المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[164] باب شبهات وجوابها حول حكم اتخاذ القبور مساجد - جامع تراث العلامة الألباني في العقيدة = موسوعة العقيدة - جـ ٢

[ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب التوحيد وما يضاده من الشرك

- ‌جماع أبواب الكلام على التوحيد: تعريفه، وأقسامه، وأهمية الدعوة إليه، وبيان لوازم ومقتضيات النطق بالشهادتين والكلام على الشرك: تعريفه، وأنواعه، وخطورة الوقوع فيه

- ‌[74] باب أهمية إعطاء الدعوة إلى التوحيدوالعقيدة الصحيحة الأولوية عند الدعاة

- ‌[75] باب منه

- ‌[76] باب نصيحة الشيخ لبعضالداعيات أن تجعل التوحيد أولى أولوياتها

- ‌[77] باب أصل دعوة الأنبياءوالرسل هو دعوة التوحيد وبيان أقسام التوحيد وما يضادة

- ‌[78] باب فضل التوحيد وأنه ينجي من الخلود في النار

- ‌[79] باب الموحد لا يخلد في النار

- ‌[80] باب الذنبوإن عظُم لم يكن موجباً للنار متى ما صحت العقيدة

- ‌[81] باب أهمية التوحيدوبيان أنه لا تنفع الأعمال الصالحة بدونه

- ‌[82] باب لا يُحدث العامة بأحاديثقد يساء فهمها في فضل التوحيد

- ‌[83] باب منه

- ‌[84] باب أقسام التوحيد والشرك

- ‌[85] باب بيان أقسام التوحيد والشرك

- ‌[86] باب أقسام التوحيد والشرك والكفر

- ‌[87] باب الرد على من حصر العقيدة في توحيد الربوبية

- ‌[88] باب الدفاع عن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، وبيان التوحيد الذي دعى إليه، مع التنبيه على أقسام التوحيد وخطر الشرك

- ‌[89] باب كان الناس على التوحيد ثم طرأ عليهم الشرك

- ‌[90] باب الرد على من يقول أن الدعوة إلى التوحيد تفرق الصف

- ‌[91] باب إخلاص العبودية لله

- ‌[92] باب توحيد الاتباع

- ‌[93] باب منه

- ‌[94] باب معنى الشهادتين

- ‌[95] باب بيان مقتضيات الشهادتين

- ‌[96] باب معنى شهادة أن لا إله إلا الله وبيان مقتضياتها

- ‌[97] باب لوازم الشهادة لله بالوحدانية

- ‌[98] باب تلقين المحتضر شهادة التوحيد

- ‌[99] باب معنى شهادة أن محمدًا عبد الله ورسوله وبيان مقتضياتها

- ‌[100] باب لوازم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌[101] باب هل هناك فرق بين تفسير لا إله إلا الله، بلا معبود إلا الله أو بلا معبود بحق "في الوجود" إلا الله

- ‌[102] باب هل قيد «في الوجود» في قولنا: لا معبود بحق في الوجود إلا الله؛ مهم

- ‌[103] باب معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة»

- ‌[104] باب هل نسخت الأحاديث الواردةفيمن قال لا إله إلا الله وأنه يدخل الجنة

- ‌[105] باب هل هناك ممن يقول: «لا إله الله» من يدخل النار أولا

- ‌[106] باب محمد عبد الوهاب مجدد دعوة التوحيد

- ‌[107] باب السلامة من الشرك أهم ما في العقيدة

- ‌[108] باب التحذير من الشرك وبيان أنه أكبر الكبائر

- ‌[109] باب بيان خطر الشرك

- ‌[110] باب عظم خطر الكفر والشرك

- ‌[111] باب بيان خطورة الشرك بالله، وأثر ذلك على العبادات كالحج

- ‌[112] باب الشرك هو الكفر

- ‌[113] باب كل كفر شرك

- ‌[114] باب هل بين الكفر والشرك فرق

- ‌[115] باب كلمة حول الفرق بين الكفر والشرك

- ‌[116] باب بيان خطأ مقولة: الخطأ مغفور في الفروع دون الأصول، والتعرض لمسألة التفريق بين الكفر أو الشرك

- ‌[117] باب أركان نفي الشرك بالله

- ‌[118] باب تعريف المشرك

- ‌[119] باب ضوابط التفرقة بين الشرك الأكبر والأصغر

- ‌[120] باب شرك الطاعة

- ‌[121] باب أول من عبد الأصنام وغيَّر دين إسماعيل عليه السلام

- ‌[122] باب ردّ شبهةٍ لمن جوَّز صناعة التماثيل

- ‌[123] باب الترهيب من الرياء

- ‌[124] باب الاستكبار عن عبادته تعالى ودعائه يوجب غضبه تعالى، والرد على من ادعى أن دعاء الله سوء أدب مع الله

- ‌[125] باب سؤال الله، والرد على من حرَّمه

- ‌[126] باب جواز إطلاق لفظ المشرك على أهل الكتاب

- ‌[127] باب هل الكتابيات مشركات

- ‌(توحيد الربوبية)

- ‌[128] باب الرد على من حصر العقيدة في توحيد الربوبية

- ‌[129] باب ذكر أخذ الميثاقمن ذرية بني آدم وهل كان على الحقيقة

- ‌[130] باب منه

- ‌[131] باب منه

- ‌[132] باب حُكْم من لم يوف بالميثاق [قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌[133] باب ضلالة عقيدة الأقطاب والأوتاد

- ‌[134] باب جواب من خلق الله

- ‌[135] باب ذكر بعض أهل الضلال ممن تلبس بشرك الربوبية

- ‌جامع أحكام القبور

- ‌جماع أبواب الكلامحول حكم اتخاذ القبور مساجد، وحكم الصلاة في المساجد المبنية على القبور، وما يتصل بذلك من مسائل

- ‌[136] باب أحاديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد

- ‌[137] باب معنى اتخاذ القبور مساجد

- ‌[138] باب حكم اتخاذ القبور مساجد

- ‌[139] باب حكمة تحريم بناء المساجد على القبور

- ‌[140] باب حكم الصلاة في المساجد المبنية على القبور

- ‌[141] باب في أن الحكم السابق يشمل جميع المساجد إلا المسجد النبوي

- ‌[142] باب بناء المساجد على القبور مفضاة للشرك

- ‌[143] باب حرمة الصلاة في المساجد المبنية على القبور

- ‌[144] باب هل الصلاة في المساجد التي فيها قبور باطلة

- ‌[145] باب حكم الصلاة في المساجد المبنية على قبور الأنبياء

- ‌[146] باب حكم الصلاة في المساجد المبنية على قبور

- ‌[147] باب حرمة اتخاذ القبور مساجد، وهل يلزم من ذلك حرمة الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌[148] باب حرمة اتخاذ القبور مساجد

- ‌[149] باب حكم اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها

- ‌[150] باب من هو قائل عبارة"يُحذِّر ما صنعوا" في حديث اتخاذ القبور مساجد

- ‌[151] باب هل عمَّى الصحابة موضِعَ قبر النبي دانيالحتى لا يُتَّخَذ على قبره مسجداً

- ‌[152] باب مدى صحة تخصيص حرمة الصلاة في المساجد التي فيها قبور فيما إذا كان المصلي يستقبل القبر، وحكم الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌[153] باب هل تجوز صلاة الجنازة في مسجد فيه قبر

- ‌[154] باب منه

- ‌[155] باب حكم صلاة الجنازة داخل المقبرة في مكان مخصص للصلاة ليس فيه قبور

- ‌[156] باب هل تجوزالصلاة في مسجد فيه قبر لمن لم يجد مسجدًا غيره

- ‌[157] باب منه

- ‌[158] باب حكم الصلاة في مسجد نُبِشَ القبر الذي فيه

- ‌[159] باب إذا وجدالقبر في المسجد فهل يزال القبر أم المسجد

- ‌[160] باب حكم الصلاة في غرفة مضافة إلى المسجد فيها قبر

- ‌[161] باب حكم الصلاة في مسجد فيه قبر في ساحته الخارجية

- ‌[162] باب حكم الصلاة في المسجد المبني بجوار المقبرة

- ‌[163] باب حرمة الصلاة في المقبرة سدًا لذريعة الشركومناقشة من خالف ذلك

- ‌[164] باب شبهات وجوابها حول حكم اتخاذ القبور مساجد

- ‌جماع أبواب الكلام حول حكم زيارة القبوروما يشرع عند القبور وما لا يشرعوالمسائل التي تتصل بذلك

- ‌[165] باب أئمة دعوة التوحيديجيزون زيارة القبور زيارة شرعية

- ‌[166] باب ذكر جملة من أحكام زيارة القبوروتحقيق القول في حكم زيارة النساء للقبور

- ‌[167] باب ما يحرم عند القبور

- ‌[168] باب بدع زيارة القبور

- ‌[169] باب حد الزيارة الشرعية للقبور، وكيفية السلام على الموتى

- ‌[170] باب هل يصح شيء في النهيعن زيارة القبور ليلاً للرجال

- ‌[171] باب هل زيارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمقبرة ليلاً خاص به

- ‌[172] باب الرد على القول بتحريم زيارة النساء للقبور

- ‌[173] باب حكم زيارة النساء للقبور

- ‌[174] باب معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لعن الله زوارات القبور»

- ‌[175] باب هل يجوز زيارة النساء للقبور للاتعاظ

- ‌[176] حكم تخصيص زيارة الأحياء للأموات، أو للأحياء يوم العيد

- ‌[177] باب حكم زيارة القبور يوم العيد

- ‌[178] باب حكم تخصيص زيارة القبور في العيد

- ‌[179] باب هل هناك دليل نقلىعلى عدم جواز تخصيص العيد بزيارة القبور

- ‌[180] باب هل ما يقع فيه القبوريون يُعَد من الكفر العملي

- ‌[181] باب حرمة استقبال القبر بالصلاة

- ‌[182] باب التمسح بالقبور من الشرك

- ‌[183] باب هل في حديث: «الله الله تربة أرضنا وريقة بعضنا يشفي سقيمنا بإذن ربنا» دليل على جواز التمسح بالقبور

- ‌[184] باب حكم قراءة القرآن عند القبور

- ‌[185] باب حكم القراءة على القبر

- ‌[186] باب حكم زراعة أشجار على القبور

- ‌[187] باب لا حج إلا لبيت الله الحرامأما الحج إلى القبور فمن الشرك

- ‌[188] باب حكم الطواف بالقبور وهل يعذر بالجهل في مثل ذلك وهل أخذ الميثاق يكفي كحجة؟ وحكم أهل الفترة

- ‌[189] باب الطواف حول القبور وثنية لا يرضاها الإسلام

- ‌[190] باب لا تستقبل القبور حين الدعاء

- ‌[191] باب حكم قصد القبر للدعاء عنده تبركاً

- ‌[192] باب منه

- ‌[193] باب حكم استقبال القبور بالدعاء

- ‌[194] باب هل يشرع تقصد القبر بالسلام والدعاء

- ‌[195] باب وضع المال عند القبر غير مشروع

- ‌[196] باب هل يجوز تعليم القبر وزيارته بعينه

- ‌[197] باب حكم البناء على القبر للضرورة والكتابة عليه

- ‌[198] باب حكم إحياء قبور الصحابة والعناية بها

- ‌جماع أبواب الكلامحول حكم شد الرحال للقبور والمواطن الفاضلةوحكم تتبع آثار الأنبياء والصالحين وتَقَصُّدَها

- ‌[199] باب بدعية تتبع آثار الأنبياء والصالحين

- ‌[200] باب حكم تتبع آثار الأنبياء

- ‌[201] باب تَقَصًد آثار الأنبياء للصلاة عندها وسيلة للشرك

- ‌[202] باب من وسائل الشرك: تتبع آثار الأنبياء والصاحين

- ‌[203] باب هل شد الرحال يحرم لغيرالمساجد الثلاثة من المساجد فقط أم أن ذلك عام

- ‌[204] باب حديث: «لا تشد الرِّحال» يشمل المواطن الفاضلة

- ‌[205] باب بدعية شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين

- ‌[206] باب ما هو الحكم الشرعي في شد الرحال إلى القبور

- ‌[207] باب حكم شد الرحال إلى القبوروإلى المواطن الفاضلة

- ‌[208] باب بدعية قصد المساجد التي بمكة غير المسجد الحرام

- ‌[209] باب بدعية قصد الجبال والبقاع التي حول مكة

- ‌[210] باب بدعية قصد الصلاة في مسجد عائشة

- ‌[211] باب بدعية قصد شيء من المساجد والمزارات التي بالمدينة غير المسجد النبوي ومسجد قباء

- ‌[212] باب لا يجوز شد الرحل إلى مسجد قباء مع فضيلته

- ‌[213] باب بدعية الصلاة عند قبر إبراهيم الخليل عليه السلام

- ‌[214] باب فتوى الشيخ في النُصُب المزعوم للخضرالذي كان موجوداً في جزيرة فيلكا وعلى دعوى المبتدعةوعَبدَةِ القبور في حياة الخضر

- ‌جماع أبواب الكلامحول مسألة زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌[215] باب تحرير القول في مسألة زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع سرد جملة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة في هذا الباب

- ‌[216] باب جواز زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلمدون شد الرحل إليه بقصد الزيارة

- ‌[217] باب بدع زيارة القبر النبوي

- ‌[218] باب من صور الغلو في زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌[219] باب منه

- ‌[220] باب منه

- ‌[221] باب بيان بطلان ما ينسبإلى أسامة بن زيد من صلاته عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌[222] باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلمحكمها حكم زيارة باقي القبور

- ‌[223] باب هل تشرع زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌[224] باب الانتصار لشيخ الإسلامفي قوله بحرمة شد الرحال بقصد زيارة قبر النبي

- ‌[225] باب رد بعض شبهاتالمجيزين لشد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌[226] باب هل تجوز زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد كل صلاة

- ‌[227] باب الفرق بين السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلممن المدينة المنورة ومن خارجها

الفصل: ‌[164] باب شبهات وجوابها حول حكم اتخاذ القبور مساجد

[164] باب شبهات وجوابها حول حكم اتخاذ القبور مساجد

[قال الإمام]:

قد يقول قائل: إذا كان من المقرر شرعاً تحريم بناء المساجد على القبور، فهناك أمور كثيرة تدل على خلاف ذلك وإليك بيانها:

أولاً: قوله تعالى في سورة الكهف {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (1)، ووجه دلالة الآية على ذلك: أن الذين قالوا هذا القول كانوا نصارى على ما هو مذكور في كتب التفسير، فيكون اتخاذ المسجد على القبر من شريعتهم وشريعة من قبلنا شرعية لنا إذا حكاها الله تعالى ولم يعقبها بما يدل على ردها كما في هذه الآية الكريمة.

ثانياً: كون قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده الشريف ولو كان ذلك لا يجوز لما دفنوه صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده!

ثالثاً: صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد الخيف مع أن فيه قبر سبعين نبيا كما

قال صلى الله عليه وآله وسلم!

رابعاً: ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل عليه السلام وغيره في الحجر من المسجد الحرام وهو أفضل مسجد يتحرى المصلى فيه.

خامساً: بناء أبي جندل رضي الله عنه مسجدا على قبر أبي بصير رضي الله عنه في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في «الاستيعاب» لابن عبد البر

(1) سورة الكهف الآية 21. [منه].

ص: 317

سادساً: زعم بعضهم أن المنع من اتخاذ القبور مساجد إنما كان لعلة خشية الافتتان بالمقبور، ثم زالت برسوخ التوحيد في قلوب المؤمنين، فزال المنع!

فكيف التوفيق بين هذه الأمور والتحريم المذكور؟

وجواباً على ذلك أقول وبالله تعالى أستعين:

الجواب عن الشبهة الأولى:

أما الشبهة الأولى فالجواب عنها من ثلاثة وجوه:

الأول: أن الصحيح المتقرر في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا لأدلة كثيرة (1) منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحدا من الأنبياء قبلي

(فذكرها، وآخرها) وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة» (2).

فإذا تبين هذا فلسنا ملزمين بالأخذ بما في الآية لو كانت تدل على أن جواز بناء المسجد على القبر كان شريعة لمن قبلنا!

الثاني: هب أن الصواب قول من قال: «شريعة من قبلنا شريعة لنا» فذلك مشروط عندهم بما إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه وهذا الشرط معدوم هنا لأن الأحاديث تواترت في النهي عن البناء المذكور كما سبق فذلك دليل على أن ما في الآية ليس شريعة لنا.

الثالث: لا نسلم أن الآية تفيد أن ذلك كان شريعة لمن قبلنا غاية ما فيها أن جماعة من الناس قالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} فليس فيها التصريح بأنهم كانوا

(1) انظر إن شئت المطولات من كتب علم الأصول وخاصة «الإحكام» لابن حزم. [منه].

(2)

أخرجه البخاري ومسلم وهو مخرج في «إرواء الغليل» (رقم 285). [منه].

ص: 318

مؤمنين، وعلى التسليم فليس فيها أنهم كانوا مؤمنين صالحين، متمسكين بشريعة نبي مرسل، بل الظاهر خلاف ذلك، قال الحافظ ابن رجب في «فتح الباري في شرح البخاري» (65/ 280) من «الكواكب الدراري» (1) في شرح حديث:«لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»

«وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بان مستنده القهر والغلبة وإتباع الهوى وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المنتصر لما أنزل الله على رسله من الهدى»

وقال الشيخ علي بن عروة في «مختصر الكوكب» (10/ 207/2) تبعا للحافظ ابن كثير في «تفسيره» (3/ 78):

«حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين (2):

أحدهما: أنهم المسلمون منهم.

والثاني: أهل الشرك منهم.

(1) مخطوط في المكتبة الظاهرية بدمشق، وهو كتاب عظيم جداً جمع نفائس نادرة من كتب العلماء المتقدمين ورسائلهم التي لم يطبع أكثرها فيما علمت وأنا الآن في صدد إخراج هذه الكتب والرسائل في فهرس خاص أضعه لمجلدات هذا الكتاب الموجودة في المكتبة وفي غيرها إن وفقت لذلك.

ثم تم الاستخراج المذكور من مجلدات المكتبة فعسى الله أن يوفق للإطلاع على غيرها واستخراج ما فيها من الكنوز. [منه].

(2)

قلت: وحكاهما أيضا ابن الجوزي في تفسيره «زاد المسير» (5/ 123 طبعة المكتب الإسلامي) دون أن يرجح أحدهما على عادته. [منه].

ص: 319

فالله أعلم والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هم محمودون أم لا؟ فيه نظر لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:«لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما فعلوا، وقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدها عنده فيها شيء من الملاحم وغيرها»

إذا عرفت هذا، فلا يصح الاحتجاج بالآية على وجه من الوجوه، وقال العلامة المحقق الآلوسي في «روح المعاني» (5/ 31):

«واستدل بالآية على جواز البناء على قبور العلماء واتخاذ مسجد عليها، وجواز الصلاة في ذلك وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي، وهو قول باطل عاطل، فاسد كاسد، فقد روي

».

ثم ذكر بعض الأحاديث المتقدمة وأتبعها بكلام الهيتمي في «الزواجر» مقرا له عليه وقد نقلته فيما سبق (ص. . . .) ثم نقل عنه في كتابه «شرح المنهاج» ما نصه:

«وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة، التي بناها بعض الملوك وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين الرفع للإمام آخذاً من كلام ابن الرفعة في الصلح. انتهى» ثم قال الإمام الآلوسي:

«لا يقال: إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا وقد استدل بها فقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من نام عن صلاة أو نسيها» (1) الحديث ثم تلا قوله تعالى

(1) قلت: هذا الحديث صحيح مخرج على الصحيحين فلا يحن تصديره بقوله «روي» لأنه يدل على الضعف في اصطلاح العلماء كما بينته في «صلاة التراويح» (ص 63 - 64) فتنبه.

ثم إن الحديث مخرج عندي في «صحيح أبي داود» (461) و «الإرواء» (263). [منه].

ص: 320

{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (1)، وهو مقول لموسى عليه السلام وسياقه الاستدلال

واحتج أبو يوسف على جري القود بين الذكر والأنثى بآية {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} ، والكرخي على جريه بين الحر والعبد والمسلم والذمي (2) بتلك الآية الواردة في بني إسرائيل إلى غير ذلك لأنا نقول: مذهبنا في شرع من قبلنا وإن كان أنه يلزمنا على أنه شريعتنا لكن لا مطلقا بل إن قص الله تعالى علينا بلا إنكار، وإنكار رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كإنكاره عز وجل (3).

وقد سمعت أنه عليه الصلاة والسلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور، على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع، وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفا احتجاج الأئمة بها، وليس فيها أكثر من حكاية قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك، وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسي بهم فمتى لم يثبت أن فيهم معصوما لا يدل على فعلهم عن عزمهم على مشروعية ما كانوا بصدده.

ومما يقوي قلة الوثوق بفعلهم القول بأن المراد بهم الأمراء والسلاطين كما

(1) سورة طه الآية 14. [منه].

(2)

قلت: إجراء القود بين المسلم والذمي بيس جائزاً، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم «لا يُقتل مسلم بكافر» .رواه البخاري وغيره (انظر الأحاديث الضعيفة 1/ 671)[[حديث رقم 460]].فالاحتجاج بالآية المشار إليها في المسألة كالاحتجاج بآية الكهف فيما نحن فيه!. [منه].

(3)

لقوله صلى الله عليه وسلم «

فان ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله».وهو حديث صحيح، وإن رغم أنف صاحب «الأضواء» انظر «المشكاة» بتخرجي (163). [منه].

ص: 321

روي عن قتادة.

وعلى هذا لقائل أن يقول: إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور، فأشاروا بالبناء على باب الكهف وسده وكف التعرض لأصحابه، فلم يقبل الأمراء منهم، وغاظهم ذلك حتى أقسموا على اتخاذ المسجد.

وإن أبيت إلا حسن الظن بالطائفة الثانية فلك أن تقول: إن اتخاذهم المسجد عليهم ليس على طراز اتخاذ المساجد على القبور المنهي عنه، الملعون فاعله، وإنما هو اتخاذ مسجد عندهم وقريبا من كهفهم وقد جاء التصريح بالعندية في رواية القصة عن السدي ووهب ومثل هذا الاتخاذ ليس محذوراً إذ غاية ما يلزم على ذلك أن يكون نسبة المسجد إلى الكهف الذي هم فيه كنسبة المسجد النبوي إلى المرقد المعظم صلى الله تعالى على من فيه وسلم ويكون قوله {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ} على هذا لمشاكلة قول الطائفة {ابْنُوا عَلَيْهِمْ} .

وإن شئت قلت: إن ذلك الاتخاذ كان على كهف فوق الجبل الذي هو فيه، وفيه خبر مجاهد أن الملك تركهم في كهفهم وبنى علي كهفهم مسجداً، وهذا أقرب لظاهر اللفظ كما لا يخفى وهذا كله إنما يحتاج إليه على القول بأن أصحاب الكهف ماتوا بعد الإعثار عليهم وأما على القول بأنهم ناموا كما ناموا أولا فلا يحتاج إليه على ما قيل (1).

ص: 322

وبالجملة لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب إلى خلاف ما نطقت الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة، معولاً على الاستدلال بهذه الآية، فإن ذلك في الغواية غاية وفي قلة النهى نهاية ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من إشرافها، وبنائها بالجص والآجر وتعليق القناديل عليها، والصلاة إليها والطواف بها واستلامها، والاجتماع عندها في أوقات مخصوصة إلى غير ذلك محتجاً بهذه الآية الكريمة وبما جاء في بعض روايات القصة من جعل الملك لهم في كل سنة عيداً، وجعله إياهم في توابيت من ساج، ومقيساً لبعض على بعض وكل ذلك محادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وابتداع دين لم يأذن به الله

عز وجل.

ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسل في قبره عليه الصلاة والسلام وهو أفضل قبر على وجه الأرض والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له والسلام عليه فتتبع ذاك وتأمل ما هنا وما هناك والله سبحانه يتولى هداك».

قلت: وقد استدل بالآية المذكورة على الجواز المزعوم بل على استحباب بناء المساجد على القبور بعض المعاصرين (1) لكن من وجه آخر مبتدع مغاير

(1) هو الشيخ أبو الفيض أحمد الصديق الغماري في كتابه المسمى «إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور» ! وهذا الكتاب من أغرب ما ابتلى به المسلمون في هذا العصر، وأبعد ما يكون عن البحث العلمي النزيه فان المؤلف يدعي ترك التقليد والعمل بالحديث الشريف! فقد التقيت به منذ بضعة أشهر في المكتبة الظاهرية وظهر لي من الحديث الذي جرى بيني وبينه أنه على معرفة بعلوم الحديث وأنه يدعو للاجتهاد ويحارب التقليد محاربة لا هوادة فيها، وله ذلك بعض المؤلفات كما قال لي ولكن الجلسة كانت قصيرة لم تمكني من أن أعرف اتجاهه في العقيدة وإن كنت شعرت من بعض فقرات حديثه انه خلفي صوفي، ثم تأكد من ذلك بعد أن قرأت له هذا الكتاب وغيره حيث تبين لي أن يحارب أهل التوحيد ويخالفهم في عقيدتهم مخالفة شديدة ويقول البدعة الحسنة، وينتصر للمبتدعة! ولم يستفد من دعواه الاجتهاد إلا الانتصار للأهواء وأهلها ما يفعل مجتهدوا الشيعة تماما وإن شئت دليلا على ما أقول فحسبك برهانا على ذلك هذا الكتاب «

المقبور»! فإن قبر كل الأحاديث المتواترة في تحريم البناء المساجد على القبور الذي قال به الأئمة الفحول بلا خلاف يعرف بينهم فهو والحق يقال: جرئ ولكن في محاربة الحق كيف لا وهو يرد كل ما ذكرناه من الأحاديث واتفاق الأئمة دون أي حجة اللهم إلا إتباع المتشابه من النصوص كآية الكهف هذه، شأنه في ذلك شأن المبتدعة في رد النصوص المحكمات بالمتشابه نعوذ بالله من الخذلان وسيأتيك من كلامه بعض الأمثلة الأخرى على ما ذكرنا، والله المستعان. [منه].

ص: 323

بعض الشيء لما سبق حكايته ورده فقال ما نصه:

«والدليل من هذه الآية إقرار الله إياهم على ما قالوا وعدم رده عليهم» .

قلت: هذا الاستدلال باطل من وجهين:

الأول: أنه لا يصح أن يعتبر عدم الرد عليهم إقرارا لهم، إلا إذا ثبت أنهم كانوا مسلمين وصالحين متمسكين بشريعة نبيهم، وليس في الآية ما يشير أدنى إشارة إلى أنهم كانوا كذلك بل يحتمل أنهم لم يكونوا كذلك، وهذا هو الأقرب أنهم كانوا كفاراً أو فجاراً، كما سبق من كلام ابن رجب وابن كثير وغيرهما وحينئذ فعدم الرد عليهم لا يعد إقراراً، بل

إنكاراً، لأن حكاية القول عن الكفار والفجار يكفي في رده عزوه إليهم فلا يعتبر السكوت عليه إقراراً كما لا يخفى، ويؤيده الوجه الآتي:

الثاني: أن الاستدلال المذكور إنما يستقيم على طريقة أهل الأهواء من الماضين والمعاصرين الذين يكتفون بالقرآن فقط ديناً، ولا يقيمون للسنة وزناً، وأما على طريقة أهل السنة والحديث الذين يؤمنون بالوحيين، مصدقين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم -

ص: 324

في الحديث الصحيح المشهور: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» .وفي رواية: «ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله» (1).

فهذا الاستدلال عندهم- والمستدل يزعم أنه منهم- باطل ظاهر البطلان، لأن الرد الذي نفاه قد وقع في السنة المتواترة كما سيق فكيف يقول: إن الله أقرهم ولم يرد عليهم مع أن الله لعنهم على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فأي رد أوضح وأبين من هذا؟!

وما مثل من يستدل بهذه الآية على خلاف الأحاديث المتقدمة؛ إلا كمثل من يستدل على جواز صنع التماثيل والأصنام بقوله تعالى في الجن الذين كانوا مذللين لسليمان عليه السلام: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} (2) يستدل بها على خلاف الأحاديث الصحيحة التي تحرم التماثيل والتصاوير وما يفعل ذلك مسلم يؤمن بحديثه صلى الله عليه وآله وسلم.

وبهذا ينتهي الكلام عن الشبهة الأولى وهي الاستدلال بآية الكهف (3) والجواب عنها وعن ما تفرع منها.

الجواب عن الشبهة الثانية:

وأما الشبهة الثانية وهي أن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده كما هو مشاهد اليوم، ولو كان ذلك حراما لم يدفن فيه.

(1) حديث صحيح كما تقدم (ص. . . .. ). [منه].

(2)

سورة سبأ الآية 13. [منه].

(3)

وانظر (ص180). [منه].

ص: 325

والجواب: أن هذا وإن كان هو المشاهد اليوم، فإنه لم يكن كذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم لما مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفنوه في حجرته في التي كانت بجانب مسجده، وكان يفصل بينهما جدار فيه باب، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج منه إلى المسجد، وهذا أمر معروف مقطوع به عند العلماء، ولا خلاف في ذلك بينهم، والصحابة رضي الله عنهم حينما دفنوه صلى الله عليه وآله وسلم في الحجرة، إنما فعلوا ذلك كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً، كما سبق بيانه في حديث عائشة وغيره (ص 163).

ولكن وقع بعدهم ما لم يكن في حسبانهم ذلك أن الوليد بن عبد الملك أمر سنة ثمان وثمانين بهدم المسجد النبوي وإضافة حجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه فأدخل فيه الحجرة النبوية حجرة عائشة فصار القبر بذلك في المسجد (1).

ولم يكن في المدينة أحد من الصحابة حينذاك خلافاً لم توهم بعضهم.

قال العلامة الحافظ محمد ابن عبد الهادي في «الصارم المنكي» (ص136):

«وإنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك، بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان آخرهم موتا جابر بن عبد الله، وتوفي في خلافة عبد الملك فإنه توفي سنة ثمان وسبعين، والوليد تولى سنة ست وثمانين، وتوفي سنة ست وتسعين، فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك (2).

(1) تاريخ ابن جرير (5/ 22223) وتاريخ ابن كثير (9/ 7475). [منه].

(2)

قلت: وإنما لم يسم الحافظ ابن عبد الهادي السنة التي وقع فيها ذلك لأنها لم ترد في رواية ثابتة على طريقة المحدثين، وما نقلناه عن ابن جرير هو من رواية الواقدي وهو متهم، ورواية ابن شبة الآتية في كلام الحافظ ابن عبد الهادي مدارها على مجاهيل، وهم عن مجهول كما هو ظاهر فلا حجة في شيء من ذلك وإنما العمدة على اتفاق المؤرخين على أن إدخال الحجرة إلى المسجد كان في ولاية الوليد وهذا القدر كاف في إثبات أن ذلك كان بعد موت الصحابة الذين كانوا في المدينة حسبما بينه الحافظ لكن يعكر عليه ما رواه أبو عبد الله الرازي في مشيخته (218/ 1) عن محمد بن الربيع الجيزي:«توفي سهل بن سعد بالمدينة هو ابن مائة سنة وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين وهو آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.» لكن الجيزي هذا لم اعرفه ثم هو معضل وقد ذكر مثله الحافظ بن حجر في «الإصابة» (2/ 87) عن الزهري من قوله فهو معضل أيضا أو مرسل ثم عقبه بقوله: «وقيل قبل ذلك وزعم ابن أبي داود أنه مات بالإسكندرية» وجزم في «التقريب» أنه مات سنة 88 فالله أعلم.

وخلاصة القول أنه ليس لدينا نص تقوم به الحجة على أن أحدا من الصحابة كان في عهد عملية التغيير هذه، فمن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل فما جاء في «شرح مسلم» (5/ 1314) أن ذلك كان في عهد الصحابة لعل مستنده تلك الرواية المعضلة أو المرسلة وبمثلها لا تقوم حجة على أنها أخص من الدعوى فإنها لو صحت إنما تثبت وجود واحد من الصحابة حينذاك لا (الصحابة).

وأما قول بعض من كتب في هذه المسألة بغير علم:

«فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم منذ وسعه عثمان رضي الله عنه وأدخل في المسجد ما لم يكن منه، فصارت القبور الثلاثة محاطة بالمسجد لم ينكر أحد من السلف ذلك» .

فمن جهالاتهم التي لا حدود لها! - ولا أريد أن أقول: إنها من افتراءاتهم- فإن أحدا من العلماء لم يقل إن إدخال القبور الثلاثة كان في عهد عثمان رضي الله عنه، بل اتفقوا على أن ذلك كان في عهد الوليد بن عبد الملك كما سبق أي بعد عثمان بنحو نصف قرن ولكنهم يهرفون بما لا يعرفون.

ذلك لأن عثمان رضي الله عنه فعل خلاف ما نسبوا إليه فإنه لما وسع المسجد النبوي الشريف احترز من الوقوع في مخالفة الأحاديث المشار إليها فلم يوسع المسجد من جهة الحجرات ولم يدخلها فيه وهذا عين ما صنعه سلفه عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعا بل أشار هذا إلى أن التوسيع من الجهة المشار إليها فيه المحذور المذكور في الأحاديث المتقدمة كما سيأتي ذلك عنه قريبا وأما قولهم: «ولم ينكر أحد من السلف ذلك» .

فنقول: وما أدراكم بذلك؟! فإن من أصعب الأشياء على العقلاء إثبات نفي شيء يمكن أن يقع ولم يعلم كما هو معروف عند العلماء لأن ذلك يستلزم الاستقراء التام والإحاطة بكل ما جرى، وما قيل حول الحادثة التي يتعلق بها الأمر المراد نفيه عنها، وأنى لمثل هذا البعض المشار إليه أن يفعلوا ذلك لو استطاعوا ولو أنهم راجعوا بعض الكتب لهذه المسألة لما وقعوا في تلك الجهالة الفاضحة ولو جدوا ما يحملهم على أن لا ينكروا ما لم يحيطوا بعلمه فقد قال الحافظ ابن كثير في تاريخه (75 ج 9) بعد أن ساق قصة إدخال القبر النبوي في المسجد:

«ويحكي أن سعيد بن المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجداً» .

وأنا لا يهمني كثيرا صحة هذه الرواية أو عدم صحتها لأننا لا نبني عليها حكما شرعيا لكن الظن بسعيد بن المسيب وغيره من العلماء الذين أدركوا ذلك التغيير أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار لمنافاته تلك الأحاديث المتقدمة منافاة بينة وخاصة منها رواية عائشة التي تقول: «فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا» فما خشي الصحابة رضي الله عنهم قد وقع- مع الأسف الشديد- بإدخال القبر في المسجد إذ لا فارق بين أن يكونوا دفنوه صلى الله عليه وسلم حين مات في المسجد- وحاشاهم عن ذلك- وبين ما فعله الذين بعدهم من إدخال قبره في المسجد بتوسيعه، فالمحذور حاصل على كل حال كما تقدم عن الحافظ العراقي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، ويؤيد هذا الظن أن سعيد بن المسيب أحد رواة الحديث الثاني كما سبق، فهل اللائق بمن يعترف بعلمه وفضله وجرأته في الحق أن يظن به أنه أنكر على من خالف الحديث الذي هو أحد رواته أم أن ينسب إليه عدم إنكاره ذلك كما زعم هؤلاء المشار إليهم حين قالوا «لم ينكر أحد من السلف ذلك» !

والحقيقة أن قولهم هذا يتضمن طعنا ظاهراً- لو كانوا يعلمون- في جميع السلف، لأن إدخال القبر إلى المسجد منكر ظاهر عند كل من علم بتلك الأحاديث المتقدمة وبمعانيها ومن المحال أن ننسب إلى جميع السلف جهلهم بذلك، فهم، أو على الأقل بعضهم يعلم ذلك يقيناً، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من القول بأنهم أنكروا ذلك، ولو لم نقف فيه على نص لأن التاريخ لم يحفظ لنا كل ما وقع، فكيف يقال: إنهم لم ينكروا ذلك؟ اللهم غفراً.

ومن جهالتهم قولهم عطفاً على قولهم السابق:

«وكذا مسجد بني أمية دخله المسلمون دمشق من الصحابة وغيرهم والقبر ضمن المسجد لمن ينكر أحد ذلك» .

إن منطق هؤلاء عجيب غريب! إنهم ليتوهمون أن كل ما يشاهدونه الآن في مسجد بني أمية كان موجوداً في عهد منشئه الأول الوليد بن عبد الملك، فهل يقول بهذا عاقل؟ كلا لا يقول ذلك غير هؤلاء! ونحن نقطع ببطلان قولهم وأن أحدا من الصحابة والتابعين لم ير قبراً ظاهراً في مسجد بني أمية أو غيره، بل غاية ما جاء فيه بعض الروايات عن زيد بن أرقم بن واقد أنهم في أثناء العمليات وجدوا مغارة فيها صندوق فيه سفط (وعاء كالقفة) وفي السفط رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام مكتوب عليه: هذا رأس يحيى عليه السلام فأمر به الوليد فرد إلى المكان وقال: اجعلوا العمود الذي فوقه مغيرا من الأعمدة فجعل عليه عمود مسبك بسفط الرأس. رواه أبو الحسن الربعي في «فضائل الشام» (33) ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخه» (ج 2 ق 9/ 10) وإسناده ضعيف جداً، فيه إبراهيم بن هشام الغساني كذبه أبو حاتم وأبو زرعة وقال الذهبي «متروك».ومع هذا فإننا نقطع أنه لم يكن في المسجد صورة قبر حتى أواخر القرن الثاني لما أخرجه الربعي وبن عساكر عن الوليد بن مسلم أنه سئل أين بلغك رأس يحيى بن زكريا؟ قال: بلغني أنه ثم وأشار بيده إلى العمود المسفط الرابع من الركن الشرقي، فهذا يدل على أنه لم يكن هناك قبر في عهد الوليد بن مسلم وقد توفي سنة أربع وتسعين ومائة.

وأما كون ذلك الرأس هو رأس يحيى عليه السلام فلا يمكن أن إثباته، ولذلك اختلف المؤرخون اختلافا كثيراً، وجمهورهم على أن رأس يحيى عليه السلام مدفون في مسجد حلب ليس في مسجد دمشق كما حققه شيخنا في الإجازة العلامة محمد راغب الطباخ في بحث له نشره في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق (ج 1 ص 41 - 1482) تحت عنوان «رأس يحيى ورأس زكريا» فليراجعه من شاء.

ونحن لا يهمنا من الوجهة الشرعية ثبوت هذا أو ذاك، وسواء عندنا أكان الرأس الكريم في هذا المسجد أو ذاك، بل لو تيقنَّا عدم وجوده في كل من المسجدين فوجود صورة القبر فيهما كاف في المخالفة، لأن أحكام الشريعة المطهرة إنما تبنى عل الظاهر لا الباطن كما هو معروف، وسيأتي ما يشهد لهذا من كلام بعض العلماء، وأشد ما تكون المخالفة إذا كان القبر في قبلة المسجد، كما هو الحال في مسجد حلب ولا منكر لذلك من علمائها!

واعلم أنه لا يجدي في رفع المخالفة أن القبر في المسجد ضمن مقصورة كما زعم مؤلفو الرسالة لأنه على كل حال ظاهر ومقصود من العامة وأشباههم من الخاصة بما لا يقصد به إلا الله تعالى؛ من التوجه إليه والاستغاثة به من دون الله تبارك وتعالى فظهور القبر هو سبب المحذور كما سيأتي عن النووي رحمه الله.

وخلاصة الكلام أن قول من أشرنا إليهم أن قبر يحيى عليه السلام كان ضمن المسجد الأموي منذ دخل دمشق الصحابة وغيرهم لم ينكر ذلك أحد منهم إن هو إلا محض اختلاق!. [منه].

ص: 326

وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري في «كتاب أخبار المدينة» مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياخه عمن حدثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائباً

ص: 329

للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة بالساج وماء الذهب، وهدم حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأدخلها في المسجد وأدخل القبر فيه».

يتبين لنا مما أوردناه أن القبر الشريف إنما أدخل إلى المسجد النبوي حين لم يكن في المدينة أحد من الصحابة وإن ذلك كان على خلاف غرضهم الذي رموا إليه حين دفنوه في حجرته صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يجوز لمسلم بعد أن عرف هذه الحقيقة أن يحتج بما وقع بعد الصحابة، لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة وما فهم الصحابة والأئمة منها كما سبق بيانه، وهو مخالف أيضا لصنيع عمر وعثمان حين وسعا المسجد، ولم يدخلا القبر فيه.

ولهذا نقطع بخطأ ما فعله الوليد بن عبد الملك عفا الله عنه، ولئن كان مضطرا إلى توسيع المسجد، فإنه كان باستطاعته أن يوسعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة الشريفة وقد أشار عمر بن الخطاب إلى هذا النوع من الخطأ حين قام هو رضي الله عنه بتوسيع المسجد من الجهات الأخرى ولم يتعرض للحجرة بل قال «إنه لا سبيل إليها» (1) فأشار رضي الله عنه إلى المحذور الذي يترقب من جراء هدمها وضمها إلى المسجد.

ومع هذه المخالفة الصريحة للأحاديث المتقدمة وسنة الخلفاء الراشدين،

(1) انظر «طبقات ابن سعد» (4/ 21) و «تاريخ دمشق» لابن عساكر (8/ 478/2)، وقال السيوطي في «الجامع الكبير» (3/ 272/2): وسنده صحيح إلا أن سالما أبا النضر لم يدرك عمر و «وفاء الوفاء» للسمهودي (1/ 343) و «المشاهدات المعصومية عند قبر خير البرية» للعلامة محمد سلطان العصومي رحمه الله تعالى (ص 43) وهو مؤلف رسالة «هداية السلطان إلى بلاد اليابان» التي ادعى أحد الدكاترة أنها ليست له وإنما لبعض إخواننا! مع أنني تناولتها منه هدية مطبوعة حين زرته في مكة في حجتي الأولى سنة 1368 هـ. [منه].

ص: 330

فإن المخالفين لما أدخلوا القبر النبوي في المسجد الشريف احتاطوا للأمر شيئاً ما فحاولوا تقليل المخالفة ما أمكنهم قال النووي في «شرح مسلم» (5/ 14):

«ولما احتاجت الصحابة (1) والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد (2)

فيصلي إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني

(1) عزو هذا إلى الصحابة لا يثبت كما تقدم (صلى الله عليه وسلم. . .) فتنبه. [منه].

(2)

في هذا دليل واضح على أن ظهور القبر في المسجد ولو من وراء النوافذ والحديد والأبواب لا يزيل المحذور، كما هو الواقع في قبر يحيى عليه السلام في مسجد بني أمية في دمشق وحلب، ولهذا نص أحمد على أن الصلاة لا تجوز في المسجد الذي قبلته إلى القبر، حتى يكون بين حائط المسجد وبين المقبرة حائل آخر كما سيأتي فكيف إذا كان القبر في قبلة المسجد من الداخل ودون جدار حائل؟ ومن ذلك تعلم أن قول بعضهم:

«إن الصلاة في المسجد الذي به قبر كمسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد بني أمية لا يقال إنها صلاة في الجبانة فالقبر ضمن مقصورة مستقل بنفسه عن المسجد فما المانع من الصلاة فيه»

فهذا قول لم يصدر عن علم وفقه لأن المانع بالنسبة للمسجد الأموي لا يزال قائما وهو ظهور القبر من وراء المقصورة والدليل على ذلك قصد الناس للقبر والدعاء عنده وبه والاستغاثة به من دون الله، وغير ذلك مما لا يرضاه الله، والشارع الحكيم إنما نهى عن بناء المساجد على القبور سداً للذريعة ومنعاً لمثل هذه الأمور التي تقع عند هذا القبر كما سيأتي بيانه، فما قيمة هذه المقصورة حينئذ مع وقوع هذه المنكرات وغيرها عند القبر؟!

بل إن إحاطة القبر بهذه المقصورة على هذا الشكل المزخرف، إنما هي نوع آخر من المنكر الذي يحمل الناس على معصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتعظيم صاحب القبر بما لا يجوز شرعاً، مما هو مشاهد معروف، وسبقت الإشارة إلى بعضه.

ثم ألا يكفي في إثبات المانع أن الناس يستقبلون القبر عند الصلاة قصداً وبدون قصد، ولعل أولئك المشار إليهم وأمثالهم يقولون: لا مانع أيضا من هذا الاستقبال لوجود فاصل بين المصلين والقبر ألا وهو نوافذ القبر وشبكته النحاسية فنقول لو كان هذا المانع كافيا في المنع لما أحاطوا القبر النبوي الشريف بجدار مرتفع مستدير ولم يكتفوا بذلك، بل بنو جدارين يمنعون بهما من استقبال القبر. ولو كان وراء الجدار المستدير! وقد صح عن ابن جريج أنه قال: قلت لعطاء: أتكره أن تصلي في وسط القبور؟ أو في مسجد إلى قبر؟ قال: نعم كان ينهى عن ذلك أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (1/ 404).فإذا كان هذا التابعي الجليل (عطاء بن أبي رباح) لم يعتبر جدار المسجد فاصلاً بين المصلى وبين القبر وهو خارج المسجد. فهل يعتبر فاصلاً النوافذ والشبكة والقبر في المسجد؟!

فهل في هذا ما يقنع أولئك الكاتبين بجهلهم وخطئهم، وهجومهم على القول بما لا علم لهم به؟ لعل وعسى.

وأما المسجد النبوي الكريم، فلا كراهة في الصلاة فيه خلافا لما افتروه علينا وسيأتي تفصيل القول فيه في «الفصل السابع» إن شاء الله تعالى.

على أني لا أريد أن يفوتني أن أنبه القراء الكرام على أن أولئك الكاتبين يعترفون بكلمتهم السابقة في أن الصلاة في المسجد الذي فيه قبر غير محاط بمقصورة أنها صلاة مكروهة لانتفاء العلة التي من أجلها نفوا الكراهة عن الصلاة في مسجد بني أمية بزعمهم فهل لهم أن يجهروا للناس باعترافهم هذا؟ أم هو شيء اضطرهم إلى القول به التهرب من معارضة الأحاديث السابقة علناً وإن كانوا لا يدعون الناس إلى العمل به لغاية لا تخفى على العقلاء؟!. [منه].

ص: 331

القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر».

ونقل الحافظ ابن رجب في «الفتح» نحوه عن القرطبي كما في «الكواكب» (65/ 91/1) وذكر ابن تيمية في «الجواب الباهر» (ق 9/ 2):

«أن الحجرة لما أدخلت إلى المسجد سد بابها، وبني عليها حائط آخر صيانة له صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخذ بيته عيداً وقبره وثناً» .

قلت: ومما يؤسف له أن هذا البناء قد بني عليه منذ قرون- إن لم يكن قد أزيل- تلك القبة الخضراء العالية وأحيط القبر الشريف بالنوافذ النحاسية والزخارف والسجف وغير ذلك مما لا يرضاه صاحب القبر نفسه صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 332

بل قد رأيت حين زرت المسجد النبوي الكريم وتشرفت بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة 1368 هـ رأيت في أسفل حائط القبر الشمالي محراباً صغيراً ووراءه سدة مرتفعة عن أرض المسجد قليلا، إشارة إلى أن هذا المكان خاص للصلاة وراء القبر فعجبت حينئذ كيف ضلت هذه الظاهرة الوثنية قائمة حتى في عهد

دولة التوحيد!

أقول هذا مع الاعتراف بأنني لم أر أحداً يأتي ذلك المكان للصلاة فيه، لشدة المراقبة من قبل الحرس الموكلين على منع الناس من أن يأتوا بما يخالف الشرع عند القبر الشريف فهذا مما تشكر عليه الدولة السعودية، ولكن هذا لا يكفي ولا يشفي وقد كنت قلت منذ ثلاث سنوات في كتابي «أحكام الجنائز وبدعها» (208 من أصلي):

«فالواجب الرجوع بالمسجد النبوي إلى عهده السابق، وذلك بالفصل بينه وبين القبر النبوي بحائطٍ، يمتد من الشمال إلى الجنوب بحيث أن الداخل إلى المسجد لا يرى فيه أي محالفة لا ترضى مؤسسه صلى الله عليه وآله وسلم اعتقد أن هذا من الواجب على الدولة السعودية إذا كانت تريد أن تكون حامية التوحيد حقا وقد سمعنا أنها أمرت بتوسيع المسجد مجددا فلعلها تتبنى اقتراحنا هذا وتجعل الزيادة من الجهة الغربية وغيرها وتسد بذلك النقص الذي سيصيبه سعة المسجد إذا نفذ الاقتراح أرجو أن يحقق الله ذلك على يدها ومن أولى بذلك منها؟» .

ولكن المسجد وسع منذ سنتين تقريبا دون إرجاعه إلى ما كان عليه في عهد الصحابة والله المستعان.

ص: 333

الجواب عن الشبهة الثالثة:

وأما الشبهة الثالثة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في مسجد الخيف وقد ورد في الحديث أن فيه قبر سبعين نبياًّ!

فالجواب:

إننا لا نشك في صلاته صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المسجد ولكننا نقول: إن ما ذكر في الشبهة من أنه دفن فيه سبعون نبيا لا حجة فيه من وجهين:

الأول: أننا لا نسلم صحة الحديث المشار إليه، لأنه لم يروه أحد ممن عني بتدوين الحديث الصحيح ولا صححه أحد ممن يوثق بتصحيحه من الأئمة المتقدمين ولا النقد الحديثي يساعد على تصحيحه، فإن في إسناده من يروي الغرائب وذلك مما يجعل القلب لا يطمئن لصحة ما تفرد به.

قال الطبراني في «معجمه الكبير» (3/ 204/2): «حدثنا عبدان بن أحمد نا عيسى بن شاذان نا أبو همام الدلال نا إبراهيم بن طمهان عن منصور عن مجاهد عن ابن عمر مرفوعا بلفظ: «في مسجد الخيف قبر سبعين نبياً» .

وأورده الهيثمي «المجمع» (3/ 298) بلفظ:

«

قبر سبعون نبيا»، وقال:«رواه البزار ورجاله ثقات» .

وهذا قصور منه في التخريج فقد أخرجه الطبراني أيضا كما رأيت.

قلت: ورجال الطبراني ثقات أيضا غير عبدان بن أحمد وهو الأهوازي كما ذكر الطبراني في «المعجم الصغير» (ص 136) ولم أجد له ترجمة وهو غير عبدان بن محمد المروزي وهو من شيوخ الطبراني أيضا في «الصغير» (ص136)

ص: 334

وغيره وهو ثقة حافظ له ترجمة في «تاريخ بغداد» (11/ 135) و «تذكرة الحفاظ» (2/ 230) وغيرها.

لكن في رجال هذا الإسناد من يروي الغرائب مثل عيسى بن شاذان، قال فيه ابن حبان في «الثقات»:«يغرب» .

وإبراهيم بن طهمان، قال فيه ابن عمار الموصلي:«ضعيف الحديث مضطرب الحديث» .

وهذا على إطلاقه وإن كان مردوداً على ابن عمار فهو يدل على أن في حديث ابن طهمان شيئاً، ويؤيده قول ابن حبان في «ثقات أتباع التابعين» (2/ 10):

«أمره مشتبه له مدخل في الثقات، ومدخل في الضعفاء وقد روى أحاديث مستقيمة تشبه أحاديث الأثبات، وقد تفرد عن الثقات بأشياء معضلان سنذكره إن شاء الله في كتاب الفصل بين النقلة إن قضى الله سبحانه ذلك وكذلك كل شيءٍ توقفنا في أمره ممن له مدخل في الثقات» .

ولذلك قال فيه الحافظ ابن حجر في «التقريب» : «ثقة يغرب» وشيخه منصور - وهو ابن المعتمر- ثقة، وقد روى له ابن طهمان حديثا آخر في مشيخته (244/ 2)(1).

فالحديث من غرائبه أو من غرائب ابن شاذان (2).

(1) مخطوط في المكتبة الظاهرية بدمشق. [منه].

(2)

ثم رأيته قد توبع فقد وقفت على إسناد البزار للحديث في «زوائده» (ص 123 مصورة المكتب الإسلامي) فإذا هو يقول: حدثنا إبراهيم عن المستمر العروقي ثنا محمد ثنا إبراهيم بن طهمان به وقال البزار «تفرد به إبراهيم عن منصور ولا نعلمه عن ابن عمر بأحسن من هذا إسنادا» .

وهذه متابعة لا بأس بها العروقي-بالقاف- صدوق يغرب كما في «التقريب» .فالعهدة في الحديث على ابن طهمان، وجرى الهيثمي على ظاهر إسناده فقال في «زوائد البزار»:«قلت: هو إسناد صحيح» .ولعل قوله السابق «ورجاله ثقات» أدق لما ذكرنا من الغرابة ذلك لأن مثل هذه الكلمة لا تقتضي الصحة كما لا يخفى على من مارس هذه الصناعة، لأن عدالة الرواة وثقتهم شرط واحد من شروط الصحة الكثيرة، بل إن العالم لا يلجأ إلى هذه الكلمة معرضاً عن التصريح بالصحة، إلا لأنه يعلم أن في السند مع ثقة رجاله علة تمنع من القول بصحته، أو على الأقل لم يعلم تحقق الشروط الأخرى فيه فلذلك لم يصرح بصحته، وهذه مسألة مهمة طالما غفل عنها المبتدئون في هذا العلم الشريف وغيرهم ولذلك نبهت عليها في مقدمة كتابي «تمام المنة على فقه السنة للسيد سابق» .

هذا ولو كنت محتجاً بما ليس صواباً عندي لاحتججت على تصحيح بعض المعاصرين المقلدين للحديث بأن السيوطي ضعفه بالرمز إليه بالضعف في «الجامع الصغير» وقع ذلك في النسخة المطبوعة بمطبعة بولاق بمصر، وفي النسخة التي عليها شرح المناوي وفي نسخة خطية في المكتبة الظاهرية (2329 عام) وغيرها ولكن لا أثق برموز (الجامع الصغير) لأسباب ذكرتها في المقدمة المذكورة آنفا ثم في مقدمته كتابي «صحيح الجامع الغير وزياداته» و «وضعيف الجامع الصغير وزياداته» ، ولكن على الرغم من ذلك، فالتضعيف وارد عليهم لأنهم لا تحقيق عندهم بل هم مقلدون في كل شيء باعترافهم فغالب الظن أنهم يعتدون بتلك الرموز وعليه فالتضعيف المذكور حجة عليهم إن أنصفوا. [منه].

ص: 335

وأنا أخشى أن يكون الحديث تحرف على أحدهما فقال: «قُبر» بدل «صلى» ، لأن هذا اللفظ الثاني هو المشهور في الحديث فقد أخرج الطبراني في «الكبير» (3/ 1551) بإسناد رجاله ثقات عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا: «صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا

» الحديث.

وكذلك رواه الطبراني في «الأوسط» (1/ 119/2 - زوائده)(1) وعنه المقدسي في «المختارة» (249/ 2) والمخلص في «الثالث من السادس من المخلصيات» (70/ 1) وأبو محمد بن شيبان العدل في «الفوائد» (2/ 222/2)

(1) مخطوط ناقص الأول والآخر محفوظ في المكتبة الظاهرية ومنه نسخة كاملة في مكتبة الحرم المكي. [منه].

ص: 336

وقال المنذري (2/ 116):

«رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن» ولا شك في حسن الحديث عندي، فقد وجدت له طريقاً أخرى عن ابن عباس رواه الأزرقي في «أخبار مكة» (ص 35) عنه موقوفا عليه وإسناده يصلح للاستشهاد به، كما بينته في كتابي الكبير «حجة الوداع» (ولم ينجز بعد).

ثم رواه الأزرقي (ص 38) من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني من لا أتهم عن عبد الله بن عباس به موقوفا. فهذا هو المعروف في هذا الحديث

والله أعلم.

وجملة القول أن الحديث ضعيف لا يطمئن القلب لصحته فإن صح فالجواب عنه من الوجه الآتي وهو:

الثاني: أن الحديث ليس فيه أن القبور ظاهرة في مسجد الخيف، وقد عقد الأزرقي في تاريخ مكة (406 - 410) عدة فصول في وصف مسجد الخيف، فلم يذكر أن فيه قبوراً بارزة، ومن المعلوم أن الشريعة إنما تبنى أحكامها على الظاهر، فإذا ليس في المسجد المذكور قبور ظاهرة، فلا محظور في الصلاة فيه البتة، لأن القبور مندرسة ولا يعرفها أحد بل لولا هذا الخبر الذي عرفت ضعفه لم يخطر في بال أحد أن في أرضه سبعين قبراً! ولذلك لا يقع فيه تلك المفسدة التي تقع عادة في المساجد المبنية على القبور الظاهرة والمشرفة.

ص: 337

الجواب عن الشبهة الرابعة:

وأما ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل عليه السلام وغيره في الحجر من المسجد الحرام وهو أفضل مسجد يتحرى فيه فالجواب:

لا شك أن المسجد الحرام أفضل المساجد والصلاة فيه بمائة ألف صلاة (1)، ولكن هذه الفضيلة أصلية فيه منذ رفع قواعده إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام ولم تطرأ هذه الفضيلة عليه بدفن إسماعيل عليه السلام فيه لو صح أنه دفن فيه، ومن زعم خلاف ذلك فقد ضل ضلالا بعيدا وجاء بما لم يقله أحد من السلف الصالح رضي الله عنهم، ولا جاء به حديث تقوم الحجة به.

فإن قيل: لا شك فيما ذكرت، ودفن إسماعيل فيه لا يخالف ذلك، ولكن ألا يدل هذا على الأقل على عدم كراهية الصلاة في المسجد الذي فيه قبر؟

فالجواب: كلا ثم كلا وهاك البيان من وجوه:

الأول: أنه لم يثبت في حديث مرفوع أن إسماعيل عليه السلام أو غيره من الأنبياء الكرام دفنوا في المسجد الحرام، ولم يرد شيء من ذلك في كتاب من كتب السنة المعتمدة كالكتب الستة، ومسند أحمد، ومعاجم الطبراني الثلاثة وغيرها من الدواوين المعروفة، وذلك من أعظم علامات كون الحديث ضعيفا بل موضوعا عند بعض المحققين (2).

(1) وقد خرجت بعض الأحاديث الواردة في ذلك في «إرواء الغليل» (971 و1129). [منه].

(2)

نقل السيوطي في «التدريب» عن ابن الجوزي «قال» : ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يباين العقول أو يخالف المنقول أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع. قال: ومعنى مناقضته للأصول أن يكون خارجا من دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة «.

كذا في «الباعث الحثيث» (ص 85 من الطبعة الثانية). [منه].

ص: 338

وغاية ما روي في ذلك من آثار معضلات، بأسانيد واهيات موقوفات أخرجها الأزرقي في «أخبار مكة» (ص 39 و219 و220) فلا يلتفت إليها وإن ساقها بعض المبتدعة مساق المسلمات (1).

ونحو ذلك ما أورد السيوطي في «الجامع» من رواية الحاكم في «الكنى» عن عائشة مرفوعا بلفظ:

«إن قبر إسماعيل في الحجر» .

الوجه الثاني: أن القبور المزعوم وجودها في المسجد الحرام غير ظاهرة ولا بارزة، ولذلك لا تقصد من دون الله تعالى، فلا ضرر من وجودها في بطن أرض

(1)» انظر إحياء المقبور «(47 - 48).

ومن عجائب الجهل بالسنة أن بعض المفسرين المتأخرين احتج بهذه الآثار الواهية على جواز الصلاة في المقبرة بقصد الاستظهار بروح الميت أو وصول أثر ما من أثر عبادته إليه (!) لا للتعظيم له والتوجه نحوه وهذا مع أنه لا دليل فيها على ما زعمه من الجواز، فهو مخالف لعموم الأدلة الناهية عن الصلاة في المقبرة وما شابهها من المساجد المبنية على القبور ولهذا رد المناوي احتجاج المفسر المشار إليه بقوله:

«لكن خبر الشيخين كراهة (!) بناء المساجد على القبور مطلقا والمراد قبور المسلمين خشية أن يعبد فيها المقبور لقرينة خبر: اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد»

وقال الصنعاني في «سبل السلام» (2/ 214) متعقباً عليه أيضاً:

«قوله: (لا لتعظيم له) يقال: قصد التبرك به تعظيم له ثم أحاديث النهي مطلقة، ولا دليل على التعليل بما ذكر والظاهر أن العلة سد للذريعة والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان، الذين يعظمون الجمادات التي لا تنفع ولا تضر، ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية، ولأنه سبب لإيقاد السرج عليها الملعون فاعله ومفاسد ما يبنى على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر»

قلت: وقوله «الملعون فاعله» يشير إلى حديث ابن عباس الذي بينت ضعفه فيما سبق (ص. . . .) فتنبه. [منه].

ص: 339

المسجد فلا يصح حينئذ الاستدلال بهذه الآثار على جواز اتخاذ المساجد على قبور مرتفعة على وجه الأرض، لظهور الفرق بين الصورتين وبهذا أجاب الشيخ على القاري رحمه الله تعالى فقال في «مرقاة المفاتيح» (1/ 456) بعد أن حكى قول المفسر الذي أشرت إليه في التعليق:

«وذكر غيره أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر تحت الميزاب، وأن في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبيا» .قال القاري:

«وفيه أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام وغيره مندرسة، فلا يصلح الاستدلال» وهذا جواب عالم نحرير، وفقيه خريت، وفيه الإشارة إلى ما ذكرناه آنفا، وهو أن العبرة في هذه المسألة بالقبور الظاهرة، وأن ما في بطن الأرض من القبور فلا يرتبط به حكم شرعي من حيث الظاهر، بل الشريعة تنزه عن مثل هذا الحكم لأننا نعلم بالضرورة والمشاهدة أن الأرض كلها مقبرة الأحياء كما قال تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا. أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} . قال الشعبي: «بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم» (1).

ومنه قول الشاعر:

صاح هذي قبورنا تملأ الرحب

فأين القبور من عهد عاد؟

خفف الوطأ ما أظن أديم

الأرض إلا من هذه الأجساد

سر إن استطعت في الهواء رويدا

لا اختيالاً على رفات العباد

ومن البين الواضح أن القبر إذا لم يكن ظاهراً غير معروف مكانه فلا يترتب

(1) رواه الدولابي (1/ 129) عنه ورجاله ثقات. [منه].

ص: 340

من وراء ذلك مفسدة كما هو مشاهد حيث ترى الوثنيات والشركيات إنما تقع عند القبور المشرفة، حتى ولو كانت مزورة! لا عند القبور المندرسة، ولو كانت حقيقية، فالحكمة تقتضي التفريق بين النوعين، وهذا ما جاءت به الشريعة كما بينا سابقاً، فلا يجوز التسوية بينهما، والله المستعان.

الجواب عن الشبهة الخامسة:

أما بناء أبي جندل رضي الله عنه مسجداً على قبر أبي بصير رضي الله عنه في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فشبهة لا تساوي حكايتها ولولا أن بعض ذوي الأهواء من المعاصرين اتكأ عليها في رد تلك الأحاديث المحكمة لما سمحت لنفسي أن أسود الصفحات في سبيل الجواب عنها وبيان بطلانها والكلام عليها من وجهين:

الأول: رد ثبوت البناء المزعوم من أصله، لأنه ليس له إسناد تقوم الحجة به، ولم يروه أصحاب «الصحاح» و «السنن» و «المسانيد» وغيرهم وإنما أورده ابن عبد البر في ترجمة أبي بصير من «الاستيعاب» (4/ 21 - 23) مرسلا فقال:

«وله قصة في المغازي عجيبة ذكرها ابن إسحاق وغيره وقد رواها معمر عن ابن شهاب. ذكر عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب في قصة القضية عام الحديبية، قال:

ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلت قريش في طلبه رجلين، فقالا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

العهد الذي جعلت لنا أن ترد إلينا كل من جاءك مسلماً، فدفعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرجلين فخرجا حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمرٍ لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيداً يا فلان! فاستله الآخر، وقال: أجل

ص: 341

والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت، فقال له أبو بصير أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الأخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد بعده فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين رآه:«لقد رأى هذا ذعرا» فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال يا رسول الله قد والله وفى الله ذمتك: قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد» .فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال: وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير

وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر في أبي بصير بأتم ألفاظاً وأكمل سياقه قال:

وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه ومن معهما من المسلمين فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي جندل وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده يقرؤه فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه وبنى على قبرِه مسجداً».

قلت: فأنت ترى أن هذه القصة مدارها على الزهري فهي مرسلة على اعتبار انه تابعي صغير، سمع من أنس بن مالك رضي الله عنه وإلا فهي معضلة وكيف ما كان الأمر فلا تقوم بها حجة على أن موضع الشاهد منها وهو قوله:«وبنى على قبره مسجداً» لا يظهر من سياق ابن عبد البر للقصة أنه من مرسل الزهري ولا من رواية عبد الرزاق عن معمر عنه بل هو من رواية موسى بن عقبة كما صرح به ابن عبد البر لم يجاوزه وابن عقبة لم يسمع أحدا من الصحابة فهذه الزيادة أعني قوله «وبنى على قبره مسجدا» معضلة (1).

(1) ولا تغتر أيها القارئ بما فعله هنا مؤلف «إحياء المقبور» فإنه ساق (ص 44) القصة التي أوردناها في الأعلى من طريق ابن عبد البر غير أن المؤلف حذف من كلامه «وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر» ووصل رواية عبد الرزاق عن الزهري برواية موسى بن عقبة حتى صارتا كأنهما رواية واحدة وبدا للناظر في سياقه أن القصة بناء المسجد على القبر هي من رواية عبد الرزاق عن الزهري وإنما هي من رواية موسى بن عقبة بدون إسناد!

ثم وقفت على رواية موسى بن عقبة في «تاريخ ابن عساكر» (8/ 334/1) رواه بإسنادين عنه عن ابن شهاب مرسلا ومعضلا بلفظ: «وجعل عند قبره مسجدا» وهذا اللفظ- لو صح- أقل مخالفة لأنه ليس نصاً في أن البناء كان على القبر بل عنده وشتان ما بينهما وليس فيه أيضا أن أبا جندل هو الذي بنى المسجد فتأمل. [منه].

ص: 342

بل هي عندي منكرة لأن القصة رواها البخاري في «صحيحة» (5/ 351 - 371) وأحمد في «مسنده» (4/ 328 - 331) موصولة من طريق عبد الرزاق عن معمر قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بها دون هذه الزيادة وكذلك أوردها ابن إسحاق في «السيرة» عن الزهري مرسلا كما في «مختصر السيرة» لابن هشام (3/ 331 - 339) ووصله أحمد (4/ 323 - 326) من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عروة به مثل رواية معمر وأتم وليس فيها هذه الزيادة، وكذلك رواه ابن جرير في تاريخه (3/ 271 - 285) من طريق معمر وابن إسحاق وغيرهما عن الزهري به دون هذه الزيادة، فدل ذلك كله على أنها زيادة منكرة؛ لإعضالها، وعدم رواية الثقات لها. والله تعالى هو الموفق.

الوجه الثاني: أن ذلك لو صح لم يجز أن ترد به الأحاديث الصريحة، في تحريم بناء المساجد على القبور لأمرين:

أولا: أنه ليس في القصة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على ذلك وأقره.

ثانيا: أنه لو فرضنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم بذلك وأقره فيجب أن يحمل ذلك على أنه قبل التحريم لأن الأحاديث صريحة في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرم ذلك في آخر حياته كما سبق فلا يجوز أن يترك النص المتأخر من أجل النص المتقدم على فرض صحته عند التعارض وهذا بين لا يخفى نسأل الله تعالى أن يحمينا من إتباع الهوى.

ص: 343

الجواب عن الشبهة السادسة:

وهي الزعم بأن المنع إنما كان لعلة، وهي خشية الافتتان بالمقبور، وقد زالت، فزال المنع!!

لا أعلم أحدا من العلماء ذهب إلى القول بهذه الشبهة إلا مؤلف «إحياء المقبور» فإنه تمسك بها وجعلها عمدته في رد تلك الأحاديث المتقدمة واتفاق الأمة عليها فقال ما نصه (ص 18 - 19):

«وأما النهي عن بناء المساجد على القبور فاتفقوا على تعليله بعلتين: إحداهما أن يؤدي إلى تنجيس المسجد (1) وثانيهما وهو قول الأكثرين بل الجميع حتى من نص على العلة السابقة أن ذلك قد يؤدي إلى الضلال والفتنة بالقبر، لأنه إذا وقع بالمسجد وكان قبر ولي مشهور بالخير والصلاح لا يؤمن مع طول المدة أن يزيد اعتقاد الجهلة فيه ويؤدي بهم إلى فرط التعظيم إلى قصد الصلاة إليه، إذا كان في قبلة المسجد، فيؤدي بهم ذلك إلى الكفر والإشراك» .

ثم ساق شيئاً من النقول في العلة المذكورة عن بعض العلماء منهم الإمام الشافعي وقد تقدم نصه في ذلك (صلى الله عليه وسلم. . . .. ) ثم قال المؤلف المشار إليه (ص 20 - 21):

«فالعلة المذكورة قد انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين، ونشأتهم على التوحيد الخالص، واعتقاد نفي الشريك مع الله تعالى، وأنه سبحانه المنفرد بالخلق والإيجاد والتصريف (!) وبانتفاء العلة ينتفي الحكم المترتب عليها، وهو

(1) قلت: وهذه العلة باطلة من وجوه لا مجال لبيانها الآن ومن أدلة ذلك بخصوص قبور الأنبياء أن أجسادهم لا تبلى كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف تنجس الأرض بهم؟!. [منه].

ص: 344

كراهة اتخاذ المساجد والقباب على قبور الأولياء والصالحين»!

قلت: والجواب: أن يقال: أثبت العرش ثم انقش!

أثبت أولاً أن الخشية المذكورة هي وحدها علة النهي، ثم أثبت أنها قد انتفت، ودون ذلك خرط القتاد.

أما الأول، فإن لا دليل مطلقا على أن العلة هي الخشية المذكورة فقط نعم من الممكن أن يقال: انها بعض العلة وأما حصولها بها فباطل، لأن من الممكن أيضا أن يضاف إليها أمور أخرى معقولة كالتشبه بالنصارى، كما تقدم في كلام الفقيه الهيتمي، والمحقق الصنعاني، وكالإسراف في صرف المال فيما لا فائدة فيه شرعاً، وغير ذلك مما قد يبدو للباحث الناقد.

وأما زعمه أن العلة انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين

إلخ. فهو زعم باطل أيضاً وبيانه من وجوه:

الأول: أن الزعم بني على أصل باطل، وهو أن الإيمان بأن الله هو المنفرد بالخلق والإيجاد كاف في تحقيق الإيمان المنجي عند الله تبارك وتعالى، وليس كذلك فإن هذا التوحيد وهو المعروف عند العلماء بتوحيد الربوبية، كان يؤمن به المشركون الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (1).

ومع ذلك فلم ينفعهم هذا التوحيد شيئاً، لأنهم كفروا بتوحيد الألوهية والعبادة وأنكروه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد الإنكار، بقولهم فيما حكاه الله عنهم

(1) سورة لقمان الآية 25. [منه].

ص: 345

{أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (1).

ومن مقتضيات هذا التوحيد الذي أنكروه ترك الاستغاثة بغير الله، وترك الدعاء والذبح لغير الله، وغير ذلك مما هو خاص بالله تعالى من العبادات، فمن جعل شيئاً من ذلك لغير الله تبارك وتعالى فقد أشرك به، وجعل له نداً وإن شهد له بتوحيد الربوبية، فالإيمان المنجي إنما هو الجمع بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإفراد الله بذلك وهذا مفصل في غير هذا الموضع.

فإذا تبين هذا نعلم أن الإيمان الصحيح غير راسخ في نفوس كثير من المؤمنين بتوحيد الربوبية، ولا أريد أن أبعد بالقارئ الكريم في ضرب الأمثلة فحسبي هنا أن أنقل ما ذكره المؤلف الذي نحن في صدد الرد عليه فإنه قال بعد أسطر من كلامه السابق (ص 21 - 22):

«ونراهم (يعني العامة) يحلفون بالأولياء، وينطقون في حقهم بما ظاهره الكفر الصراح بل هو الكفر حقيقة بلا ريب ولا شك

فكثير من جهلة العوام بالمغرب ينطق بما هو كفر صراح في حق مولانا عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه

فإن عندنا بالمغرب من يقول عن القطب الأكبر مولانا عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه أنه الذي خلق الدين والدنيا! ومنهم من قال والمطر نازل بشدة: يا مولانا عبد السلام ألطف بعبادك! فهذا كفر!

».

قلت: فهذا الكفر أشد من كفر المشركين، لأن هذا فيه التصريح بالشرك في توحيد الربوبية أيضاً، وهو مما لا نعلم أنه وقع من المشركين أنفسهم! وأما الشرك في الألوهية فهو أكثر في جهَّال هذه الأمة- ولا أقول عوامهم- فإذا كان هذا حال

(1) سورة ص الآية 5. [منه].

ص: 346

المسلمين اليوم وقبل اليوم فكيف يقول هذا الرجل:

«وقد انتفت العلة برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين .. » ؟!

وإذا كان يريد بـ «المؤمنين» الصحابة رضي الله عنهم، فلا شك أنهم كانوا مؤمنين حقاً، عالمين بحقيقة التوحيد الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الشريعة الإسلامية شريعة عامة أبدية فلا يلزم من انتفاء العلة- ولو ثبت- بالنسبة إليهم أن ينتفي الحكم بالنسبة لمن بعدهم، لأن العلة لا تزال قائمة، والواقع أصدق شاهد على ذلك.

الوجه الثاني: علمت مما سبق من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حذر من اتخاذ المساجد على القبور في آخر حياته، بل في مرض موته فمتى زالت العلة التي ذكرها؟ إن قيل: زالت عقب وفاته صلى الله عليه وآله وسلم فهذا نقض لما عليه جميع المسلمين أن خير الناس قرنه صلى الله عليه وآله وسلم، لأن القول بذلك يستلزم- بناء على ما سبق من كلامه- أن الإيمان لم يكن قد رسخ بعد في نفوس الصحابة رضي الله عنهم وإنما رسخ بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم! ولذلك لم تزل العلة وبقي الحكم وهذا مما لا أتصور أحداً يقول به لوضوح بطلانه. وإن قيل: زالت قبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم قلنا: وكيف ذلك وهو صلى الله عليه وآله وسلم إنما نهى عن ذلك في آخر نفس من حياته؟ ويؤيده:

الوجه الثالث: أن في بعض الأحاديث المتقدمة باستمرار الحكم إلى قيام الساعة كالحديث (12).

الوجه الرابع: أن الصحابة رضي الله عنهم إنما دفنوه في حجرته صلى الله عليه وآله وسلم خشية أن يتخذ قبره مسجدا كما تقدم عن عائشة رضي الله عنها في الحديث (4)[[وكذا الحديث رقم 1]]، فهذه خشية إما أن يقال: إنها كانت منصبة على الصحابة

ص: 347

أنفسهم، أو على من بعدهم، فإن قيل بالأول قلنا فالخشية على من بعدهم أولى وإن قيل بالثاني، وهو الصواب عندنا فهو دليل قاطع على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يرون زوال العلة المستلزم زوال الحكم، لا في عصرهم، ولا فيما بعدهم، فالزعم بخلاف رأيهم ضلال بين. ويؤيده:

الوجه الخامس: أن العمل استمر من السلف على هذا الحكم ونحوه مما يستلزم بقاء العلة السابقة وهي خشية الوقوع في الفتنة والضلال فلو أن العلة المشار إليها كانت منتفية لما استمر العمل على معلولها، وهذا بين لا يخفى والحمد لله وإليك بعض الأمثلة على ما ذكرنا:

1 -

عن عبد الله بن شرحبيل بن حسنة قال: رأيت عثمان بن عفان يأمر بتسوية القبور فقيل له هذا قبر أم عمرو بنت عثمان! فأمر به فسوي (1).

2 -

عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب:

ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرا مشرفاً إلا سويته (2).

(1) رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (4/ 138) وأبو زرعة في «تاريخه» (66/ 121، 2/ 2)(*) بسند صحيح عن عبد الله هذا وقد أورده ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (3/ 2/8182) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. [منه].

(*) مخطوطان قيمان الأول محفوظ بعض مجلداته في المكتبة الظاهرية، ويوجد منه نسخة تامة في غيرها. والآخر منه نسخة مصورة في المجمع العلمي العربي بدمشق. [منه].

(2)

رواه مسلم (3/ 61) وأبو داود (3/ 70) والنسائي (1/ 285) والترمذي (2/ 153 - 154) والبيهقي (4/ 3) والطيالسي (1/ 168) وأحمد (رقم 741، 1064)

وله طرق عند الطيالسي وأحمد (رقم 657 و658 و889 و1175 و1176 و1177 و1238 و1283) وابن أبي شيبة (4/ 139) والطبراني في «الصغير» (ص 29):

«ولا مخالفة بين هذا الحديث وبين ما ثبت في السنة من مشروعية رفع القبر شبراً أو شبرين، حتى يتميز فيصان عن أن يهان، لأن المراد به تسوية ما رفع عليه من البناء، وإن قيل بخلافه قال الشيخ علي القارئ في «المرقاة» (2/ 372) في شرح الحديث: «(قبراً مشرفاً) هو الذي بني عليه حتى ارتفع دون الذي أعلم عليه بالرمل والحصباء أو محسومة (!) بالحجارة ليعرف ولا يوطأ، (إلا سويته) في الأزهار: قال العلماء: يستحب أن يرفع القبر قدر شبر ويكره فوق ذلك ويستحب الهدم وفي قدره خلاف قيل إلى الأرض تغليظا، وهذا أقرب إلى اللفظ أي لفظ الحديث من التسوية» وكذا في «تحفة الأحوذي» (2/ 154) نقلا عن «المرقاة» . [منه].

ص: 348

ولما كان هذا الحديث حجة واضحة على إبطال ما ذهب إليه الشيخ الغماري في كتابه المشار إليه سابقاً حاول التقصي منه من طريقين:

الأول: تأويله، حتى يتفق مع مذهبه.

والآخر: التشكيك في ثبوته فقال (ص 57):

«فلا بد من أحد أمرين: إما أن يكون غير ثابت في نفسه، أو هو محمول على غير ظاهره ولا بد» .

قلت: أما ثبوته فلا شك فيه لأن له طرقا كثيرة بعضها في «الصحيح» كما سبق ولكن أصحاب الأهواء لا يلتزمون القواعد العلمية في التصحيح والتضعيف، بل ما كان عليهم ضعفوه ولو كان في نفسه صحيحا كهذا الحديث (1)، وما كان لهم صححوه أو مشوه ولو كان في نفسه ضعيفاً، وسيأتي لذلك بعض الأمثلة الأخرى والله المستعان.

(1) وكذلك فعل بعض غلاة الشيعة في كتابه «كشف الارتياب» (ص 366 فصرح فيه بتضعيف الحديث من طريق مسلم وطعن في رجاله وكلهم ثقات وكذلك غمز من صحته الكوثري الجهمي في «مقالاته» (ص 159) وهكذا ترى أهل الأهواء على اختلاف مذاهبهم يتتابعون على رد الحديث الصحيح بأوهى الشبه إتباعا لأهوائهم، ونعوذ بالله تعالى من الخذلان!. [منه].

ص: 349

وأما تأويله فقد ذكر له وجوها واهية أقواها قوله:

«إنه خبرٌ متروك الظاهر بالاتفاق لأن الأئمة متفقون على كراهة تسوية القبر وعلى استحباب رفعه قدر شبر» .

قلت: العجب ممن يدعي الاجتهاد ويحرم التقليد كيف يصرف الأحاديث ويتأولها حتى تتفق مع أقوال الأئمة بزعمه، بينما الاجتهاد الصحيح يقتضي عكس ذلك تماما على أن الحديث لا ينافي الاتفاق المذكور، لأنه خاص بالقبر المبني عليه فحينئذ يسوى بالأرض كما سبق عن الأزهار واتفاق الأئمة إنما هو في الأصل الذي ينبغي أن يراعى حين دفن الميت فيرفع قليلاً فهذا لا يعنيه الحديث كما أفاده القارئ رحمه فيما تقدم نقله قريباً في الحاشية.

ثم نقل الغماري في تأويل الحديث عن الشافعية أنهم قالوا: «لم يرد تسويته بالأرض، وإنما أراد تسطيحه جمعاً بين الأحاديث» .

قلت: لو سلم هذا فهو دليل على الغماري لا له لأنه لا يقول بوجوب تسطيحه بل يقول باستحباب رفعه بدون حد، وباستحباب البناء عليه قبة أو مسجداً!

ثم قال الغماري في الجواب الأخير عن الحديث:

«وهو الصحيح عندنا أنه أراد قبور المشركين التي كانوا يقدسونها في الجاهلية وفي بلاد الكفار التي افتتحها الصحابة رضي الله عنهم بدليل ذكر التماثيل معها» .

قلت: في بعض طرق الحديث عند أحمد أن بعث علي رضي الله عنه إنما كان إلى بعض نواحي المدينة حين كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها، فهذا يبطل ما ادعاه من أن

ص: 350

الإرسال كان إلى بلاد الكفار.

ثم إن موضع الشاهد من الحديث إنما هو بعث علي أبا الهياج إلى تسوية القبور، وكان رئيس الشرطة ففيه دليل واضح على أن علياً وكذا عثمان رضي الله عنهما في الأثر المتقدم كانا يعلمان هذا الحكم بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم خلافا لما

زعمه الغماري.

3 -

عن أبي بردة قال: أوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال: إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا المشي ولا يتبعني مجمر، ولا تجعلوا في لحدي شيئا يحول بيني وبين التراب ولا تجعلوا على قبري بناء وأشهدكم أني بريء من كل حالقة أو سالقة أو خارقة (1) قالوا أو سمعت فيها شيئا؟ قال: نعم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2).

4 -

عن أنس: كان يكره أن يبنى مسجد بين القبور (3).

5 -

عن إبراهيم أنه كان يكره أن يجعل على القبر مسجداً (4).

وإبراهيم هذا هو ابن يزيد النخعي الثقة الإمام، وهو تابعي صغير مات سنة (96)، فقد تلقى هذا الحكم بلا شك من بعض كبار التابعين أو ممن أدركهم من الصحابة، ففيه دليل قاطع على أنهم كانوا يرون بقاء هذا الحكم واستمراره بعده

(1)(الحالقة) هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، و (السالقة): التي ترفع صوتها، و (الخارقة): التي تخرق ثيابها عند المصيبة. [منه].

(2)

أخرجه أحمد (4/ 397) وإسناده قوي. [منه].

(3)

رواه ابن أبي شيبة (2/ 185) ورجاله ثقات رجال الشيخين، ورواه أبو بكر ابن الاثرم كما في «فتح الباري» لابن رجب (65/ 81/1 من الكواكب). [منه].

(4)

رواه ابن أبي شيبة (4/ 134) بسند صحيح عنه. [منه].

ص: 351

- صلى الله عليه وآله وسلم فمتى نسخ؟!

6 -

عن المعرور بن سويد قال:

«خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} (1) و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (2) فلما قضى حجه ورجع والناس يتبدرون، فقال: ما هذا؟ فقال: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: هكذا هلك أهل الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً! من عرضت له منكم فيها الصلاة، فليصل ومن لم يعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل» (3).

7 -

عن نافع قال:

«بلغ عمر بن الخطاب أن ناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت» (4).

(1) سورة الفيل الآية 1. [منه].

(2)

سورة قريش الآية 1. [منه].

(3)

رواه ابن أبي شيبة (2/ 84/1) وسنده صحيح على شرط الشيخين. [منه].

(4)

- قلت: رواه ابن أبي شيبة أيضا (2/ 73/2) ورجاله ثقات كلهم لكنه منقطع بين نافع وعمر فلعل الواسطة بينهما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ثم استدركت فقلت: يبعد ذلك كله ما أخرجه البخاري فيه «صحيحه الجهاد» من طريق أخرى عن نافع قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما:

«رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله»

قلت: يعني خفاءها عليهم. فهو نص على أن الشجرة لم تبق معروفة المكان يمكن قطعها من، عمر فدل ذلك على ضعف رواية القطع الدال عليه الانقطاع الظاهر فيها نفسها ومما يزيدها ضعفا ما روى البخاري في «المغازي» من «صحيحه» عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال:«لقد رأيت الشجرة ثم أتيتها بعد فلم أعرفها» .

ومن طريق طارق بن عبد الرحمن قال:

«انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون، قلت: ما هذا المسجد قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان فأتيت سعيد بن المسيب، فضحك فقال: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها. وفي رواية: فعميت علينا فقال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم فأنتم أعلم!

أقول: ولئن كنا خسرنا هذه الرواية المنقطعة كشاهد فيما نحن فيه من البحث بعد التأكد من ضعفها فقد كسبنا ما هو أقوى منها مما يصلح دليلا لما نحن فيه وهو حديث المسيب هذا وحديث ابن عمر: فقد قال الحافظ في شرحه إياه:

» والحكمة في ذلك أن لا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها حتى ربما أفضى بهم الأمر إلى اعتقاد أن لها قوة نقع أو ضر كما نراه الآن مشاهدا فيما هو دونها وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله:«كانت رحمة من الله» أي كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تعالى «.

قلت: ومن تلك الأشجار التي أشار إليها الحافظ شجرة كنت رأيتها من أكثر من عشر سنين شرقي مقبرة شهداء أحد خارج سورها وعليها خرق كثيرة، ثم رأيتها في موسم السنة الماضية (1371 هـ) قد استأصلت من أصلها. والحمد لله وحمى المسلمين من شر غيرها من الشجر وغيره من الطواغيت التي تعبد من دون الله تعالى. [منه].

ص: 352

8 -

عن قزعة قال سألت ابن عمر: آتي الطور؟ فقال: دع الطور ولا تأتها، وقال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (1).

9 -

عن علي بن حسين:

أنه رأى رجلا يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه (كذا الأصل) فيدخل فيها فيدعو، فدعاه فقال: ألا أحدثك بحديث سمعته من أبي عن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: «لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي

(1) رواه ابن أبي شيبة أيضا (2/ 83/2) والأزرقي في «أخبار مكة» (ص 304) وإسناده صحيح وروى أحمد (6/ 8) وأبو يعلى وابن منده في «التوحيد» (26/ 1، 2) مثله عن أبي بصرة الغفاري وهو صحيح أيضا خرجته في «سلسة الأحاديث الصحيحة» أواخر المائة الثالثة وفي «إرواء الغليل» رقم (970). [منه].

ص: 353

فإن صلاتكم وتسليمكم تبلغني حيثما كنتم» (1).

ويقويه ما أخرجه ابن أبي شيبة أيضا وابن خزيمة في «حديث علي ابن حجر» (ج 4/رقم 48) وابن عساكر (4/ 217/1)(2) من طريقين عن سهيل بن أبي سهيل أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالتزمه ومسح قال: فحصبني حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تتخذوا قبري عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، [وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني]» (3).

10 -

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني (4) حيثما كنتم» (5).

(1) أخرجه ابن أبي شيبة أيضا (2/ 83/2) وعنه أبو يعلى في «مسنده» (ق 32/ 2) وإسماعيل القاضي في كتاب «فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم» الحديث 20 من طبع المكتب الإسلامي ورواه الضياء في «المختارة» (1/ 154) من طريق أبي يعلى والخطي في «الموضح» (2/ 30).

وسنده مسلسل بأهل البيت رضي الله عنهم إلا أن أحدهم وهو علي بن عمر مستور كما قال الحافظ في «التقريب» . [منه].

(2)

هذا والمصادر المذكورة قبله كلها مخطوطات وغالبها في المكتبة الظاهرية، ومكتبة الأوقاف في حلب. [منه].

(3)

قلت: وأخرجه عبد الرزاق أيضا في «مصنفه» (3/ 577/6694) وسهيل هذا أورده ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/ 1/24) وذكر له عنه راويين أحدهما محمد بن عجلان وهو الراوي لهذا الحديث عنه عند ابن أبي شيبة، والآخر سفيان الثوري ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً وله راو ثالث وهو إسماعيل الراوي لهذا عنه عند ابن خزيمة وهو إسماعيل بن علية وهذه فائدة عزيزة لا تجدها في كتب الرجال فقد روى عنه ثلاثة من الثقات فهو معروف غير مجهول. والله أعلم. [منه].

(4)

قوله «تبلغني» هذا الحديث وغيره مما تقدم صريح في أنه عليه الصلاة والسلام لا يسمع صلاة المصلين عليه فمن زعم أن النبيص يسمعها فقد كذب عليه فكيف حال من يزعم أنهص يسمع غيرها؟! [منه].

(5)

رواه أبو داود (2042) وأحمد (2/ 367) بسند حسن ورواه أبو يعلى في «مسنده» (4/ 1597)، مصورة الكتب (أو النسخة الخطية؟) من حديث الحسن بن علي بن أبي طالب بسند فيه نظر. [منه].

ص: 354

11 -

ورأى ابن عمر فسطاطاً (1) على قبر عبد الرحمن فقال: «انزعه يا غلام فإنما يظله عمله» (2).

12 -

عن أبي هريرة أنه أوصى أن لا يضربوا على قبره فسطاطا ً (3).

13 -

وروى ابن أبي شيبة وابن عساكر (7/ 96/2) مثله عن أبي سعيد الخدري (4).

14 -

عن محمد بن كعب قال: هذه الفساطيط التي على القبور محدثة (5).

15 -

سعيد بن المسيب أنه قال في مرضه الذي مات فيه: إذا ما مت فلا تضربوا على قبري فسطاطا (6).

16 -

عن سالم مولى عبد الله بن علي بن حسين قال: أوصى محمد بن علي أبو جعفر قال: لا ترفعوا قبري على الأرض (7).

17 -

عن عمرو بن شرحبيل قال:

(1) السفطاط بيت من شعر في «اللسان» وفي «الكواكب الدراري» (ق 87/ 1 تفسير 548): «وكره أحمد أن يضرب على القبر فسطاط» . [منه].

(2)

رواه البخاري تعليقاً (2/ 98). [منه].

(3)

رواه عبد الرزاق (3/ 418/6129) وابن أبي شيبة 4/ 135، والربعي في «وصايا العلماء» (141/ 2) وابن سعد (4/ 338) وإسناده صحيح. [منه].

(4)

وإسناده ضعيف، لكن له طرق أخرى عند ابن عساكر فهو بها صحيح. [منه].

(5)

رواه ابن أبي شيبة أيضاً ورجاله ثقات غير ثعلبة وهو ابن الفرات، قال أبو حاتم وأبو زرعة:«لا أعرفه «كما في» الجرح والتعديل» (1/ 464 ـ 465). [منه].

(6)

رواه ابن سعد (5/ 142). [منه].

(7)

رواه الدولابي (1/ 134ـ 135) ورجاله ثقات غير سالم هذا فهو مجهول كما قال الذهبي في «الميزان» والحلي الشيعي في «خلاصة الأقوال» (ص 108). [منه].

ص: 355

«لا ترفعوا جدثي- يعني القبر - فإني رأيت المهاجرين يكرهون ذلك» (1).

واعلم أن هذه الآثار وإن اختلفت دلالاتها فهي متفقة على النهي في الجملة عن كل ما ينبئ عن تعظيم القبور تعظيما يخشى منه الوقوع في الفتنة والضلال، مثل بناء المساجد والقباب على القبور وضرب الخيام عليها ورفعها أكثر من الحديث المشروع، والسفر والاختلاف إليها (2) والتسمح بها، ومثل التبرك بآثار الأنبياء ونحو ذلك.

فهذه الأمور كلها غير مشروعة عند السلف الذين سميناهم من الصحابة وغيرهم، وذلك يدل على أنهم كانوا جميعا يرون بقاء علة النهي عن بناء المساجد على القبور وتعظيمها بما لم يشرع ألا وهي خشية الإضلال والافتتان بالموتى، كما نص عليها الإمام الشافعي رحمه الله فيما سبق بدليل استمرارهم على القول بالحكم المعلول بهذه العلة فإن بقاء أحدهم يستلزم بقاء الآخر كما لا يخفى وهذا بالنسبة لمن نص منهم على كراهية بناء المساجد على القبور ظاهراً، أما الذين صرحوا بالنهي عن غير ذلك مثل رفع القبر وضرب الخيمة عليه ونحوه مما أجملنا الكلام عليه آنفا فهم يقولون ببقاء الحكم المذكور من باب أولى وذلك لوجهين:

الأول: أن بناء المساجد على القبور أشد جرماً من رفع القبور وضرب الخيام عليها، لما ورد من اللعن على البناء، دون الرفع والضرب المذكور.

الثاني: أن المفروض في أولئك السلف الفهم والعلم، فإذا ثبت عن أحد

(1) رواه ابن سعد (6/ 108) بسند صحيح. [منه].

(2)

الاختلاف إليها أي: إكثار التردد لزيارتها، وهذا مستفاد من قولهص «اللهم لا تجعل قبري عيداً» . [منه].

ص: 356

منهم النهي عن شيء هو دون ما نهى عنه الشارع، ولم ينقل هذا النهي عن أحدهم، فنحن نقطع بأنه ينهى عنه أيضاً، حتى ولو فرض عدم بلوغ النهي إليه لأن نهيه عما هو دون هذا يستلزم النهي عنه من باب أولى، كما لا يخفى.

فثبت أن القول بانتفاء العلة المذكورة وما بني عليه كله باطل، لمخالفته

نهج السلف الصالح رضي الله عنهم، مع مصادمته للأحاديث الصحيحة، والله المستعان.

"تحذير الساجد"(ص47 - 100)

ص: 357