنام والمادة، وعظماء الرجال والأبطال، ومن أبرز ما يظهر ذلك للعيان انتشار التماثيل بينهم.
وإن مما يُؤسَفُ له أن هذه الظاهرة قد أخذت تنتشر رويداً في بعض البلاد الإسلامية دون أي نكير من علماء المسلمين!
وما لنا نذهب بالقراء بعيداً؟ فهذه كثير من بلاد المسلمين وخاصة الشيعة منهم ففيها عديد من مظاهر الشرك والوثنية كالسجود للقبور، والطواف حولها، واستقبالها بالصلاة والسجود، ودعائهم من دون الله تعالى، وغير ذلك مما سبق ذكره على أننا لو فرضنا أن الأرض قد طهرت من أدران الشركيات والوثنيات على اختلاف أنواعها، فلا يجوز لنا أن نبيح اتخاذ الوسائل التي يخشى أن تؤدي إلى الشرك لأننا لا نأمن أن تؤدي هذه الوسائل ببعض المسلمين إلى الشرك بل نحن نقطع بأن الشرك، سيقع في هذه الأمة في آخر الزمان- إن لم يكن قد وقع حتى الآن! - وإليك بعض النصوص الواردة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى تكون على بينة من الأمر:
1 -
«لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات النساء دوس حول ذي الخلصة» (1)
(1) رواه البخاري (13/ 64)، ومسلم (8/ 182)، وأحمد (2/ 271). [منه].
وكانت صنماً تعبدها دوس في الجاهلية بتبالة (1).
2 -
«لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» فقالت عائشة: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (2) أن ذلك تاماً، قال: «إنه سيكون من ذلك ما شاء الله (3)، ثم يبعث الله ريحاً طيبةً، فتوفى كل من في قلبه مثقال حبةِ
(1) هي موضع باليمن، وليست تبالة التي يضرب بها المثل ويقال:«أهون على الحجاج من تبالة» لأن تلك بالطائف. «نووي» . [منه].
(2)
سورة الصف الآية 9. [وكذا سورة التوبة الآية 33]. [منه].
(3)
في هذا الحديث بيان أن الظهور المذكور في الآية لم يتحقق بتمامه، وإنما يتحقق في المستقبل، ومما لا شك فيه أن دائرة الظهور اتسعت بعد وفاتهص في زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، ولا يكون التمام إلا بسيطرة الإسلام على جميع الكرة الأرضية وسيتحقق هذا قطعا لإخبار الرسولص بذلك فقد صح عنهص أنه قال: ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بغز عزيز أو بذل ذليل عز يعر الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر. رواه أحمد (4/ 103) وابن بشران في «الأمالي» (60/ 1) والطبراني في «المعجم الكبير» (1/ 126/1) وابن منده في «كتاب الإيمان» (102/ 1) والحافظ عبد الغني المقدسي في «ذكر الإسلام» (166/ 1) وقال: «حديث حسن صحيح» والحاكم (4/ 430 - 431) وقال: «صحيح على شرط الشيخين» ووافقه الذهبي وإنما هو على شرط مسلم فقط. وله عنده وعند ابن مندة شاهد من حديث المقداد بن الأسود وهو على شرط مسلم أيضا.
فهذا الحديث مفسر للآية الكريمة، فعلى ضوئه وبمعناه الواسع الشامل يجب أن تفسر الآية المذكورة. ومن جزئيات الآية والحديث ما صح عنهص أن المسلمين سيفتحون مدينة روما عاصمة البابا بعد فتحهم القسطنطينية وقد تحقق الفتح الأول فلا بد أن يتحقق الفتح الثاني (ولتعلمن نبأه بعد حين).
(راجع حديث الفتح وتخريجه في «الأحاديث الصحيحة» رقم 4) فعلى المسلمين أن يعدوا أنفسهم لذلك يرجعوهم إلى ربهم، وتطبيقهم لكتابه وإتباعهم لسنة نبيه واجتنابهم لحرماته واتحادهم على ما يرضيه سبحانه وتعالى وفي الأفق ما قد يبشر بأن المسلمين قد استأنفوا السير نحو ذلك حقق الله تعالى الآمال. [منه].
خردل إيمان، فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم» (1).
3 -
«لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد القبائل من أمتي الأوثان» (2).
4 -
«لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله، وفي رواية: لا إله
إلا الله» (3).
ففي هذه الأحاديث دلالةٌ قاطعة على أن الشرك واقع في هذه الأمة، فإذا الأمر كذلك فيجب على المسلمين أن يبتعدوا عن كل الوسائل والأسباب التي قد تؤدي بأحدهم إلى الشرك، مثل ما نحن فيه من بناء المساجد على القبور ونحو ذلك مما سبق بيانه مما حرمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحذر أمته منه.
(1) رواه مسلم (8/ 182) وكذا أحمد كما في «الكواكب» (130/ 2 - تفسير 555) وقال
«وسنده صحيح» .
قلت: ورواه أبو يعلى في «مسنده» (ق 216/ 2) والحاكم (4/ 446 - 447 و549) مستدركاً له على مسلم فوهم!. [منه].
(2)
رواه أبو داود (2/ 202)، والترمذي (3/ 227) وصححه، والحاكم (4/ 448، 449) والطيالسي (رقم 991) وأحمد (5/ 284) والحربي في «الغريب» (5/ 167/1) من حديث ثوبان مرفوعاً وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» ووافقه الذهبي وإنما هو على شرط مسلم فقط وقد أخرج هذا الحديث في صحيحه (8/ 171)، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند الطيالسي (2501). [منه].
(3)
رواه مسلم (1/ 91)، والترمذي (3/ 224)، وحسنه، والحاكم (4/ 494) 495) وأحمد (3/ 107 و259 و268) وابن منده في «التوحيد» (49/ 1) يوسف ابن عمر القواس في «حديثه» (68/ 1) والرواية الثانية له وهي رواية لأحمد والحاكم وقال:«صحيح على شرط مسلم» وهو كما قال.
وله عنده شاهد من حديث ابن مسعود وصححه على شرط الشيخان ووافقه الذهبي. [منه].