الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[التقديم]:
(ومنها: التقديم) أى: تقديم ما حقه التأخير؛ كتقديم الخبر على المبتدأ، والمعمولات على الفعل (كقولك فى قصره) أى: قصر الموصوف (: تميمى أنا) كان الأنسب ذكر مثالين؛ لأن التميمية والقيسية إن تنافيا لم يصلح هذا مثالا لقصر الإفراد، وإلا لم يصلح لقصر القلب؛ بل للإفراد (وفى قصرها:
…
===
لتضمنها معنى ما وإلا وهو المدعى. قال العلامة الفنرى: وقد يوجه ذلك العدول بأن المراد من ما الموصولة الوصف أى: إن قويا يدافع عن أحسابهم أنا، وحينئذ فهو من قصر الوصف؛ لأنه الأهم فى المقام- وتأمله.
(قوله: أى تقديم ما حقه التأخير) هذا يشمل تقديم بعض معمولات الفعل على بعض كتقديم المفعول على الفاعل دون الفعل، وفى إفادته القصر كلام والمرجح عدم الإفادة، واحترز بقوله ما حقه التأخير عما وجب تقديمه لصدارته كأين ومتى كما مر عند قول المصنف والتخصيص لازم للتقديم غالبا، وقوله ما حقه التأخير أى: سواء بقى بعد التقديم على حاله نحو: زيدا ضربت أم لا، كما فى أنا كفيت مهمك، وهذا ظاهر على مذهب السكاكى حيث يعتبر فى التخصيص كون أنا فى الأصل توكيدا لما مر من أن تقديم المسند إليه عنده قد يفيد القصر إذا قدر أنه كان فاعلا فى المعنى، ثم قدم نحو: أنا سعيت فى حاجتك، ثم إن تقييد التقديم بما حقه التأخير غير ظاهر على مذهب المصنف وعبد القاهر؛ لأن تقديم المسند إليه عندهما يفيد القصر وإن كان قارا حيث كان المسند فعليا نحو:
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ (1) إلا أن يبنى التقييد على الغالب
(قوله: كتقديم الخبر على المبتدأ) هذا يشمل: أقائم زيد بناء على أن قائم خبر مقدم، أما على أنه مبتدأ وزيد فاعل فلا يشمله، ومحل كون تقديم الخبر على المبتدأ يفيد الحصر ما لم يكن المبتدأ نكرة وقدم عليه الخبر، وإلا فلا يفيده كما صرح به الشارح
(قوله: والمعمولات على الفعل) كتقديمك المفعول والمجرور والحال عليه
(قوله: تميمى أنا) أى: فتقديم الخبر على المبتدأ مفيد لقصر المتكلم على التميمية لا يتعداها للقيسية مثلا
(قوله: كان الأنسب إلخ) حاصله أن الأنسب
(1) الرعد: 26.
أنا كفيت مهمك) إفرادا، أو قلبا، أو تعيينا؛
…
===
بصنيعه الإتيان بمثالين أحدهما لقصر القلب وهو ما يتنافى فيه الوصفان والآخر لقصر الإفراد وهو ما لا يتنافيان فيه، والتميمية والقيسية إن تنافيا كان القصر للقلب ولا يصلح للإفراد وإن لم يتنافيا كان القصر للإفراد، ولا يصلح للقلب، وقد يجاب بأن التميمية يصح أن يكون المنفى بإثباتها القيسية التى تنافيها وهى الحقيقة فيكون لقصر القلب باعتقاد المخاطب تلك القيسية، ويصح أن يكون المنفى القيسية المجامعة للتميمية وهى القيسية الحلفية أى: المنسوبة للحلف والنصرة فيكون لقصر الإفراد حيث كان المخاطب يعتقد الاتصاف بهما معا، وما تقدم من أنه إذا تعين المنفى كما فى العطف فلا بد من مثالين إنما ذلك حيث لم يكن للوصف جهتان ينافى بإحداهما دون الأخرى كما فى هذا المثال، والحاصل أن قول المصنف تميمى أنا قصر تعيين إذا كان المخاطب يرددك بين قيس وتميم، وقصر قلب إذا كان المخاطب ينفيك عن تميم ويلحقك بقيس أو قصر إفراد إذا كان المخاطب معتقدا أنك تميمى وقيسى من جهتين، وأشار الشارح لإمكان الجواب عن هذا البحث بتعبيره بالأنسب، وأما قول بعضهم فى الجواب إن التميمية قد تؤخذ بالقياس إلى ما ينافيها كالقيسية فهو لقصر القلب، وقد تؤخذ بالقياس إلى ما لا ينافيها كالعالمية فالقصر للإفراد ففيه شىء؛ وذلك لأن التميمية إنما تقابل فى العرف بالقيسية، ولا يحسن فى العرف مقابلتها بغيرها، ثم إن ترديد الشارح بقوله لأن التميمية والقيسية إلخ بقطع النظر عن الواقع وإلا فهما متنافيان قطعا- تأمل كذا ذكر بعضهم وذكر غيره أن قوله إن تنافيا أى: بجعل المعتبر فى النسب طرف الأب فقط كما هو المعروف، وقوله وإلا أى: وإن لم يتنافيا أى: بأن جعل المعتبر فى النسب طرفا الأم.
(قوله: أنا كفيت مهمك) أى: فتقديم أنا عن الفاعلية المعنوية أوجب حصر كفاية المهم فى المتكلم بحيث لا تتعداه إلى غيره، فإن اعتقد المخاطب كفاية المتكلم مع غيره كان، إفرادا، وإن اعتقد كفاية الغير فقط دون المتكلم كان قلبا، ولهذا لم يأت إلا بمثال واحد لقصر الصفة لما تقدم أن المثال الواحد يكفى فى قصرها، وأما قصر التعيين فيصح فى مثالى قصره وقصرها كما تقدم أيضا، لكن إنما يكون تقديم لفظ أنا فى هذا
بحسب اعتقاد المخاطب (وهذه الطرق) الأربعة بعد اشتراكها فى إفادة القصر (تختلف من وجوه: فدلالة الرابع) أى: التقديم (: بالفحوى) أى: بمفهوم الكلام؛ بمعنى أنه إذا تأمل صاحب الذوق السليم فيه فهو القصر؛ وإن لم يعرف اصطلاح البلغاء فى ذلك (و) دلالة الثلاثة
…
===
المثال الذى ذكره المصنف من باب ما قدم فيه ما حقه التأخير على مذهب السكاكى القائل إن أصله كفيتك أنا فقدم أنا، وجعل مبتدأ؛ لأنه يرى أن تقديم الفاعل المعنوى وهو التأكيد للاختصاص كما تقدم فى أحوال المسند إليه، والمصنف لم يرتضه فليس فيه تقديم ما حقه التأخير عنده، وإن أفاد التخصيص من جهة تقديم المسند إليه على المسند الفعلى؛ لأنه يفيد الحصر دائما عنده كما مر، وإنما مثل به لكونه من باب التقديم لما حقه التأخير فى الجملة؛ لأنه فاعل فى المعنى عند السكاكى
(قوله: بحسب اعتقاد المخاطب) الأولى بحسب ما عند المخاطب؛ وذلك لأن المخاطب فى قصر التعيين لا اعتقاد له، بل هو شاك
(قوله: فدلالة إلخ) أى: فالوجه الأول أن دلالة إلخ.
(قوله: أى بمفهوم الكلام) هذا مخالف لاصطلاح أهل الأصول؛ لأن الفحوى عندهم مفهوم الموافقة، وما نحن فيه مفهوم مخالفة؛ لأن حكم غير المذكور مخالف لحكم المذكور وقوله بمعنى إلخ بيان لطريق فهم القصر من التقديم، وقر شيخنا العدوى: أن قوله بمفهوم الكلام أى: بما يفهم منه فى عرف البلغاء من الأسرار، وأشار الشارح بقوله بمعنى إلخ إلى أن فى كلام المصنف حذفا، والمعنى أن دلالة التقديم على القصر بالتأمل فى الفحوى أى: فيما يفهم منه ويدل عليه فى عرف البلغاء وهو سر التقديم، فإذا تأمل صاحب الذوق السليم فى الكلام الذى فيه التقديم لطلب سر ذلك التقديم الذى فيه لا يجد- بالنظر للقرائن الحالية- ما يناسب الحمل عليه سوى الحصر، فقول الشارح أى:
بمفهوم الكلام تفسير للفحوى بالمعنى الحقيقى، وقوله بمعنى إلخ إشارة إلى أن فى الكلام حذفا، وعلمت من هذا أن المراد بمفهوم الكلام ما يفهم منه عند البلغاء من الأسرار لا مفهوم الموافقة ولا المخالفة
(قوله: فيه) أى: فى الكلام الذى فيه التقديم وهو متعلق بقوله: تأمل، وقوله فهم القصر أى: من القرائن وقوله: وإن لم يعرف اصطلاح البلغاء
(الباقية: بالوضع) لأن الواضع وضعها لمعان تفيد القصر (والأصل) أى: الوجه الثانى من وجوه الاختلاف أن الأصل (فى الأول) أى: طريق العطف (النص على المثبت والمنفى؛ كما مر؛
…
===
فى ذلك أى فى التقديم من أنه يفيد الحصر، والحاصل أن صاحب الذوق السليم إذا تأمل فى الكلام الذى فيه التقديم فهم بسبب القرائن الحالية الحصر، وإن لم يعرف أن التقديم فى اصطلاح البلغاء يفيد الحصر
(قوله: والباقية) بالجر عطف على الرابع كما نبه عليه الشارح ففيه العطف على معمولى عاملين مختلفين
(قوله: ودلالة الثلاثة) أى: وهى العطف والنفى والاستثناء
(قوله: بالوضع) أى: بسبب الوضع بمعنى أن الواضع وضعها لمعان يجزم العقل عند ملاحظة تلك المعانى بالقصر، وليس المراد أنها موضوعة للقصر كما أشار لذلك الشارح بقوله؛ لأن الواضع إلخ وبما ذكره الشارح من أنها موضوعة لمعان تفيد القصر اندفع ما يقال: إنه إذا كان دلالتها على القصر بالوضع لم يكن البحث عنها من وظيفة هذا العلم؛ لأنه يبحث عن الخصوصيات والمزايا زائدة على المعانى الوضعية، أو يقال: إن هذه الثلاثة وإن دلت على القصر بالوضع له إلا أن أحواله من كونه إفرادا أو قلبا أو تعيينا إنما تستفاد منها بمعونة المقام وهى المقصودة من هذا الفن دون ما استفيد منها بمجرد الوضع، والجواب الأول الذى أشار إليه الشارح ذكره عبد الحكيم، والثانى نقله سم عن شيخة السيد عيسى الصفوى، وعلى هذا الجواب فيقال:
لا حاجة لقول الشارح لمعان؛ لأن الواضع وضعها للقصر لا لمعان تفيده- تأمل.
(قوله: وضعها لمعان) وهى إثبات المذكور ونفى ما سواه فى كل من الثلاثة وهذه المعانى تفيد القصر والاختصاص فحرف النفى وضع للنفى وحرف الاستثناء وضع للإخراج من حكم النفى ويلزم من اجتماعهما القصر.
(قوله: أى طريق العطف) الإضافة للبيان، والمراد بالأصل الكثير
(قوله: النص على المثبت) أى: على الذى أثبت له الحكم فى قصر الصفة، أو على الذى أثبت لغيره فى قصر الموصوف
(قوله: والمنفى) أى: والنص على المنفى أى: نفى عنه الحكم فى قصر الصفة أو نفى عن غيره فى قصر الموصوف فتقول فى قصرها بالطريق الأول جريا على
فلا يترك) النص عليهما (إلا كراهة الإطناب كما إذا قيل: زيد يعلم النحو، والتصريف، والعروض، أو زيد يعلم النحو، وعمرو وبكر؛ فتقول فيهما) أى:
فى هذين المقامين (زيد يعلم النحو لا غير)
…
===
الكثير قام زيد لا عمرو فقد نصصت على الذى أثبت له القيام وهو زيد والذى نفى عنه وهو عمرو، وتقول فى قصره زيد قائم لا قاعد فقد نصصت على المثبت لزيد وهو القيام والمنفى عنه وهو القعود، وقوله كما مر أى: فى الأمثلة التى ذكرت عند ذكر تلك الطريق فى طرق الحصر، فإنه ذكر هناك أن المعطوف عليه فى تلك الأمثلة بلا هو المثبت والمعطوف هو المنفى، وفى بل بالعكس
(قوله: فلا يترك النص عليهما) أى التصريح بهما ولم يقل فلا يترك ذكر أحدهما إلخ إشارة إلى أن الذكر الإجمالى لا بد منه، فإن فى قولك لا غير ذكر المنفى إجمالا لا نصا لعدم دلالتها على المنفيات بخصوصها.
(قوله: إلا كراهة الإطناب) أى: إلا لأجل كراهة التطويل لغرض من الأغراض كضيق المقام أو لقصد الإبهام أو تأنى الإنكار لدى الحاجة إليه عند عدم التنصيص أو استهجان ذكر المتروك
(قوله: كما إذا قيل) أى: عند إرادة إثبات صفات لموصوف واحد
(قوله: أو زيد يعلم النحو) أى: أو قيل عند إرادة إثبات صفة واحدة لمتصفين زيد يعلم النحو وعمرو إلخ
(قوله: أى فى هذين المقامين) أى: مقام قصر الموصوف ومقام قصر الصفة أى: تقول فى رد الإثبات فى هذين المقامين
(قوله: لا غير) حكى فى القاموس عن السيرافى أن حذف ما تضاف له (غير) إنما يستعمل إذا كانت (غير) بعد (ليس)، وأما لو كانت بعد غيرها من ألفاظ الجحود لم يجز الحذف ولا يتجاوز بذلك مورد السماع، وتبعه فى ذلك ابن هشام وحكم فى المغنى بأن قولهم:" لا غير" لحن، والمختار أنه يجوز، فقد حكى ابن الحاجب" لا غير" وتبعه فى ذلك شارحو كلامه، وفى المفصل حكاية" لا غير" و" ليس غير"، وأنشد الإمام ابن مالك فى شرح التسهيل فى باب القسم مستشهدا على جوازه قوله:
جوابا به تنجو اعتمد فو ربّنا
…
لعن عمل أسلفت لا غير تسأل (1)
(1) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة فى الدرر 3/ 116، وشرح الأشمونى 2/ 321، وشرح التصريح 2/ 50، وهمع الهوامع 1/ 120.
أما فى الأول فمعناه: لا غير النحوى؛ أى: لا التصريف، ولا العروض، وأما فى الثانى فمعناه: لا غير زيد؛ أى: لا عمرو، ولا بكر، وحذف المضاف إليه من غير، وبنى على الضم تشبيها بالغايات. وذكر بعض النحاة أن لا فى: لا غير ليست عاطفة؛ بل لنفى الجنس. (أو نحوه)
…
===
وهو ثقة لا يستشهد إلا بشاهد عربى. اهـ فنرى.
واعلم أن كلمة غير فى ليس غير فى محل نصب عند المبرد على أنه خبر ليس، واسمها ضمير مستتر تقديره ليس هو أى: معلومه غير النحو وفى موضع رفع عند الزجاج على أنه اسم ليس وخبرها محذوف، والتقدير ليس غير معلومة، وأما غير فى لا غير فمحلها بحسب المعطوف إذا علمت هذا فلا غير عطف على النحو فى الأول فى محل نصب، وعطف على زيد فى الثانى فى محل رفع.
(قوله: أما فى الأول) أى: أما لا غير فى الأول فمعناه إلخ أى: فيكون من قصر الموصوف على صفة واحدة مما أثبت المخاطب من الصفات.
(قوله: أى لا التصريف ولا العروض) هذا بيان لأصل التركيب فترك التنصيص على ما ذكر لغرض من الأغراض.
(قوله: وأما فى الثانى) أى: وأما لا غير فى الثانى فمعناه إلخ فيكون من قصر الصفة على واحد ممن أثبتها لهم المخاطب من الموصوفين، وقوله أى: لا عمرو إلخ بيان لأصل التركيب فترك النص على ما ذكر لغرض
(قوله: على الضم) أى: لقطعه عن الإضافة (قوله بالغايات) أى: قبل وبعد وسميت بذلك؛ لأن الغاية فى الحقيقة ما بعدها الذى هو المضاف إليه المحذوف، لكن لما حذف ونوى معناه وأدى بذلك الظرف سمى غاية
(قوله: وذكر بعض النحاة) هو نجم الأئمة الرضى وهذا إيراد على عد المصنف لها من طرق العطف
(قوله: ليست عاطفة) أى: لأن العاطفة ينص معها على المثبت والمنفى جميعا، وهنا ليس كذلك
(قوله: بل المنفى الجنس) أى: وعلى هذا القول فالقصر حاصل نظرا للمعنى؛ لأن معنى زيد شاعر لا غير ما زيد إلا شاعر فيعود إلى النفى والاستثناء كما ذكره الشارح فى شرح المفتاح، وحينئذ فما فى كلام بعض الناظرين من أن نحو لا غير
أى: نحو: لا غير مثل لا ما سواه، ولا من عداه، وما أشبه ذلك.
(و) الأصل (فى) الثلاثة (الباقية: النص على المثبت فقط)
…
===
طريق آخر للقصر على هذا القول وهم كذا فى عبد الحكيم، وكذا ما فى يس عن الأطول من أن الكلام حينئذ ليس من طرق القصر لا يتم- تأمل.
ثم إن غير على هذا القول فى محل نصب على أنه اسم لا والخبر محذوف أى: لا غيره عالم فى قصر الصفة أو لا غيره معلوم له فى قصر الموصوف، والحاصل أن لا التى يبنى ما بعدها عند القطع عن الإضافة هل هى لا العاطفة أو التى لنفى الجنس خلاف، وكلاهما يفيد القصر فلو جعل الطريق الأول النفى بلا مطلقا أى: سواء كانت عاطفة أو تبرئة لكان أولى
(قوله: أى نحو لا غير) حيث رجع الشارح الضمير للا غير علم أن نحو منصوب لعطفه على المنصوب بناء على أن جزء المقول محل أو يقدر لنحوه عامل أى: أو تقول نحوه ويكون من عطف الجمل، ولو رجع الشارح الضمير لجملة زيد يعلم النحو لا غير لكان عطفا على جملة المقول بتمامها التى هى فى محل نصب ويكون نحو زيد يعلم النحو لا غير زيد يعلم النحو لا ما سواه، وإنما اقتصر الشارح على الاحتمال الأول لكون الغرض الأهم من قول المصنف، أو نحوه بيان أنه لا اختصاص للفظ لا غير هنا؛ لأنه قد يتوهم الاختصاص- قرره شيخنا العدوى.
(قوله: مثل لا ما سواه) راجع للأول أى: لا ما سوى النحو فلذا أتى بما الموضوعة لما لا يعقل وقوله ولا من عداه راجع للثانى أى: لا من عدا زيدا، ولذا أتى بمن الموضوعة للعاقل
(قوله: وما أشبه ذلك) نحو: ليس غير وليس إلا
(قوله: والأصل فى الثلاثة الباقية) وهى ما وإلا وإنما التقديم
(قوله: النص على المثبت فقط) أى: المثبت له الحكم فى قصر الصفة والمثبت لغيره فى قصر الموصوف، فتقول فى: ما وإلا فى قصر الصفة ما قائم إلا زيد فقد نصصت على الذى أثبت له القيام وهو زيد ولم تنص على الذى نفى عنه وهو عمرو مثلا، وتقول فى قصر الموصوف: ما زيد إلا قائم، فقد نصصت على الذى أثبت وهو القيام لغيره وهو زيد ولم تنص على الشىء الذى انتفى عن ذلك الغير وهو القعود مثلا وتقول فى إنما فى قصر الصفة: إنما قائم زيد وفى قصر
دون المنفى؛ وهو ظاهر.
(والنفى) أى: الوجه الثالث من وجوه الاختلاف أن النفى بلا العاطفة (لا يجامع الثانى) أعنى: النفى والاستثناء؛ فلا يصح: ما زيد إلا قائم
…
===
الموصوف: إنما زيد قائم وتقول فى التقديم فى قصرها: أنا كفيت مهمك أى: لا عمرو وفى قصر الموصوف: زيدا ضربت أى: لا عمرا بمعنى إنى اتصفت بضرب زيد لا بضرب عمرو، فقد ظهر لك أن الطرق الثلاثة لا ينص فيها إلا على المثبت وإذا نص فى شىء منها على المنفى كان خروجا عن الأصل كقولك: ما أنا قلت هذا؛ لأن المعنى لم أقله؛ لأنه مقول لغيرى، والأول منصوص، والثانى مفهوم، وكقولك: ما زيدا ضربت، فإن المعنى لم أضربه وضربه غيرى- قال الفنرى: وكما يترك الأصل الأول لكراهة الإطناب يترك هنا أيضا فى مثل: ما زيدا ضربت، وما أنا قلت هذا؛ لأن القصد به قصر الفعل على غير المذكور لا قصر عدم الفعل على المذكور كما هو الحق فيكون النص بما ينفى لا بما يثبت- انتهى.
واعترض على المصنف بأن قوله والأصل فى الثلاثة النص على المثبت فقط دون المنفى يقتضى أن نحو: ما قام القوم إلا زيدا خارج عن الأصل؛ لأن الأصل النص على المثبت فقط، وقد نص فى هذا المثبت والمنفى فيكون خارجا عن الأصل مع أنه جار على الأصل باتفاق، ولم يقل أحد بخروجه عنه، وأجاب بعضهم بأن الكلام فى الاستثناء المفرغ؛ لأنه هو الذى من طرق القصر، وأما هذا فليس من طرق الحصر اصطلاحا ولا يخفى ضعف هذا الجواب؛ لأن معنى الحصر موجود فيه قطعا، فالأحسن فى الجواب أن يقال: إنا نمنع أنه نص فيه على المنفى لأن المراد بالنص التفصيل فالأحسن فى الجواب أن يقال: إنا نمنع أنه نص فيه على المنفى لأن المراد بالنص التفصيل والمنفى- وهو القوم فى المثال المذكور مجمل- لعدم النص فيه على الأفراد واحدا واحدا
(قوله: دون المنفى) أى:
أنه لا يصرح فيها بالنفى وإنما تدل عليه ضمنا كما تقول فى قصر الموصوف: ما أنا إلا تميمى وتميمى أنا، فإنك قد أثبت كونك تميميّا صريحا، ولم تنف كونك قيسيا صريحا، وإنما نفيته ضمنا ولا منافاة بين كون المنفى مذكورا ضمنا وكون النفى قد يكون منطوقا بلفظه
(قوله: أن النفى بلا) إنما قيد الشارح كلام المصنف بذلك للاحتراز عن
لا قاعد، وقد يقع مثل ذلك فى كلام المصنفين (لأن شرط المنفى بلا) العاطفة (أن لا يكون) ذلك المنفى (منفيا قبلها بغيرها)
…
===
النفى بغيرها: كليس إذ لا دليل على امتناع ما زيد إلا قائم ليس هو بقاعد، وإنما قيد لا بالعاطفة أخذا من قول المصنف لأن شرط المنفى بلا إلخ
(قوله: لا قاعد) فلو قيل لا عمرو بدل لا قاعد فهل يصح ذلك، قال الشيخ يس: الظاهر عدم الصحة؛ لأنه وإن لم يكن المعطوف بها منفيا قبلها لكنه يوهم أن النزاع فى قيام زيد وعمرو لا فى قيام زيد وقعوده الذى هو فرض الكلام.
(قوله: فى كلام المصنفين) أى: لا فى كلام الله، بل ولا فى كلام البلغاء الذين يستشهد بكلامهم، ومراده بهذا التعريض بصاحب الكشاف حيث قال فى تفسير قوله تعالى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ (1) أى: لأن الأصلح لك لا يعلمه إلا الله لا أنت، وبالحريرى حيث قال:
لعمرك ما الإنسان إلا ابن يومه
…
على ما تجلّى يومه لا ابن أمسه
ولا يقال: إن الزمخشرى ممن يستدل بتراكيبه عند الشارح، والسيد وغيرهما؛ لأنا نقول: إنما يستدلون بكلامه فيما لم يخالف فيه الجمهور، وهذا مذهب له مخالف فيه للجمهور فلا يستدل به.
(قوله: لأن شرط المنفى بلا) أى: شرط صحة نفيه بها
(قوله: أن لا يكون منفيا قبلها بغيرها) أى: بغير شخصها وهذا صادق بما إذا كان غير منفى أصلا، وبما إذا كان منفيا بغير أدوات النفى: كالفحوى أو علم المتكلم أو السامع فالمنطوق تحته صورتان والمفهوم صورة واحدة هى محل الامتناع وهى ما إذا كان المنفى بها منفيا قبلها بغيرها من أدوات النفى، كما وليس ولا- التى لنفى الجنس- ولا عاطفة أخرى مماثلة للا التى وقع النفى بها؛ لأنها غير شخصها وإن كانت من نوعها، ولهذا لا يصح قام القوم لا النساء لا هند؛ لأن هندا نفيت فى ضمن النساء بغير شخص لا التى نفتها، فإن قلت أن المنطوق صادق بصورة ثالثة، وهو ما إذا كان المنفى بها منفيا قبلها بشخصها قلت: كلامه
(1) آل عمران: 159.
من أدوات النفى؛ فإنها موضوعة لأن تنفى بها ما أوجبته للمتبوع لا لأن تعيد بها النفى فى شىء قد نفيته؛ وهذا الشرط مفقود فى النفى والاستثناء؛ لأنك إذا قلت:
ما زيد إلا قائم فقد نفيت عنه كل صفة
…
===
وإن صدق بذلك لكن هذا معلوم أنه لا يتأتى لاستحالة النفى بها قبل ورودها فتم ما قلناه من أن المنطوق صورتان
(قوله: من أدوات النفى) هذا تخصيص للمضاف وهو الغير لشموله لكل غير ينفى به
(قوله: فإنها موضوعة؛ لأن تنفى بها) أى: عن التابع ما أوجبته للمتبوع هذا ظاهر فى قصر الصفة على الموصوف مثل: جاء زيد لا عمرو فإنك نفيت بها عن عمرو ما أوجبته لزيد وهو المجىء، ومشكل فى قصر الموصوف على الصفة مثل: زيد قائم لا قاعد، فإن المنفى بها القعود ولم يثبت للمتبوع الذى هو قائم كما هو ظاهر، وأجيب بأن المراد بما أوجب للمتبوع المحكوم به أو الثبوت للمحكوم عليه ففى المثال المذكور المتبوع وهو قائم أوجب له الثبوت للمسند إليه وهو زيد وقد نفى بها هذا الثبوت عن التابع وهو قاعد؛ لأن معنى زيد قائم لا قاعد أن زيدا محكوم عليه بالقيام وليس محكوما عليه بالقعود، بل هو منفى عنه وقوله: لأن تنفى بها أى: أولا بقرينة قوله لا؛ لأن تعيد بها النفى فلا يرد ما قيل إن وضعها؛ لأن تنفى بها أوجبته للمتبوع لا يقتضى إلا كونها بعد الإيجاب للمتبوع، ولا يقتضى عدم تكرار النفى، وهذا صادق بقولنا: ما جاءنى إلا زيد لا عمرو فمقتضى كلامه جواز ذلك مع أنه ممنوع، وحاصل الجواب أن المراد بقوله: إنها موضوعة لأن تنفى بها أى: أولا ما أوجبته للمتبوع، وما أوجب للمتبوع وهو المجئ هنا ليس منفيا بلا أولا فى المثال، بل بما لأن المعنى ما جاءنى أحد إلا زيد لا عمرو وعمرو من جملة أفراد الأحد فيكون منفيا بما، غاية الأمر أنه تكرر النفى بقوله لا عمرو. تأمل. قرره شيخنا العلامة العدوى.
(قوله: لا لأن تعيد إلخ) أى: وإلا كان تكرارا وهو ممنوع، فإن قلت نجعل لا فى نحو: ما زيد إلا قائم لا قاعد لتأكيد نفى القعود الحاصل بما. قلت هو خلاف أصل وضع لا أو أن لا فى النفى أقوى من غير، فلا يؤكد به غيره كما لا يؤكد أكتع بأجمع
(قوله: وهذا الشرط) أعنى عدم كون المنفى بها منفيا قلبها بغيرها
(قوله: فقد نفيت عنه)
وقع فيها التنازع؛ حتى كأنك قلت: ليس هو بقاعد، ولا نائم، ولا مضطجع، ونحو ذلك، فإذا قلت: لا قاعد فقد نفيت بلا العاطفة شيئا هو منفى قبلها بما النافية، وكذا الكلام فى: ما يقوم إلا زيد؛ وقوله: بغيرها يعنى من أدوات النفى؛ على ما صرح به فى المفتاح؛ وفائدته الاحتراز عما إذا كان منفيا بفحوى الكلام،
…
===
أى: بلفظ ما التى هى أداة نفى صراحة وإن كان المنفى مجملا.
(قوله: وقع فيها التنازع) أى: والصفة التى تنفيها بلا بعد هذا يجب أن تكون مما وقع فيها النزاع، وإلا خرجت عما يراعى فى خطاب العطف بها من إفادة الحصر أو تأكيده.
(قوله: حتى كأنك إلخ) أتى بالكأنية لكون ذلك القول ليس بمحقق وإلا نافى قوله والأصل فى الثلاثة إلخ
(قوله: ونحو ذلك) أى: كالمستلقى.
(قوله: فقد نفيت بلا العاطفة شيئا إلخ) أى: فلزم التكرار وحينئذ فلا يصح ورودها بعد النفى والاستثناء قيل المنع إذا عطف على المستثنى منه، وأما إذا عطف على المستثنى فهو جائز لعطفه على المثبت، فإذا قلت: ما قام القوم إلا زيد لا عمرو صح على أنه معطوف على زيد؛ لأن المعنى نفى القيام عن القوم وإثباته لزيد ثم نفى إثباته عن عمرو لعطفه بلا النافية على زيد الثابت له القيام، فيلزم نفى القيام عن عمرو تفصيلا كما نفى عنه فى ضمن القوم إجمالا وفيه نظر مع ما تقرر من أن منفيها لا بد أن يكون غير منفى بغيرها قبلها، سواء كان نفيها على جهة الإجمال، أو التفصيل، وليس الشرط أن لا يكون منفيا قبلها تفصيلا فقط حتى يتم هذا القيل
(قوله: وكذا الكلام إلخ) يعنى أنه لا فرق بين قصر الموصوف على الصفة وهو ما مر، وقصر الصفة على الموصوف وهو ما هنا فى هذا المثال فإنك قد نفيت فيه القيام عن عمرو وبكر وغيرهما من كل ما هو مغاير لزيد، فلا يصح أن تقول: ما يقوم إلا زيد لا عمرو
(قوله: يعنى إلخ) لما كان الغير شاملا لغير أدوات النفى كفحوى الكلام، وكان غير مراد أتى بالعناية
(قوله: وفائدته) أى: فائدة تقييد الغير بكونه من أدوات النفى
(قوله: عما إذا كان النفى مدلولا عليه بفحوى الكلام) أى: التقديم كما فى قولنا: زيدا ضربت فلا مانع أن يقال
أو علم المتكلم، أو السامع، أو نحو ذلك كما سيجىء فى: إنما. لا يقال: هذا يقتضى جواز أن يكون منفيا قبلها بلا العاطفة الأخرى نحو: جاءنى الرجال لا النساء لا هند؛ لأنا نقول: الضمير لذلك المشخص؛ أى: بغير لا العاطفة التى نفى بها ذلك المنفى، ومعلوم أنه يمتنع نفيه قبلها بها لامتناع أن ينفى شىء بلا قبل الإتيان بها؛ وهذا كما يقال: دأب الرجل الكريم أن لا يؤذى غيره؛
…
===
لا عمرا
(قوله: أو علم المتكلم) أى: والحال أن السامع يعلم خلافه كما إذا كنت تعلم بضرب زيد دون عمرو والسامع يعلم بعلمك ذلك إلا أنه يعلم خلاف ما تعتقده فتقول ضربت زيدا لا عمرا
(قوله: أو نحو ذلك) أى: من الأفعال المتضمنة للنفى وليس هو معناها صريحا كأبى وامتنع وكف، فإن معناها الصريح ثبوت الامتناع والإباء والكف
(قوله: كما سيجئ) راجع لقوله أو نحو ذلك
(قوله: لا يقال هذا) أى: ما ذكر فى بيان قوله بغيرها يقتضى إلخ؛ لأن المصنف لم يشترط إلا أن لا يكون المنفى منفيا قبلها بغيرها لا بها والمتبادر أن المراد بغير لا غير نوعها من أدوات النفى وحينئذ يكون المثال المذكور صحيحا لأن هند ليس منفيا قبلها بغير نوعها بل منفى بها
(قوله: لأنا نقول إلخ) حاصله أن المراد غير شخص لا ومنه لا أخرى قبلها، وحينئذ فلا يصح المثال؛ لأن هند منفى بغير شخص لا الداخلة عليها قبل التصريح بها
(قوله: الضمير) أى: فى قوله بغيرها.
(قوله: ومعلوم إلخ) جواب عما يقال إن ما ذكر من الجواب وهو أن شرط المنفى بلا أن لا يكون منفيا قبلها بغير شخصها الذى وقع النفى به يقتضى أن نفيه قبلها بشخصها الذى وقع النفى به جائز مع أنه لا يجوز فكان الواجب الاحتراز عنه، وحاصل الجواب أن هذا معلوم استحالته وإن كانت العبارة صادقة به وإذا كان محالا لا يتأتى وجوده فلا معنى للاحتراز عنه- كذا قرر شيخنا العدوى.
(قوله: لامتناع أن ينفى شىء) أى: كالنساء بلا أى الداخلة على هند فى المثال قبل الإتيان بها، بل إنما ينفى بلا أخرى مماثلة لها
(قوله: وهذا) أى: قول المصنف بغيرها حيث جعلنا الضمير راجعا للشخص لا للنوع كما يقال إلخ فهو تنظير فى أن الضمير فى كل عائد على الشخص فقوله أن لا يؤذى غيره أى: غير شخصه أعم من أن يكون غير
فإن المفهوم منه أن لا يؤذى غيره سواء كان ذلك الغير كريما أو غير كريم (ويجامع) النفى بلا العاطفة (الأخيرين) أى: إنما والتقديم (فيقال: إنما أنا تميمى لا قيسى، وهو يأتينى لا عمرو
…
===
شخصه كريما أو بخيلا بخلاف لو جعل الضمير راجعا للنوع، فإن المعنى حينئذ أن لا يؤذى غير نوعه وغير نوعه هم البخلاء فيقتضى بمفهومه أن يؤذى الكرماء وهذا غير مراد
(قوله: فإن المفهوم منه أن لا يؤذى غيره) أى: فيكون الضمير عائدا على ذلك الشخص لا على جنس الكريم أى: شأنه أنه لا يؤذى غير شخصه لا يقال: إنه يقتضى بمفهومه أنه يؤذى شخصه وهو غير مراد؛ لأنا نقول هذا المفهوم معطل لما هو معلوم بالبداهة أن الإنسان لا يؤذى نفسه- كذا قرر بعضهم- وفيه تأمل، إذ لا ضرر فى أن يراد أن الكريم يؤذى نفسه لأجل نفع غيره، بل هذا حاصل.
بقى شىء آخر وهو أن جعل الضمير عائدا على الشخص ينافى ما ذكره الشارح فى شرح المفتاح فى قولهم: دأب الكريم أن لا يعادى غيره من أن الضمير عائد على الجنس، وقد يقال: يمكن الفرق بأن الكرم ينافى الإيذاء للغير مطلقا كريما كان الغير أو غيره فلذلك جعل الضمير فى المثال هنا للشخص لا للجنس ومعاداة الكريم عند ضرورة المعاداة لغير جنسه وهم البخلاء تنقصه، فلذلك جعل الضمير فى هذا المثال للجنس لا للشخص.
(قوله: ويجامع الأخيرين) أى: ويكون الحصر حينئذ مسندا لهما والعطف بلا تأكيد، ولا ينسب له الحصر لتبعيته وهذا باتفاق من الشارح والسيد، وأما مجامعة التقديم لإنما فاختلف فى الذى يسند له القصر منهما، فذهب الشارح إلى أنه يسند إلى التقديم؛ لأنه أقوى وعكس السيد؛ لأن إنما أقوى، فالخلاف بينهما لفظى؛ لأنه خلاف فى حال
(قوله: وهو يأتينى إلخ) هو فاعل معنى قدم لإفادة الحصر، والأصل يأتينى هو على أن هو تأكيد مقدم لإفادة الاختصاص وجعل مبتدأ، وظهر لك أن التمثيل المذكور مبنى على مذهب السكاكى لا على خلافه، وإلا ورد أنه لا تقديم فيه؛ لأن هو مسند إليه فهو واقع فى محله. نعم كان الأولى يمثل بزيدا ضربت احتمال أن يقال: التقديم فى
لأن النفى فيهما) أى: فى الأخيرين (غير مصرح به) كما فى النفى والاستثناء فلا يكون المنفى بلا العاطفة منفيا بغيرها من أدوات النفى؛ وهذا كما يقال: (امتنع زيد عن المجىء لا عمرو) فإنه يدل على نفى المجىء عن زيد؛ لكن لا صريحا بل ضمنا، وإنما معناه الصريح إيجاب امتناع المجىء عن زيد؛ فتكون لا نفيا لذلك الإيجاب، والتشبيه بقوله: امتنع زيد عن المجىء لا عمرو
…
===
هو يأتينى للتقوى دون التخصيص مثل: أنا قمت والتمثيل بما لا احتمال فيه أولى مما فيه الاحتمال، والحاصل أن التقديم فى هذا المثال على مذهب السكاكى محتمل لأن يكون للتقوى ومحتمل لأن يكون للتخصيص، وهذا هو الأقرب بدليل العطف بعده بلا المؤكد له، وأما على خلاف مذهبه فلا تقديم فيه
(قوله: لأن النفى فيهما) علة لجواز مجامعة النفى بلا للأخيرين أى: لأن النفى المعتبر فيهما لأفادة الحصر غير مصرح به أى: وإنما صرح فيهما بالإثبات والنفى ضمنى فلم يقبح حينئذ النفى بلا وقولهم لا العاطفة لا تقع بعد نفى، فالمراد النفى الصريح لا ما يشمل الضمنى.
(قوله: كما فى النفى والاستثناء) راجع للمنفى أى: فإنه صرح فيهما بالنفى، وإن لم يكن المنفى مصرحا به فصدق أنه نفى بلا معهما ما نفى بأداة أخرى مستقلة قبلها
(قوله: فلا يكون إلخ) وإذا كان غير مصرح به فيهما فلا يكون إلخ، فعلم من هذا أن النفى الصريح ليس كالضمنى؛ لأن الضمنى يجامعه النفى بلا بخلاف الصريح فإنه لا يجامعه
(قوله: وهذا) أى: ما ذكر من المثالين
(قوله: فإنه) أى: قولنا امتنع زيد عن المجىء، وكذا يقال فى مرجع الضمير فى قوله وإنما معناه
(قوله: فإنه يدل على نفى المجىء) أى: على انتفائه
(قوله: إيجاب) أراد بالإيجاب الوجوب أى: الثبوت؛ لأن معنى الجملة على التحقيق النسبة لا الحكم، وقوله امتناع المجىء عن زيد فى العبارة قلب، والأصل امتناع زيد عن المجىء كما فى المتن، ولا شك أن امتناعه عن المجىء يتضمن ويستلزم انتفاء المجىء عنه
(قوله: فتكون لا) أى: لفظة لا فى قولنا لا عمرو وقوله نفيا لذلك الإيجاب أى: عن التابع وهو عمرو ولو صرح بالنفى، وقيل لم يجئ زيد لم يصح أن يقال لا عمرو، لأنه نفى للنفى فيكون إثباتا ووضع لا للنفى لا للإثبات، وإنما قلنا نفى للنفى؛
من جهة أن النفى الضمنى ليس فى حكم النفى الصريح؛ لا من جهة أن المنفى بلا العاطفة منفى قبلها بالنفى الضمنى كما فى: إنما أنا تميمى لا قيسى؛ إذ لا دلالة لقولنا: امتنع زيد عن المجىء على نفى امتناع مجىء عمرو لا ضمنا ولا صريحا. قال (السكاكى: شرط مجامعته) أى: مجامعة النفى بلا العاطفة (للثالث) أى: إنما (: أن لا يكون الوصف مختصا
…
===
لأنه يجب أن يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها؛ لأنها عاطفة لا مؤكدة
(قوله: من جهة أن النفى إلخ) فيه أن المشبه به لا، والتشبيه لا يفيد أن النفى الضمنى ليس فى حكم الصريح، فكان الأولى أن يقول من جهة أن كلا فيه نفى ضمنا قد جامعه النفى بلا العاطفة وإن كان النفى الضمنى فى المشبه مسلطا على المنفى بلا وفى المشبه به على ما قبل لا كزيد فى المثال- كذا قرر شيخنا العدوى.
(قوله: ليس فى حكم النفى الصريح) أى: لأنه حكم بصحة العطف بلا مع الأول دون الثانى
(قوله: إذ لا دلالة لقولنا امتنع زيد عن المجىء) أى: بدون قولنا لا عمرو
(قوله: على نفى امتناع مجىء عمرو) أى: لأنه لا حصر فيه حتى يتضمن النفى كإنما، وإنما استفيد نفى مجىء عمرو المفيد للحصر من النفى بلا من قولك بعد ذلك لا عمرو فلا نافيه للإيجاب الذى دلت عليه الجملة قبلها بخلاف إنما والتقديم فإنهما يدلان على النفى ضمنا فلا بعدهما لتأكيد ذلك النفى الضمنى كما مر.
(قوله: أن لا يكون الوصف) أى: الذى أريد حصره فى الموصوف بإنما مختصا بذلك الموصوف وذلك كما فى قولك: إنما تميمى أنا فإن التميمية لا يجب اختصاصها بالمتكلم وهذا شرط بالنسبة لقصر الصفة، ويقاس عليه قصر الموصوف على الصفة فيقال شرط مجامعة النفى بلا العاطفة لإنما أن لا يكون الموصوف مختصا بتلك الصفة فلا يجوز أو لا يحسن أن يقال: إنما المتقى متبع مناهج السنة لا البدعة لاختصاص الموصوف بتلك الصفة، وكذا لا يقال: إنما الزمن قاعد لا قائم لاختصاص الزمن بالقعود، فإن قلت: القصر لا يكون إلا عند الاختصاص، فكيف يشترط عدم الاختصاص فى مجامعته لإنما مع أن القصر لا يتحقق إلا عند الاختصاص؟ قلت: إن المشترط فى تحقق القصر
بالموصوف) لتحصل الفائدة (نحو: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ)(1) فإنه يمتنع أن يقال: لا الذين لا يسمعون؛ لأن الاستجابة لا تكون إلا ممن يسمع بخلاف:
إنما يقوم زيد لا عمرو؛ إذ القيام ليس مما يختص بزيد، وقال الشيخ (عبد القاهر
===
اختصاص الوصف بالموصوف أو الموصوف بالصفة بحسب المقام والمشترط فى المجامعة عدم اختصاص الوصف فى نفسه بالموصوف وعدم اختصاص الموصوف فى نفسه بالصفة، ثم إن قوله: شرط مجامعته للثالث أن لا يكون الوصف مختصا ظاهره أن هذا لا يشترط فى صورة التقديم، فيصح أن تقول من يسمع يسمع لا غير من يسمع وانظره
(قوله: بالموصوف) الباء داخلة على المقصور عليه بقرينة المثال
(قوله: لتحصل الفائدة) أى: فى مجامعة النفى بلا لإنما أى: ولو كان الوصف مختصا بالموصوف لعدمت الفائدة؛ لأن الوصف إذا كان مختصا بالنظر إلى نفسه تنبه المخاطب للاختصاص بأدنى تنبيه على ذلك، ويكفى فيه كلمة إنما، فلا فائدة فى جمع لا معه والقصد إلى زيادة التحقيق إنما يناسب الحكم الذى يحتمل عدم الاختصاص فيصر المخاطب على إنكاره
(قوله: نحو إِنَّما يَسْتَجِيبُ إلخ) هذا المثال للمنفى أى: فإن كان الوصف مختصا فلا يجئ النفى بلا كما فى قوله تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ إلخ أى: إنما يستجيب دعاءك للإيمان الذين يسمعون سماع تدبر وإذعان وقبول وهم المؤمنون أى: من أراد الله إيمانهم، فالذين فاعل والمفعول محذوف كما ترى ومثل الآية المذكورة فى اختصاص الوصف الكائن فيها بالموصوف إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (2)، فإنه معلوم أن الإنذار إنما يكون لمن يؤمن بالله ويخشى الأهوال والعواقب فلا يجوز أن يقال لا من لا يخشاها
(قوله: لا تكون إلا ممن يسمع) أى: فإذا قيل لا الذين لا يسمعون كان ذلك حشوا فى الكلام فلا يقبل، فإن قلت: إن فائدة القصر أن يعتقد المخاطب خلافه والمخاطب هنا ليس كذلك؛ لأن كل عاقل يعلم أن الاستجابة إنما تكون ممن يسمع أجيب بأن الكفار نزلوا منزلة من لا يسمع له لعدم قبولهم الحق والنبى- عليه الصلاة والسلام لشدة حرصه على إيمان الكفار نزل منزلة من يعتقد الاستجابة ممن لا يسمع، فخوطب بقصر الاستجابة
(1) الأنعام: 36.
(2)
النازعات: 45.
لا تحسن) مجامعته للثالث (فى) الوصف (المختص كما تحسن فى غيره؛ وهذا أقرب) إلى الصواب؛ إذ لا دليل على الامتناع عند قصد زيادة التحقيق والتأكيد.
===
على من يسمع قصر قلب، فالقصر هنا حقيقى لكن بعد تنزيل المخاطب منزلة من يعتقد العكس، لأجل ذلك الاعتبار الخطابى وتضمن ذلك التنزيل التعريض بالكافرين بأنهم من جملة الموتى الذين لا سمع لهم فليس هنا فى الحقيقة إلا نفى الاستجابة عن الكفار وإثباتها للمؤمنين، لكن لما كان الحصر فى أمر مختص بحسب الظاهر وإن لم يكن فى الواقع اختصاص؛ لأن الاستجابة ليست خاصة بالمؤمنين صحت مراعاة هذا الظاهر، وامتنع أن يقال لا الذين لا يسمعون مرادا منهم الكافرون نظرا لذلك الظاهر.
(قوله: لا تحسن مجامعته) أى: لا تحسن مجامعة النفى بلا، وقوله للثالث وهو إنما، والمراد لا تحسن حسنا كاملا فالمنفى كمال الحسن لا أصله وإلا كان عين كلام السكاكى؛ لأن الخالى عن الحسن عند البلغاء لا صحة له، أو يقال إن قوله: كما تحسن قيد فى الحسن المنفى، وحينئذ فيفيد كلامه أن فى مجامعته الوصف المختص أصل الحسن، والحاصل إن عدم اختصاص الوصف شرط فى كمال حسن المجامعة عنده لا شرط فى أصله كما يقول السكاكى، فعلى هذا يصح أن يقال فى غير القرآن إنما يستجيب الذين يسمعون لا الذين لا يسمعون وإن كان غير كامل فى الحسن
(قوله: وهذا أقرب إلى الصواب) أى: وهذا الذى قاله عبد القاهر أقرب إلى الصواب مما قاله السكاكى من المنع لابتناء كلام الشيخ على شهادة الإثبات وكلام السكاكى على شهادة النفى، وشهادة الإثبات مقدمة على شهادة النفى
(قوله: إذ لا دليل على الامتناع) أى: على امتناع مجامعة النفى بلا للثالث إذا كان الوصف مختصا بالموصوف
(قوله: عند قصد زيادة التحقيق) أى: عند قصد زيادة تحقيق النفى عن ذلك الغير وتأكيده، وهذا رد لقول السكاكى إن كان الوصف مختصا امتنعت المجامعة لعدم الفائدة، وحاصل ذلك الرد أنا لا نسلم عدم الفائدة، إذ قد تحصل فائدة وهى زيادة التحقيق والتأكيد للنفى عن ذلك الغير، وقد يقال: إن التأكيد بلا العاطفة للنفى الحاصل بإنما خلاف أصل وضعها؛ لأن أصل وضعها أن ينفى بها عن التابع ما أوجب للمتبوع لا لأن يعاد بها النفى لشىء قد
(وأصل الثانى: ) أى: الوجه الرابع من وجوه الاختلاف أن أصل النفى والاستثناء (أن يكون ما استعمل له) أى: الحكم الذى استعمل فيه النفى والاستثناء (مما يجهله المخاطب وينكره بخلاف الثالث) أى: إنما؛ فإن أصله أن يكون الحكم المستعمل هو فيه مما يعلمه المخاطب ولا ينكره؛ كذا فى الإيضاح نقلا عن دلائل الإعجاز؛
…
===
نفى أولا، ولذلك حكموا بمنع ما زيد إلا قائم لا قاعد مطلقا ولم يقولوا بجوازه عند قصد التحقيق والتأكيد للنفى- فتأمل.
(قوله: وأصل الثانى) أى: الكثير والغالب فيه
(قوله: ما استعمل له) الضمير المجرور باللام راجع لما، وقول الشارح أى: الحكم بالرفع تفسير لما وقوله إشارة إلى أن اللام فى كلام المصنف بمعنى فى، وقوله: النفى والاستثناء بيان للضمير المستتر فى قول المصنف استعمل فهو عائد على الثانى الذى هو النفى والاستثناء لا على ما، وحينئذ فالصلة جارية على غير من هى له فكان الأولى للمصنف أن يقول: ما استعمل هو له بإبراز الضمير إلا أن يقال: إنه ماش على مذهب الكوفيين القائلين بعدم وجوب الإبراز عند أمن اللبس كما هنا أو على مذهب من يقول: إن الخلاف بين البصريين والكوفيين فى الوصف لا فى الفعل، وأما هو فلا يجب فيه الإبراز.
(قوله: مما يجهله المخاطب) أى: من جملة الإحكام التى يجهلها المخاطب فضمير يجهله راجع لما، والمراد ما يجهله المخاطب بالفعل، وشأنه أن يكون مجهولا، وليس المراد الجهل بالفعل فقط؛ لأنه شرط فى الحصر مطلقا أى: بأى طريق كان
(قوله: وينكره) أى: وأن يكون من جملة الأحكام التى ينكرها المخاطب، والمراد بالحكم المستعمل فيه الذى هو بعض الأحكام المجهولة النفى والثبوت بالنظر لقصر القلب والنفى فقط بالنظر للأفراد والثبوت والنفى فى قصر التعيين ففى القلب ينكرهما المخاطب ويجهلهما وفى الأفراد بجهل النفى وينكره وفى التعيين يجهلهما فقط ولا يتأتى فيه إنكار، فالجهل ظاهر فى جميع أقسام القصر، وأما الإنكار فليس ظاهرا فى قصر التعيين؛ لأن المتردد لا إنكار عنده- كذا قرر شيخنا العدوى.
وفيه بحث لأن المخاطب إذا كان عالما بالحكم ولم يكن حكمه مشوبا بخطأ لم يصح القصر؛ بل لا يفيد الكلام سوى لازم الحكم؛ وجوابه: أن مرادهم إن إنما تكون لخبر من شأنه أن لا يجهله المخاطب ولا ينكره حتى إن إنكاره يزول بأدنى تنبيه لعدم إصراره عليه؛ وعلى هذا يكون موافقا لما فى المفتاح (كقولك لصاحبك- وقد رأيت شبحا من بعيد-: ما هو إلا زيد إذا اعتقده غيره) أى:
إذا اعتقد صاحبك ذلك الشبح غير زيد
…
===
وفى الأطول ما نصه: مما يجهله المخاطب وينكره فاستعماله فى قصر التعيين على خلاف الأصل
(قوله: وفيه بحث) أى: اعتراض على قوله بخلاف الثالث
(قوله: لازم الحكم) وهو إعلام المخاطب أن المتكلم عارف بالحكم
(قوله: وجوابه إلخ) حاصله أن قولهم أصل إنما أن يكون الحكم المستعملة فيه مما يعلمه المخاطب، ولا ينكره مرادهم أن ذلك الحكم مما شأنه أن يكون معلوما للمخاطب لكونه من شأنه أن يزهر أمره بحيث يزول إنكاره بأدنى تنبيه فى زعم المتكلم فلا ينافى أنه مجهول بالفعل، فالحاصل أن محل الطريق الأول أعنى النفى والاستثناء الحكم الذى يحتاج للتأكيد لإنكاره، وكونه مما شأنه أن يجهل، ومحل الثانى ما لا يفتقر إلى ذلك لكونه مما شأنه أن يكون معلوما وإن كان الجهل والإنكار بالفعل لا بد منهما فيهما فى غير قصر التعيين كما علمت
(قوله: لخبر) هو بالتنوين أى: لحكم كلام خبرى من شأنه أن لا يجهله المخاطب ولا ينكره أى: ولكنه جاهل له ومنكر له بالفعل كما يدل عليه قوله حتى إن إنكاره إلخ
(قوله: وعلى هذا) أى:
التأويل
(قوله: موافقا لما فى المفتاح) أى: من أنه لا بد من الجهل والإنكار بالفعل.
(قوله: كقولك إلخ) تمثيل للأصل الثانى أعنى: النفى والاستثناء
(قوله: وقد رأيت شبحا) الجملة حالية وكان المناسب أن يقول: وقد رأيتما؛ لأنه لا يكون المخاطب منكرا كون الشبح غير زيد إلا إذا رآه والشبح- بسكون الباء- وفتحها الشخص، وقوله: من بعيد أى: من مكان بعيد وقيد بالبعد؛ لأن شأن البعيد الجهل والإنكار
(قوله: ما هو إلا زيد) مقول كقولك أى: كقولك: ما هذا الشبح إلا زيد
(قوله: إذا اعتقده) أى: تقول ذلك إذا اعتقده غير زيد، فإن اعتقده زيدا وعمرا كان قصر إفراد، وإن اعتقده عمرا كان قصر قلب، فالمثال يحتمل القسمين.
(مصرا) أى: على هذا الاعتقاد (وقد ينزل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب فيستعمل له) أى: لذلك المعلوم (الثانى) أى: النفى والاستثناء (إفرادا) أى: حال كونه قصر إفراد (نحو: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ (1)
…
===
(قوله: مصرا) أى: حال كونه مصرا أى: مصمما على اعتقاد ذلك الشبح غير زيد، فهذا المثال قد تحقق فيه الجهل والإنكار فيما من شأنه أن يجهل وينكر لبعد مضمونه جهلا لا يزول إلا بالتوكيد، فاستعملت فيه ما وإلا على أصلها
(قوله: وقد ينزل) هذا مقابل لقوله، وأصل الثانى وقوله المعلوم أى: الحكم المعلوم أى: الذى من شأنه أن يعلم وذلك كقيام الهلاك به- عليه الصلاة والسلام فى المثال الآتى، وقوله: منزلة الحكم المجهول أى: منزلة الحكم المجهول أى: المنكر الذى يحتاج إلى تأكيد لدفع إنكاره
(قوله: لاعتبار إلخ) أى: وذلك التنزيل لأجل أمر معتبر مناسب للمقام كالإشعار بأنهم فى غاية الاستعظام لهلاكه- عليه الصلاة والسلام فى المثال الآتى
(قوله: فيستعمل إلخ) أى:
فبسبب ذلك التنزيل يستعمل الثانى فيه أى: فى ذلك الحكم المعلوم فاللام بمعنى فى
(قوله: إفرادا) حال من الثانى أى: حال كون الثانى قصر إفراد، وفيه أن الثانى ليس قصر إفراد، فلا بد من تقدير أى: حال كون الثانى دال قصر إفراد أو ذا قصر إفراد، أو حال كون الثانى قصره قصر إفراد
(قوله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) هذا استثناء من مقدر عام على أصل التفريغ، والمقدر فى نحو: هذا محمول، والمحمول يراد به الحقيقة، إذ لا يصح حمل فرد والحقيقة من حيث هى متحدة لا يمكن الاستثناء منها من حيث هى، وإنما يستثنى منها من حيث أفرادها الصادقة على الموضوع، فلا بد من اعتبارها على وجه يتناول أفرادا صادقة على الموضوع، فإذا قيل مثلا ما زيد إلا قائم قدر ما زيد متحدا بحقيقة من الحقائق وموصوفا بها إلا حقيقة القائم، فكأنه قيل ما زيد قاعدا ولا مضطجعا، ولا كذا من سائر الحقائق إلا حقيقة القائم فهو كائن إياها، وإن شئت قدرت ما زيد بشىء مما يعتقد أنه إياه إلا قائم، فعلى وزانه فى الآية يكون التقدير ما محمد موصوفا بحقيقته من الحقائق التى تعتقدون إلا حقيقة الرسول، فإنه كائن إياها،
(1) آل عمران: 144.
أى: مقصور على الرسالة لا يتعداها إلى التبرى من الهلاك) فالمخاطبون وهم الصحابة- رضى الله عنهم- كانوا عالمين بكونه مقصورا على الرسالة؛ غير جامع بين الرسالة والتبرى من الهلاك لكنهم لما كانوا يعدون هلاكه أمرا عظيما (نزل استعظامهم هلاكه منزلة إنكارهم إياه) أى: الهلاك فاستعمل له النفى والاستثناء،
===
وأما محمد بشىء مما تعتقدون أنه كان إياه إلا رسول فكأنه قيل: ما محمد متبرئا من الهلاك ولا غير ذلك مما لا يناسب من الحقائق إلا حقيقة الرسول، ويجب أن يعلم أن معنى قولنا كان هذا تلك الحقيقة أنه طابقها، واتصف بحصة من حصصها لا أنه نفسها من حيث إنها حقيقة وإلا كان الجزئى كليا والكلى جزئيا. اهـ يعقوبى.
(قوله: أى مقصور على الرسالة) أى: فهو من قصر الموصوف على الصفة قصر إفراد على ما قال المصنف، وأشار بقوله لا يتعداها إلى التبرى من الهلاك أى: الموت إلى أن ذلك القصر إضافى لا حقيقى، هذا ويحتمل أن تكون الآية من قصر القلب بأن يكون مصب القصر إلى مفاد الجملة التى هى فى محل النعت عند بعضهم فيكون التقدير وما محمد إلا رسول خلت الرسل قبله، فيذهب كما ذهبوا، ويجب التمسك بدينه بعده كما يجب التمسك بدينهم بعدهم لا أنه رسول مخالف لسائر الرسل بحيث لا يذهب كما عليه المخاطبون بتنزيل إعظامهم موته منزلة إنكارهم إياه، فكأنهم قالوا: هو رسول لا يموت فقيل لهم هو رسول يموت كغيره أو بأن يقدر: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ لا أنه ليس برسول كما عليه المخاطبون؛ لأن نفى الموت عنه الذى نزلوا منزلة المتصفين به لا يكون مع الإقرار بالرسالة أى لا أنه إله؛ لأن نفى الهلاك الذى جعلوا موصوفين به لا يكون إلا للإله، وفى هذين الوجهين بعد- قاله اليعقوبى.
(قوله: لا يتعداها إلى التبرى من الهلاك) أى: من الموت وهو الخلود
(قوله: كانوا عالمين بكونه مقصورا على الرسالة غير جامع بين الرسالة والتبرى من الهلاك) بل جامع بين الرسالة والهلاك؛ لأنهم لا يعتقدون أن النبى لا يهلك أبدا، فلما نزل علمهم بموته منزلة الجهل به والإنكار له لاستعظامهم إياه صاروا كأنهم ثبتوا له- صلى الله عليه وسلم صفين الرسالة والتبرى من الهلاك فقصر على الرسالة قصر أفراد
(قوله: نزل استعظامهم هلاكه منزلة إنكارهم إياه) أى: ولزم من ذلك تنزيل علمهم بهلاكه
والاعتبار المناسب هو الإشعار بعظم هذا الأمر فى نفوسهم، وشدة حرصهم على بقائه عندهم.
===
منزلة جهلهم به؛ لأن الإنكار يستلزم الجهل، وبهذا اندفع ما يقال: إن الملائم لدعوى تنزيل المعلوم منزلة المجهول تنزيل علمهم بهلاكه منزلة الجهل لاستعظامهم إياه لا تنزيل استعظامهم منزلة إنكارهم إياه- قاله يس. ولما نزل استعظامهم لهلاكه منزلة الإنكار الذى يحتاج إلى تأكيد النفى استعمل لذلك الاستعظام المنزل منزلة إنكارهم النفى والاستثناء، ووجه تنزيل استعظام الهلاك منزلة إنكاره أن مستعظم الشىء الحريص على عكسه لو أمكنه نفى ذلك الشىء لنفاه، فهو كالنافى على وجه الرضا والمحبة، وأصل التنزيل تشبيه الشىء بالشىء، فلما شبهوا بالنافى على وجه الرضا ناسب تنزيلهم منزلة المنكرين، فخوطبوا برد ذلك الإنكار المقدر لأجل الاعتبار المناسب وهو الإشعار بأنهم فى غاية الحرص على حياته والاستعظام لموته الذى ينزلون بسببه منزلة المنكرين- كذا فى ابن يعقوب، وقرر شيخنا العدوى: أن المنزل منزلة المجهول المنكر قيام الهلاك به المعلوم لهم لاستعظامهم إياه لا أن المنزل الاستعظام، وهذا هو المناسب لقول المصنف وقد ينزل إلخ: فكان المناسب لقوله، وقد ينزل إلخ: أن يقول نزل المعلوم وهو عدم التبرى من الهلاك أعنى قيام الهلاك به منزلة المجهول، فاستعمل النفى والاستثناء، وسبب التنزيل استعظامهم إياه ليكون الكلام على نسق واحد
(قوله: والاعتبار المناسب) أى: لمقام الرسالة هنا
(قوله: وشدة حرصهم) أى: وحرصهم الشديد الذى ينزلون بسببه منزلة المنكرين، وأنهم بحيث يخاطبون بهذا الخطاب التنزيلى ردا لهم عما عسى أن ينبنى على ذلك الاستعظام مما ينبنى، وقد وقع من بعض الصحابة يوم وفاته- عليه الصلاة والسلام ذلك البناء حيث أنكر الوفاة، وشغله ذلك الإنكار عما يقتضيه الحال من الشغل بإقامة الدين من بعده- عليه الصلاة والسلام وكان يقول والله لا أسمع رجلا قال: مات رسول الله إلا فعلت به كذا وكذا، وقال بعضهم: إنما ذهب لمناجاة (1) ربه كموسى حتى أتى المتمكن الصديق
(1) فى المطبوع: لماجاة.
(أو قلبا) عطف على قوله: إفرادا (نحو: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا)(1) فالمخاطبون وهم الرسل- عليهم الصلاة والسّلام- لم يكونوا جاهلين بكونهم بشرا، ولا منكرين لذلك لكنهم نزلوا منزلة المنكرين (لاعتقاد القائلين) وهم الكفار (أن الرسول لا يكون بشرا مع إصرار المخاطبين على دعوى الرسالة) فنزلهم القائلون منزلة المنكرين للبشرية
…
===
فنفى ذلك، وأقام الدين بما أمر الله تعالى به رضوان الله على الجميع- على أن لهم فى ذلك الاستعظام عذرا؛ لأن وفاة سيد الوجود هى الرزية العظمى والهول الأكبر الذى يكاد أن تزلزل قواعد التكليف بهوله ويسقط بناء ضبط الإدراك من أصله
(قوله: عطف على قوله إفرادا) أى: وحينئذ فالمعنى أن القصر الذى استعملت فيه ما وإلا للتنزيل، إما أن يكون قصر إفراد كما تقدم، وإما أن يكون قصر قلب
(قوله: نحو إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أى نحو قوله تعالى: حكاية عن الكافرين فى خطاب الرسل إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أى: ما تتصفون إلا بالبشرية مثلنا لا بنفيها كما تزعمون وإنما خاطبوهم بهذا الخطاب، ولم يقولوا ما أنتم رسل الذى هو مرادهم؛ لأنه فى زعمهم أبلغ، إذ كأنهم قالوا أنكرتم ما هو من الضروريات وهو ثبوت البشرية وأنتم لا تتعدون الاتصاف بها إلى الاتصاف بنقيضها الذى تثبت معه الرسالة، ولهذا كان قصر قلب؛ ولأن قولهم ذلك فى قوة قياس نظمه هكذا ما أنتم إلا بشر مثلنا، وكل بشر لا يكون رسولا فأنتم لستم برسل، فما قالوه كدعوى الشىء ببينة قيل يمكن أن تكون الآية من قصر الإفراد جريا على الظاهر من غير تنزيل، فكأنهم قالوا: ما اجتمعت لكم البشرية والرسالة كما تزعمون، أو من قصر القلب بلا تنزيل أيضا بأن يكون المراد: ما أنتم إلا بشر مثلنا لا بشر أعلى منا بالرسالة
(قوله: لاعتقاد القائلين إلخ) هذا هو الاعتبار المناسب.
(قوله: لا يكون بشرا) أى: وإنما يكون ملكا
(قوله: مع إصرار المخاطبين) أى:
بهذا الخطاب وقوله على دعوى الرسالة أى: المستلزمة لنفى البشرية بحسب زعم المتكلمين وحيث كان الرسل مصرين على دعوى الرسالة المنافية للبشرية بحسب اعتقاد
(1) إبراهيم: 10.
لما اعتقدوا اعتقادا فاسدا من التنافى بين الرسالة والبشرية، فقلبوا هذا الحكم بأن قالوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أى: مقصورون على البشرية؛ ليس لكم وصف الرسالة التى تدعونها، ولما كان هنا مظنة سؤال؛ وهو أن القائلين قد ادعوا التنافى بين البشرية والرسالة وقصروا المخاطبين على البشرية، والمخاطبون قد اعترفوا بكونهم مقصورين على البشرية حيث قالوا: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فكأنهم سلموا انتفاء الرسالة عنهم؛ أشار إلى جوابه بقوله: (وقولهم) أى: قول الرسل المخاطبين (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ (1) من باب (مجاراة الخصم) وإرخاء العنان إليه بتسليم بعض مقدماته (ليعثر) الخصم؛
…
===
المتكلم صاروا بحسب اعتقاد المتكلمين بمنزلة من ادعى نفى البشرية صريحا؛ لأنهم فى اعتقادهم ادعوا ما يستلزم نفيها وهو الرسالة ولا فرق بين من ادعى نفى شىء ومن ادعى ما يستلزم نفيه، ولذلك جعلوهم منكرين للبشرية وخاطبوهم بما خاطبوهم فظهر من هذا أن القصر فى هذا المثال مبنى على مراعاة حال المتكلم والمخاطب بخلاف المثال السابق، فإن القصر فيه مبنى على رعاية حال المخاطب فقط.
(قوله: لما اعتقدوا) بتخفيف الميم وقوله من التنافى إلخ بيان لما وإنما اعتقدوا التنافى؛ لأن الرسول لجلالة قدره ينزه فى رأيهم عن البشرية، وانظروا خسافة عقولهم حيث لم يرضوا ببشرية الرسول ورضوا للإله أن يكون حجرا
(قوله: فقلبوا) أى:
القائلون وقوله هذا الحكم أى: المستلزم لنفى البشرية بحسب زعمهم
(قوله: قد ادعوا التنافى) أى: بحسب زعمهم
(قوله: حيث قالوا إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أى: لا ملائكة
(قوله: فكأنهم سلموا انتفاء الرسالة عنهم) أى: مع أنه ليس كذلك
(قوله: من باب مجاراة الخصم) أى: مماشاته والجرى معه فى الطريق من غير مخالفة فى السلوك، ومثاله أن تريد إزلاق صاحبك فتماشيه فى الطريق المستقيم حتى إذا وصلت إلى مزلقة أزلقته
(قوله: وإرخاء العنان) عطف لازم
(قوله: بتسليم بعض مقدماته) الباء للسببية متعلقة بمجاراة الخصم؛ لأنه إذا سلم له بعض مقدماته كان ذلك وسيلة لاصغائه لما يلقى
(1) إبراهيم: 11.
من العثار وهو الزلة، وإنما يفعل ذلك (حيث يراد تبكيته) أى: إسكات الخصم وإلزامه (لا تسليم انتفاء الرسالة) فكأنهم قالوا: إن ما ادعيتم من كوننا بشرا فحق لا ننكره، ولكن هذا لا يتنافى أن يمن الله تعالى علينا بالرسالة؛
…
===
له بعد ذلك فيعثر مما يلقى له بعد ذلك ويفحم وأما إذا عورض من أول وهلة ربما كان ذلك سببا لنفرته وعدم إصغائه وعناده، والمراد ببعض المقدمات التى سلمها الرسل هنا المقدمة الصغرى أعنى: كونهم بشرا، وأما كون البشر لا يكون رسولا وهو الكبرى فلم يسلمها الخصم.
(قوله: من العثار) أى: لا من العثور وهو الاطلاع، وقوله ليعثر متعلق بالمجاراة وقوله وإنما يفعل ذلك أى: ما ذكر من مجاراة الخصم.
(قوله: وهو الزلة) بفتح الزاى أى: الوقوع والسقوط أى: لأجل أن يسقط فيرجع عما قال إلى الحق
(قوله: وإلزامه) أى: بأن يرتب على التسليم المذكور بعد استماع الخصم له وطماعيته فى الظفر ما ينقطع به إما بإظهار أنها بعد تسليمها لا تستلزم مطلوبه كما هنا فيحتاج إلى دليل آخر، أو أنها تستلزم ما يناقض المطلوب كما تقدم فى آية: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (1) أى: النافين له فينقطع الخصم فى مطلوبه
(قوله: لا لتسليم انتفاء الرسالة) عطف على قوله من باب مجاراة الخصم أى: أن ما قاله الرسل للمجاراة ولم يقولوه لتسليم انتفاء الرسالة عنهم فإن قلت إن مجاراة الخصم إنما تكون فيما هو مخالف للواقع عند المخاطب: كالرسل هنا فيسلمه هنا على سبيل التنزيل، وهنا ليس كذلك؛ لأن بشريتهم موافقة للواقع بلا خلاف، وحينئذ فلا معنى للمجاراة هنا قلت المجاراة تكون بوجهين: أحدهما: الاعتراف بمقدمة مخالفة للواقع على سبيل التنزيل ليرتب عليها ما يناقض المقصود، والثانى: الاعتراف بمقدمة صحيحة موافقة للواقع عنده أيضا ليبين أنها لا تستلزم المطلوب ولا دخل لها فيه ولا يتوقف عليها كالبشرية هنا، فكأنهم قالوا لهم: صدقتم فى هذه المقدمة لكنها لا تفيدكم
(1) الزخرف: 81.
فلهذا أثبتوا البشرية لأنفسهم.
وأما إثباتها بطريق القصر فليكون على وفق كلام الخصم (وكقولك) عطف على قوله: كقولك لصاحبك؛
…
===
شيئا؛ لأنها لا دخل لها فى مطلوبكم ولا تنافى مطلوبنا، ونظير ذلك أن يقال لمن قال أنا أعرف العربية ما أنت إلا أعجمى الأصل أى: لا عربى فيقول ذلك القائل: ما أنا إلا أعجمى الأصل كما قلتم، ولكن يجوز فى حق الله أن يعلم العربية لمن شاء من عباده، لكن استعمال المجاراة فى الأول أكثر.
(قوله: فلهذا) أى: فلعدم التنافى
(قوله: وأما إثباتها إلخ) جواب عما يقال: إنه كان يكفى فى المجاراة أن يقولوا: نحن بشر مثلكم فالنفى والاستثناء لغو، إذ ليس المراد إلا مجرد إثبات البشرية
(قوله: على وفق كلام الخصم) أى: فى الصورة فيكون فى الكلام مشاكلة وهذا أقوى فى المجاراة، وعلى هذا يكون الحصر غير مراد، بل هو صورى فقط والصيغة مستعملة فى أصل الإثبات على وجه التجريد واستعمال اللفظ فى بعض معناه وهو الإثبات دون النفى، وحاصل ما ذكره الشارح من التوجيه أن الرسل لم يريدوا القصر، بل أصل الإثبات على سبيل التجريد وإنما عبروا بصيغة القصر لموافقة كلام الخصم، وقد يقال: لا يلزم من كون كلامهم على وفق كلام الخصم عدم إرادة الحصر، فالأحسن فى التوجيه أن يقال:
إن القصر مراد لهم؛ لأن الكفار لما ادعوا أن الرسول لا يكون إلا ملكا لا بشرا نزلوهم فى دعواهم الرسالة منزلة من يدعى الملكية وينكر البشرية فقالوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا بمعنى: ما أنتم إلا مقصورون على البشرية وليس لكم وصف الملكية، فأجابهم الرسل بقولهم:
إن نحن إلا بشر مثلكم أى: ما نحن إلا مقصورون على البشرية وليس لنا وصف الملكية كما تقولون، لكن لا ملازمة بين البشرية ونفى الرسالة كما تعتقدون، فإن الله تعالى يمن على من يشاء من عباده بخصوصية الرسالة ولو كانوا بشرا، وحينئذ فقول الرسل المذكور ليس فيه انتفاء الرسالة، بل تسليم انتفاء الملكية فيكون من باب المجاراة وإلزامهم بقولهم: وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (1) إلا أنه يرد على هذا التوجيه أن يقال: كيف صح القصر
(1) إبراهيم: 11.
وهذا مثال لأصل إنما؛ أى: الأصل فى إنما أن تستعمل فيما لا ينكره المخاطب؛ كقولك: (إنما هو أخوك؛ لمن يعلم ذلك و) يقربه، وأنت (تريد أن ترققه عليه) أى: أن تجعل من يعلم ذلك رقيقا مشفقا على أخيه، والأولى بناء على ما ذكرنا أن يكون هذا المثال من الإخراج لا على مقتضى الظاهر.
===
مع أن المخاطب وهم الكفار لا ينكرون البشرية، بل هى أمر مسلم عندهم واقعى، فلا معنى للحصر حينئذ؛ لأنه لرد المخاطب ولا حاجة للرد هنا لعدم الإنكار وغيره مما يحوج إلى الرد، إلا أن يجاب بأنا لا نسلم أن القصر إنما يكون لرد المخاطب قلبا أو إفرادا أو للتعيين، بل قد يكون لغير ذلك لنكتة من النكات، نعم الغالب فيه أن يكون للرد أو للتعيين، واعلم أن هذا السؤال الثانى بالنظر لحال المخاطب كما أن السؤال الذى قصد المصنف به رده بحسب حال المتكلم. اهـ سم.
(قوله: وهذا مثال لأصل إنما) أى: بناء على ما يقتضيه قول المصنف بخلاف الثالث من أن الأصل فى إنما أن تستعمل فيما هو معلوم لا يجهله المخاطب وعلى هذا فهو مثال لتخريج الكلام على مقتضى الظاهر
(قوله: لمن يعلم ذلك) أى: كون المخبر عنه أخاه
(قوله: ويقر به) أى: بكونه أخا له، والمراد أنه يعلم ذلك بقلبه ويقر به بلسانه
(قوله: أن ترققه عليه) إما بقافين من الرقة ضد الغلظة يقال: رق الشىء وأرقه- ورققه، والتعدية بعلى بتضمين معنى الإشفاق كما أشار الشارح، وحينئذ يقرأ رقيقا أيضا بقافين، والمراد رقيق القلب وإما بالفاء والقاف من الرفق بمعنى اللطف وحسن الصنيع- يقال: رفق به منّ عليه، وقول الشارح أى أن تجعل إلخ فيه: إشارة إلى أن صيغة فعل للجعل والتصيير، والمراد أنك تحدث فى قلب من يعلم ذلك الشفقة والرقة على أخيه بسبب ذكرك الأخوة له؛ لأنه وإن كان عالما بها قد يحدث فى قلبه الشفقة بسماعها؛ لأن الشىء قد يوجب بسماعه من الغير ما لا يوجب بمجرد علمه
(قوله: والأولى بناء على ما ذكرنا) أى: من أن إنما تستعمل فى مجهول شأنه أن لا يجهله المخاطب ولا ينكره، حتى إن إنكاره يزول بأدنى تنبيه لكونه لا يصر عليه، وقوله أن يكون هذا المثال من الإخراج لا على مقتضى الظاهر أى: فالحكم فى هذا المثال وهو الأخوة وإن كان
(وقد ينزل المجهول منزلة المعلوم لادعاء ظهوره فيستعمل له الثالث) أى: إنما (نحو قوله تعالى حكاية عن اليهود: (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(1) ادعوا أن كونهم مصلحين أمر ظاهر من شأنه أن لا يجهله المخاطب ولا ينكره
…
===
معلوما للمخاطب، لكن لعدم عمله بموجب علمه بالأخوة، إذ موجب علمه بها أن يشفق عليه ولا يضربه نزل منزلة المجهول، واستعمل فيه إنما على خلاف مقتضى الظاهر، وعلى هذا الاحتمال يكون قول المصنف وكقولك إلخ: عطفا على قوله نحو: وما محمد، ويكون المصنف لم يمثل لتخريج إنما على مقتضى الظاهر، لكن هذا الاحتمال فيه شىء؛ لأنه لا يناسب قول المصنف سابقا فيستعمل له الثانى؛ لأن الحصر فى هذا المثال الذى نزل فيه المعلوم منزلة المجهول بالطريق الثالث لا بالطريق الثانى- اللهم إلا أن يقال: قوله فيستعمل له الثانى أى: مثلا، وقد يستعمل فيه الثالث كما فى هذا المثال، وإنما قال الشارح: والأولى ولم يقل: والصواب- إشارة لإمكان الجواب عنه بأنه يجوز أن يكون هذا المثال على مقتضى الظاهر من غير تنزيل؛ لأن المقصود منه ترقيق المخاطب لا إفادة الحكم، فكونه معلوما لا يضر، والقصر للمبالغة فى الترقيق؛ لأنه يفيد تأكيدا على تأكيد، أو يحمل قوله: لمن يعلم ذلك- على أن المراد لمن شأنه أن يعلم ذلك ويقر به، وإن لم يعلمه بالفعل، بل هو جاهل به، ويزول بأدنى تنبيه، لكن هذا الجواب الثانى بعيد- فتأمل.
(قوله: وقد ينزل المجهول) أى: الحكم المجهول عند المخاطب
(قوله: منزلة المعلوم) أى: منزلة الحكم الذى شأنه أن يكون معلوما عند المخاطب بحيث لا يصر على إنكاره فلا ينافى أنه مجهول له بالفعل، وليس المراد منزلة المعلوم له بالفعل؛ لأن المعلوم بالفعل ليس محلا للقصر
(قوله: لادعاء ظهوره) أى: وإنما ينزل المجهول منزلة المعلوم لادعاء المتكلم ظهوره، وأن إنكاره مما لا ينبغى
(قوله: فيستعمل له) أى: فبسبب ذلك التنزيل يستعمل فيه الطريق الثالث من طرق القصر وهو إنما
(قوله: من شأنه أن لا يجهله المخاطب) أى: وهم المسلمون وقوله ولا ينكره أى: إنكارا قويّا أى: وإن كان
(1) البقرة: 11.
(ولذلك جاء: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ (1) للرد عليهم مؤكدا بما ترى) من إيراد الجملة الاسمية الدالة على الثبات، وتعريف الخبر الدال على الحصر، وتوسيط ضمير الفصل المؤكد لذلك،
…
===
هو جاهلا له ومنكرا له بالفعل، والحاصل أن إصلاح اليهود أمر مجهول عند المخاطبين وينكرونه إنكارا قويا، ولكن اليهود- لعنة الله عليهم- يدعون أن إصلاحهم أمر ظاهر من شأنه أن لا يجهل، فنزلوا لتلك الدعوى إصلاحهم منزلة الأمر الذى من شأنه أن يكون معلوما عند المخاطبين وهو المنكر إنكارا ضعيفا بحيث يزول إنكاره بأدنى تنبيه، فاستعملوا فى إثباته للرد عليهم إنما التى من شأنها أن تستعمل فى ما من شأنه أن يكون معلوما وإن كان مقتضى الظاهر التعبير بالنفى والاستثناء؛ لأن إصلاحهم أمر مجهول منكر، وفى استعمالهم إنما فى إثبات الإصلاح لادعاء ظهوره إشعار بأن نقيضه وهو إفسادهم أمر ظاهر الانتفاء حتى لا يحتاج فى نفيه وإثبات نقيضه الذى هو الإصلاح إلى التأكيد بالنفى والاستثناء، فقد أنكروا الإفساد المتصفين به فى نفس الأمر مبالغين فى إنكاره حيث زعموا أن نفيه من شأنه أن يلحق بالضروريات التى لا تنكر
(قوله: ولذلك) أى: ولأجل ادعائهم ظهور إصلاحهم ومبالغتهم فى إنكار الإفساد الذى اتصفوا به
(قوله: للرد عليهم) أى: لأجل الرد عليهم بإثبات الإفساد لهم ونفى الإصلاح عنهم
(قوله: مؤكدا بما ترى) أى: بما تعلمه أى: مؤكدا بتاكيد شتى فهو رد قوى
(قوله: من إيراد الجملة الاسمية) أى: من الجملة الاسمية الموردة فإضافة إيراد للجملة من إضافة الصفة للموصوف؛ لأن المؤكد الجملة الاسمية لا إيرادها
(قوله: وتعريف الخبر الدال على الحصر) أى: على حصر المسند فى المسند إليه، والمعنى لا مفسد إلا هم لما تقرر أن تعريف الخبر وضمير الفصل لقصر المسند على المسند إليه.
(قوله: المؤكد لذلك) أى: للحصر المستفاد من تعريف الخبر، واعترض بأن ضمير الفصل وكذا تعريف الخبر إنما يفيدان قصر المسند على المسند إليه والقصر الواقع
(1) البقرة: 12.
وتصدير الكلام بحرف التنبيه الدال على أن مضمون الكلام مما له خطر وبه عناية، ثم التأكيد بإن، ثم تعقيبه بما يدل على التقريع والتوبيخ؛ وهو قوله: وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (1)(ومزية إنما على العطف أنه يعقل منها) أى: من إنما (الحكمان) أعنى: الإثبات للمذكور، والنفى عما عداه (معا) بخلاف العطف؛ فإنه يفهم منه أولا الإثبات، ثم النفى؛ نحو: زيد قائم لا قاعد، وبالعكس؛ نحو: ما زيد قائما بل قاعدا
…
===
من اليهود بالعكس، وحينئذ فلا يكون هذا القصر رادا عليهم، وأجيب بأن الرد عليهم حاصل به؛ لأن المنفى فى القصر يتضمن نفيه إثبات مقابله، كما أن المثبت فيه يتضمن إثباته نفى مقابله
(قوله: وتصدير الكلام إلخ) هذا تأكيد آخر وقوله بحرف التنبيه وهو ألا
(قوله: وبه عناية) عطف على سبب أى: مما له خطر يوجب العناية بإثباته
(قوله: ثم تعقيبه) بالجر عطف على تصدير
(قوله: والتوبيخ) عطف تفسيرى
(قوله: وهو قوله وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) إنما كان هذا يدل على التقريع والتوبيخ لإفادته أنهم من جملة الموتى الذين لا شعور لهم، وإلا لأدركوا إفسادهم بلا تأمل
(قوله: ومزية إنما) أى:
شرفها وفضلها وهو مبتدأ وقوله أنه يعقل على حذف الجار خبر أى: ثابتة بأنه يعقل إلخ، ولو قيل: إن هذا وجه خامس من أوجه الاختلاف لما بعد
(قوله: أنه يعقل منها الحكمان معا) أى: أنه يعقل منها حكم الإثبات والنفى المفيدين بالقصر دفعة بحسب الوضع بمعنى أن الواضع وضعها للمجموع، فلا يرد أنه قد يلاحظ أحدهما قبل الآخر
(قوله: بخلاف العطف إلخ) أى: ولا شك أن تعقل الحكمين معا أرجح، إذ لا يذهب فيه الوهم إلى عدم القصر من أول الأمر كما فى العطف، واعلم أن هذه المزية ثابتة للتقديم وللنفى والاستثناء، فكل منهما يتعقل منه الحكمان معا فلم تظهر هذه المزية لإنما عليهما، ولذلك لم يتعرض لهما المصنف، بل قال ومزية إنما على العطف نعم تظهر مزية إنما عليهما من جهة أن إنما تفيد الحكمين معا نصا من غير توقف على شىء بخلاف
(1) البقرة: 12.
(وأحسن مواقعها) أى: مواقع إنما (التعريض نحو: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (1) فإنه تعريض بأن الكفار
…
===
التقديم، فإنه وإن أفادهما، لكن على سبيل الاحتمال؛ لأن الاسم المذكور يحتمل أن يكون معمولا للعامل المؤخر فيكون تقديمه مفيدا لهما، ويحتمل أن لا يكون معمولا للمؤخر، بل لشىء آخر مقدر فيكون مؤخرا فلا يفيدهما، وبخلاف الاستثناء فإنه وإن أفادهما، لكن إفادته موقوفة على المستثنى منه لا تحصل بدونه، فإن قلت: إن طريق العطف يعقل منه الحكمان معا كما فى نحو: جاء زيد لا عمرو كما فى الاستثناء: قلت:
لا نسلم أن طريق العطف كالاستثناء؛ لأن صورة العطف تحتمل الاستقلال، والاستثناء مرتبط بالمستثنى منه فيفيد الحكمين بواسطة ذلك الارتباط، وبيان ذلك أن قولك فى صورة العطف لا عمرو وإنما وضع لنفى الحكم عن عمرو بخلاف إلا زيد فى صورة الاستثناء، فإنه وضع للإخراج فلا بد من ملاحظة المخرج منه فيعقل الحكام معا، لكن تعلقهما معا فى إنما أقوى من تعلقهما معا فى النفى والاستثناء لعدم التوقف على شىء- فلذا خصت فى المتن بالذكر.
(قوله: وأحسن مواقعها) أى: مواضعها أى: المواضع التى تقع فيها، وقوله التعريض فيه أن التعريض هو استعمال الكلام فى معناه ملوحا به إلى غيره أى: ليفهم منه معنى آخر، ولا شك أن الاستعمال المذكور ليس موضعا لإنما تقع فيه فلا بد من تقدير مضاف أى: ذو التعريض وهو الكلام المستعمل فى معناه ليلوح بغيره، وذكر الناصر اللقانى: أن التعريض يطلق على نفس الكلام المستعمل فى معناه ليلوح بغيره، وعلى هذا فلا حاجة للتقدير، وإنما كان التعريض أحسن مواقعها؛ لأن إفادة الحكم الذى شأنها أن تستعمل فيه لأيهم المخاطب لكونه معلوما أو من شأنه العلم بخلاف المعنى الآخر الملوح إليه فإنه أهم لكون المخاطب جاهلا به مصرا على إنكاره
(قوله: نحو إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أى: إنما يتعقل الحق أصحاب العقول، فنحن نجزم بأنه ليس المراد من هذا الكلام
(1) الرعد: 19.
من فرط جهلهم كالبهائم؛ فطمع النظر) أى: التأمل (منهم كطمعه منها) أى:
كطمع النظر من البهائم (ثم القصر كما يقع بين المبتدأ والخبر- على ما مر- يقع بين الفعل والفاعل) نحو: ما قام إلا زيد (وغيرهما) كالفاعل والمفعول؛ نحو: ما ضرب زيد إلا عمرا، وما ضرب عمرا إلا زيد، والمفعولين؛ نحو: ما أعطيت زيدا إلا درهما، وما أعطيت درهما إلا زيدا، وغير ذلك من المتعلقات
…
===
ظاهره، وهو حصر التذكر أى: تعقل الحق فى أصحاب العقول لأن هذا أمر معلوم، بل هو تعريض بذم الكفار بأنهم- من شدة جهلهم وتناهيه الغاية القصوى- كالبهائم ويترتب على ذلك التعريض التعريض بالنبى- عليه الصلاة والسلام بأنه لكمال حرصه على إيمان قومه يتوقع التذكر من البهائم، فمحل الفائدة من هذا الكلام هو التعريض (1) المتوسل إليه به
(قوله: من فرط جهلهم) أى: من تناهيه إلى الغاية القصوى.
(قوله: على ما مر) أى: فى تعريف الجزأين، وفى غير ذلك من طرق القصر، ويحتمل أن المراد على ما مر من كونه حقيقيا أو إضافيا قصر صفة على موصوف أو عكسه
(قوله: يقع بين الفعل والفاعل) أى: بحيث يكون الفعل مقصورا على الفاعل كما يؤخذ من تمثيل المصنف، فالقصر الواقع بينهما من قبيل قصر الصفة على الموصوف، وأما عكسه وهو حصر الفاعل فى الفعل فلا يتوهم إمكانه؛ لأن المنحصر فيه يجب تأخيره على ما يأتى والفعل لا يؤخر عن الفاعل ما دام فاعلا، فإن خرج عن الفاعلية رجع الأمر لقصر المبتدأ على الخبر
(قوله: كالفاعل والمفعول) أى: بحيث يكون الفاعل مقصورا على المفعول وبالعكس وقد مثل الشارح لكل منهما، فالمثال الأول من حصر الفاعل فى المفعول والمثال الثانى من حصر المفعول فى الفاعل
(قوله: وغير ذلك من المتعلقات) أى: كالحال فتقول فى قصرها على صاحبها ما جاء راكبا إلا زيد وفى عكسه ما جاء زيد إلا راكبا، ومعنى الأول ما صاحب المجئ مع الركوب إلا زيد، أو: ما جاءنى راكبا إلا زيد، ومعنى الثانى: ما زيد إلا صاحب المجىء راكبا، أو: ما زيد إلا جاءنى
(1) وفى المطبوع: العريض.
(ففى الاستثناء يؤخر المقصور عليه مع أداة الاستثناء)
…
===
راكبا فالأول من قصر الصفة، والثانى من قصر الموصوف، وكالتمييز كقولك: ما طاب زيد إلا نفسا أى: ما يطيب من زيد إلا نفسه فهو من قصر الصفة، وكالمجرور نحو: ما مررت إلا بزيد، وكالظرف نحو: ما جلست إلا عندك، وكالصفة نحو: ما جاءنى رجل إلا فاضل، وكالبدل نحو: ما جاءنى أحد إلا أخوك، وما ضربت زيدا إلا رأسه، وما سرق زيدا إلا ثوبه، ثم إن قوله: وغير ذلك من المتعلقات يعنى: ما عدا المصدر المؤكد، فإنه لا يقع القصر بينه وبين الفعل إجماعا، فلا تقول: ما ضربت إلا ضربا، وأما قوله تعالى: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا (1) فمعناه إلا ظنا ضعيفا فهو مصدر نوعى، وما عدا المفعول معه فإنه لا يجىء بعد إلا، فلا يقال: ما سرت إلا والنيل؛ وذلك لأن ما بعد إلا كأنه منفصل من حيث المعنى عما قبله لمخالفته له نفيا وإثباتا فإلا تؤذن من حيث المعنى بنوع من الانفصال، وكذلك الواو، فاستهجن عمل الفعل مع حرفيين مؤذنين بالفصل، ولذا لا يقع من التوابع بعد إلا عطف النسق، فلا يقال: ما قام زيد إلا وعمرو، وأما وقوع واو الحال بعدها فى نحو: ما جاءنى زيد إلا وغلامه راكب فلعدم ظهور عمل الفعل لفظا بعد الواو بل هو مقدر كذا فى الرضى وبهذا ظهر الفرق بين لا تمش إلا مع زيد، ولا تمش إلا وزيدا- حيث جاز الأول دون الثانى، كما لا يخفى، وما ذكر من جواز التفريغ فى الصفات أحد قولين للنحاة عليه الزمخشرى وأبو البقاء، والقول الثانى عدم الجواز، وعليه الأخفش والفارسى. اهـ يس.
(قوله: ففى الاستثناء) أى: فالقصر فى الاستثناء يؤخر فيه المقصور عليه مع أداة الاستثناء سواء كانت تلك الأداة إلا أو غيرها وتأكيد المقصور عليه مع الأداة بأن يكون المقصور مقدما على أداة الاستثناء وهى مقدمة على المقصور عليه.
قال النوبى: والسر فى تأخير المقصور عليه أن القصر أثر عن الحرف الذى هو" إلا" ويمتنع ظهور أثر الحرف قبل وجوده. ا. هـ.
(1) الجاثية: 32.
حتى لو أريد القصر على الفاعل قيل: ما ضرب عمرا إلا زيد، ولو أريد القصر على المفعول قيل: ما ضرب زيد إلا عمرا، ومعنى قصر الفاعل على المفعول مثلا:
قصر الفعل المسند إلى الفاعل على المفعول؛
…
===
(قوله: حتى لو أريد إلخ) حتى للتفريع بمعنى الفاء، وقوله القصر على الفاعل أى: قصر المفعول على الفاعل، فالفاعل مقصور عليه، والمفعول مقصور
(قوله: ولو أريد القصر على المفعول) أى: قصر الفاعل على المفعول فالمفعول مقصور عليه والفاعل مقصور
(قوله: ومعنى قصر إلخ) هذا جواب عما يقال: إن القصر لا يكون إلا قصر صفة على موصوف أو موصوف على صفة، وكل من الفاعل والمفعول ذات، وحينئذ فلا يصح القصر، وحاصل ما أجاب به الشارح أن قولهم: هذا من قصر الفاعل على المفعول أو من قصر المفعول على الفاعل على حذف مضاف أى: من قصر الفعل المسند للفاعل على المفعول، وقصر الفعل المتعلق بالمفعول على الفاعل لا أن ذات الفعل أو ذات المفعول مقصورة كما توهم السائل
(قوله: مثلا) أى: أو قصر المفعول على الفاعل، أو قصر أحد المفعولين على الآخر، أو قصر صاحب الحال على الحال، أو قصر الحال على صاحبها.
(قوله: قصر الفعل المسند إلى الفاعل) هذا بالنظر لخصوص ما قبل مثلا أعنى:
قصر الفاعل على المفعول، ثم إن ظاهر كلام الشارح أن معنى قصر الفاعل على المفعول فى قولك: ما ضرب زيد إلا عمرا قصر ضاربية زيد على عمرو، لأنها فعل الفاعل- وليس كذلك، لأن الضاربية صفة للفاعل فلا يتأتى قصرها على المفعول، بل المراد قصر المضروبية على عمرو؛ لأنها صفة للمفعول، فالمعنى ما مضروب زيد إلا عمرو، وقد يقال: مراده قصر الفعل المسند للفاعل بعد تحويل صيغته إلى صيغة مفعول- تأمل،
ثم إن ما ذكره الشارح من أن معنى قصر الفاعل على المفعول قصر الفعل المسند للفاعل على المفعول هو أحد وجهين فى معناه، والثانى قصر الفاعل نفسه على الفعل المتعلق بالمفعول، وحينئذ فمعنى ما ضرب زيد إلا عمرا، ما زيد إلا ضارب عمرو أى: لا ضارب خالد مثلا، فيكون من قصر الموصوف على الصفة، فقول الشارح فيرجع
وعلى هذا قياس البواقى فيرجع فى التحقيق إلى قصر الصفة على الموصوف، أو قصر الموصوف على الصفة، ويكون حقيقيا، وغير حقيقى؛ إفرادا، وقلبا، وتعيينا، ولا يخفى اعتبار ذلك (وقل) أى: جاز على قلة (تقديمهما) أى: تقديم المقصور عليه وأداة الاستثناء على المقصور حال كونهما (بحالهما) وهو أن يلى المقصور عليه الأداة (نحو: ما ضرب إلا عمرا زيد) فى قصر الفاعل على المفعول (وما ضرب إلا زيد عمرا) فى قصر المفعول على الفاعل، وإنما قال:
…
===
فى التحقيق إلى قصر الصفة تفريع على ما ذكر من قصر الفعل المسند للفاعل على المفعول، وقوله: أو قصر الموصوف على الصفة تفريع على الوجه الثانى الذى قلناه وهو قصر الفاعل على الفعل المتعلق بالمفعول، ولا يتفرع على الوجه الذى ذكره الشارح، وحينئذ فالتفريع فى كلام الشارح أعم من المفرع عليه فكان على الشارح أن يقول:
ومعنى قصر الفاعل على المفعول قصر الفعل المسند للفاعل على المفعول، أو قصر الفاعل على الفعل المتعلق بالمفعول فيرجع فى التحقيق إلخ لأجل موافقة التفريع للمفرع عليه، قرر ذلك شيخنا العدوى- رحمه الله.
(قوله: وعلى هذا) أى: على معنى قصر الفاعل على المفعول المذكور قياس البواقى أى: فمعنى قصر المفعول على الفاعل قصر الفعل المتعلق بالمفعول على الفاعل، فمعنى ما ضارب عمرا إلا زيد: ما ضارب عمرو إلا زيد، فيرجع لقصر الصفة على الموصوف، أو قصر المفعول نفسه على الفعل المتعلق بالفاعل، فمعنى ما ضارب عمرو إلا زيد، ما عمرو إلا مضروب زيد فيرجع لقصر الموصوف على الصفة، لكن الأظهر الأول
(قوله: ولا يخفى اعتبار ذلك) أى: فإذا قلت فى قصر الفاعل على المفعول: ما ضرب زيد إلا عمرا، إن أريد: ما مضروب زيد إلا عمرو دون كل ما هو غير عمرو كان من قصر الصفة قصرا حقيقيا، وإن أريد دون خالد كان قصرا إضافيّا ثم إن أريد الرد على من زعم أن مضروب زيد عمرو وخالد مثلا كان إفرادا، وإن أريد الرد على من زعم أن مضروبه خالد دون عمرو كان قلبا، وإن كان المخاطب مترددا فى المضروب منهما كان تعيينا، وقس على هذا سائر المتعلقات
(قوله: حال كونهما) أى:
بحالهما احترازا عن تقديمهما مع إزالتهما عن حالهما؛ بأن تؤخر الأداة عن المقصور عليه؛ كقولك: فى ما ضرب زيد إلا عمرا: ما ضرب عمرا إلا زيد؛ فإنه لا يجوز ذلك لما فيه من اختلال المعنى،
…
===
المقصور عليه وهو المستثنى وأداة الاستثناء
(قوله: بحالهما) الباء للملابسة أى: ملتبسين بحالهما وصفتهما، ولما كان ظاهر المصنف أن البقاء بحالهما شرط فى القلة، وليس هذا مرادا قال الشارح: أى جاز على قلة إشارة إلى أنه شرط فى الجواز مع القلة- كذا قرر شيخنا العدوى.
واعلم أن ما ذكره المصنف من جواز تقديمهما على قلة، إن بنينا على أنه لا يجوز أن يستثنى بإلا إلا شىء واحد لضعفها؛ لأن أصلها لا النافية وهو لا تنفى إلا شيئا واحدا، فيعلم مع التقديم حيث يقصد الحصر فى مواليها ما هو المراد من التركيب من قصر ما بعد مدخولها على مدخولها، وأما إن بنينا على جواز أن يستثنى بها شيئان بلا عطف لم يجز التقديم حيث يقصد الحصر فيما والاها فقط بقلة ولا بغيرها، لأن التقديم يوجب توهم أن المراد القصر فى مواليها وفيما بعده، والمقصود القصر فى مواليها فقط فلا يجوز على هذا ولو بقلة أن يقال فى: ما ضرب زيد إلا عمرا- ما ضرب إلا عمرا زيد برفع زيد ونصب عمرو؛ لأنه حيث جوزنا استثناء شيئين يتوهم أن المعنى ما ضرب أحدا أحدا إلا عمرا ضربه زيد، وأكثر النحويين على المنع مطلقا أى سواء ذكر المستثنى على سبيل البدلية أم لا وإياه اعتمد المصنف، ولذلك حكم بالجواز على وجه القلة، وبعضهم جوزه إذا صرح بالمستثنى منه كأن يقال: ما ضرب أحدا أحدا إلا زيد عمرا، فإلا زيد مستثنى من الأحد الأول، وعمرا مستثنى من الأحد الثانى، وأورد على القول بامتناع استثناء شيئيين بأداة واحدة من غير عطف قوله تعالى: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ (1) فإنه قد استثنى إلا الموصول والظرف، وأجيب بأن الظرف منصوب بمضمر أى: اتبعوك فى بادئ الرأى، ومثل هذا يقال فى قوله تعالى: ثُمَ
(1) هود: 27.
وانعكاس المقصود، وإنما قل تقديمهما بحالهما (لاستلزامه قصر الصفة قبل تمامها)
…
===
لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا «1» أى: أذم ملعونين لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا «2» إلخ وليس ملعونين حالا من فاعل يجاورونك، وإلا لزم استثناء شيئين بأداة واحدة من غير عطف، وأما قول أبى البقاء إنه حال مما ذكر فمبنى على القول بالجواز
(قوله: وانعكاس المقصود) تفسير لما قبله؛ وذلك لأن معنى قولنا: ما ضرب زيد إلا عمرا ما مضروب زيد إلا عمرو ومعنى قولنا: ما ضرب عمرا إلا زيد ما ضارب عمرو إلا زيد، فالمقصود فى الأول حصر مضروبية زيد فى عمرو، والمقصود فى الثانى حصر ضاربية عمرو فى زيد.
(قوله: لاستلزامه) أى: لاستلزام التقديم فى المذكورين قصر الصفة على الموصوف قبل تمامها، ثم إن ما ذكره من استلزام تقديم الصفة مبنى على أحد الوجهين فى معنى قصر الفاعل على المفعول، وقصر المفعول على الفاعل: وهو أن يقصر الفعل المسند للفاعل على المفعول، ويقصر الفعل المتعلق بالمفعول على الفاعل، فيكون القصر حينئذ من قصر الصفة على الموصوف، فإذا قدم المقصور عليه لزم قصر الصفة قبل تمامها كما قال، وأما على الوجه الآخر وهو أن: يقصر الفاعل على فعله المتعلق بالمفعول، ويقتصر المفعول على فعله المنسوب للفاعل يكون القصر حينئذ من قصر الموصوف على الصفة، فاللازم على التقديم إنما هو تأخير الموصوف عن جميع الصفة، وحينئذ فتعليل المصنف قاصر؛ لأنه لا يجرى فى قصر الموصوف على الصفة وبيان ذلك أنك إذا قلت:
ما ضرب زيد إلا عمرا، وقدرت أن المعنى: ما زيد إلا ضارب عمرو، لم يظهر فيه عند تقديم المقصور عليه قصر الصفة قبل كمالها، بل اللازم على تقديمه بأن قيل: ما ضرب إلا عمرا زيد تأخير الموصوف عن جميع الصفة، وكذا إذا قدر فى المثال الثانى وهو قصر المفعول على الفاعل أن المعنى: ما عمرو إلا مضروب زيد إنما فيه عند التقديم تأخيره عن جميعها.
(1، 2) الأحزاب: 60.
لأن الصفة المقصورة على الفاعل مثلا هى الفعل الواقع على المفعول لا مطلق الفعل، فلا يتم المقصور قبل ذكر المفعول فلا يحسن قصره؛ وعلى هذا فقس. وإنما جاز على قلة نظرا إلى أنها فى حكم التام باعتبار ذكر المتعلق فى الآخر (ووجه الجميع) أى: السبب فى إفادة النفى والاستثناء القصر فيما بين المبتدأ والخبر، والفاعل والمفعول، وغير ذلك (أن النفى فى الاستثناء المفرغ) الذى حذف فيه المستثنى منه، وأعرب ما بعد إلا بحسب العوامل (يتوجه
…
===
(قوله: لأن الصفة إلخ) أى: فإذا قلت: ما ضرب زيد إلا عمرا وحمل على أن المعنى ما مضروب زيد إلا عمرو لزم لو قدم المقصور عليه وقيل: ما ضرب عمرا إلا زيد قصر الصفة وهو الضرب قبل تمامها، إذ تمامها بذكر الفاعل وكذلك الفعل المتعلق بالمفعول فى قصره على الفاعل، فإذا قلت: ما ضرب عمرا إلا زيد وحمل على أن المعنى:
ما ضارب عمرو إلا زيد لزم لو قدم المقصور عليه، وقيل ما ضرب إلا زيد عمرا قصر الضرب قيل ذكر متعلقه وهو ظاهر
(قوله: لأن الصفة المقصورة على الفاعل) أى فى قصر المفعول على الفاعل كما فى المثال الثانى وهو قولنا: ما ضرب عمرا إلا زيد
(قوله: مثلا) أى: أو المقصورة على المفعول فى قصر الفاعل على المفعول كما فى قولنا: ما ضرب زيد إلا عمرا، وقوله هى الفعل الواقع على المفعول أى: الواقع من الفاعل على المفعول وهذا بالنظر لما قبل مثلا أعنى الصفة المقصورة على الفاعل فى قصر المفعول على الفاعل
(قوله: وعلى هذا) أى: البيان المذكور للصفة المقصورة على الفاعل فقس فتقول فى قصر الفاعل على المفعول: الصفة المقصورة على المفعول هى الفعل المتعلق بالفاعل، فلا يتم المقصور قبل ذكر الفاعل فلا يحسن قصره، وهكذا
(قوله: وإنما جاز على قلة) أى: ولم يمتنع.
(قوله: ووجه الجميع) أى: ووجه إفادة النفى والاستثناء القصر فى جميع ما ذكر مما بين المبتدأ والخبر إلخ، وقوله وغير ذلك أى: كالحال وصاحبها والمفعول الأول والثانى
(قوله: إن النفى فى الاستثناء المفرغ) إنما اقتصر على بيان الوجه فى النفى والاستثناء المفرغ دون غيره؛ لأن إفادة التقديم له لا يدركه إلا صاحب الذوق وإفادة طريق العطف،
إلى مقدر هو مستثنى منه) لأن إلا للإخراج، والإخراج يقتضى مخرجا منه
…
===
وكذلك النفى والاستثناء إذا كان المستثنى منه مذكورا بيّن، وكذا إفادة إنما له لكونه بمعنى ما، وإلا فما بقى الخفاء إلا فى الاستثناء المفرغ لعدم ذكر المستثنى منه- ا. هـ عبد الحكيم.
(قوله: إلى مقدر) أى: إلى شىء يمكن أن يقدر لانسياق الذهن إليه ورجوع تفصيل المعنى إليه، لا أنه يتوقف إفادة التركيب للمعنى على تقديره فى نظم الكلام تقديرا يكون كالمذكور بحيث يكون إسقاطه إيجازا فلا ينافى هذا ما سيأتى من أن قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (1) من المساواة ويحتمل وهو ظاهر كلام صاحب المفتاح أن فى الاستثناء المفرغ مقدرا عاما حقيقة، وأن العامل لا يتسلط على ما بعد إلا ووجه بأنا إذا قلنا مثلا: ما قام إلا زيد ففى قام ضمير يعود على أحد وهو مقدر ذهنا أى: ما أحد قام ويكون إلا زيد بدلا وتقدير ضمير يعود على مقدر لم يذكر موجود كقولهم إذا كان غدا فائتنى أى: إذا كان ما نحن فيه من سلامتنا غدا فائتنى، ولا يخفى ما فيه من التعسف وما نظر به لا يتضح به الأمر لوجود الدليل الحالى فيه بخلاف الاستثناء بعد النفى فإن نفس المستثنى هو الذى يتبادر تسلط العامل عليه والأداة لمجرد الحصر. اهـ يعقوبى.
(قوله: لأن إلا للإخراج) علة لقوله يتوجه إلى مقدر وهذا ظاهر فى الاستثناء المتصل؛ لأن إلا فيه للإخراج، وأما المنقطع فإلا فيه ليست للإخراج، بل بمعنى بل فلا يتأتى فيه هذا التوجيه مع أنه مفيد للحصر أيضا، فإذا قيل: ما جاء القوم إلا الحمير، فالمعنى أن المجىء لا يتجاوز إلى القوم ولا إلى ما يتعلق بهم مما عدا الحمير، وأجيب بأن كلامه فى الاستثناء المتصل؛ لأن الاستثناء المفرغ لا يقدر فيه المستثنى منه إلا متناولا للمستثنى فيكون متصلا دائما، ويكون إلا فيه للإخراج بدليل قول المصنف: إن النفى فى الاستثناء المفرغ يتوجه إلى مقدر مناسب للمستثنى فى جنسه
(قوله: والإخراج يقتضى مخرجا منه) أى: وليس هنا إلا هذا المقدر فهو مخرج منه واستفيد من كلام الشارح أن
(1) فاطر: 43.
(عام) ليتناول المستثنى وغيره فيتحقق الإخراج (مناسب للمستثنى فى جنسه) بأن يقدر فى نحو: ما ضرب إلا زيد:
…
===
القرينة على المقدر كلمة إلا، وكذا على عمومه- كذا فى عبد الحكيم. وربما كان كلامه هذا مقويا لظاهر كلام المفتاح السابق- فتأمل.
(قوله: عام مناسب إلخ) صفتان لمقدر فى قول المصنف إلى مقدر، وإنما اشترط عموم المقدر للمستثنى لأجل صحة الاستثناء الذى هو الإخراج أيضا، إذ لو أريد بالمقدر البعض، فإن كان ذلك البعض معينا هو هذا المستثنى كان الكلام متناقضا محضا، وإن كان غيره فلا إخراج فتبطل فائدة وضع دلالة الاستثناء، وإن كان ذلك المقدر بعضا مبهما لم يتحقق دخول المستثنى فيه فلا يتحقق الإخراج فتبطل دلالة الأداة فيما وضعت له فلم يفهم المعنى، واللفظ الموضوع يستلزم فهم معناه فوجب أن يكون ذلك المقدر عاما ليتحقق الإخراج، ولهذا يقال الاستثناء معيار العموم وظهر لك من هذا أن المراد بالعموم فى كلام المصنف العموم الشمولى لا البدلى، وأن اعتراض بعضهم على عد الاستثناء من طرق القصر بأن صحة الإخراج والتناول تتوقف على العموم ولو على سبيل البدلية لا على خصوص الشمول والحصر متوقف على الشمولى، فيلزم أن الاستثناء تحقق بدون تحقق القصر، وحينئذ فلا يصح الحكم بأن الاستثناء يفيد الحصر ساقط بما ذكرناه فيما لو كان المستثنى منه المقدر بعضا مبهما، ثم إن المراد بالعموم الشمولى الذى يتوقف تحقق القصر عليه أن يكون ذلك المقدر بحيث يتناول سائر الأفراد ولا فرق فى ذلك بين الحقيقى والإضافى إلا أنه فى الإضافى يقدر لفظ عام يراد به خاص وهو البعض الذى أريد الاختصاص بالنسبة إليه، فاندفع ما يقال: إن الحصر قد يكون إضافيا فلا يناسبه العموم- تأمل.
(قوله: ليتناول المستثنى) أى: بالنظر للفظ لا بالنظر للحكم لما تقرر من أن الاستثناء من قبيل العام المخصوص فالمستثنى منه عمومه مراد تناولا لا حكما.
(قوله: فى جنسه) أى: فى كونه جنسه؛ لأن المستثنى من أفراد المستثنى منه، لا أنه أمر مشارك له فى الجنس كما هو ظاهر المتن ففيه مسامحة، والحاصل أن ظاهر قوله مناسب للمستثنى فى
ما ضرب أحد، وفى نحو: ما كسوته إلا جبة: ما كسوته لباسا، وفى نحو: ما جاء إلا راكبا: ما جاء كائنا على حال من الأحوال، وفى نحو: ما سرت إلا يوم الجمعة: ما سرت وقتا من الأوقات؛ وعلى هذا القياس (و) فى (صفته) يعنى:
الفاعلية، والمفعولية، والحالية؛ ونحو ذلك. وإذا كان النفى متوجها إلى هذا المقدر العام المناسب للمستثنى فى جنسه وصفته (فإذا أوجب منه) أى: من ذلك (المقدر شىء بإلا جاء القصر) ضرورة بقاء ما عداه على صفة الانتفاء (وفى إنما يؤخر المقصور عليه؛ تقول: إنما ضرب زيد عمرا)
…
===
جنسه يقتضى أن الجنس غير المقدر مع أنه نفس المقدر، وحاصل الجواب أن فى الكلام حذفا أى: فى كونه جنسه- كذا قرر شيخنا العدوى- رحمه الله.
(قوله: ما ضرب أحد) أى: فأحد عام شامل لزيد وغيره ومناسب له من حيث إنه جنس له أى: صالح لأن يحمل عليه- وكذا يقال فيما بعده.
(قوله: وعلى هذا القياس) أى: فيقدر فى: ما صليت إلا فى المسجد ما صليت فى مكان إلا فى المسجد، وفى: ما طاب زيد إلا نفسا ما طاب زيد شيئا إلا نفسا، وفى: ما أعطى إلا درهما ما أعطى شيئا إلا درهما، وفى: ما مررت إلا بزيد: ما مررت بأحد إلا بزيد، وفى: ما زيد إلا قائم- ما زيد حقيقة من الحقائق التى يظن كونه إياها إلا قائم أى: إلا حقيقة قائم ويقدر فى مثل: ما اشتريت من الجارية إلا نصفها ما اشتريت جزءا منها، ثم إن ما ذكر من التقدير فى المفردات واضح، وأما فى الجمل كما إذا قيل: ما جاء زيد إلا وهو يضحك، فيحتمل أن يؤول المستثنى بالمفرد أى: ما جاء كائنا على حال إلا كائنا على حال الضحك أو يقدر ما جاء وهو يفعل شيئا من الأشياء إلا وهو يضحك.
(قوله: ونحو ذلك) أى: كالظرفية
(قوله: فإذا أوجب) أى: أثبت من ذلك المقدر، والفاء رابطة لهذا الكلام بالشرط الذى قدره الشارح
(قوله: بإلا) أى: بواسطة إلا
(قوله: بقاء ما عداه) أى: ما عدا ذلك الشىء المثبت، وقوله على صفة الانتفاء الإضافة فيه بيانية، ولا شك أن نفى الحكم عن غير الموجب وإثباته لذلك الموجب هو عين القصر
(قوله: وفى إنما إلخ) عطف على قوله ففى الاستثناء أى: وفى القصر بإنما
(قوله: يؤخر المقصور عليه) أى: يكون المقصور عليه هو الجزء الأخير، والمراد بالجزء
فيكون القيد الأخير بمنزلة الواقع بعد إلا فيكون هو المقصور عليه (ولا يجوز تقديمه) أى: تقديم المقصور عليه بإنما (على غيره للإلباس) كما إذا قلنا فى إنما ضرب زيد عمرا: إنما ضرب عمرا زيد، بخلاف النفى والاستثناء؛ فإنه لا إلباس فيه؛ إذ المقصور عليه هو المذكور بعد إلا سواء قدم أو أخر، وهنا
…
===
الأخير ما يكون فى الآخر جزاء بالذات عمدة أو فضلة لا ما كان مذكورا فى آخره فقط، فإن الموصول المشتمل على قيود متعددة جزء واحد، وكذلك الموصوف مع صفته فالمقصور عليه فى قولنا: إنما جاءنى من أكرمته يوم الجمعة أمام الأمير هو الفاعل أعنى الموصول مع الصلة وفى قولنا: إنما جاءنى رجل عالم هو الموصوف مع صفته، وإنما أخر المقصور عليه دون المقصور؛ لأن المقصور مقدم طبعا فقدم وضعا ليوافق الوضع الطبع ومحل تأخير المقصور عليه فى إنما حيث استفيد القصر منها فقط ولم يعرض عارض لتقديمه، وإنما قيدنا بقولنا حيث يستفاد منها القصر فقط احترازا من نحو: قولنا: إنما زيدا ضربت فإنه لقصر الضرب على زيد فقد تقدم المقصور عليه على المقصور مع إنما؛ لأنها غير مفيدة للقصر، بل المفيد للقصر هنا التقديم وقولنا ولم يعرض عارض لتقديمه لإخراج نحو قولك: إنما قمت أى: لا أنى قعدت، فإن الفاعل هنا محصور فى الفعل، وقدم الفعل عليه لعدم صحة تقديم الفاعل عليه، فعلم من هذا أن المقصور معها قد يؤخر ويقدم المقصور عليه لعارض، فإن قلت لم لم يكن المثال المذكور من حصر الفعل فى الفاعل فيكون جاريا على الأصل فى إنما من تقديم المحصور وتأخير المحصور فيه؟ قلت: لأن الضمير مع إنما يجب فصله إذا قصد الحصر فيه، فإن اتصل تعين أن يكون مقصورا
(قوله: فيكون القيد الأخير) يعنى ما أخر من فاعل أو مفعول لما تقدم أن كلا من الفاعل والمفعول قيد للفعل والفعل مقيد بهما.
(قوله: للإلباس) أى: إفهام خلاف المراد فى التقديم؛ وذلك لأن كلا من الفاعل والمفعول الواقعين بعد الفعل يجوز أن يكون هو المقصور عليه دون الآخر ولم يقترن أحدهما بقرينة تدل على كونه هو المقصور عليه فقصدوا أن يجعلوا التأخير علامة القصر على ذلك المؤخر فالتزموه فى مواطن مع إنما فلو قلت: إنما ضرب زيد عمرا كان عمرا
ليس إلا مذكورا فى اللفظ بل متضمنا.
(وغير كإلا فى إفادة القصرين) قصر الموصوف على الصفة، وقصر الصفة على الموصوف؛ إفرادا، وقلبا، وتعيينا (و) فى (امتناع مجامعة لا) العاطفة لما سبق؛ فلا يصح: ما زيد غير شاعر لا كاتب، ولا ما شاعر غير زيد لا عمرو.
===
المحصور فيه ولو قدمت عمرا كان زيد هو المحصور فيه، وانعكس المعنى المراد؛ لأن المقصود حصر ضرب زيد فى عمرو وتقديم عمرو يفيد حصر مضروبية عمرو فى زيد ولم يجعلوا تقديم أحدهما على إنما أمارة على أن ما بعدها هو المقصور عليه كما تقدم فى النفى والاستثناء لكون إنما لا تقع إلا فى صدر الكلام، ولا يقال: إن دفع الإلباس كما يحصل باشتراط كون المقصور عليه هو المؤخر يحصل باشتراط كونه هو المقدم فلم اشترط تأخيره؛ لأنا نقول الترتيب الطبيعى يقتضى تقديم المقصور على المقصور عليه كما مر، فتعين أن يكون طريقة القصر بإنما أن يذكر المقصور بعدها ويذكر بعده المقصور عليه
(قوله: ليس إلا مذكورا فى اللفظ) أى: ليس لفظ إلا مذكورا فى الكلام وقوله بل متضمنا أى: بل تضمنه معنى الكلام.
(قوله: وغير كإلا) أى: ولفظ غير كلفظ إلا أى الاستثنائية لأنها هى التى تفيد القصرين بخلاف إلا التى تقع صفة، وإنما خص غير بالذكر دون بقية أدوات الاستثناء؛ لأنه لا يستعمل فى التفريغ من أدوات الاستثناء غير إلا غيرها وهذا مبنى على أن سوى ملازمة للنصب على الظرفية وإلا فهى كغير فى إفادة القصرين
(قوله: قصر الموصوف إلخ) نحو: ما زيد غير عالم وما كريم غير زيد فقد قصر فى الأول زيد على العلم وفى الثانى الكرم على زيد
(قوله: إفرادا وقلبا وتعيينا) ظاهره أنها لا تستعمل للقصر الحقيقى؛ لأن الإفراد والقلب والتعيين أقسام للإضافى- وليس كذلك، فكان الأولى أن يقول ويكون حقيقيا نحو لا إله غير الله وما خاتم الأنبياء غير محمد وغير حقيقى إفرادا إلخ
(قوله: لما سبق) أى: من أن شرط المنفى بلا أن لا يكون منفيا قبلها بغيرها
(قوله: فلا يصح ما زيد إلخ) أى: فلا يصح أن يقال فى قصر الموصوف: ما زيد شاعر لا كاتب، ولا يصح أن يقال فى قصر الصفة: ما شاعر غير زيد لا عمرو، وذلك لفقد الشرط السابق، والله أعلم.