الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[137] باب معنى اتخاذ القبور مساجد
[قال الإمام]:
الذي يمكن أن يفهم من الاتخاذ إنما هو ثلاث معان:
الأول: الصلاة على القبور بمعنى السجود عليها.
الثاني: السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء.
الثالث: بناء المساجد عليها وقصد الصلاة فيها.
أقوال العلماء في معنى الاتخاذ المذكور:
وبكل واحد من هذه المعاني قال طائفة من العلماء، وجاءت بها نصوص صريحة عن سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم.
أما الأول، فقال ابن حجر الهيتمي في «الزواجر» (1/ 121):
«واتخاذ القبر مسجداً معناه الصلاة عليه أو إليه» .
فهذا نص منه على أنه يفهم الاتخاذ المذكور شاملا لمعنيين أحدهما الصلاة على القبر
وقال الصنعاني في «سبل السلام» (1/ 214): «واتخاذ القبور مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها أو بمعنى الصلاة عليها» .
قلت: يعني أنه يعم المعنيين كليهما ويحتمل انه أراد المعاني الثلاثة، وهو الذي فهمه الإمام الشافعيُّ رحمه الله، وسيأتي نص كلامه في ذلك ويشهد للمعنى الأول أحاديث:
الأول: عن أبي سعيد الخدري: «أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يبنى على القبور أو يقعد عليها أو يصلى عليها» (1).
الثاني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر» (2).
الثالث: عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور (3).
الرابع: عن عمروا بن دينار-وسئل عن الصلاة وسط القبور-قال: ذكر لي
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فعلنهم
الله تعالى» (4).
وأما المعنى الثاني: فقال المناوي في «فيض القدير» حيث شرح الحديث الثالث المتقدم:
«أي اتخذوها جهة قبلتهم مع اعتقادهم الباطل، وإن اتخاذها مساجد لازمٌ (5)
(1) رواه أبو يعلى في «مسنده» (ق 66/ 2) وإسناده صحيح وقال الهيثمي (3/ 61): «ورجاله ثقات» . [منه].
(2)
رواه الطبراني في «المعجم الكبير» (3/ 145/2) وعنه الضياء المقدسي في «المختارة» عن عبد الله بن كيسان عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا وقال المقدسي: «وعبد الله بن كيسان قال فيه البخاري: منكر الحديث قال أبو حاتم الرازي ضعيف وقال النسائي: ليس بالقوي إلا أني لما رأيت ابن خزيمة والبستي أخرجا له أخرجناه»
قلت: لكن الحديث صحيح، فإن له عند الطبراني (3/ 150/1) طريقا آخر خيراً من هذه عن ابن عباس علقه البخاري في «التاريخ الصغير» (ص 163)، وشطره الأول له شاهد من حديث أبي مرثد، يأتي قريبا. [منه].
(3)
رواه ابن حبان (343). [منه].
(4)
رواه عبد الرزاق (1591) وهو مرسل صحيح الإسناد، وموضع الشاهد منه أن عمرا استشهد بالحديث على النهي عن الصلاة بين القبور، فد على أنه يعني المعنى المذكور. [منه].
(5)
يعني: يلزم من السجود إليها بناء المساجد عليها، كما يلزم من بناء المساجد عليها السجود إليها وهذا أمر واقع مشاهد. [منه].
لاتخاذ المساجد عليها كعكسه، وهذا بين به سبب لعنهم لما فيه من المغالاة في التعظيم. قال القاضي (يعني البيضاوي): لما كانت اليهود يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً لشأنهم، ويجعلونها قبلة، ويتوجهون في الصلاة نحوها، فاتخذوها أوثاناً لعنهم الله، ومنع المسلمين عن مثل ذلك ونهاهم عنه
…
».
قلت: وهذا معنى قد جاء النهي الصريح عنه فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» (1).
(1) رواه مسلم (3/ 62) وأبو داود (1/ 71) والنسائي (1/ 124) والترمذي (2/ 154) والطحاوي في «شرح المعاني» (1/ 296) والبيهقي (3/ 435) وأحمد (4/ 135) وابن عساكر (2/ 1512 و152/ 2) من حديث أبي مرثد الغنوي وقال احمد: «إسناده جيد» .
وقول الشيخ سليمان حفي الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله في حاشيته على «المقنع» (1/ 125): «متفق عليه» .وهم منه.
ثم عزاه (صلى الله عليه وسلم 281) لمسلم وحده فأصاب: وله [على علمه وفضله] من مثل هذا التخريج أوهام كثيرة جداً، يجعل الاعتماد عليه في التخريج غير موثوق به، وأنا أضرب على ذلك بعض الأمثلة الأخرى تنبيها لطلاب العلم ونصحاً لهم، وإنما الدين النصيحة.
1 -
قال «صلى الله عليه وسلم 20» : «روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تنتفعوا من الميتة بشيء، رواه الدارقطني بإسناد جيد» .
قلت: وهو حديث ضعيف وفي الصحيح ما يعارضه وعزوه للدراقطني وهم لم أجد من سبقه إليه.
2 -
قال «صلى الله عليه وسلم 28» لقوله ص: «من استنجى من ريح فليس منا» رواه الطبراني في «معجمه الصغير» .
قلت: وليس هذا في «المعجم» وأنا أخبر الناس به- والحمد لله- فإني خدمته، ورتبته على مسانيد الصحابة وخرجت أحاديثه ووضعت فهرساً جامعاً لأحاديثه.
ثم إن الحزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه نظر، لأنه من رواية أبي الزبير عن جابر، كما أخرجه الجرجاني (272) وغيره وأبو الزبير مدلس وقد عنعنه.
3 -
قال «صلى الله عليه وسلم 29» : «قال النبي ص: لخلوف فم الصائم .... » رواه الترمذي
قلت: وهو في «صحيح البخاري» و «صحيح مسلم» !!. [منه].
قال الشيخ علي القاري في «المرقاة» (2/ 372) معللا النهي: «لما فيه من التعظيم البالغ كأنه من مرتبة المعبود، ولو كان هذا التعظيمُ حقيقة للقبر أو لصاحبه لكفر المعظم، فالتشبه به مكروه، وينبغي أن تكون كراهة تحريم. وفي معناه بل أولى منه الجنازة الموضوعة (يعني قبلة المصلين) وهو مما ابتلي به أهل مكة حيث يضعون الجنازة عند الكعبة ثم يستقبلون إليها» .
قلت: يعني في صلاة الفريضة وهذا بلاءٌ عامٌ قد تعداه إلى بلاد الشام والأناضول وغيرها، وقد وقفنا منذ شهر على صورة شمسية قبيحة جداً تمثل صفاً من المصلين ساجدين تجاه نعوش مصفوفة أمامهم فيها جثث جماعة من الأتراك كانوا ماتوا غرقا في باخرة.
وبهذه المناسبة نلفت النظر إلى أن الغالب من هديه صلى الله عليه وآله وسلم هو الصلاة على الجنائز في «المصلى» خارج المسجد، ولعل من حكمة ذلك إبعادُ المصلين عن الوقوع في مثل هذه المخالفة التي نبه عليها العلامة القاري رحمه الله.
ونحو الحديث السابق ما روى ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال:
وأما المعنى الثالث: فقد قال به الإمام البخاريُّ، فإنه ترجم للحديث الأول بقوله «باب ما يكره من اتخاذ القبور مسجدا على القبور» .
(1) رواه أبو الحسن الدينوري في «جزء فيه مجالس من أمالي أبي الحسن القزويني» (ق 3/ 1) بإسناد صحيح، وعلقه البخاري (1/ 437 _ فتح)، ووصله عبد الرزاق أيضا في «مصنفه» (1/ 404// 1581) وزاد:«إنما أقول القبر: لا تصل إليه» . [منه].
فقد أشار بذلك إلى أن النهي عن اتخاذ القبور مسجداً يلزمُ منه النهي عن بناء المساجد عليها، وهذا أمر واضح، وقد صرح به المناوي آنفا وقال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث:«قال الكرماني: مفاد الحديث منع اتخاذ القبر مسجداً، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر ومفهومها متغاير، ويجاب بأنهما متلازمان وإن تغاير المفهوم» .
وهذا المعنى هو الذي أشارت إليه السيدة عائشة رضي الله عنها بقولها في آخر الحديث الأول:
«فلولا ذاك أُبرِزَ قبره، غير انه خُشِيَ أن يُتَّخَذَ مسجداً» .
إذ المعنى فلولا ذاك اللعن الذي استحقه اليهود والنصارى بسبب اتخاذهم القبور مساجد المستلزم البناء عليها، لجعل قبره صلى الله عليه وآله وسلم في أرضٍ بارزةٍ مكشوفةٍ، ولكن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك خشية أن بُيْنَى عليه مسجد من بعض من يأتي بعدهم، فتشملهم اللعنة.
ويؤيد هذا ما روى ابن سعد (2/ 241) بسند صحيح عن الحسن- وهو: البصري- قال: ائتمروا (1) أن يدفنوه صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، فقالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان واضعاً رأسه في حجري، إذ قال:«قاتل الله أقواماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، واجتمع رأيهم أن يدفنوه حيث قبض في بيت عائشة.
قلت: هذه الرواية على إرسالها تدل على أمرين اثنين:
أحدهما: أن السيدة عائشة فهمت من الاتخاذ المذكور في الحديث انه يشمل
(1) أي تشاوروا. [منه].
المسجد الذي قد يدخل فيه القبر فبالأحرى أن يشمل المسجد الذي بني
على القبر.
الثاني: أن الصحابة أقروها على هذا الفهم ولذلك رجعوا إلى رأيها فدفنوه صلى الله عليه وآله وسلم في بيتها.
فهذا يدل على أنه لا فرق بين بناء المسجد على القبر، أو إدخال القبر في المسجد، فالكل حرام لأن المحذور واحد ولذلك قال الحافظ العراقي:«فلو بنى مسجدا يقصد أن يدفن في بعضه دخل في اللعنة، بل يحرم الدفن في المسجد وإن شرط أن يدفن فيه لم يصح الشرط؛ لمخالفة وقفه مسجداً» (1).
قلت: وفي هذا إشارة إلى أن المسجد والقبر لا يجتمعان في دين الإسلام، كما تقدم ويأتي ويشهد لهذا المعنى الحديث الخامس المتقدم بلفظ:
«أولئك قوم إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً
…
أولئك شرار الخلق
…
».
فهو نص صريح في تحريم بناء المسجد على قبور الأنبياء والصالحين؛ لأنه صرح أنه من أسباب كونهم من شرار الخلق عند الله تعالى.
ويؤيده حديث جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه» (2).
(1) نقله المناوي في «فيض القدير» (5/ 274) وأقره. [منه].
(2)
رواه مسلم (3/ 62) والسياق له وابن أبي شيبة (4/ 134) والترمذي (2/ 155) وصححه واحمد (3/ 339 و399).
واعلم أن حديث جابر هذا في النهي عن البناء على القبر حديث صحيح لا يرتاب في ذلك ذو علم بطرق التصحيح والتضعيف، فلا تغتر بإعلال الكوثري له في «مقالاته» (ص 159) بان «فيه عنعنة أبي الزبير» فإن أبا الزبير قد صرح بالتحديث عند مسلم وكذا أحمد وما أعتقد أن هذا يخفى على الكوثري، ولكن يفعل ذلك عمداً شأن أهل الأهواء قديماً وحديثاً يضعفون الأحاديث الصحيحة إذا كانت عليهم، ويصححون الأحاديث الضعيفة إذا كانت لهم! والكوثري هذا مشهور بذلك عند أهل العلم، وقد بينت شيئاً من هذا في «الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة» (الأحاديث 23 و24 و25) فليراجع من شاء التأكد مما نقول ويأتيك مثال آخر في هذا الكتاب. ويؤيد صحة الحديث أنا أبا الزبير لم يتفرد به، بل تبعه سليمان بن موسى عند أحمد وغيره، ولما صححه الترمذي قال:«وقد روي من غير وجه عن جابر» وتابعه أيضا أبو نضرة عند ابن النجار في «ذيل تاريخ بغداد» (10/ 201/1)
وله شاهد عن أم سلمة عند أحمد، وآخر عند أبي سعيد كما في «الكواكب الدراري» (ق 8687 تفسير 548). [منه].
فإنه بعمومه يشمل بناء المسجد على القبر، كما يشمل بناء القبة عليه، بل الأول أولى بالنهي كما لا يخفى.
فثبت أن هذا المعنى صحيح أيضا يدل عليه لفظ (الاتخاذ) وتؤيده الأدلة الأخرى.
أما شمول الأحاديث للنهي عن الصلاة في المساجد المبنية على القبور فدلالتها على ذلك أوضح وذلك لأن النهي عن بناء المساجد على القبور يستلزم النهي عن الصلاة فيها، من باب أن النهي عن الوسيلة يستلزم النهي عن المقصود بها والتوسل بها إليه، مثاله إذا نهى الشارع عن بيع الخمر، فالنهي عن شربه داخل في ذلك كما لا يخفى بل النهي عنه من باب أولى.
ومن البين جداً أن النهي عن بناء المساجد على القبور ليس مقصوداً بالذات، كما أن الأمر ببناء المساجد في الدور والمحلات ليس مقصوداً بالذات، بل ذلك
كله من أجل الصلاة فيها، سلباً أو إيجاباً، يوضح ذلك المثال الآتي: لو أن رجلاً بنى مسجداً في مكان قفر غير مأهول، ولا يأتيه أحدٌ للصلاة فيه، فليس لهذا الرجل أي أجر في بنائه لهذا المسجد، بل هو عندي آثم؛ لإضاعة المال، ووضعه الشيء في غير محله!
فإذا أمر الشارع ببناء المساجد فهو يأمر ضمناً بالصلاة فيها لأنها هي المقصودة بالبناء، وكذلك إذا نهى عن بناء المساجد على القبور فهو ينهى ضمناً عن الصلاة فيها، لأنها هي المقصودة بالبناء أيضاً، وهذا بين لا يخفى على العاقل إن شاء الله تعالى.
ترجيح شمول الحديث للمعاني كلها وقول الشافعي بذلك.
وجملة القول: أن الاتخاذ المذكور في الأحاديث المتقدمة يشمل كل هذه المعاني الثلاثة، فهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال بذلك الإمام الشافعيُّ رحمه الله، ففي كتابه «الأم» (1/ 246) ما نصه:
«وأكره أن يبنى على القبر مسجد، وأن يسوى، أو يصلى عليه وهو غير مسوى (يعني أنه ظاهر معروف) أو يصلى إليه» ، قال:«وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .» قال: «وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره- والله تعالى أعلم- أن يُعظم أحدٌ من المسلمين، يعني يُتخذ قبره مسجداً، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على ما يأتي بعده» .
فقد استدل بالحديث على المعاني الثلاثة التي ذكرها في سياق كلامه فهو دليل واضح على أنه يفهم الحديث على عمومه وكذلك صنع المحقق الشيخ على
القارئ نقلاً عن بعض أئمة الحنفية فقال في «مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (1/ 456):
قلت: والسبب الأول الذي ذكره وهو السجود لقبور الأنبياء تعظيماً لهم، وإن كان غير مستبعد حصوله من اليهود والنصارى، فإنه غير متبادر من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، فإن ظاهره أنهم اتخذوها مساجد لعبادة الله فيها على المعاني السابقة تبركا بمن دفن فيها من الأنبياء، وإن كان هذا أدى بهم- كما يؤدي بغيرهم- إلى وقوعهم في الشرك الجلي ذكره الشيخ القارئ.
"تحذير الساجد"(ص21 - 32)