الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا يغتر أحدٌ بالثقافة العصرية، فإنها لا تهدي ضالاً، ولا تزيد المؤمن هدى إلا ما شاء الله، وإنما الهدى والنور فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصدق الله العظيم إذ يقول:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1).
"تحذير الساجد"(ص101 - 120)
[140] باب حكم الصلاة في المساجد المبنية على القبور
[قال الإمام]:
إن النهي عن بناء المساجد على القبور يستلزم النهي عن الصلاة فيها من باب أن النهي عن الوسيلة يستلزم النهي عن الغاية بالأولى وبالأحرى، فينتج من ذلك أن الصلاة في هذه المساجد منهي عنها، والنهي في مثل هذا الموضع يقتضي البطلان كما هو معروف عند العلماء (2) وقد قال ببطلان الصلاة فيها الإمام أحمد وغيره ولكنا نرى أن المسألة تحتاج إلى تفصيل فأقول:
قصد الصلاة في المساجد المبنية على القبور يبطل الصلاة
الأولى: أن يقصد الصلاة فيها من أجل القبور والتبرك بها كما يفعله كثير من العامة، وغير قليل من الخاصة!
(1) سورة المائدة الآيتان 15 - 16. [منه].
(2)
قلت وذلك لأن الصلاة في هذه المساجد منهي عنها بعينها ولهذا فرق العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة فيبطلها وبين أن لا يكون مختصا بها فلا يبطلها.
انظر توضيح هذه المسألة الهامة وبعض الأمثلة في «جامع العلوم والحكم» للحافظ الفقيه ابن رجب الحنبلي (ص 43). [منه].
الثانية: أن يصلي فيها اتفاقا لا قصدا للقبر.
ففي الحالة الأولى لا شك في تحريم الصلاة فيها بل وبطلانها، لأنه إذا نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، فالنهي عن قصد الصلاة فيها أولى والنهي هنا يقتضي البطلان كما سبق قريباً.
كراهة الصلاة في المساجد المذكورة ولو لم تُقصد من أجل القبر
كراهة الصلاة في المساجد المذكورة ولو لم تقصد من أجل القبر كراهة الصلاة في المساجد المذكورة ولو لم تقصد من أجل القبر
وأما في الحالة الثانية، فلا يتبين لي الحكم ببطلان الصلاة فيها، وإنما الكراهة فقط، لأن القول بالبطلان في هذه الحالة لا بد له من دليل خاص، والدليل الذي أثبتنا به البطلان في الحالة السابقة إنما صح بناء على النهي عن بناء المسجد على القبر، فيصح القول بأن قصد الصلاة في هذا المسجد يبطلها، وأما القول ببطلان الصلاة فيه دون قصد، فليس عليه نهي خاص يكمن الاعتماد عليه فيه ولا يمكن أن يقاس عليه قياسا صحيحا بله أولوياً.
ولعل هذا هو السبب في ذهاب الجمهور إلى الكراهة دون البطلان، أقول هذا معترفا بأن الموضوع يحتاج إلى مزيد من التحقيق، وأن القول بالبطلان محتملٌ فمن كان عنده علم في شيءٍ من ذلك فليتفضل ببيانه مع الدليل مشكوراً مأجوراً.
وأما القول بكراهة الصلاة في المساجد المبنية على القبور، فهذا أقل ما يمكن أن يقوله الباحث وذلك لأمرين:
الأول: أن في الصلاة فيها تشبهاً باليهود والنصارى الذين كانوا ولا يزالون يقصدون التعبد في تلك المساجد المبنية على القبور! (1).
(1) قرأت مقالا في مجلة «المختار» عدد مايو 1958 م تحت عنوان «الفاتيكان المدينة القديمة المقدسة» يصف فيه كاتبه «رونالد كارلوس بيتي» كنيسة بطرس في هذه المدينة فيقول (ص 40):
ثم ذكر أنه يقصدها نحو مائة ألف في أيام الأعياد الكبيرة للعبادة. [منه].
الثاني: أن الصلاة فيها ذريعة لتعظيم المقبور فيها تعظيماً خارجاً عن حد الشرع، فينهى عنها احتياطاً وسداً للذريعة، لا سيما ومفاسد المساجد المبنية على القبور ماثلة للعيان كما سبق مراراً، وقد نص العلماء على كل من العلتين، فقال العلامة ابن الملك من علماء الحنفية:
«إنما حرم اتخاذ المساجد عليها، لأن الصلاة فيها استنانا بسنة اليهود» .
نقله الشيخ القاري في «المرقاة» (1/ 470) وأقره، وكذلك قال بعض العلماء المتأخرين من الحنفية وغيرهم كما سيأتي.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «القاعدة الجليلة» (ص 22):
«واتخاذ المكان مسجداً هو أن يتخذ للصلوات الخمس وغيرها، كما تبنى المساجد لذلك، والمكان المتخذ مسجدا إنما يقصد فيه عبادة الله ودعاؤه لا دعاء المخلوقين، فحرم صلى الله عليه وآله وسلم أن تتخذ قبورهم مساجد تقصد للصلوات فيها كما تقصد المساجد، وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده لأن ذلك ذريعة إلى أن يقصدوا المسجد لأجل صاحب القبر ودعائه والدعاء عنده، فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده لئلا يتخذ ذريعة إلى الشرك بالله.
والفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة، ينهى عنه كما ينهى عن الصلاة في الأوقات الثلاثة، لما في ذلك من المفسدة الراجحة، وهو
التشبه بالمشركين الذي يفضي إلى الشرك، وليس في قصد الصلاة في تلك الأوقات مصلحة راجحة لإمكان التطوع في غير ذلك من الأوقات.
ولهذا تنازع العلماء في ذوات الأسباب (1) فسوغها كثير منهم في هذه الأوقات، وهو أظهر قولي العلماء لأن النهي إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه فيه هذه الأوقات ويفوت إذا لم يفعل فيها مصلحتها فأبيحت لما فيها من المصلحة، بخلاف ما لا سبب له فإنه يمكن فعله في غير هذا الوقت فلا تفوت بالنهي عنه مصلحة راجحة وفيه مفسدة توجب النهي عنه.
فإذا كان نهيه عن الصلاة في هذه الأوقات لسد ذريعة الشرك، لئلا يفضي ذلك إلى السجود للشمس ودعائها وسؤالها كما يفعله أهل دعوة الشمس والقمر والكواكب الذين يدعونها ويسألونها، كان معلوماً أن دعوة الشمس والسجود لها هو محرم لنفسه، وأعظم تحريماً من الصلاة التي نهى عنها لئلا يفضي إلى دعاء الكواكب، كذلك لما نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، فنهى عن قصدها للصلاة عندها لئلا يفضي ذلك إلى دعائهم كان دعاؤهم والسجود أعظم تحريما من اتخاذ قبورهم مساجد».
واعلم أن كراهة الصلاة في هذه المساجد هو أمر متفق عليه من العلماء كما سبق بيانه (ص178) ويأتي، وإنما اختلفوا في بطلانها وظاهر مذهب الحنابلة أنها لا تصح، وبه جزم المحقق ابن القيم كما تقدم (ص177 - 178).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب
(1) قلت: يعني الصلوات ذوات الأسباب كركعتي تحية المسجد وسنة الوضوء ونحوها. [منه].
الجحيم» (ص 159):
قلت: والوجه الثاني هو الذي رجحه في «الاختيارات العلمية» فقال (ص25):
قال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله يعني أحمد يسأل عن الصلاة في المقبرة؟ فكره الصلاة في المقبرة قيل له: المسجد يكون بين القبور أيصلى فيه؟
فكره أن يصلى فيه الفرض، ورخص أن يصلى فيه على الجنائز.
وقال الإمام أحمد أيضا ً: «لا يصلى في مسجد بين المقابر إلا الجنائز، لأن الجنائز هذه سنتها» .
قال الحافظ ابن رجب في «الفتح» :
انظر «الكواكب الدراري» (65/ 81/1 و2).
ولعل اقتصار الإمام أحمد في الرواية الأولى على ذكر الفرض فقط لا يدل على أن غيره من السنن جائز، فإن من المعلوم أن النوافل صلاتها في البيوت هو الأفضل، ولذلك لم يذكرها مع الفرض، ويؤيده عموم قوله في الرواية الثانية «لا يصلى في مسجد بين المقابر إلا الجنائز» . فهذا نص فيما قلناه.
ويؤيده المنصوص عن أحمد ما تقدم عن أنس:
«كان يكره أن يبنى مسجد على القبور» .
فإنه صريح على أن جدار المسجد لا يكفي حائلاً بينه وبين القبر، بل لعل هذا القول ينفي جواز بناء المسجد بين القبور مطلقاً وهذا هو الأقرب لأنه حسم
لمادة الشرك.
ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «الاقتضاء» :
(1) قلت: الأثر أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (1/ 407/1594) سند صحيح عن نافع به [منه].
هكذا كان شيوخهم فيما مضى، وأما شيوخنا اليوم فهم في غفلة من هذا الحكم الشرعي، فكثير منهم يقصدون الصلاة في مثل هذه المساجد، ولقد كنت أذهب مع بعضهم،- وأنا صغير لم أتفقه بالسنة بعد- إلى قبر الشيخ ابن عربي لأصلي معه عنده! فلما أن علمت حرمة ذلك باحثت الشيخ المشار إليه كثيراً في ذلك حتى هداه الله تعالى وامتنع من الصلاة هناك، وكان يعترف بذلك لي، ويشكرني على أن كنت سببا لهدايته رحمه الله تعالى وغفر له.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
كراهة الصلاة في المسجد المبني على القبر ولو دون استقباله
واعلم أن كراهة الصلاة في المساجد المبنية على القبور مضطردة في كل حال، سواء كان القبر أمامه أو خلفه يمينه أو يساره، فالصلاة فيها مكروهة على كل حال ولكن الكراهة تشتد إذا كانت الصلاة إلى القبر، لأنه في هذه الحالة ارتكب المصلي مخالفتين الأولى في الصلاة في هذه المساجد، والأخرى الصلاة إلى القبر وهي منهي عنها مطلقاً سواء كان المسجد أو غير المسجد بالنص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم (ص168).
أقوال العلماء في ذلك
وقد أشار إلى هذا المعنى البخاري بقوله في «الصحيح» : «باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، ولما مات الحسن بن الحسين بن علي رضي الله عنه ضربت امرأته القبة على قبره سنة ثم رفعت، فسمعوا صائحاً يقول: «ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه الآخر: بل يئسوا فانقلبوا» »، ثم ساق بعض الأحاديث المتقدمة، فقال الحافظ ابن حجر الشافعي في شرحه:
«ومناسبة هذا الأثر للباب أن المقيم في الفسطاط لا يخلو من الصلاة
هناك، فليزم اتخاذ المسجد عند القبر، وقد يكون القبر في جهة القبلة فتزداد الكراهة» (1).
(1) ونقل الشيخ محمد بن مخيمر من علماء الأزهر في «القول المبين» (ص 81) عن الحافظ ابن حجر أنه قال في «شرح الفتح» لحديث ذي الخلصة من «صحيح البخاري» في الكلام على الغزوات ما نصه:
«وفي الحديث النهي عن الصلاة في المساجد التي فيها قبور يفتتن الناس بها وأنه يجب إزالتها»
قلت: ولم أره في المكان المذكور من «الفتح» فيحتمل أن يكون في موضع آخر منه. والله أعلم. [منه].
وذكر نحوه العيني الحنفي في «عمدة القارئ» (4/ 149) وفي «الكوكب الدري على جامع الترمذي» للشيخ المحقق محمد يحيى الكاندهلوي الحنفي ما نصه (ص 153):
«وأما اتخاذ المساجد عليها، فلما فيه من التشبيه باليهود واتخاذهم مساجد على قبور أنبيائهم وكبرائهم، ولما فيه من تعظيم الميت وشبه بعيدة الأصنام، لو كان القبر في جانب القبلة وكراهة كونه في جانب القبلة أكثر من كراهة كونه يميناً أو يساراً وإن كان خلف المصلي فهو أخف من كل ذلك لكن لا يخلو عن كراهة» . وفي «شرعة الإسلام» من كتب الحنفية ما نصه (ص 569):
«ويكره أن يبنى على القبر مسجد يصلى فيه» .
فهذا بإطلاقه يؤيد ما ذكرنا من أقوال العلماء وتقدم نحوه عن الإمام محمد رحمه الله تعالى (ص176).
ففي هذه النقول ما يؤيد ما ذهبنا إليه في كراهة الصلاة في المساجد المبنية على القبور مطلقاً، سواء صلى إليها أو لا، فيجب التفريق بين هذه المسألة وبين الصلاة إلى القبر الذي ليس عليه مسجد، ففي هذه الصورة إنما تحقق الكراهة عند استقبال القبر على أن بعض العلماء لم يشترطوا أيضا الاستقبال في هذه الصورة فقال بالمنع من الصلاة حول القبر مطلقاً، كما تقدم قريباً عن الحنابلة، ونحوه في «حاشية الطحاوي» على «مراقي الفلاح» من كتب الحنفية (ص 208)، وهذا هو