الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبهذا يشبه المحالات والممكنات التى لا طماعية فى وقوعها فيتولد منه معنى التمنى.
(ومنها) أى: من أنواع الطلب (الاستفهام) وهو طلب حصول صورة الشىء فى الذهن،
…
===
يتمنى بلعل كما يدل عليه كلام الشارح بعد
(قوله: وبهذا) أى: وبسبب هذا البعد أشبه ذلك المرجو البعيد الحصول المحال بجامع عدم الحصول فى كل
(قوله: فيتولد منه) أى:
من ذلك البعد أو الشبه المذكور معنى التمنى لما مر من أنه طلب محال أو ممكن لا طمع فى وقوعه، فقد ظهر لك من هذا أن التمنى فى هل ولو معنى مجازى وفى لعل من مستتبعات التركيب وليس معنى مجازيا لها- كذا فى عبد الحكيم، والحاصل أن لعل مستعملة فى مرجو شبيه بالتمنى فى البعد، فتولد من ذلك الشبه تمنيه.
[ومن أنواع الطلب: الاستفهام]:
(قوله: طلب حصول صورة الشىء فى الذهن) أى: طلب حصول صورة الشىء المستفهم عنه فى ذهن المستفهم، وفى هذا التعريف إشارة إلى أن السين والتاء فى الاستفهام للطلب أى: طلب الفهم وأن الفهم هو العلم؛ لأن الحصول هو الإدراك، واعترض هذا التعريف بأنه غير مانع؛ وذلك لأنه يشمل مثل علمنى على صيغة الأمر فإنه دال على طلب حصول صورة فى الذهن، مع أنه أمر لا استفهام فكان على الشارح أن يزيد بأدوات مخصوصة ليخرج نحو: علمنى وفهمنى، وأجيب بأنه تعريف بالأعم، أو أن الإضافة للعهد أى: طلب معهود وهو ما كان بالأدوات المخصوصة، أو أن أل فى الذهن عوض عن المضاف إليه أى: فى ذهن المتكلم، وأما علم وفهم فإن كلا منهما يدل على طلب حصول صورة فى أى: ذهن كان، ولا يقال: إن علمنى، وكذا فهمنى يدل على طلب حصول صورة فى ذهن المتكلم؛ لأن هذا ليس من صيغة علم وفهم، بل من الإتيان بضمير المتكلم، وأجاب الحفيد بجواب آخر، وحاصله أن المقصود بالذات فى الاستفهام المعلوم من حيث صورته المسماة بالوجود الظلى أى: الذهنى لا المعلوم من حيث ذاته فقولك: هل قام زيد المقصود بذلك الاستفهام حصول صورة القيام فى الذهن لتعذر وجوده فيه والمقصود بالذات فى الأمر المذكور هو العلم من حيث ذاته،
فإن كانت وقوع نسبة بين أمرين أولا وقوعها- فحصولها هو التصديق،
…
===
لا من حيث صورته؛ لأن المقصود به حصول نفس العلم فى الذهن، والحاصل أن المراد بالصورة فى تعريف الاستفهام المعلوم من حيث صورته، وفى ذلك الأمر العلم من حيث ذاته، وحينئذ فلا شمول، وهذا نظير اختلاف أهل الميزان فى أن المترتب على النظر بطريق الأصالة هل هو المعلوم أو العلم، فذهب بعض إلى الأول والعلم بطريق التبعية، وذهب آخرون إلى الثانى، والمعلوم بطريق التبعية وهذا مبنى على مغايرة العلم للمعلوم وذهب الحكماء إلى أن العلم عين المعلوم، حيث فسروا العلم بحصول الصورة، وجعلوا الإضافة من قبيل إضافة الصفة للموصوف أى: الصورة الحاصلة، وفرق السكاكى فى المفتاح بفرق آخر بين الاستفهام والأمر، وهو أن المقصود فى الأمر حصول ما فى الذهن فى الخارج والمقصود فى الاستفهام حصول ما فى الخارج فى الذهن، لكن خصوص الفعل فى هذا المثال وهو علمنى اقتضى حصول أثره فى الذهن لكون الفعل أمرا، فالمقصود من قولك هل قام زيد حصول القيام الذى فى الخارج فى الذهن، والمقصود من قولك قم حصول القيام الذى فى الذهن فى الخارج وحاصل هذا الفرق أن الاستفهام طلب حصول صورة الشىء الذى فى الخارج فى الذهن، وحينئذ فلا شمول وعبارته فى المفتاح، والفرق بين الطلب فى الاستفهام والطلب فى الأمر والنهى والنداء واضح، فإنك فى الاستفهام تطلب ما هو فى الخارج ليحصل فى ذهنك نقش مطابق له وفيما سواه تنقش فى ذهنك، ثم تطلب أن يحصل له فى الخارج مطابق فنقش الذهن فى الأول تابع، وفى الثانى متبوع، وتبعه على ذلك العلامة السيد فى حواشى المطول، وفيه نظر؛ لأن صيغة الأمر لطلب حصول أمر مطلقا سواء كان فى الذهن كعلمنى أو الخارج كقم فيدخل فى الاستفهام بعض صور الأمر فالمعول عليه الفرق الأول. اهـ غنيمى.
(قوله: فإن كانت) أى: الصورة التى طلب حصولها فى الذهن
(قوله: وقوع نسبة بين أمرين) المراد بوقوعها مطابقتها للواقع، ونفس الأمر كما أن المراد بلا وقوعها عدم مطابقتها للواقع
(قوله: فحصولها) أى: إدراكها أى: فإدراك تلك الصورة التى هى مطابقة النسبة للواقع تصديق.
وإلا فهو التصور (والألفاظ الموضوعة له: الهمزة، وهل، وما، ومن، وأى، وكم، وكيف، وأين، وأنى، ومتى، وأيان. فالهمزة لطلب التصديق) أى: انقياد الذهن وإذعانه لوقوع نسبة تامة بين الشيئين (كقولك:
…
===
(قوله: وإلا فهو تصور) أى: وإلا تكن الصورة وقوع نسبة أو لا وقوعها، بل كانت تلك الصورة موضوعا أو محمولا أو نسبة مجردة أو اثنتين من هذه الثلاثة أو الثلاثة فحصولها أى: إدراكها تصور فتحصل من كلامه أن التصديق إدراك مطابقة النسبة الكلامية للواقع أو عدم مطابقتها وأن التصور إدراك الموضوع أو المحمول أو النسبة أو اثنين من هذه الثلاثة أو الثلاثة، ثم إن هذا التقسيم الذى ذكره الشارح مبنى على أن المراد بالصورة فى التعريف المعلوم كما سبق وهو ما ذكره فى حاشية المطالع؛ لأن الوقوع واللاوقوع من قبيل المعلوم، ولذلك قال بعد ذلك فحصولها تصديق، وذهب بعضهم إلى أن تلك الصورة هى العلم بناء على أنه لا تفاوت بين العلم والمعلوم إلا بالاعتبار، فالصورة من حيث وجودها فى الذهن علم ومن حيث وجودها فى الخارج معلوم، وهذا مذهب الحكماء كما مر
(قوله: الهمزة وهل إلخ) اعلم أن هذه الألفاظ على ثلاثة أقسام منها ما يستعمل لطلب التصور فقط، ومنها ما يستعمل لطلب التصديق فقط ومنها ما يستعمل لطلب التصور تارة ولطلب التصديق تارة أخرى، فالقسم الثالث هو الهمزة، والقسم الثانى هل، والقسم الأول بقية الألفاظ وبهذا الاعتبار صارت الهمزة أعم، فلذا قدمها المصنف على غيرها
(قوله: وإذعانه لوقوع نسبة إلخ) عطف الإذعان على انقياد الذهن عطف تفسير، والمراد بالإذعان لوقوع النسبة إدراك وقوعها أو اللاوقوعها، فكأنه قال الهمزة لطلب التصديق الذى هو إدراك وقوع نسبة تامة بين شيئين أو اللاوقوعها أى: إدراك موافقتها لما فى الواقع أو عدم موافقتها له، وتفسير الإذعان بالإدراك هو مذهب المناطقة، وأما عند المتكلمين فهو قبول النفس للشىء والرضا به فهو يرجع لكلام نفسانى وهو قول النفس قبلت ذلك ورضيت به، واعلم أن إدراك وقوع النسبة أو اللاوقوعها كما يسمى تصديقا يسمى حكما وإسنادا وإيقاعا وانتزاعا وإيجابا وسلبا وقرره شيخنا العدوى.
أقام زيد؟ ) فى الجملة الفعلية (وأزيد قائم؟ ) فى الاسمية (أو) لطلب (التصور) أى:
إدراك غير النسبة (كقولك)
…
===
(قوله: أقام زيد) أن فقد تصورت القيام وزيدا والنسبة بينهما، وسألت عن وقوع النسبة بينهما هل هو محقق خارجا أو لا فإذا قيل قام حصل التصديق، والحاصل أن السائل عالم بأن بينهما نسبة ملتبسة بالوقوع أو اللاوقوع ويطلب تعيين ذلك، وكذا يقال فى المثال الثانى
(قوله: فى الاسمية) لكن دخول الهمزة على الجملة الفعلية أكثر
(قوله: غير النسبة) الأولى غير وقوع النسبة أو لا وقوعها، وذلك كإدراك الموضوع والمحمول والنسبة التى هى مورد الإيجاب والسلب وإنما كان الأولى ما قلناه؛ لأن كلامه يفيد أن إدراك النسبة من حيث ذاتها ليس تصورا مع أنه تصور، إلا أن يقال: المراد غير النسبة من حيث وقوعها أو اللاوقوعها فدخل فيه إدراك ذات النسبة، واعلم أن الفرق بين الاستفهام بالهمزة عن التصور والاستفهام بها عن التصديق من وجهين لفظى وهو أن ما صلح أن يؤتى بعده بأم المنقطعة دون المتصلة استفهام عن التصور وما صلح أن يؤتى بعده بأم المتصلة فهو استفهام عن التصديق ومعنوى، وهو أن الاستفهام عن التصديق يكون عن نسبة تردد الذهن فيها بين ثبوتها ونفيها، والاستفهام عن التصور يكون عند التردد فى تعيين أحد الشيئين بقى شىء آخر وهو أن جعل الهمزة فى المثالين المذكورين لطلب التصور يلزم عليه طلب تحصيل الحاصل؛ وذلك لأن تصور الطرفين حاصل قبل السؤال؛ لأنه متصور للمستند إليه وهو الدبس وللمسند وهو الكون فى الإناء قبل السؤال وبعده، فلا يتفاوت تصور الطرفين بعد السؤال وقبله فى الحصول للسائل، بل هو حاصل فى الحالين، ولا يصح أيضا أن تكون لطلب التصديق؛ لأن التصديق حاصل للسائل قبل السؤال؛ لأنه أدرك قبل السؤال أن أحد الأمرين حاصل فى الإناء وهذا الإدراك عين التصديق، والحاصل أن الهمزة فى المثالين لا يصح أن تكون لطلب التصور ولا لطلب التصديق لما فيه من طلب تحصيل الحاصل، وأجيب بأنه يصح أن تكون لطلب التصور والمراد التصور على وجه التعيين أى: تصور المسند إليه من حيث إنه مسند إليه وتصور المسند من حيث إنه مسند وهذا غير التصور الحاصل قبل
فى طلب تصور المسند إليه (أدبس فى الإناء أم عسل؟ ) عالما بحصول شىء فى الإناء، طالبا لتعيينه (و) فى طلب تصور المسند (أفى الخابية دبسك أم فى الزق؟ ) عالما بكون الدبس فى واحد من الخابية والزق، طالبا
…
===
السؤال؛ لأنه تصور للمسند إليه والمسند من حيث ذاتهما وهو تصور على وجه الإجمال، وبيان ذلك أن السائل تصور قبل السؤال ذات الدبس وذات العسل، وأما الموصوف منهما بكونه فى الإناء فغير متصور له فإذا قيل له فى الجواب دبس تصور الموصوف منهما بكونه فى الإناء وهو خصوص الدبس، وكذا إذا أجيب بالعسل ويصح أن تكون الهمزة فى المثالين لطلب التصديق والمراد تصديق خاص، فإن التصديق الحاصل قبل السؤال تصديق على سبيل الإجمال وهو إدراك أن أحدهما فى الإناء، والحاصل بعد السؤال تصديق على سبيل التعيين وهو إدراك أن الحاصل فى الإناء دبس، فإن قلت حيث كان يصح جعل الهمزة فى المثالين لطلب التصديق فلا وجه لاقتصارهم على كونها لطلب التصور- قلت: إنما اقتصر عليه لكون تصور المسند إليه أو المسند على جهة التعيين هو المقصود للسائل، وأما التصديق الخاص فهو حاصل غير مقصود، والحاصل أن الهمزة فى المثالين المقصود بها طلب تصور خاص ويلزم من حصوله حصول تصديق خاص، وهذا لا ينافى أن السائل عنده قبل السؤال تصور إجمالى وتصديق كذلك وبما ذكرناه لك يندفع ما أورد على قول الشارح عالما بحصول شىء فى الإناء، وقوله عالما بكون الدبس إلخ: من أن هذا يقتضى تقدم التصديق على التصور ولا قائل بهذا، وحاصل الدفع أن التصور المطلوب بالهمزة تصور خاص وهذا يصاحبه تصديق خاص، وهذا لا ينافى أن السائل عنده قبل السؤال تصديق إجمالى وهو ما ذكره الشارح وهو مصاحب لتصور المسند إليه أو المسند على وجه الإجمال- قرر ذلك شيخنا العلامة العدوى.
(قوله: فى طلب تصور المسند إليه) أى: من حيث إنه مسند إليه وإلا فتصور ذاته حاصل قبل السؤال كما علمت، وكذا يقال فيما بعده
(قوله: أدبس فى الإناء أم عسل) الدبس عسل متخذ من الزبيب والمراد من العسل عسل النحل؛ لأنه المتبادر عند
لتعيين ذلك (ولهذا) أى: ولمجىء الهمزة لطلب التصور (لم يقبح) فى طلب تصور الفاعل: (أزيد قام؟ ) كما قبح: هل زيد قام؟ (و) لم يقبح فى طلب تصور المفعول: (أعمرا عرفت؟ ) كما قبح: هل عمرا عرفت؟ وذلك لأن التقديم يستدعى حصول التصديق بنفس الفعل
…
===
الإطلاق
(قوله: لتعيين ذلك) أى الواحد والحاصل أن السائل فى المثال المذكور عالم بالنسبة أعنى: ثبوت الكونية للدبس والمجهول له هو الظرف المكون فيه، فإنه وإن كان معلوما له أنه أحدهما، إلا أنه مجهول من حيث التفصيل أعنى: كونه الخابية أو الزق لا يقال: كون الهمزة فى: أزيد قائم للتصديق، وفى قولك: أفى الخابية دبس أم فى الزق للتصور تحكم؛ لأن فى الأول: ترددا بين قيام زيد وعدمه، وفى الثانى: التردد بين كون الدبس فى الخابية وكونه فى الزق، لأن نقول: متعلق الشك فى الأول: حصول النسبة وعدمها، وفى الثانى: نفس الموصوف بها وهو المحكوم به مع مقابله، بدليل الإتيان بأم فناسب كون الأول للتصديق الذى هو العلم بالنسبة دون الثانى، وإن لزم من الشك فى أحدهما الشك فى الآخر، وحاصله أن السؤال عن التصديق هو ما يكون عن نسبة المحمول للموضوع أو سلبها عنه، والسؤال عن التصور هو ما يكون عن نفس المحمول أو مقابله كما تقدم ذلك الفرق المعنوى.
(قوله: فى طلب تصور الفاعل) أى: الفاعل المعنوى.
(قوله: وذلك) أى: وبيان ذلك القبح فيما ذكر مع هل فى المرفوع والمنصوب وعدم القبح مع الهمزة فى المرفوع والمنصوب، فقوله: لأن التقديم أى: للمرفوع والمنصوب
(قوله: لأن التقديم إلخ) توضيح ذلك أن التقديم يفيد الاختصاص، فيكون مفاد التركيب الأول السؤال عن خصوص الفاعل بمعنى أنه يسأل عن المختص بالقيام:
هل زيد أو عمرو بعد تعقل وقوع القيام، فيكون أصل التصديق بوقوع القيام من فاعل ما معلوما عنده، فلزم كون السؤال عن تعيين الفاعل، ومفاد الثانى: السؤال عن خصوص المفعول أى: الذى اختص بالمعرفة دون غيره بمعنى أنه يسأل عن الذى يصدق عليه أنه المعروف فقط دون غيره بعد العلم بوقوع المعرفة على عمرو غيره، فأصل
فيكون هل لطلب حصول الحاصل؛ وهذا ظاهر فى: أعمرا عرفت؟ لا فى: أزيد قام؟ فليتأمل (والمسئول عنه بها) أى: بالهمزة
…
===
التصديق بوقوع الفعل على مفعول ما معلوم، وإنما سأل عن تعيين المفعول، فالسؤال فى الجملتين لطلب التصور، فلو استعملت فيهما هل لأفادت طلب التصديق، وأصل التصديق معلوم فيهما فيكون الطلب بها لتحصيل الحاصل، بخلاف استعمال الهمزة، فإنه لا ضرر فيه؛ لأنها لطلب التصور، فإن قلت: مقتضى هذا أن استعمال هل فيما ذكر من التركيبين ممنوع لا أنه قبيح فقط- قلت: إنما لم يكن ممنوعا لجواز أن يكون التقديم لغير التخصيص؛ لأنه لا يتعين أن يكون للتخصيص، فلذا لم يمنع أصل التركيب. اهـ يعقوبى.
(قوله: فيكون هل) أى: لو أتى بها فى هذا التركيب لطلب حصول الحاصل فى هذا التركيب لطلب حصول الحاصل أى: لأنها لطلب التصديق أى: وطلب حصول الحاصل عبث
(قوله: وهذا ظاهر إلخ) أى: واستدعاء التقديم حصول التصديق بنفس الفعل ظاهر فى تقديم المنصوب؛ لأن تقديم المنصوب يفيد الاختصاص ما لم تقم قرينة على خلافه، فالغالب فيه الاختصاص، وأما كونه للاهتمام أو التبرك أو الاستلذاذ فخلاف الغالب، وأما تقديم المرفوع فليس للاختصاص فى الغالب، بل الغالب فيه أن يكون لتقوى الإسناد، وأما كونه للتخصيص فخلاف الغالب، وحينئذ فلا يكون هل زيد قام قبيحا لما ذكر، نعم يقبح لأمر آخر على ما يأتى من أن هل فى الأصل بمعنى قد فلا يليها إلا الفعل غالبا
(قوله: فليتأمل) إنما قال ذلك لأن تقديم المنصوب يكون أيضا لغير الاختصاص: كالاهتمام فيساوى تقديم المرفوع من جهة أن كلا قد يكون لاختصاص ولغيره، وحينئذ فلا فرق بينهما، وحينئذ فيكون الإتيان بهل قبيحا دون الهمزة فى تقديم المنصوب والمرفوع، ويجاب عنه بأن النظر فى الفرق بينهما للغالب فتقديم المرفوع والمنصوب وإن اشتركا فى أن كلا يكون للاختصاص ولغيره، لكن الغالب فى تقديم المنصوب التخصيص وفى تقديم المرفوع غير التخصيص، وحينئذ فيكون الإتيان بهل قبيحا دون الهمزة فى تقديم المنصوب دون المرفوع نظرا للغالب فيهما.
(هو ما يليها؛ كالفعل فى: أضربت زيدا؟ ) إذا كان الشك فى نفس الفعل؛ أعنى:
الضرب الصادر من المخاطب الواقع على زيد، وأردت بالاستفهام أن تعلم وجوده؛ فيكون لطلب التصديق، ويحتمل أن يكون لطلب تصور المسند بأن تعلم أنه قد تعلق فعل من المخاطب بزيد،
…
===
(قوله: هو ما يليها) أى هو تصور ما يليها والتصديق به
(قوله: إذا كان الشك) أى: يقول ذلك إذا كان الشك فى نفس الفعل أى: من حيث صدوره من المخاطب حتى يصح تعلق الشك به، وإلا فالفعل فى حد ذاته لا يتعلق به شك، ويدل لذلك قول الشارح أعنى إلخ أى: تقول ذلك إذا حصل عنك شك فى أن المخاطب ضرب زيدا أم لا
(قوله: أن تعلم وجوده) أى: أردت أن تعلم أن الضرب وجد من المخاطب أم لا
(قوله: ويحتمل أن يكون إلخ) أى: فهذا التركيب أعنى أضربت زيدا، وكذا ما ماثله من كل تركيب ولى الهمزة فيه فعل محتمل؛ لأن يكون لطلب التصديق ولطلب التصور وتعيين أحد الأمرين بالقرائن اللفظية: كاقتران المعادل لما يلى الهمزة بأم المنقطعة أو المتصلة فمثل: أضربت زيدا أم لا لطلب التصديق، وقولك: أضربت زيدا أم أكرمته لطلب التصور، أو المعنوية كما فى أفرغت من الكتاب الذى كنت تكتبه؟ فإنه سؤال عن التصديق بالفراغ منه، وقوله الذى كنت تكتبه: قرينة على ذلك؛ لأنه يفيد أن السائل عالم بأن المخاطب يكتب كتابا، وأما قولك: أكتبت هذا الكتاب أم اشتريته؟ فإنه سؤال عن تصور المسند أى: تعيينه والقرينة حالية، وإذا علمت أن ما ذكره المصنف من المثال محتمل للأمرين ظهر لك أن فى كلام المصنف أعنى قوله: والمسئول عنه بها هو ما يليها كالفعل إلخ نظر؛ وذلك لأنه لا يظهر إلا إذا كان المسئول عنه تصور المسند أو المسند إليه أو شىء من متعلقاتهما؛ لأن هذا هو الذى يتأتى إيلاؤه لها، ولا يظهر إذا كان المطلوب بها التصديق بوقوع النسبة، إذ ليس له لفظ واحد يلى الهمزة، بل دائر بين المسند والمسند إليه فليس أحدهما أولى بالإيلاء من الآخر، وقد يجاب بأنه لما كان الغرض عند السؤال بها عن التصديق السؤال عن حال النسبة وهى جزء مدلول الفعل، فلا بد أن يلى الفعل الهمزة، هذا وبعضهم حمل كلام المصنف على ما إذا كان المسئول عنه أحد الطرفين لا النسبة ولا وجه له كما علمت.
لكن لا تعرف أنه ضرب أو إكرام (والفاعل فى: أأنت ضربت؟ ) إذا كان الشك فى الضارب (والمفعول فى: أزيدا ضربت؟ ) إذا كان الشك فى المضروب؛ وكذا قياس سائر المتعلقات.
(وهل لطلب التصديق
…
===
بقى بحث آخر: وهو أن الشارح حمل المتن على صورة التصديق وجعل صورة التصور احتمالا، مع أن التصديق إنما يحصل بالطرفين، فلم يل التصديق الذى هو المسئول عنه الهمزة، فهلا حمل المتن على صورة التصور ابتداء- كذا فى يس، والجواب عنه ما علمته- فتأمل.
(قوله: لكن لا تعرف أنه ضرب أو إكرام) أى: وأردت بالاستفهام تبيينه
(قوله: والفاعل إلخ) عطف على الفعل وينبغى أن يراد هنا بالفاعل الفاعل المعنوى لا الصناعى إذ لا يجوز تقديمه على فعله
(قوله: إذا كان الشك فى الضارب) أى: تقول هذا الكلام لمخاطبك إذا كنت تعلم أن شخصا صدر منه الضرب وشككت فى كونه المخاطب أو غيره فكأنك تقول له الذى صدر منه الضرب أأنت أم غيرك فالشك هنا فى الفاعل فالسؤال هنا لطلب التصور
(قوله: إذا كان الشك فى المضروب) أى أن هذا الكلام إنما تقوله إذا عرفت أن مخاطبك ضرب أحدا وجهلت عين ذلك الأحد فكأنك تقول مضروبك ما هو هل هو زيد أم غيره فالشك هنا فى المفعول والسؤال هنا للتصور ولا يذهب عنك ما نبهنا عليه آنفا من أن الاستفهام الذى ذكروا أنه يراد به التصور هنا لا يخلو عن مراعاة التصديق المخصوص ولهذا صح إطلاق الشك فيما هو سؤال عن تصور الفاعل أو المفعول مع أن الشك إنما يتعلق بالنسبة لا بالفاعل والمفعول من حيث ذاتهما
(قوله: وكذا قياس سائر المتعلقات) أى المعمولات نحو أفى الدار صليت وأيوم الجمعة سرت وأتأديبا ضربت وأراكبا جئت ونحو ذلك. اهـ مطول. ولم يذكر المفعول المطلق لأنه لا يتقدم على عامله لأنه بمنزلة التأكيد بل ادعى بعضهم أنه توكيد لفظى اصطلاحا كما هو مسطر فى كتب النحو لكن انظر المصدر المبين للنوع والعدد هل يتقدم أو لا وحرره
(قوله: وهل لطلب التصديق) أى لطلب أصل التصديق وهو مطلق
فحسب) وتدخل على الجملتين (نحو: هل قام زيد؟ وهل عمرو قاعد؟ ) إذا كان المطلوب حصول التصديق بثبوت القيام لزيد، والقعود لعمرو
…
===
إدراك وقوع النسبة أو لا وقوعها فلا يرد أن الهمزة أيضا لطلب التصديق دائما لأنها لطلب تصديق خاص وإن كان الغرض منه قد يكون تصور المسند إليه أو المسند كما مر، ولذا قال العلامة اليعقوبى: المراد بالتصديق هنا مطلق إدراك وقوع النسبة أو لا وقوعها؛ لأنه متى علم أصل الوقوع وطلب الإعلام بوقوع مخصوص عدوه من باب التصور
(قوله: فحسب) أى: إذا عرفت أنها لطلب التصديق فحسبك هى أى هذه المعرفة فحسب مبتدأ، لكن ضمه ليس رفعا؛ لأنه مبنى بعد حذف المضاف إليه على الضم ومآله القصر على طلب التصديق، وإن كان ليس من طرقه. اهـ أطول.
(قوله: وتدخل على الجملتين) أى: الاسمية والفعلية بشرط أن تكون الجملة مثبتة، فلا تدخل على منفى، فلا يقال: هل لا قام زيد؛ لأنها فى الأصل بمعنى قد، وهى لا تدخل على المنفى، فلا يقال: قد لا يقوم زيد.
واعلم أن عدم دخول هل على المنفى لا ينافى أنها لطلب التصديق مطلقا أعنى:
الإيجابى والسلبى، فيجوز أن يقال: هل قام زيد أو لم يقم- كما صرح بذلك العلامة المحلى فى شرح جمع الجوامع ردّا على التاج السبكى فى المتن المذكور، حيث فهم من قولهم: إنها لا تدخل على منفى أنه لا يطلب بها التصديق السلبى
(قوله: نحو هل قام زيد وهل عمرو قاعد) أورد مثالين دفعا لتوهم اختصاص هل بالفعلية لكونها فى الأصل بمعنى قد
(قوله: إذا كان المطلوب حصول التصديق إلخ) الأولى أن يقول إذا كان المطلوب التصديق بثبوت القيام لزيد إلخ، وذلك لأن التصديق كما مر حصول وقوع النسبة أو لا وقوعها فينحل المعنى إذا كان المطلوب حصول إلخ.
ولا معنى له إلا أن يجرد التصديق عن بعض معناه وهو الحصول ويراد به الوقوع، فكأنه قال إذا كان المطلوب حصول الوقوع لثبوت القيام لزيد أى: إدراك أن هذا الثبوت مطابق للواقع مع العلم بحقيقة كل من المسندين. تأمل.
(ولهذا) أى: لاختصاصها بطلب التصديق (امتنع: هل زيد قام أم عمرو؟ ) لأن وقوع المفرد هاهنا بعد أم دليل على أن أم متصلة وهى لطلب تعيين أحد الأمرين مع العلم بثبوت أصل الحكم، وهل إنما تكون لطلب الحكم فقط،
…
===
(قوله: ولهذا امتنع هل زيد إلخ) أى: امتنع الجمع بينها وبين ما يدل على السؤال عن التصور نحو قولك: هل زيد قائم أم عمرو؟
(قوله: لأن وقوع المفرد إلخ) هذا علة للعلية أى: وامتنع هل زيد قام أم عمرو، لاختصاصها بطلب التصديق؛ لأن وقوع المفرد وهو عمرو هنا، أى: بعد أم الواقعة فى حيز الاستفهام دليل على أن أم متصلة إذ لو كانت منقطعة لوجب وقوع الجملة بعدها، بأن يقال أم عندك بشر. ولا يقال: إن ذلك المفرد الواقع بعدها هنا جزء من جملة، وأنها منقطعة؛ لأن وقوع المفرد الذى هو جزء جملة بعد أم المنقطعة جوازه مشروط بكونها بعد الخبر نحو: إنها لا لإبل أم شاة، وهنا ليست واقعة بعد الخبر، وإنما سميت أم هذه منقطعة لانقطاع ما بعدها عما قبلها؛ لأن الغرض من الإتيان بها الانتقال من كلام إلى كلام آخر، فلذا كانت بمعنى بل الإضرابية، وإنما سميت أم المتصلة بذلك؛ لاتصال ما قبلها بما بعدها
(قوله: وهى لطلب تعيين أحد الأمرين) أى: المفرد الذى قبلها، والمفرد الذى بعدها، وأما المنقطعة وهى التى بمعنى، بل فلطلب التصديق، فيجوز وقوعها بعد هل تأكيدا.
(قوله: مع العلم بثبوت أصل الحكم) أى: المحكوم به، والعلم بثبوت المحكوم به تصديق، وحاصله أنها لا تكون إلا لطلب التصور بعد حصول التصديق بنفس الحكم، فإن قلت: التصديق مسبوق بالتصور فكيف يصح طلب التصور بأم المتصلة، مع حصول التصديق فى نحو: أزيد قام أم عمرو، قلت: التصديق الحاصل، هو العلم بنسبة القيام إلى أحد المذكورين والمطلوب تصور أحدهما على التعيين، وهو غير التصور السابق على التصديق؛ لأنه التصور بوجه ما
(قوله: وهل إنما تكون لطلب الحكم) أى: التصديق أى: فأم المتصلة تفيد أن السائل عالم بالحكم، وهل تفيد أنه جاهل به؛ لأنها لطلبه وحينئذ فبين هل وأم المذكورة تدافع وتناقض فيمتنع الجمع بينهما فى تركيب واحد، وتفسير الحكم بالتصديق بناء على أن التصديق بسيط، وأنه عبارة عن الحكم، وأن تصور المسند والمسند إليه، والنسبة أى:
ولو قلت: هل زيد قام؟ بدون أم عمرو لقبح، ولا يمتنع لما سيجىء (و) لهذا أيضا (قبح: هل زيدا ضربت؟ لأن التقديم يستدعى حصول التصديق بنفس الفعل) فيكون هل لطلب حصول الحاصل؛ وهو محال،
…
===
إدراك كل منها شروط للتصديق لا أجزاء له وهذا هو مذهب الحكماء وهو المختار وقيل: إن التصديق مركب من تصور المسند والمسند إليه والنسبة ومن الحكم وهو إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة، فإن قلت لم لا يكون المطلوب بنحو قولنا هل زيد قام أم عمرو؟ الأمرين معا، أعنى طلب التعيين وطلب الحكم بأن يكون المطلوب بهل التصديق وبأم التعيين ويقصدان معا باللفظين المختلفين، إذ طلب التعيين لم يقصد بهل بل بأم وطلب الحكم لم يقصد بأم بل بهل، وحينئذ فيسوغ الجمع بين هل وأم المتصلة قلت المراد أن الجملة الواقعة فيها هل لا تكون إلا لطلب التصديق، والجملة الواقعة فيها أم لا تكون إلا لطلب التعيين فالجمع بينهما يؤدى إلى التناقض على أن طلب التعيين بأم يستلزم كون التصديق بأصل الحكم حاصلا إذ قد قلنا إنها لطلب تعيين أحد الأمرين مع العلم بثبوت أصل الحكم وهل تقتضى عدم حصوله، وحينئذ فلا يمكن الجمع بينهما فلا يتوجه السؤال من أصله.
(قوله: ولو قلت إلخ) أفاد بهذا أن محل امتناع المثال المتقدم عند الإتيان بأم بعد هل فلو لم تذكر فإنه لا يمتنع، بل يكون قبيحا لما سيجىء من قول المصنف؛ (لأن التقديم إلخ)
(قوله: ولهذا أيضا قبح) أى: ولأجل اختصاصها بالتصديق قبح استعمالها فى تركيب هو مظنة للعلم بحصول أصل النسبة وهو ما يتقدم فيه المعمول على الفعل سواء كان ذلك المعمول مفعولا نحو هل زيدا ضربت أو غيره نحو: أفى الدار جلست وأراكبا جئت وأعندك قام عمرو
(قوله: لأن التقديم) أى: تقديم المعمول على الفعل.
(قوله: يستدعى) أى: يقتضى غالبا
(قوله: حصول التصديق) أى: حصول العلم للمتكلم.
(قوله: بنفس الفعل) أى: بنفس وقوع الفعل كالضرب أى: أن التقديم يقتضى أن المتكلم عالم بوقوع الفعل
(قوله: فتكون هل إلخ) أى: لأنها لطلب التصديق
(قوله: وهو محال) أى: وحصول الحاصل محال، وحينئذ فيكون طلبه عبثا.
وإنما لم يمتنع لاحتمال أن يكون زيدا مفعول فعل محذوف، أو يكون التقديم لمجرد الاهتمام، لا للتخصيص؛
…
===
(قوله: وإنما لم يمتنع) أى: مع أن العلة المذكورة تقتضى منعه لاحتمال أن يكون زيدا أى: فى المثال المذكور مفعول فعل محذوف أى: مقدر قبله ويكون مفعول المذكور محذوفا والتقدير: هل ضربت زيدا ضربته، وحينئذ فلا يكون هناك تقديم حتى يستدعى التصديق بحصول نفس الفعل.
(قوله: أو يكون التقديم لمجرد الاهتمام) أى: للاهتمام المجرد عن التخصيص أى: وحينئذ فلا يكون التقديم مستدعيا للتصديق بحصول الفعل فلا تكون هل لطلب حصول الحاصل.
(قوله: لكن ذلك) أى: ما ذكر من كون زيدا مفعولا لمحذوف أو مفعولا للمذكور قدم لمجرد الاهتمام لا للتخصيص.
(قوله: خلاف الظاهر) أى: لما يلزم على التقدير الأول من منع الفعل الظاهر عن العمل بلا شاغل، وهو قبيح، ولما يلزم على الثانى من مخالفة الغالب المتبادر، إذ الغالب فى تقديم المنصوب كونه للتخصيص ومخالفة الغالب قبيحة، وإذا علمت ما يلزم على كل منهما ظهر لك أن كلا من الاحتمالين بعيد مرجوح، إلا أنه مع بعده يكفى فى تصحيح قولك: هل زيدا ضربت، فلذا عده المصنف قبيحا لا ممتنعا بقى شىء آخر، وهو أن مقتضى ما ذكر أنه إذا قدم المفعول بقصد الاهتمام نحو وجه الحبيب أتمنى كان قبيحا لمخالفة الغالب، قال العلامة اليعقوبى: قيل ولا قائل به، وعلى هذا فيكون القبح مخصوصا بتقدير الفعل، وحينئذ فيراعى ما حصل فى نفس الأمر، فإن قصد التخصيص امتنع، وإن قصد تقدير الفعل قبح، وإن قصد الاهتمام لم يقبح، ولا يراعى فى القبح كون التقديم مظنة للتخصيص سواء قصد أو لا كما هو ظاهر كلام الشارح، وفى هذا المقام بحث ذكره شيخنا الشهاب الملوى فى شرح ألفيته، وحاصله أنه إذا نظرنا إلى الاحتمال لزم جواز مثل هل قام زيد أم عمرو، لاحتمال تقدير: فعل بعد أم لتكون منقطعة، وإن كان خلاف الظاهر، إذ مخالفة الظاهر لا تقتضى الامتناع على ما ذكرتم، وإن اقتضت القبح وأجاب: بأن نحو هل زيد قام أم عمرو ولم يقع فى كلام العرب حتى يتكلف صحته، ولو على قبح إذ أم المنقطعة المذكور بعدها المفرد المعمول لمحذوف إنما نطقوا به بعد الخبر
لكن ذلك خلاف الظاهر (دون) هل زيدا (ضربته؟ ) فإنه لا يقبح (لجواز تقدير المفسر قبل زيدا) أى: هل ضربت زيدا ضربته (وجعل السكاكى قبح: هل رجل عرف؟ لذلك) أى: لأن التقديم يستدعى حصول التصديق بنفس الفعل لما سبق من مذهبه من أن الأصل: عرف رجل؛ على أن رجل بدل من الضمير فى عرف قدم للتخصيص
…
===
نحو: إنها لإبل أم شاة، وأما أم المذكورة فى الاستفهام فلم ينطقوا بعدها إلا بالجملة بخلاف نحو: هل زيدا ضربت، فإنه وجد فى كلامهم فاضطررنا إلى تكلف صحته، ولو على قبح إذ لو كان ممتنعا لما نطقوا به
(قوله: لكن ذلك خلاف الظاهر) أى: فيكون الحمل عليه بعيدا، والحمل على التخصيص أرجح، وإذا كان المقتضى للامتناع راجحا كان هذا المثال قبيحا مع ذلك الاحتمال المرجوح الكافى فى تصحيحه
(قوله: دون هل زيدا ضربته) أشار المصنف بهذا إلى أن القبح المذكور حيث لا يتصل العامل بشاغل كما فى المثال السابق، أما إذا اتصل به كهذا المثال فلا يقبح
(قوله: لجواز تقدير المفسر إلخ) أى: لجواز ذلك جوازا راجحا؛ لأن الأصل تقديم العامل على المعمول، وحينئذ فلا يستدعى حصول التصديق بنفس الفعل؛ لأن السؤال حينئذ يكون عن أصل ثبوت الفعل لا عن المفعول بعد العلم بأصل الثبوت، وحيث كان لا يستدعى حصول التصديق فتكون هل لطلبه فيحسن، وبما قلناه من أن المراد الجواز الراجح اندفع ما يقال: إن مطلق الجواز لا يخلص من القباحة ولا يدفعها، وإنما عبر بالجواز إشارة إلى أنه قد لا يقدر المفسر قبل زيد بل بعده وهو جائز أيضا، لكن بمرجوحية ويكون التقدير هل زيدا ضربت ضربته ويكون على هذا من باب التخصيص ويلزمه الفساد السابق، والحاصل إن هذا المثال يحتمل احتمالين أحدهما راجح والآخر مرجوح ويلزمه الفساد فحمل على الراجح فلذا كان خاليا عن القبح
(قوله: لما سبق إلخ) أى: وإنما حصل قبحه لأجل كون التقديم يستدعى حصول التصديق بنفس الفعل لما سبق إلخ
(قوله: قدم للتخصيص) أى:
والتقديم للتخصيص يستدعى حصول التصديق بنفس المعرفة والجهل إنما هو بالفاعل فالسؤال عن تعيينه فيكون السائل طالبا لتصوره وهل لطلب التصديق فتكون لطلب
(ويلزمه) أى: السكاكى (أن لا يقبح: هل زيد عرف؟ ) لأن تقديم المظهر المعرفة ليس للتخصيص عنده حتى يستدعى حصول التصديق بنفس الفعل، مع أنه قبيح بإجماع النحاة؛ وفيه نظر؛
…
===
حصول الحاصل، ولم يجعل المثال المذكور ممتنعا لجواز أن لا يكون تقديمه من تأخير للتخصيص، بل لمجرد الاهتمام أو يكون الكلام بتقدير فعل رافع لرجل
(قوله: ويلزمه) أى: حيث جعل علة القبح فى المنكر كون التقديم لما كان مؤخرا للتخصيص
(قوله: ليس للتخصيص عنده) بل للاهتمام أو التقوى؛ لأن اعتبار التقديم والتأخير لإفادة التخصيص فى رجل عرف لكونه لا سبب سواه لكون المبتدأ نكرة، وأما المعرفة فغنية عن اعتبار كون التقديم والتأخير فيها للتخصيص، وإذا كان تقديم المعرفة لغير التخصيص فلا ضرر فى كون هل لطلب التصديق
(قوله: حتى يستدعى إلخ) تفريع على المنفى أى: ليس للتخصيص الذى يتفرع عليه استدعاء إلخ
(قوله: مع أنه قبيح بإجماع النحاة) مرتبط بقوله ويلزمه أن لا يقبح ووجه قبحه الفصل بين هل والفعل بالاسم مع أنها إذا رأت الفعل فى حيزها لا ترضى إلا بمعانقته وعدم الانفصال عنه، إن قلت: كيف يكون قبيحا بالإجماع مع أن صاحب المفصل خرجه على تقدير الفعل قلت: ما ذكره صاحب المفصل من التوجيه إنما هو تصحيح للنطق بالوجه القبيح لا أنه توجيه له مع كونه شائعا حسنا.
(قوله: وفيه نظر) أى: وفى هذا اللزوم نظر وهذا جواب عن اعتراض المصنف على السكاكى، وحاصله أن ما ذكره المصنف من اللزوم غير لازم للسكاكى؛ لأن انتفاء علة من علل القبح وهى كون التقديم للتخصيص لا يستلزم انتفاء جميع العلل فلا يلزمه أن يقول بحسن هذا التركيب، بل يجوز أن يقول فيه بالقبح لعلة أخرى، إذ لا يلزم من نفى علة نفى جميع العلل، فاللازم على ما قاله عدم وجود القبح لتلك العلة لا نفى القبح مطلقا كما قال المصنف. اهـ.
لكن هذا الجواب إنما يظهر إذا لم تكن علة القبح منحصرة عند السكاكى فيما ذكره، وظاهر عبارته يفيد الانحصار حيث قال: ولاختصاصه بالتصديق قبح هل زيدا
لأن ما ذكره من اللزوم ممنوع لجواز أن يقبح لعلة أخرى (وعلل غيره) أى: غير السكاكى (قبحهما) أى: قبح هل رجل عرف؟ وهل زيد عرف؟ (بأن هل بمعنى قد فى الأصل) وأصله: أهل (وترك الهمزة قبلها لكثرة وقوعها فى الاستفهام)
===
عرفت إلا أن يقال: تقديم قوله لاختصاصه لا للاختصاص بل لغرض آخر
(قوله: لأن ما ذكره) أى: المصنف
(قوله: لجواز أن يقبح) أى: هل زيد عرف عند السكاكى لعلة أخرى هى ما ذكره غيره من أن هل فى الأصل بمعنى قد وقد مختصة بالفعل، فكذا ما كان بمعناها فيكون السكاكى قائلا بما علل به غيره فى قبح هذا التركيب
(قوله: وعلل غيره قبحهما بأن هل إلخ) أى: علل غيره قبحهما بعلة أخرى غير ما علل بها هو وهى أن هل داما بمعنى قد فى استعمالها الأصلى، والاستفهام مأخوذ من همزة مقدرة قبلها فأصل هل عرف زيد أهل عرف زيد بإدخال همزة الاستفهام على هل التى بمعنى قد، فكأنه قيل: أقد عرف زيد فقول الشارح، وأصله أى: أصل هل بمعنى قد أهل بهمزة الاستفهام إشارة لذلك قال أبو حيان فى الإفصاح: وذكر جماعة من النحويين وأهل اللغة أن هل قد تكون بمعنى قد مجردة عن الاستفهام وربما فسروا بذلك قوله تعالى:
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ (1)، ثم إن المراد بمعنى قد المذكورة قيل التقريب أى: قد أتى على الإنسان قبل زمان قريب طائفة من الزمان الطويل الممتد لم يكن شيئا مذكورا، كذا فى الكشاف وفسرها غيره بقد خاصة، لكن حمل قد على معنى التحقيق لا على معنى التقريب وحملها بعضهم على معنى التوقع، وكأنه قيل لقوم يتوقعون الخبر فى شأن آدم قد أتى على الإنسان وهو آدم حين من الدهر لم يكن فيه شيئا مذكورا وذلك الحين من كونه طينا
(قوله: بمعنى قد) أى: ملتبسة بمعنى قد وهو التقريب أو التحقيق أو التوقع على الخلاف فى ذلك
(قوله: وترك الهمزة قبلها) أى: قبل هل وأشار بقوله لكثرة إلخ، إلى أنها قد تقع فى الخبر كما فى قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ كما مر
(قوله: وقوعها فى الاستفهام) أى فى الكلام الذى
(1) الإنسان: 1.
فأقيمت هى مقام الهمزة وتطفلت عليها فى الاستفهام، وقد من خواص الأفعال فكذا ما هى بمعناها، وإنما لم يقبح: هل زيد قائم؟ لأنها إذا لم تر الفعل فى حيزها ذهلت عنه وتسلت، بخلاف ما إذا رأته فإنها تذكرت العهود وحنت إلى الإلف المألوف
…
===
يراد به الاستفهام
(قوله: فأقيمت هى مقام الهمزة) أى: وألقى فيها معنى قد
(قوله: وتطفلت عليها فى الاستفهام) أى: فى إفادته وفيه أن هذا يقتضى أن هل غير موضوعة للاستفهام فينافى ما سبق من أنها موضوعة لطلب التصديق، وأجيب بأن وضعها لذلك باعتبار العرف الطارئ فلا ينافى أنها تطفلت على الهمزة فى إفادة معناه
(قوله: وقد من خواص الأفعال إلخ) هذا من تتمة التعليل، وكذا ما هى بمعناه، لكن لما كان الفرع لا يعطى حكم الأصل من كل وجه جاز دخول هل على الاسم إما بقبح إن كان فى الجملة فعل أو بدونه إن لم يكن فيها فعل نحو: هل زيد قائم لما ذكره الشارح بخلاف قد، فإن دخولها عليه ممنوع
(قوله: وإنما لم يقبح إلخ) هذا جواب عما يقال مقتضى هذا التعليل أن يقبح دخولها على الجملة الاسمية التى طرفاها اسمان نحو هل: زيد قائم مع أنه جائز بلا قبح فأى فرق بين ما إذا كان الخبر فعلا قلتم بقبحه، وإذا كان اسما قلتم بعدم قبحه مع أن مقتضى التعليل استواء الأمرين فى القبح، وحاصل ما أجاب به الشارح أنه فرق بين الأمرين؛ وذلك لأنه إذا كان طرفا الجملة اسمين لم تر هل الفعل فى حيزها فتذهل عنه ويراعى فيها معنى الاستفهام الذى نقلت له، وإذا كان الخبر فعلا رأت هل الفعل فى حيزها فلا ترضى إلا بمعانقته نظرا لمعناها الأصلى وهو كونها بمعنى قد المختصة بالدخول على الفعل.
(قوله: فى حيزها) أى: فى قرب حيزها، وإلا فحيزها مشتغل بها لا يقبل غيرها
(قوله: وتسلت) أى: ولم تتذكر المعاهد والأوطان قائلة: ما غاب عن العين غاب عن الخاطر
(قوله: تذكرت العهود) أى: العهد الذى بينها وبينه من حيث إنها فى الأصل بمعنى قد المختصة بالفعل، وكان المناسب أن يقول: فإنها تتذكر العهود وتحن إلى الإلف المألوف ولا ترضى إلخ؛ لأن إذا للاستقبال، فالمرتب على فعلها المستقبل مستقبل
فلم ترض بافتراق الاسم بينهما (وهى) أى: هل (تخصص المضارع بالاستقبال) بحكم الوضع كالسين وسوف (فلا يصح: هل تضرب زيدا؟ )
…
===
(قوله: وحنت إلى الإلف المألوف) المراد بالإلف المألوف الفعل وحنت بالتخفيف بمعنى مالت، وعطفت من حنا يحنو حنوا، وبالتشديد بمعنى اشتاقت من حن يحن حنينا، والمألوف تأكيد لما قبله
(قوله: فلم ترض بافتراق الاسم بينهما) أى: لم ترض بتفريقه ولو بحسب الصورة الظاهرية، وذلك فيما إذا قدر الاسم فاعلا لفعل محذوف يفسره المذكور، وكان المناسب إبدال افتراق بتفريق، إذ لا يقال: افتراق زيد بين بكر وعمرو، وإنما يقال فرق بينهما أو افتراق منهما- تأمل.
(قوله: وهى) أى: هل المنقولة للاستفهام فلا ينافى صحة دخول هل التى بمعنى قد على الحال- قاله سم.
وقوله: تخصص المضارع بالاستقبال أى: تخلصه لذلك بعد أن كان محتملا له وللحال؛ وذلك لأنها لما كانت منقولة للاستفهام التزم فيها مقتضاه وهو تخليص الفعل المضارع للاستقبال؛ لأن حصول الأمر المستفهم عنه يجب أن يكون استقباليا، إذ لا يستفهم عن الواقع فى الحال حال شهوده إلا أن يكون على وجه آخر، ولم يذكر المصنف الجملة الاسمية والماضى، فظاهره بقاء كل منهما على أصله، وأنها لا تؤثر فى أحدهما شيئا
(قوله: بحكم الوضع) أى: لا بالقرائن بمعنى أن الوضع وضع هل لتخصيص المضارع بالاستقبال إذا دخلت عليه بعد أن كان محتملا له وللحال، واعلم أنها ليست من الحروف المغيرة لمعنى الفعل؛ لأنها فى الأصل بمعنى قد وهى لا تغيره فلا يرد ما قيل إنها لو كانت مخصصة بحسب الوضع لكانت مخصصة للماضى بالاستقبال، مع أنه ليس كذلك قال الله تعالى: فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا (1).
(قوله: فلا يصح إلخ) أى: فلأجل أنها تخصص المضارع بالاستقبال لا يصح أن تستعمل فيما يراد به الحال كما فى قولك: هل تضرب زيدا وهو أخوك، ووجه عدم
(1) الأعراف: 44.
فى أن يكون الضرب واقعا فى الحال على ما يفهم عرفا من قوله:
…
===
الصحة أن هل للاستقبال والفعل الواقع بعدها هنا حالى فقد تنافى الأمران والدليل على أن الفعل هنا حالى أن جملة وهو أخوك حالية مضمونها حاصل فى الحال ومضمون الحال قيد فى عاملها، فلما كان مضمون الحال وهو الأخوة ثابتا فى الحال وقيد الحال وهو الضرب بذلك كان العامل أيضا واقعا فى الحال، والحاصل أن مضمون الحال قيد للعامل، ثم إن كان مضمون الحال حاصلا فى حال التكلم كما فى هذا المثال لزم أن يكون مضمون العامل حاصلا فى تلك الحال أيضا لوجوب مقارنة المقيد لقيده فى الزمان وإن لم يكن مضمون الحال ثابتا فى حال التكلم كما فى قولك: جاء زيد راكبا لم يكن مضمون العامل حاصلا فى تلك الحال- كذا قرر شيخنا العدوى، وظهر لك منه أن المراد بعدم الصحة فى قول المصنف فلا يصح عدمها بحسب الاستعمال وإن أمكن عقلا، ولا يقال إن إطلاق عدم الصحة مشكل؛ لأن هل قد تكون بمعنى قد وقد لا تنافى الحالية؛ لأنا نقول كلامنا فى هل المنقولة للاستفهام لا فى هل مطلقا كما مر. اهـ يس.
(قوله: فى أن يكون) متعلق بقول محذوف أى: فلا يصح قولك هذا فى حالة كون الضرب واقعا فى الحال فأن فى كلام الشارح مصدرية، وهل يصح أن تقرأ بالمد وتكون بمعنى زمن أى: لا يصح قولك هذا فى زمن يكون الضرب واقعا إلخ، والظاهر عدم الصحة؛ لأن جملة يكون الضرب إلخ صفة لأن ولا عائد فيها
(قوله: على ما يفهم) أى: وهو هنا كذلك على ما يفهم عرفا من قوله وهو أخوك، فإن الشائع فى العرف أنه إذا قيل: زيد أخوك كان معناه أنه متصف بالأخوة فى الحال، وإنما قيد بالعرف؛ لأن معنى زيد أخوك بحسب الوضع أنه ثبت له الاتصاف بالأخوة ساعة ما ولو فى الماضى- كذا قرر شيخنا العدوى، والحاصل أن تقييد الضرب بالأخوة يفيد شيئين أحدهما الإنكار؛ لأن من أنكر المناكر ضرب الأخ صداقة أو نسبا والآخر حالية الضرب؛ لأن الأخوة حالية، إذ لا يراد استقبالها ولا مضيها؛ لأن الاستفهام الإنكارى لا يناسبه إلا الحال، إذ لا معنى لقولنا: أتضرب زيدا وهو سيكون لك أخا يعنى وهو عدو الآن؛ لأن
(وهو أخوك كما يصح أتضرب زيدا وهو أخوك؟ ) قصدا إلى إنكار الفعل الواقع فى الحال؛ بمعنى أنه لا ينبغى أن يكون ذلك لأن هل تخصص المضارع بالاستقبال فلا تصلح لإنكار الفعل الواقع فى الحال، بخلاف الهمزة فإنها تصلح لإنكار الفعل الواقع فى الحال لأنها ليست مخصصة للمضارع بالاستقبال،
…
===
ذلك تعسف، وإذا كانت الأخوة حالية وهى قيد فى الفعل أفادت إرادة الحال فى الفعل لوجوب مقارنة المقيد لقيده فى الزمان، وإذا كان المراد بالفعل الحال كان منافيا لمفاد هل مع المضارع وهو الاستقبال، وحينئذ فلا يصح أن يقال ما ذكر من المثال
(قوله: وهو أخوك) قيل المراد بالأخوة التآخى وهو الصداقة لا الأخوة الحقيقية، وإلا لكانت الجملة الاسمية حالا مؤكدة فلم يجز دخول الواو عليها كما تقرر فى النحو. انتهى.
قال العلامة عبد الحكيم: وهذا سهو ظاهر؛ لأن الحال المؤكدة ما كانت مؤكدة لمضمون جملة وهو لا يكون إلا اسما غير حدث كما نص عليه الرضى. اهـ.
أى: وحينئذ فالحال هنا غير مؤكدة سواء أريد بالأخوة الصداقة أو الأخوة الحقيقية.
(قوله: قصدا إلخ) أى: يقال كل من المثالين فى حالة القصد إلى إنكار الفعل أو تقولهما حالة كونك قاصدا إنكار الفعل الواقع فى الحال لا قاصدا الاستفهام عن وقوع الضرب، إذ لا معنى للاستفهام عن الضرب المقارن لكون المضروب أخا
(قوله: بمعنى إلخ) متعلق بإنكار أى: قاصدا إنكاره بهذا المعنى، وإنما قيد بذلك إشارة إلى أنه إنكار توبيخ وهو مستلزم لوقوع الفعل لا أنه إنكار تكذيب وإبطال مستلزم لعدم وقوع الفعل وإلا لورد عليه أن إنكار الفعل الواقع ونفيه باطل، وسيأتى إن شاء الله تعالى أن الإنكار يكون لهذين المعنيين
(قوله: لا ينبغى أن يكون ذلك) أى: أن يقع منك الضرب فالإنكار إنما تسلط على الانبغاء
(قوله: لأن هل إلخ) هذا تعليل لعدم الصحة فى المثال الأول فى كلام المصنف وللصحة فى المثال الثانى فيه، وهذا التعليل يشير إلى قياس من الشكل الأول حذفت كبراه ونظمه هكذا هل تخصص المضارع بالاستقبال وكل ما خصص الفعل المضارع بالاستقبال لا يصلح لإنكار الفعل الواقع فى الحال ينتج هل لا تصلح
وقولنا: فى أن يكون الضرب واقعا فى الحال ليعلم أن هذا الامتناع جار فى كل ما يوجد فيه قرينة تدل على أن المراد إنكار الفعل الواقع فى الحال؛ سواء عمل ذلك المضارع فى جملة حالية؛ كقولك: أتضرب زيدا وهو أخوك؟ أو لا كقوله تعالى:
أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (1)، وكقولك: أتؤذى أباك، وأتشتم الأمير؛ فلا يصح وقوع هل فى هذه المواضع
…
===
لإنكار الفعل الواقع فى الحال وذلك لتنافى مقتضييهما، ويلزم من ذلك عدم صحة المثال المحتوى عليها إذا كان الفعل حاليا كما فى المثال الأول فقول الشارح فلا تصلح إلخ، إشارة للنتيجة والدعوى لازمة لها
(قوله: وقولنا) مبتدأ وقوله ليعلم خبره
(قوله: فى كل ما) أى فى كل تركيب يوجد فيه قرينة، بل فى كل ما أريد به الحال وإن لم يكن قرينة غاية الأمر أنا لا نطلع على البطلان بدون القرينة، إلا أنه فى نفسه غير صحيح لا يسوغ للمستعمل وكلام الشارح يوهم حصر الامتناع فى القرينة- ا. هـ سم.
(قوله: سواء عمل إلخ) الأوضح أن يقول سواء كانت القرينة لفظية كما إذا عمل المضارع فى جملة حالية كقولك: أتضرب زيدا وهو أخوك، فإن قولك: وهو أخوك قرينة على أن الفعل المنكر واقع فى الحال أو كانت حالية كقوله تعالى إلخ، فإن القرينة فى الأمثلة الثلاثة المذكورة حالية وهى التوبيخ؛ لأنه لا يكون إلا على فعل واقع فى الحال أو فى الماضى لا على المستقبل، وقد يقال يبعد كون الفعل واقعا فى الحال فى الأمثلة الثلاثة إذا القول وقع من المخاطبين المنكر عليهم فيما مضى قبل التكلم، وكذا الإيذاء إلا أن يقال: لما كان هذا الخطاب واقعا عقب القول والفعل من غير فصل كان كل منهما حاليا، أو أن كلا منهما حالى من حيث الإدامة عليه- كذا قرر شيخنا العدوى.
(قوله: أتقولون إلخ) الخطاب لليهود والنصارى ومن زعم أن الملائكة بنات الله
(قوله: فلا يصح وقوع هل فى هذه المواضع) أى: التى دلت فيها القرينة على إنكار الفعل
(1) الأعراف: 28.
ومن العجائب ما وقع لبعضهم فى شرح هذا الموضع من أن هذا الامتناع بسبب أن الفعل المستقبل لا يجوز تقييده بالحال، وإعماله فيها، ولعمرى إن هذه فرية ما فيها مرية؛ إذ لم ينقل عن أحد من النحاة امتناع مثل: سيجىء زيد راكبا، وسأضرب زيدا، وهو بين يدى الأمير؛ كيف وقد قال الله تعالى: سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (1)
…
===
الواقع فى الحال، وإنما لم يصح وقوع هل فيها؛ لأن هل للاستقبال المنافى لحصول الفعل الحالى
(قوله: ومن العجائب إلخ) اعلم أن السبب فى عدم صحة المثال على كلام شارحنا كون الفعل المضارع معناه واقعا فى الحال وهل لا تدخل عليه؛ لأنها إذا دخلت على مضارع خلصته للاستقبال فلو دخلت على الحاصل فى الحال لحصل التنافى والسبب فى الامتناع على كلام ذلك البعض هو أن هل لما دخلت على الفعل المضارع صيّرته نصا فى الاستقبال، وحينئذ فلا يجوز تقييده بالحال وهو فى هذا المثال قد قيد بها.
(قوله: ما وقع لبعضهم) هو العلامة الشيرازى، وقوله فى شرح هذا الموضع أى:
من المفتاح
(قوله: لا يجوز تقييده إلخ) وذلك لعدم مقارنة الحال للاستقبال والقيد والمقيد يجب اقترانهما فى الزمان أى: وهو فى هذا المثال قد قيد بها وعمل فيها، وقوله وإعماله فيها: عطف لازم على ملزوم
(قوله: ولعمرى إلخ) أى: ولحياتى إن مقالة هذا البعض كذبة من غير شك، فالفرية الكذب والمرية الشك وفى تسميته ذلك فرية تسمح؛ لأن الافتراء تعمد الكذب وهو غير موجود هنا
(قوله: سيجىء زيد إلخ) أى: فالمجىء مستقبل بدليل السين وقد قيد بالحال المنفردة، وكذلك قوله بعد سأضرب زيدا فإنه مستقبل بدليل السين وقيد بالحال التى هى جملة اسمية لنكتة، والنكتة فى تعداد الأمثلة الإشارة إلى أنه لا فرق بين أن تكون الحال التى قيد بها الفعل المستقبل مفردة أو جملة
(قوله: كيف وقد قال إلخ) أى: كيف تصح مقالة هذا البعض والحال أن الله تعالى قال: سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أى: صاغرين، فإن الدخول استقبالى بدليل السين، وقد قيد بالحال
(1) غافر: 60.
و (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ. مُهْطِعِينَ (1).
وفى الحماسة:
سأغسل عنّى العار بالسّيف جالبا
…
علىّ قضاء الله ما كان جالبا
===
وهى قوله داخرين قيل فى تمثيل الشارح بهذه الآية وما بعدها تعريض بذلك البعض، وهذا خلاف الظن بالشارح مع مثل هذا الإمام
(قوله: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ إلخ) فالتأخير لذلك اليوم وهو يوم القيامة استقبالى، وقد قيد بالحال وهى قوله: مهطعين أى: مسرعين
(قوله: وفى الحماسة) هو ديوان لأبى تمام جمع فيه كلام العرب المتعلق بالحماسة أى: الشجاعة، والمراد بالغسل فى البيت الدفع من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، وبالسيف متعلق بأغسل وهو على تقدير مضاف أى: باستعمال السيف فى الأعداء وجالبا حال من فاعل أغسل وهو محل الاستشهاد؛ لأن عامل الحال فعل مستقبل بدليل اقترانه بالسين وعلى متعلق بجالبا وقضاء الله بالرفع فاعل جالبا الأول وما كان جالبا مفعوله والقضاء بمعنى الحكم، والمعنى: سأدفع عن نفسى العار باستعمال السيف فى الأعداء فى حال جلب حكم الله على الشىء الذى كان يجلبه من عداوة الأعداء وإنكارهم وأذيتهم وإذا دفع العار فى هذه الحالة فيكون دفعه فى غيرها بالأولى، فالمقصود المبالغة فى أنه لا يترك دفع العار فى حال من الأحوال، ويصح نصب القضاء على أنه مفعول لجالبا وفاعله ما كان جالبا، وعلى هذا فالمراد بالقضاء الموت المحتوم والقدر المقدور وإضافته لله لكونه بمعنى إماتة الله، والمعنى: سأدفع العار عن نفسى باستعمال السيف فى الأعداء فى حال جلب الموت الشىء الذى كان جالبه علىّ فهى حال سببية على الاحتمالين رافعة للظاهر، والضمير العائد على ذى الحال منها هو ضمير على المتعلقة بجالبا الثانى على الاحتمال الثانى؛ لأنه من متعلقات السببى وبجالبا الأول على الاحتمال الأول، والضمير فى ما كان على هذا التقدير الثانى عائد على ما وهو اسم كان وجالبا خبرها، وأما على التقدير الأول، فالضمير فى كان عائد على القضاء وكان الواجب إبرازه لجريانه على غير من هو له، والعائد على الموصول أو الموصوف محذوف، وبعد البيت المذكور:
(1) إبراهيم: 42 - 43.
وأمثال هذه أكثر من أن تحصى، وأعجب من هذا أنه لما سمع قول النحاة أنه يجب تجريد صدر الجملة الحالية
…
===
وأذهل عن دارى وأجعل هدمها
…
لعرضى من باقى المذمّة حاجبا
ويصغر فى عينى تلادى إذا انثنت
…
يمينى بإدراك الذى كنت طالبا (1)
بريد أنى أترك دارى وأجعل خرابها وقاية لعرضى ويخف على قلبى تركها خوفا من لحوق العار ويقل فى عينى إنفاق تلادى أى: مالى القديم عند انصراف يمينى حائزة للمطلوب
(قوله: وأمثال هذه) أى: ونظائر هذه الأمثلة والشواهد أكثر من أن تحصى أى: أكثر من ذى أن تحصى أى: أكثر مما يمكن أن يحصى هذا هو المراد إلا أنه تسومح فى العبارة اعتمادا على ظهور المراد، وبهذا اندفع ما يقال: إن ما بعد من وهو الإحصاء أى: الضبط بالعد لا يصلح أن يكون مفضلا عليه، إذ ليس مشاركا لما قبله فى أصل الكثرة فلا صحة للتعبير باسم التفضيل
(قوله: وأعجب من هذا) إنما كان أعجب؛ لأنه دليل فاسد يظهر مما جعله دليلا على دعواه أعنى: قول النحاة؛ لأن ذلك فى الجملة الحالية لا فى عاملها وقوله: أنه أى: ذلك البعض، وهذا الذى قاله هنا مخالف لما فى المطول، فإنه يقتضى أن ذلك السامع المستدل بكلام النحاة بعض آخر غير الأول، وكذا كلام العلامة اليعقوبى.
(قوله: لما سمع قول النحاة إلخ) اعلم أن النحاة اشترطوا فى الجملة الحالية أن تكون غير مصدرة بعلم استقبال؛ لأن الغرض من الحال تخصيص وقوع مضمون عاملها بوقت حصول مضمون الحال، وذلك ينافى الاستقبال، واعترض عليهم بأن الحال بالمعنى الذى نحن بصدده بجامع كلا من الأزمنة الثلاثة ولا مناسبة بين الحال المذكورة وبين الزمان الحاضر المقابل للاستقبال إلا فى إطلاق لفظ الحال على كل منهما اشتراكا لفظيا، وذلك لا يقتضى امتناع تصدير الحال بعلم الاستقبال، وأجيب بأن الأفعال إذا وقعت قيودا لما له اختصاص بأحد الأزمنة فهم منها استقباليتها وحاليتها وماضويتها بالنظر
(1) البيتان من الطويل، وهما لسعد بن ناشب فى تلخيص الشواهد ص 163، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 69، وخزانة الأدب 8/ 141، 142، والشعر والشعراء ص 700.
عن علم الاستقبال لتنافى الحال والاستقبال بحسب الظاهر على ما سنذكره حتى لا يجوز: يأتينى زيد سيركب، أو لن يركب فهم منه أنه يجب تجريد الفعل العامل فى الحال عن علامة الاستقبال حتى لا يصح تقييد مثل: هل يضرب، وسيضرب، ولن تضرب بالحال، وأورد هذا المقال دليلا على ما ادعاه،
…
===
لذلك القيد لا بالنظر لزمن التكلم كما فى معانيها الحقيقية، وحينئذ يظهر صحة كلامهم من اشتراط التجريد من علامة الاستقبال، إذ لو صدرت بها لفهم كونها مستقبلة بالنظر إلى عاملها- أ. هـ تصريح.
(قوله: عن علم) أى: علامة الاستقبال كالسين وسوف ولن وهل
(قوله: بحسب الظاهر) أى: وإن لم يكن هناك تناف بحسب نفس الأمر، إذ الكلام فى الحال النحوية وهى لا تنافى الاستقبال، بل يكون زمنها ماضيا وحالا ومستقبلا؛ لأن الواجب إنما هو مقارنتها لعاملها فزمنها زمن عاملها أيا كان والمنافى له إنما هو الحال الزمانية المقابلة للماضى والمستقبل
(قوله: على ما سنذكره) أى: فى بحث الحال فى أواخر باب الفصل والوصل فى التذنيب
(قوله: حتى لا يجوز) تفريع على قوله يجب تجريد أو على التنافى
(قوله: فهم منه إلخ) جواب لما وهذا الذى فهمه من كلامهم غير ما قالوه، فالذى ادعاه النحاة وجوب تجريد الحال من علامة الاستقبال، والذى فهمه وجوب تجريد الفعل العامل فى الحال من علامة الاستقبال لا نفس الحال كما هو الواقع فى كلام النحاة وبين الأمرين بون بعيد، ولعل منشأ فهمه- كما فى عبد الحكيم: أنه فهم من الجملة الحالية الواقعة فى قول النحاة الجملة التى وقعت الحال قيدا لها، مع أن مرادهم بالجملة الحالية التى وقعت حالا
(قوله: حتى لا يصح إلخ) غاية لوجوب تجريد الفعل العامل فى الحال من علم الاستقبال لامتناع عمل المستقبل فى الحال
(قوله: مثل هل يضرب) أى: فلا يقال هل يضرب زيد وهو راكب مثلا ولا سيضرب زيد وهو راكب، ولا لن يضرب زيد وهو راكب.
(قوله: وأورد هذا المقال) أى: لكلام النحاة وهو أنه يجب تجريد صدر الجملة الحالية عن علم الاستقبال لتنافى الحال، والاستقبال فى الظاهر، وقوله دليلا على ما ادعاه
ولم ينظر فى صدر هذا المقال حتى يعرف أنه لبيان امتناع تصدير الجملة الحالية بعلم الاستقبال (ولاختصاص التصديق بها) أى: لكون هل مقصورة على طلب التصديق، وعدم مجيئها لغير التصديق كما ذكر فيما سبق (وتخصيصها المضارع بالاستقبال كان لها
…
===
أى: من وجوب تجريد عامل الحال من علم الاستقبال وفى بعض النسخ وأورد هذا المثال بالثاء المثلثة أى: يأتينى زيد سيركب أو لن يركب، فالمراد بالمثال جنسه أى: أنه ادعى وجوب تجريد عامل الحال من علم الاستقبال، واستدل على ذلك بمنع يأتينى زيد سيركب أو لن يركب
(قوله: ولم ينظر فى صدر هذا المقال) أى: وهو قولهم يجب تجريد صدر الجملة الحالية إلخ، فلو تأمل أدنى تأمل فيما قالوه لوجد أن الذى يجرد صدره هو الجملة الحالية لا عامل الحال- فسبحان من لا يسهو- وفى نسخة ولم ينظر فى صدر هذا المثال بالثاء المثلثة يعنى يأتينى زيد سيركب أى: فلو نظر فى صدره لعرف أنه ليس فى صدره علم استقبال، وإنما هو فى آخره فى الجملة الحالية
(قوله: أنه لبيان امتناع إلخ) أى: لا لبيان امتناع تصدير العامل فى الحال بعلم الاستقبال
(قوله: ولاختصاص التصديق بها إلخ) علة مقدمة على المعلول أعنى: قوله كان لها مزيدا إلخ أى: وكان لها مزيد اختصاص بما زمانيته أظهر لأجل اختصاص التصديق بها ولأجل تخصيصها المضارع بالاستقبال وقدم العلة اهتماما بها أو لأجل أن يكون اسم الإشارة فى قوله: بعد ولهذا كان إلخ عائدا على أقرب مذكور
(قوله: أى لكون هل إلخ) أشار الشارح بذلك إلى أن الباء فى كلام المصنف داخلة على المقصور وأن فى الكلام حذف مضاف، والأصل ولاختصاص طلب التصديق بها أى: ولكونها مقصورة على طلب التصديق لا تتعداه لطلب التصور وليست الباء داخلة على المقصور عليه، إذ التصديق يتعداها للهمزة، فالباء هنا بمنزلتها فى قولك: نخص ربنا بالعبادة بمعنى أن عبادتنا مقصورة عليه تعالى، لا أنه تعالى لا يكون له غيرها وهذا بخلاف الباء فى قوله: بعد، وتخصيصها المضارع بالاستقبال فإنها داخلة على المقصور عليه، فقد جمع المصنف فى العبارتين استعمالى التخصيص
(قوله: وعدم إلخ) هو بالجر عطف على طلب التصديق
(قوله: كما ذكر فيما سبق)
مزيد اختصاص بما كونه زمانيا أظهر) وما موصولة، وكونه مبتدأ خبره أظهر، وزمانيا خبر الكون؛ أى: بالشىء الذى زمانيته أظهر (كالفعل) فإن الزمان جزء من مفهومه، بخلاف الاسم فإنه إنما يدل عليه حيث يدل بعروضه له؛
…
===
أى: فى قوله وهل لطلب التصديق فحسب
(قوله: مزيد اختصاص) أى: اختصاص زائد، وإنما قال مزيد؛ لأن للاستفهام مطلقا نوع اختصاص بالفعل كما هو معروف فى علم النحو، والمراد بالاختصاص الارتباط والتعلق لا الحصر؛ لأنه لا يقبل التفاوت أى:
أن تعلقها بالفعل ودخولها عليه أزيد وأكثر من دخولها على الاسم، أو المراد به الاستدعاء أى: أن استدعاءها الفعل أزيد وأشد من استدعاء غيرها له
(قوله: بما كونه زمانيا) أى: بموالاة ما كونه زمانيا ففيه حذف مضاف
(قوله: أظهر) أى زمانية غيره كالاسم.
(قوله: كالفعل) أى: النحوى والإتيان بالكاف يقتضى أن ما زمانيته أظهر من غيره يشمل الفعل وغيره، وليس الأمر كذلك، إذ ما زمانيته أظهر من غيره قاصر على الفعل وكان الأولى أن يقول: وهو الفعل ويحذف الكاف، إلا أن تجعل الكاف استقصائية، ولم يعبر بالفعل من أول وهلة بأن يقول: كان لها مزيد اختصاص بالفعل إشارة إلى أن زيادة اختصاصها به من حيث أظهرية زمانه لا من جهة أخرى: كدلالته على الحدث مثلا، ويصح أن يكون تمثيله باعتبار الأفراد العقلية لما كونه زمانيا أظهر، فإن مفهومه أعم من الفعل وإن انحصر فى الخارج فيه لا باعتبار إدخالها لاسم الفعل بناء على أنه يدل على الحدث والزمان لا على لفظ الفعل كما قال النوبى؛ لأن هذا يتوقف على ثبوت دخول هل على اسم الفعل وأن لها مزيد اختصاص به دون بقية الجمل الاسمية ولم يثبت ذلك- فتأمل.
(قوله: فإن الزمان إلخ) علة لكون الفعل زمانيته أظهر من الاسم وقوله جزء من مفهومه أى: ودلالة الكل على جزئه أظهر من دلالة الشىء على لازمه
(قوله: حيث يدل) أى: إذا دل عليه بأن كان وصفا: كأنا ضارب الآن أو غدا
(قوله: بعروضه له) أى: بسبب عروض الزمان لذلك الاسم أى: لمدلوله من عروض اللازم للملزوم؛ وذلك
أما اقتضاء تخصيصها المضارع بالاستقبال لمزيد اختصاصها بالفعل فظاهر، وأما اقتضاء كونها لطلب التصديق فقط لذلك فلأن التصديق هو الحكم بالثبوت أو الانتفاء،
…
===
لأن اسم الفاعل موضوع لذات قام بها الحدث ومن لوازم الحدث زمان يقع فيه، فالحاصل أن الفعل من حيث هو فعل لا ينفك عن الزمان بحسب الوضع بخلاف الاسم، فإنه قد ينفك عنه من حيث هو اسم وهذا لا ينافى عروضه أى: لزومه لمدلوله إذا كان وصفا
(قوله: أما اقتضاء إلخ) مصدر مضاف إلى فاعله ومفعوله قوله لمزيد اختصاصها واللام للتقوية متعلقة باقتضاء؛ لأنها ليست زائدة محضة حتى لا تتعلق بشىء والمضارع مفعول تخصيصها، وقوله بالفعل لم يقل بنحو الفعل إشارة إلى أن الكاف فى قوله: كالفعل ليست بمعنى مثل، بل استقصائية
(قوله: فظاهر) وذلك لأن هل إذا كانت تخصص الفعل المضارع بزمان الاستقبال كان لها ارتباط وتعلق بالفعل؛ لأن الفعل المضارع نوع من مطلق الفعل وما كان له تعلق بالنوع كان له تعلق بالجنس؛ ولأنها إذا كانت تخصص المضارع بالاستقبال صار لها فيه تأثير وتأثيرها فى المضارع دليل على أن لها مزيد تعلق بجنس الفعل وإلا لما أثرت فى بعض أنواعه وبما ذكرناه اندفع ما يقال: إن غاية ما يفيده هذا التعليل الثانى الواقع فى المتن أن هل إذا دخلت على المضارع خصصته بالاستقبال ولا يلزم منه مزيد اختصاصها بالمضارع، ولا كون دخولها عليه أكثر من دخولها على الأسماء حتى يتم ما ذكره لجواز أن تدخل عليه قليلا وإذا دخلت عليه خصصته ونظير هذا أن قد تقرب الماضى من الحال ولا يلزم منه كون دخولها على الماضى أكثر من دخولها على المضارع، وحاصل الدفع أنها لما كانت تخصص المضارع بالاستقبال دون الاسم كان لها مزيد ارتباط بالفعل دون الاسم؛ لأن الفعل المضارع نوع من مطلق الفعل وما كان لازما للنوع: كان لازما للجنس، واعلم أن تفصيل الشارح للمقتضى يفيد أن اختصاصها بما زمانيته أظهر نشأ من كل واحد من الأمرين السابقين لا من مجموعهما
(قوله: لذلك) أى: لمزيد اختصاصها بالفعل وهو مفعول باقتضاء واللام للتقوية.
(قوله: هو الحكم بالثبوت أو الانتفاء) المراد بالحكم الإدراك، وأما الثبوت والانتفاء فيحتمل أن يراد بهما الوقوع واللاوقوع للنسبة الحكمية، فكأنه قال فلان
والنفى والإثبات إنما يتوجهان إلى المعانى والأحداث التى هى مدلولات الأفعال، لا إلى الذوات التى هى مدلولات الأسماء (ولهذا) أى: ولأن لهل
…
===
التصديق وإدراك وقوع الثبوت أو إدراك عدم وقوع الثبوت، والأول فى القضية الموجبة، والثانى فى السالبة، وهذا مبنى على أن النسبة فى القضيتين واحدة وهى الثبوت ويحتمل أن يكون مراده بالثبوت والانتفاء نفس النسبة الحكمية، فكأنه قال فلان التصديق هو إدراك النسبة الحكمية أعنى: الثبوت والانتفاء أى: إدراك مطابقتها أو عدم مطابقتها وهذا مبنى على أن النسبة فى القضية السالبة سلبية
(قوله: والنفى والإثبات إلخ) فيه أن النفى والإثبات هو الحكم الذى هو إدراك وقوع الثبوت فى القضية الموجبة وإدراك وقوع الانتفاء فى القضية السالبة، والحكم لا يتوجه للمعانى والأحداث، وإنما المتوجه إليهما النسب وهى الانتفاء والثبوت، فكان الأولى أن يقول: والانتفاء والثبوت إنما يتوجهان إلخ، وأجيب بأن مراد الشارح بالنفى والإثبات: الانتفاء والثبوت، ومحصل كلامه أن التصديق الذى اختصت به هل متعلق بالأفعال بواسطة أن متعلقه وهو الثبوت والانتفاء يتوجهان للمعانى والأحداث التى هى مدلولات للأفعال، فلذا كان تعلقها بالفعل أشد- كذا قرر شيخنا العدوى
(قوله: والأحداث) عطفها على المعانى عطف تفسير، والمراد بها ما يشمل الصفات القائمة بالغير
(قوله: التى هى مدلولات الأفعال) فى هذا التوجيه نظر؛ لأنه يقتضى أنه لا يجوز دخول هل على الجملة الاسمية لعدم دلالتها على المعانى والأحداث، والمدعى أن لها زيادة تعلق بالفعل لا أنها مختصة به، وأجيب بأن تلك المعانى والأحداث والمدعى أن لها زيادة تعلق بالفعل لا أنها مختصة به، وأجيب بأن تلك المعانى والأحداث كما هى مدلولات الأفعال مدلولات أيضا للأسماء المشتقة، لكنها مدلولات للأفعال بطريق الأصالة ومدلولات للمشتقات بطريق التبعية، فلذا كان لها مزيد تعلق بالأفعال، فقول الشارح التى هى مدلولات الأفعال أى: بطريق الأصالة، وأما فى الأسماء المشتقة فبطريق العروض والتبع
(قوله: لا إلى الذوات) أى: الأمور القائمة بنفسها؛ لأنها مستمرة ثابتة نسبتها فى جميع الأزمنة على السواء؛ لأن الذوات ذوات فى الماضى والحال والاستقبال، وأورد على الشارح أن هذا التوجيه إنما ينتج زيادة تعلق هل بالفعل وأوليتها
مزيد اختصاص بالفعل (كان: فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (1) أدل على طلب الشكر من: فهل تشكرون، وفهل أنتم تشكرون) مع أنه مؤكد بالتكرير؛ لأن أَنْتُمْ فاعل لفعل محذوف
…
===
بالنسبة للاسم المفرد لا بالنسبة للجملة الاسمية؛ لأنها متضمنة أيضا للنسبة التى تتوجه للمعانى والأحداث، وأجيب بأن صاحب النسبة فى الاسمية المحمول، وقد فصل بين هل وبينه بالموضوع فصارت الجملة المذكورة ليست أولى بهل لما يلزم من دخولها عليها الفصل بينها وبين مطلوبها بخلاف الفعل إذا دخلت عليه هل فلا يلزم عليه فصل بينها وبين مطلوبها، فلذا كان أولى بها على أن النسب فى الجمل المذكورة مدلولات للروابط.
(قوله: مزيدا اختصاص بالفعل) أى: بحيث إذا عدل بها عن موالاتها الفعل كان للاعتناء بالمعدول إليه.
(قوله: كان فهل أنتم شاكرون) أى: الذى عدل فيه عن الفعل إلى الجملة الاسمية (قول: أدل) خبر كان وقوله على طلب الشكر أى: على طلب حصوله فى الخارج؛ لأنه المراد دون الاستفهام لامتناعه من علام الغيوب- كذا قال العلامة السيد، وتبعه عليه غيره وهو يفيد أن المقصود بالاستفهام هنا طلب حصول الفعل، وأن المعنى المراد حصلوا الشكر وهذا معنى آخر غير ما تقدم لهل فى أنها لطلب التصديق، والمذكور هنا معنى مجازى لها مرسل علاقته الإطلاق والتقييد- كذا قرر شيخنا العدوى.
(قوله: من فهل تشكرون) الحاصل أن الصور ست؛ لأن الاستفهام إما بهل أو بالهمزة وكل منهما إما داخل على جملة فعلية أو اسمية خبرها فعل أو اسم، وفهل أنتم شاكرون أدل على طلب الشكر من الخمسة الباقية بعدها لما ذكره المصنف، وجعل هل داخلة على جملة اسمية خبرها فعل نظرا للصورة.
(قوله: مع أنه مؤكد إلخ) الضمير للمثال الثانى وهو فهل أنتم تشكرون
(قوله: لفعل محذوف) أى: فالأصل هل تشكرون تشكرون فحذف الفعل الأول، فانفصل الضمير وإنما كان أنتم فاعلا لمحذوف كما قال لما تقدم من أن هل إذا رأت الفعل فى
(1) الأنبياء: 80.
(لأن إبراز ما سيتجدد فى معرض الثابت أدل على كمال العناية بحصوله) من إبقائه على أصله،
…
===
حيزها لا ترضى إلا بمعانقته وما ذكره من أن أنتم فاعل بمحذوف مبنى على الأصح ويجوز أن يكون فاعلا معنى، ثم قدم على مذهب السكاكى
(قوله: لأن إبراز إلخ) هذا علة للعلية أو للمعلل مع علته، والمراد بالإبراز الإظهار
(قوله: ما سيتجدد) أى: ما يتقيد وجوده بزمن الاستقبال الذى هو مضمون الفعل المضارع الواقع بعد هل كالشكر؛ لأنها تخصص المضارع بالاستقبال
(قوله: فى معرض الثابت) أى: فى صورة الأمر الثابت فى الحال الغير المقيد بالزمان
(قوله: أدل) أى: أقوى دلالة على كمال العناية أى: الاعتناء وقوله بحصوله أى: بحصول ما سيتجدد وقوله من إبقائه أى: من إبقاء ما سيتجدد، وقوله على أصله أى: الذى هو إبراز فى صورة المتجدد وهى الجملة الفعلية والاسمية التى خبرها فعل ووجه كون إبرازه ما سيتجدد فى معرض الثابت يدل على كمال العناية بما سيتجدد أن إبراز ما كان وجوده مقيدا بالاستقبال فى صورة الثابت الغير المقيد بزمان يدل على طلب حصول غير مقيد بزمان من الأزمنة، ولا شك أن المنبئ عن طلب حصول مطلق أقوى دلالة مما ينبئ عن طلب حصول مقيد بزمن، ثم إن هذا الكلام لطلب أصل الشكر لكون المقام مقتضيا لذلك كما يدل عليه قول المصنف أدل على طلب الشكر لا لطلب استمرار الشكر، فلا يرد ما قيل إن الاستمرار التجددى المستفاد من هل أنتم تشكرون أمس بالمقام من الاستمرار الثبوتى المستفاد من فهل أنتم شاكرون لدلالته على طلب استمرار الشكر على سبيل التجدد الأشق على النفس المستدعى لزيادة الثواب، وحينئذ فلا يتم ما ادعاه المصنف من أن فهل أنتم شاكرون أدل على طلب الشكر من فهل أنتم تشكرون- أفاد ذلك العلامة عبد الحكيم- فإن قلت: سلمنا أن هل فى هل أنتم تشكرون داخلة على الفعل تقديرا، لكنه لما كان فى قالب الجملة الاسمية وجد فيه إبراز ما سيتجدد فى معرض الثابت صورة وهم يعتبرونها فى استخراج النكات، فكيف يكون هل أنتم شاكرون أدل عليه من فهل أنتم تشكرون مع أنه مساو له قلت: إن هل أنتم تشكرون لا يفيد الثبوت صورة أيضا لما تقدم للشارح فى بحث
كما فى: هل تشكرون، وفهل أنتم تشكرون؛ لأن هل فى هل تشكرون وهل أنتم تشكرون على أصلها لكونها داخلة على الفعل؛ تحقيقا فى الأول، وتقديرا فى الثانى (و) فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أدل على طلب الشكر (من: أفأنتم شاكرون) أيضا (وإن كان الثبوت باعتبار) كون الجملة اسمية (لأن هل أدعى للفعل من الهمزة فتركه معها) أى: ترك الفعل مع هل (أدل على ذلك) أى: على كمال العناية بحصول ما سيتجدد (ولهذا) أى: ولأن هل أدعى للفعل من الهمزة (لا يحسن: هل زيد منطلق إلا من البليغ)
…
===
المسند فى قوله تعالى: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي (1) من أن الجملة الاسمية إذا كان الخبر فيها جملة فعلية كانت مفيدة لاستمرار التجدد فقط ولا تفيد الثبوت، سلمنا أن فهل أنتم تشكرون يفيد الثبوت صورة، لكن ما يفيد ذلك بحسب الصورة والحقيقة معا أدل مما يفيد ذلك بحسب الصورة فقط
(قوله: كما فى هل تشكرون) أى:
كالإبقاء فى هل تشكرون
(قوله: لأن هل إلخ) علة لكون المثالين المذكورين فيهما إبقاء ما سيتجدد على أصله
(قوله: لكونها داخلة على الفعل) أى: فليس معها إبراز المتجدد فى صورة الثابت
(قوله: وتقديرا فى الثانى) أى: لأن أنتم فاعل بفعل محذوف يفسره الظاهر المذكور بعد
(قوله: من أفأنتم شاكرون) أى: وكذا هو أدل من أفأنتم تشكرون ومن أفتشكرون
(قوله: وإن كان) أى: هذا القول وهو أفأنتم شاكرون
(قوله: لأن هل) علة لكون هل أنتم شاكرون أدل على طلب الشكر من القول الذى فيه الاستفهام بالهمزة
(قوله: أدعى للفعل) أى: أطلب له أى أقوى طلبا له
(قوله: أدل على ذلك) أى:
بخلاف الترك مع الهمزة، وذلك لأن الفعل لازم بعد هل بخلافه بعد الهمزة، وترك اللازم لا يكون إلا لنكتة كشدة الاعتناء والاهتمام وشدة الطلب بخلاف ترك غير اللازم.
(قوله: أى ولأن هل ادعى للفعل) أى: بحيث لا يعدل عنه معها إلا لشدة الاهتمام والاعتناء بمفاد المعدول إليه
(قوله: هل زيد منطلق) أى: دون أن يقال هل ينطلق زيد
(قوله: إلا من البليغ) أى: لا من غيره ولو راعى ما ذكر؛ لأنه إذا اتفق
(1) الإسراء: 100.
لأنه الذى يقصد به الدلالة على الثبوت وإبراز ما سيوجد فى معرض الموجود.
(وهى) أى: هل (قسمان: بسيطة؛ وهى التى يطلب بها وجود الشىء) أو لا وجوده (كقولنا: هل الحركة موجودة)
…
===
مراعاة ما ذكر فى وقت كان بمثابة الأمور الاتفاقية الحاصلة بلا قصد
(قوله: لأنه الذى يقصد إلخ) أى: لأنه الذى شأنه مراعاة الاعتبارات وإفادة اللطائف بالعبارات، فإذا صدر منه مثلا: هل زيد منطلق، فإنه يقصد به الدلالة على الثبوت والاستمرار، وقوله:
وإبراز عطف على الدلالة أى: ويقصد به إبراز ما سيوجد فى معرض الموجود المناسبين للجملة الاسمية، وحاصله أنه إذا صدر هذا القول من البليغ كان المنظور إليه معنى لطيفا وهو الاستفهام عن استمرار انطلاق زيد، وكان الكلام مخرجا على خلاف مقتضى الظاهر، وهذا من فن البلاغة لإحاطة علمه بما تقتضيه هل من الفعل بخلاف ما إذا صدر من غير البليغ؛ لأن استعمال اللفظ فى غير موضعه إنما يكون عن جهل لا عن نظر إلى معنى لطيف فيكون هذا القول منه قبيحا، وعلى فرض أن يقصد نكتة فلا اعتداد بقصده لانتفاء بلاغته
(قوله: بسيطة) يطلق البسيط على ما لا جزء له كالجوهر الفرد وعلى ما يكون أقل أجزاء بالنسبة لغيره المقابل له والبساطة بهذا المعنى أمر نسبى، وهذا المعنى هو المراد هنا، وبساطة هل وتركيبها بالنظر لما تدخل عليه كالحركة فى البسيطة والحركة والدوام فى المركبة، وسيأتى إيضاح ذلك.
(قوله: وهى التى يطلب بها وجود الشىء) أى: التى يطلب بها التصديق بوقوع وجود الشىء ليوافق ما مر من أن هل لطلب التصديق أى: بحيث يكون الوجود محمولا على مدخولها كما فى: هل زيد موجود، وهل النار موجودة، أى: هل زيد ثبت له الوجود فى الخارج، وهل النار ثبت لها الوجود والتحقق فى الخارج، فقد ظهر لك أن المطلوب بها التصديق بوقوع النسبة التى بين الموضوع ووجوده أو بعدم وقوعها، وأن المراد بالشىء فى كلام المصنف الموضوع، وبالوجود الواقع محمولا الوجود الخارجى وهو التحقق فى الخارج لا الوجود بمعنى النسبة.
(قوله: هل الحركة موجودة) يقال هذا بعد معرفة الحركة المطلقة وهى خروج الجسم من حيز إلى حيز وقوله موجودة أى: ثابتة فى الخارج ومتحققة فيه، وقوله أو
أولا موجودة (ومركبة؛ وهى التى يطلب بها وجود شىء لشىء) أو لا وجوده (كقولنا: هل الحركة دائمة) أو لا دائمة، فإن المطلوب وجود الدوام للحركة، أو لا وجوده لها،
…
===
لا موجودة أى: أو ليست ثابتة فى الخارج، بل هى أمر اعتبارى وهمى
(قوله: أو لا موجودة) فيه أن هذا ينافى ما تقرر بينهم من أن هل لا تدخل على منفى، وإن كانت لطلب التصديق مطلقا إيجابيا أو سلبيا على ما مر، وأجيب بأنه ليس مراد الشارح أنه يفرد هذا السلب بالسؤال بأن يقال هل الحركة لا موجودة، بل قصده بيان أن ذلك السؤال إذا وقع على وجه الإيجاب كان المراد منه طلب بيان أحد الأمرين إما الإيجاب أو السلب، وبعض الأفاضل حمل النفى فى قولهم: هل لا تدخل على نفى على النفى البسيط، وقولنا هل الحركة لا موجودة معدولة، وبعضهم قال: إنها لا تدخل إلا على موجب والسلب فى قولنا: هل الحركة موجودة أو غير موجودة معطوف على هل الحركة موجودة، فصدق أنها لم تدخل إلا على موجب؛ لأنه يعم ما عطف عليه سلب. اهـ يس.
(قوله: يطلب بها وجود شىء لشىء) المراد بالوجود هنا الثبوت الذى هو النسبة بخلافه فى الأولى، فإن المراد به التحقق فى الخارج، والمراد وجود شىء غير الوجود فخرجت البسيطة والقرينة على ذلك المقابلة، وإلا فالمطلوب بالبسيطة أيضا وجود شىء هو الوجود لشىء كالحركة
(قوله: فإن المطلوب وجود الدوام للحركة) أى: ثبوته لها فطهر مما قلناه أن الوجود نوعان أحدهما رابطى وهو النسبة بين المحمول والموضوع، وهذا ثابت فى كل قضية، وهذا هو المراد فى المركبة وغير رابطى وهو ما يكون مطلوبا لنفسه لا للربط، كما فى قولنا فى البسيطة: هل الحركة موجودة، فإن الوجود فيه مطلوب لنفسه، والحاصل أن المركبة وإن شاركت البسيطة فى أنه يطلب بها وجود الشىء كوجود الدوام للحركة فى المثال إلا أنها تخالفها من جهة أن البسيطة يطلب بها وجود نفس الموضوع، والمركبة يطلب بها وجود المحمول، وأيضا الوجود فى البسيطة مقصود فى ذاته؛ لأنه مثبت للموضوع والوجود فى المركبة ليس مقصودا فى ذاته؛
وقد اعتبر فى هذه شيئان غير الوجود، وفى الأولى شىء واحد؛ فكانت مركبة بالنسبة إلى الأولى، وهى بسيطة بالنسبة إليها
…
===
لأنه رابطة بين المحمول والموضوع، وبهذا كله اندفع ما أورد على قول المصنف فى تعريف البسيطة وهى التى يطلب بها وجود الشىء من أن المركبة كذلك، وحينئذ فالتعريف غير مانع ومحصل الجواب التفرقة بين الوجودين المطلوبين بهما
(قوله: وقد اعتبر فى هذه) أى: المركبة شيئان حيث استفهم بها عن الثبوت الحاصل بين شيئين هما الموضوع والمحمول كالحركة والدوام وقوله غير الوجود أى: المضاف للمحمول وهو النسبة وقوله فى الأولى أى: البسيطة شىء واحد هو الموضوع كالحركة؛ وذلك لأنها استفهم بها عن الثبوت الحاصل بين الشىء ووجوده وهما كالشىء الواحد؛ لأن الوجود عين الموجود على ما فيه فهذه قد استفهم بها عن ثبوت بسيط والثانية عن ثبوت مركب، والحاصل أن كلا من البسيطة والمركبة داخل على جملة مشتملة على ثلاثة أجزاء الموضوع والمحمول كدوامه فى الثانية، ووجوده فى الأولى ونسبة وهى وجود المحمول للموضوع أى: ثبوته له كثبوت الدوام للحركة فى مثال المركبة وثبوت الوجود أى: التحقق فى الخارج للحركة فى مثال البسيطة، ولما كان المحمول غير الموضوع فى المركبة كان الثبوت المستفهم عنه بها الرابط بينهما مركبا، ولما كان الوجود الواقع محمولا عين الوجود الواقع موضوعا فى مثال البسيطة صار الثبوت المستفهم عنه بها الرابط بينهما بسيطا، فإن قلت حيث كانت الجملة التى تدخل عليها البسيطة لا بد فيها من نسبة هى ثبوت المحمول للموضوع كان على الشارح أن يقول وقد اعتبر فى الأولى شىء واحد غير الوجودى أى: المضاف للمحمول كما قال فى المركبة قلت:
فى كلامه حذف من الثانى لدلالة الأول- كذا قرر شيخنا العدوى عليه سحائب الرحمة والرضوان-، وحاصله أنه إذا نظر لغير الوجود الواقع رابطة فى الأمرين كان المعتبر فى أولهما شيئا واحدا وهو الحركة، وفى ثانيهما شيئين هما الحركة ودوامها وإن اعتبر الوجود الواقع رابطة فى الأمرين كان المعتبر فى الأول شيئين، وفى الثانى ثلاثة وعلى كل حال، فالاعتبار فيه بساطة بالنسبة إلى الثانى بمعنى قلة المعتبر وكثرته
(والباقية) من ألفاظ الاستفهام تشترك فى أنها (لطلب التصور فقط) وتختلف من جهة أن المطلوب بكل منها تصور شىء آخر (قيل: فيطلب بما شرح الاسم؛ كقولنا: ما العنقاء؟ ) طالبا أن يشرح هذا الاسم
…
===
(قوله: والباقية من ألفاظ الاستفهام) أى: المذكورة سابقا وذلك الباقى تسعة وهو ما عد الهمزة وهل فإن حكمهما قد مر وبقولنا أى: المذكورة سابقا اندفع ما يقال أن من جملة بقية ألفاظ الاستفهام أم المنقطعة ولا تكون إلا لطلب التصديق فلا يتم قوله والباقية لطلب التصور فقط
(قوله: تصور شىء آخر) أى: تصور شىء مخالف للشىء المطلوب تصوره بأداة أخرى، وحاصله أن ما سوى هل والهمزة من ألفاظ الاستفهام اشتركت فى طلب التصور، واختلفت فى المتصورات ولا يقال: إن متى وأيان كل منهما لطلب تعيين الزمان وتصوره فقد اتحدا فى المتصور؛ لأنا نقول: إن أحدهما للزمان المطلق والآخر للمستقبل كما يأتى، وحينئذ فهما مختلفان فيه
(قوله: قيل إلخ) القصد بذلك مجرد العزو والنسبة للقائل لا التبرى من هذا القيل، فإنه كلام حق، ومقابل هذا القيل قول السكاكى الآتى
(قوله: فيطلب بما) أى: التى هى من ألفاظ الاستفهام السابقة
(قوله: شرح الاسم أو ماهية المسمى) أى: ويتعين المراد بالقرينة
(قوله: شرح الاسم) أى: الكشف عن معناه وبيان مفهومه الإجمالى الذى وضع له فى اللغة أو الاصطلاح فذلك المفهوم الموضوع له هو المطلوب شرحه وبيانه كما إذا سمعت لفظا ولم تفهم معناه، فإنك تقول ما هو طالبا أن يعين لك مدلوله اللغوى أو الاصطلاحى، وأراد بالاسم هنا ما قابل المسمى فيشمل الفعل والحرف، إذ شرح الاسم لا يختص بالاسم المقابل للفعل والحرف
(قوله: ما العنقاء إلخ) حكى الزمخشرى فى ربيع الأبرار ما حاصله أن العنقاء كانت طائرا وكان فيها من كل شىء من الألوان وكانت فى زمن أصحاب الرس تأتى إلى أطفالهم وصغارهم فتخطفهم وتغرب بهم نحو الجبل فتأكلهم فشكوا ذلك إلى نبيهم صالح- عليه السلام فدعا الله عليها فأهلكها وقطع عقبها ونسلها فسميت عنقاء مغرب لذلك
(قوله: طالبا أن يشرح إلخ) حال من نافى قوله كقولنا ما العنقاء، والمراد طالبا كل منا أو الضمير فى قوله كقولنا للمتكلم الواحد المعظم نفسه، فاندفع
ويبين مفهومه؛
…
===
الاعتراض بأن المناسب لقوله كقولنا أن يقال طالبين
(قوله: ويبين مفهومه) أى: مدلوله الإجمالى الذى لا يعرف منه الماهية وهذا هو المناسب لقول الشارح، فيجاب بإيراد لفظ أشهر وهذا عطف تفسير، والحاصل أن قول السائل ما العنقاء مثلا فى معنى قوله ما مدلول هذا اللفظ الموضوع له، واعلم أن ما المطلوب بها شرح الاسم على قسمين الأول أن يطلب بها بيان أن الاسم لأى معنى وضع ومآل هذا البيان إلى التصديق دون التصور؛ لأن مقصود السائل هو التصديق بأن اللفظ موضوع فى مقابلة أى: معنى سواء كان يعرف ذلك المعنى الذى هو موضوع بإزائه مجملا أو مفصلا وجوابه إيراد لفظ أشهر وهذا القسم بالمباحث اللغوية أنسب؛ لأنها لبيان مدلولات الألفاظ إجمالا؛ لأن أهل اللغة يعتنون بالمعرفة الإجمالية، كقول الجوهرى فى الصحاح: الخبب: ضرب من العدو، والكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير، والثانى أن يطلب بها تفصيل ما دل عليه الاسم إجمالا بأن يكون السائل عالما بمدلول الاسم إجمالا ويطلب تفصيله، وجواب هذا بالحد الاسمى ومآل هذا الجواب للتصور؛ لأن قصد السائل تصور مفهوم الاسم تفصيلا، وهذا القسم بالمباحث الحكمية أنسب؛ لأنها لبيان تفاصيل الحقائق الموجودة والمفهومات الإصلاحية، مثال الأول قول السائل: ما الغضنفر؟ حال كونه يعرف معنى الأسد من حيث هو بأنه نوع من الحيوان، أو حيوان مفترس، ولا يعرفه من حيث إنه مدلول لفظ الغضنفر، فقصد السائل أيعلم أن لفظه موضوع لأى معنى، فيجاب بإيراد لفظ أشهر وهو أسد، ومثال الثانى قول السائل ما العنقاء؟ والحال أنه يعرف مدلوله إجمالا بأنه نوع من الطير ومقصوده أن يعرفه مفصلا، فيجاب بالحد الاسمى بأن يقال طير صفته كذا وكذا، إذا علمت هذا فقول الشارح طالبا أن يشرح هذا الاسم ويبين مفهومه إن أراد بشرح الاسم وبيان مفهومه بيان المعنى الذى وضع له اللفظ كما هو المتبادر منه كان قوله فيجاب إلخ صحيحا، لكن ما حينئذ لطلب التصديق لا لطلب التصور كما هو الموضوع وإن أراد بشرح الاسم وبيان مفهومه تفصيل ما دل عليه الاسم إجمالا كان التمثيل صحيحا؛ لأن ما حينئذ لطلب التصور، ولكن قوله فيجاب
فيجاب بإيراد لفظ أشهر (أو ماهية المسمى) أى: حقيقته التى هو بها هو (كقولنا:
ما الحركة؟ )
…
===
إلخ فيه نظر؛ لأن الجواب حينئذ بالحد الاسمى وهو الرسم لا بإيراد اللفظ الأشهر الذى هو تعريف لفظى- تأمل.
(قوله: فيجاب بإيراد لفظ أشهر) أى: مرادف له أشهر منه عند السامع سواء كان من هذه اللغة التى سأل بها السائل أم لا- كذا فى سم وعمم يس فقال: أشهر منه سواء كان مرادفا له أم لا، كما يقال فى جواب ما العنقاء؟ طائر، وفى جواب ما العقار؟
خمر، وقوله بإيراد لفظ أى: مفرد كقولك فى جواب ما الإنسان بشر لمن لا يعرف مدلول الإنسان، سواء عرف مدل البشر إجمالا بأن عرف إنه نوع من الحيوان أو عرفه تفصيلا، ثم إن قوله: فيجاب بإيراد لفظ بيان لما حق الجواب أن يكون عليه أى: إن حق الجواب حينئذ أن يكون بإيراد لفظ مفرد أشهر عند السامع؛ وذلك لأن مفهوم الاسم أمر مجمل، فإذا أجيب بمركب دخل فى الجواب تفصيل ليس من المسئول عنه، فإذا لم يوجد مفرد أشهر عدل إلى لفظ مركب كقولنا فى جواب ما العنقاء؟ طائر عظيم تختطف الصبيان ولا يكون التفصيل المستفاد من التركيب مقصودا، فإذا حصل المفهوم سأل عن الماهية وذاتيات أفرادها فيؤتى بما يدل عليها
(قوله: أو ماهية المسمى) بالجر عطف على الاسم أى: أو شرح ماهية المسمى، وأراد المصنف بالمسمى المفهوم الإجمالى وبماهيته أجزاء ذلك المفهوم الإجمالى أعنى الماهية التفصيلية التى عرفت بالوجود حتى يكون الجواب المبين لها تعريفا حقيقيا فالإنسان مثلا مفهومه الإجمالى الذى هو مسماه نوع مخصوص من الحيوان، وماهية ذلك المسمى حيوان ناطق
(قوله: أى حقيقته إلخ) أشار بذلك إلى أنه ليس مراد المصنف بالماهية ما يقع جوابا لما هو؛ لأنه شامل لما يكون شرحا للاسم من المفهومات المعدومة، بل مراده الماهية الموجودة، وقوله التى هو أى:
المسمى وقوله بها أى: بالحقيقة أى: بسببها وقوله هو أى: نفسه مثلا مفهوم الإنسان الإجمالى وهو النوع المخصوص من الحيوان صار بسبب ماهيته وهى الحيوانية والناطقية إنسانا، فالمسمى ملاحظا إجمالا والحقيقة ملاحظة تفصيلا، فاختلف السبب والمسبب
أى: ما حقيقة مسمى هذا اللفظ؛ فيجاب بإيراد ذاتياته
…
===
باعتبار الإجمال والتفصيل، وأما اختلاف المبتدأ والخبر فبإطلاق المبتدأ وتقييد الخبر بالسبب، أو بملاحظة المبتدأ نوعا مخصوصا مع قطع النظر عن العنونة عنه بكذا، والخبر نوعا مخصوصا معنونا عنه بكذا، ووصف الشارح الحقيقة بالتى هو بها إشارة إلى أن المراد بالحقيقة الماهية الثابتة فى نفس الأمر التى بها تحققت أفراد الشىء بحيث لا يزاد فى الخارج عليها إلا العوارض، كأن يقال ما الإنسان؟ فيقال الحيوان الناطق، فأفراد الإنسان لا تزيد على هذه الحقيقة إلا بالعوارض ولم يرد المصنف بالماهية الماهية التفصيلية ولو لم يوجد لها فرد، والدليل على أن مراد المصنف بالماهية الحقيقية الثابتة فى نفس الأمر، لا مطلق ماهية تفصيلية ولو معدومة قوله وتقع هل البسيطة فى الترتيب بينهما؛ لأن الماهية الوجودية هى التى تقع هل بينها وبين شرح الاسم، وقوله كقولنا ما الحركة، ولا شك أنها موجودة الأفراد.
(قوله: أى ما حقيقة مسمى هذا اللفظ) مسماه نوع مخصوص من العرض، وحقيقة ذلك المسمى الذاتيات التى يجاب بها بأن يقال فى الجواب مثلا هى حصول الجرم حصولا أولا فى الحيز الثانى
(قوله: فيجاب بإيراد ذاتياته) من الجنس والفصل كأن يقال فى جواب ما الإنسان؟ حيوان ناطق بعد معرفة أن الإنسان شىء موجود فى نفسه، وإنما قيدوا بذلك لأجل أن يكون الجواب تعريفا حقيقيا، وإلا كان تعريفا اسميا وكانت ما هى التى يطلب بها شرح الاسم لا التى يطلب بها الماهية وربما تذكر الرسوم فى مقام الحدود توسعا أو اضطرارا كما فى شرح الإشارات، وحينئذ فقول الشارح فيجاب بالذاتيات أى: حق الجواب عن ما التى لطلب شرح الماهية أن يكون كذلك، ولذلك لما سأل فرعون موسى عن حقيقة الله بقوله: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (1) أجابه موسى بذكر بعض خواصه وصفاته تعالى حيث قال رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (2) تنبيها على أن حقيقته تعالى لا تعلم إلا بذكر الفصول المقومة لها ولا مقوم لها، إذ لا تركيب فيه سبحانه وتعالى ولما لم يتنبه فرعون لذلك، بل عد جوابه غير مطابق
(1) الشعراء: 23.
(2)
الشعراء: 24.
(وتقع هل البسيطة فى الترتيب بينهما) أى: بين ما التى لشرح الاسم، والتى لطلب الماهية؛
…
===
قال لمن حوله ألا تستمعون؟ يعنى أنا سألته عن حقيقته، فأجابنى بصفاته فلم يتعرض موسى عليه السلام لخطابه هذا، بل ذكر صفات أبين حيث قال رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (1) لعله ينتبه فلم ينتبه فنسب فرعون- لعنة الله عليه موسى- عليه السلام إلى الجنون وقال على وجه الاستهزاء إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (2) فذكر موسى- عليه السلام ثالثا صفات أبين بقوله رب المشرق والمغرب وما بينهما، وقال عقبه إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ* فأشار إلى أن السؤال عن حقيقة الرب ليس من دأب العقلاء. اه كلامهم.
قال الشيخ يس: وهل يؤخذ من كلامهم هذا أن كل بسيط لا يسأل عن حقيقته- اه والظاهر أنه كذلك.
(قوله: وتقع هل البسيطة) أى: وهى التى يطلب بها نفس وجود الشىء أى:
ويقع السؤال بهل البسيطة بين السؤال بما التى لشرح الاسم وبين التى لطلب الماهية
(قوله: فى الترتيب) أى: فى حال الترتيب أى: ترتيب الطلب
(قوله: أى بين ما التى لشرح الاسم والتى لطلب الماهية) أى: لطلب شرحها وبيانها لما علمت أن قول المصنف أو ماهية المسمى عطف على الاسم ويحتمل أنه عطف على شرح ويدل له ما هنا، واعلم أن مقتضى الترتيب الطبيعى وقوع هل المركبة بعد ما التى لطلب شرح الماهية كما مر، ولذا يقال: إن هل تقع بين ماءين وما تقع بين هلين، وقد أسقط المصنف والشارح هذه المرتبة فيقال مثلا أولا ما العنقاء؟ ثم ثانيا هل هى موجودة، ثم ثالثا ما هى ماهيتها؟ وحقيقتها فإذا عرفت الحقيقة قلت رابعا هل العنقاء دائمة، وكذا تقول ما البشر؟ فتجاب بإنسان، ثم تقول هل موجود أولا؟ فتجاب بموجود، ثم تقول ما ماهيته وحقيقته؟ فتجاب بحيوان ناطق، ثم تقول هل يمشى على أربع أو على رجلين؟ ونحو ذلك من الأحوال العارضة.
(1) الشعراء: 26.
(2)
الشعراء: 27.
يعنى أن مقتضى الترتيب الطبيعى أن يطلب: أولا: شرح الاسم، ثم وجود المفهوم فى نفسه، ثم ماهيته وحقيقته؛ لأن من لا يعرف مفهوم اللفظ استحال منه أن يطلب وجود ذلك المفهوم، ومن لا يعرف أنه موجود استحال منه أن يطلب حقيقته وماهيته؛
…
===
(قوله: يعنى أن مقتضى الترتيب الطبيعى) أى: العقلى نسبة للطبع بمعنى العقل، إذ هو المراعى للمناسبات والترتيب الطبيعى هو أن يكون المتأخر متوقفا على المتقدم من غير أن يكون المتقدم علة له كتقدم المفرد على المركب والواحد على الاثنين ووجه كون ما ذكره المصنف مقتضى الترتيب الطبيعى أن مقتضى الطبع أى: العقل المراعى للمناسبة أن الشخص إذا سمع اسما ولم يعرف أن له مفهوما طلب له مفهوما على وجه الإجمال، ثم إذا وقف على مفهومه طلب وجوده لاستحالة طلب وجود مفهوم اللفظ قبل العلم بأن له مفهوما إذ لعله مهمل، ثم إذا علم وجوده طلب تفصيل ذلك المفهوم بالحد المتضمن للجنس والفصل، وإذا علم تفصيل ذلك المفهوم سأل عن أحوال العارضة له كدوامه؛ لأن العلم بدوام ذلك الشىء يستدعى سبق العلم بحقيقته- كذا قيل.
قال السبكى: ولا يخلو عن نظر؛ لأنه إذا كان السؤال عن الدوام يستدعى سبق علم الماهية فالسؤال عن الوجود كذلك، وحينئذ فلا فرق بين هل البسيطة والمركبة نظرا لذلك التعليل- ا. هـ.
وقد يقال: إن وجود الشىء عينه بخلاف الدوام، وحينئذ ففرق بينهما- تأمل.
(قوله: شرح الاسم) أى: بيان مفهومه الإجمالى، وقوله ثم وجود المفهوم أى: ثم يطلب بهل وجود ذلك المفهوم، وقوله: ثم ماهيته أى: ثم يطلب بيان ماهيته بما الثانية وقوله: لأن من لا يعرف مفهوم اللفظ أى: الإجمالى علة لكون مقتضى الترتيب العقلى ما ذكر، وقوله استحال منه أن يطلب وجود ذلك المفهوم أى: الإجمالى وذلك الاحتمال أن يكون اللفظ المسموع مهملا، وقوله استحال منه أن يطلب حقيقته أى:
التفصيلية
(قوله: لأن من لا يعرف مفهوم اللفظ) أى: مفهومه من حيث إنه مدلول اللفظ استحال منه أن يطلب وجوده، فاندفع ما يقال: إن ما ذكر من استحالة طلب
إذ لا حقيقة للمعدوم ولا ماهية له. والفرق بين المفهوم من الاسم بالجملة وبين الماهية التى تفهم من الحد بالتفصيل غير قليل؛
…
===
الوجود قبل الوقوف على المفهوم فى الجملة لا يسلم، بل قد يطلب بناء على أن الأصل وضع اللفظ لمفهوم ما ثم على تقدير تسليمه، فإنما ذلك إذا لم يعرف أن له مفهوما أصلا، وأما إن عرف أن له مفهوما ولو لم يقف على ما يعينه فى الجملة فلا مانع من السؤال عن وجوده؛ لأنه إذا عرف أن له معنى فقد تصوره باعتبار أنه معنى اللفظ وإن كان مبهما وهذا التصور كاف فى طلب وجوده والسؤال عن خصوصيته
(قوله: إذ لا حقيقة للمعدوم ولا ماهية له) العطف مرادف ووجه كون المعدوم لا ماهية له أن الماهية ما به يكون الشىء المتعارف وهو الموجود هو هو والمعدوم لا وجود له فلا ماهية له أيضا.
(قوله: والفرق إلخ) أتى بهذا دفعا لما يقال إن المصنف جعل ما قسمين الأول ما يطلب بها بيان مفهوم الاسم، والثانى ما يطلب بها بيان ماهية المسمى وهل هما إلا شىء واحد، وحاصل ذلك الدفع أنا لا نسلم أنهما شىء واحد بل مختلفان- كذا قرر بعضهم، وعبارة السيرامى لما كان الحد والمحدود متحدين ذاتا مختلفين من جهة الإجمال والتفصيل فربما يتوهم متوهم عدم الفائدة فى التحديد سواء كان اسميا أو حقيقيا دفعه بقوله والفرق إلخ، والفرق: مبتدأ، وقوله غير قليل: خبر، ومعنى كونه غير قليل أنه كثير، والمراد لازمه أى: ظاهر وواضح أو المراد بالقلة الخفاء
(قوله: بين المفهوم من الاسم) أى: بين الذى يفهم من الاسم أى: من اللفظ ويدل عليه
(قوله: بالجملة) متعلق بالمفهوم والباء للملابسة أى: المفهوم الملتبس بالجملة أى: بالإجمال أى: بين المفهوم والمجمل أو الإجمالى، أو أنه حال من المفهوم أى: حال كونه إجمالا أى مجملا
(قوله: التى تفهم من الحد) أى: من لفظ الحد وفى كلامه إشارة إلى أن الحد يطلق على اللفظ المعنون به عن أجزاء الماهية كما أنه يطلق على مجموع أجزائها
(قوله: بالتفصيل) متعلق بتفهم أى: تفهم تفصيلا من الحد أو أنه صفة للماهية، أى: الماهية الملتبسة بالتفصيل أى: الماهية المفصلة التى تفهم من الحد
(قوله: غير قليل) أى: ظاهر فلا يتوهم اتحادهما؛
فإن كل من خوطب باسم فهم فهما ما، ووقف على الشىء الذى يدل عليه الاسم إذا كان عالما باللغة، وأما الحد فلا يقف عليه إلا المرتاض بصناعة المنطق، فالموجودات لها حقائق
…
===
لأن المحدود وهو ما يدل عليه اللفظ ويفهم منه الماهية المجملة، والذى يفهم من الحد الماهية المفصلة، ولا شك أن الماهية المجملة غير نفسها حال كونها مفصلة كما هو ظاهر
(قوله: فإن كل إلخ) هذا من باب التنبيه لا من الدليل، إذ الأمور الواضحة لا يقام عليها دليل، نعم قد ينبه عليها إزالة لما يعرض لها من الخفاء بالنسبة لبعض الأذهان
(قوله: فهم فهما ما) أى: فهم منه الماهية فهما إجماليا فمفعول فهم محذوف
(قوله: ووقف على الشىء الذى يدل عليه الاسم) أى: وقوفا إجماليا وهو تفسير لما قبله؛ لأن فهم الشىء هو إدراكه والوقوف عليه
(قوله: إذا كان عالما باللغة) أى: بوضعها أما غير العالم بوضعها فلا يفهم من الاسم المخاطب به شيئا، فإذا كان عالما بوضع اللغة وخوطب بلفظ الإنسان فهم منه نوعا من الحيوان مخصوصا
(قوله: وأما الحد) المراد به هنا الماهية التفصيلية لا اللفظ الدال عليه بدليل قوله فلا يقف عليه إلخ، وكان المناسب لما قبله أن يقول: والذى يفيده الحد الماهية التفصيلية ولذلك كان لا يقف إلخ، وقوله إلا المرتاض بصناعة المنطق أى: العالم بها المتقن لها؛ وذلك لأن الحد عبارة عن الماهية التفصيلية كما علمت، ولا يعلم الحقائق المفصلة إلا من له إتقان لعلم المنطق لعلم حقيقة الذاتيات أعنى: الجنس والفصل منه، وفيه أن الذاتيات إنما تعرف بالنقل أو بمحض فرض العقل على الأصح، فالارتياض فى صناعة المنطق لا يفيد معرفة ذاتيات الأشياء، وقد يقال المرتاض فى صناعة المنطلق يستخرج للحقيقة أجزاءها الذاتية من الجنس والفصل عند عدم النقل- تأمل.
(قوله: فالموجودات إلخ) الفاء واقعة فى جواب شرط مقدر أى: إذا علمت ما ذكرناه من أنه لا حقيقة للمعدوم ولا ماهية له وأردت الفرق بينه وبين الموجود فنقول لك الفرق بينهما أن الموجودات إلخ، وأراد بالموجودات الأمور التى لها ثبوت فى نفس الأمر لا المتحققة فى الخارج فقط
(قوله: لها حقائق) أى: ماهيات مركبة من الذاتيات ملحوظ باعتبار التحقق فى نفس الأمر وهى حقيقة ذلك الموجود.
ومفهومات، فلها حدود حقيقية واسمية، وأما المعدومات فليس لها إلا المفهومات؛ فلا حدود لها إلا بحسب الاسم؛ لأن الحد بحسب الذات لا يكون إلا بعد أن يعرف أن الذات موجودة حتى إن ما يوضع فى أول التعاليم من حدود الأشياء التى
…
===
(قوله: ومفهومات) أى: صور حاصلة فى العقل مدركة من الألفاظ الدالة عليها بواسطة معرفة وضعها لها، والحاصل أن كلا من الموجودات والمعدومات وضع له ألفاظ؛ لأن الوضع لا يشترط فيه تحقق الموضوع له، وتلك الألفاظ الموضوعة يدرك العقل منها صورا بواسطة معرفة وضعها وتلك الصور هى مفهومات الألفاظ
(قوله: فلها حدود حقيقية) أى: تدل على الحقائق
(قوله: واسمية) أى: لفظية تدل على المفهومات من الأسماء
(قوله: فليس لها إلا المفهومات) وهى الصور العقلية المدركة من أسمائها
(قوله: إلا بحسب الاسم) أى: لا بحسب الذات وكان الأولى أن يقول: فلا تعريف لها إلا بحسب الاسم؛ لأن الحد ما كان بالذاتيات وهى لا ذاتيات لها
(قوله: لأن الحد بحسب الذات) أى: بالنظر للذات أى: الحقيقة
(قوله: حتى إن ما يوضع إلخ) غاية لقوله لأن الحد بحسب الذات لا يكون إلا بعد إلخ، وحاصل كلامه أن الحد الاسمى قد ينقلب حقيقيا، فالواضع إذا تعقل نفس الحقيقة ووضع الاسم بإزائها فقبل العلم بوجود تلك الحقيقة يكون تعريفا اسميا، وبعد العلم بوجودها ينقلب حدا حقيقيا، فالحد الحقيقى والحد الاسمى لا منافاة بينهما إلا بذلك الاعتبار، مثلا تعريف الشكل المثلث المتساوى الأضلاع بما أحاط به ثلاث خطوط متساوية حد اسمى وبعد علمك بوجوده بالشكل الأول من التحرير يصير حدا حقيقا، وكذلك إذا قلت لمن لا يعرف معنى لفظ صلاة الصلاة عبادة ذات أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم كان ذلك حدا اسميا، فإذا علم المخاطب بعد ذلك بوجودها بأن سأل عن وجودها، وقال هل هى موجودة فقلت له: إن النبى قد أمر بها وكل ما أمر به النبى فهو موجود انقلب ذلك الحد الاسمى حدّا حقيقيّا، بقى شىء آخر وهو أن الحد الاسمى إذا انقلب حدا حقيقيا هل فى هذه الحالة يقال له حد اسمى أو أن الشرط فى كونه اسميا عدم العلم بوجود تلك الحقيقة، فإذا وجد العلم انتفى عنه ذلك الاسم
(قوله: فى أول التعاليم) جمع تعليم والمراد
يبرهن عليها فى أثناء العلم إنما هى حدود اسمية، ثم إذا برهن عليها وأثبت وجودها صارت تلك الحدود بعينها حدودا حقيقية؛ جميع ذلك مذكور فى الشفاء.
===
به التراجم كالفصل والباب وقوله من حدود الأشياء بيان لما يوضع وذلك مثل حد الصلاة المذكور فى أول بابها
(قوله: يبرهن عليها) أى: على وجودها
(قوله: فى أثناء العلم) أراد بالعلم القواعد المتعلقة بالشىء المحدود المذكورة فى تلك الترجمة، وفى بعض النسخ فى أثناء التعليم أى: فى أثناء الترجمة
(قوله: حدود اسمية) أى: رسوم
(قوله: ثم إذا برهن عليها) أى: على تلك الأشياء أى: أقيم البرهان على وجودها
(قوله: وأثبت وجودها) أى: بالبرهان والمراد الوجود الخارجى لا مطلق الوجود
(قوله: صارت تلك الحدود) أى: التعاريف، وقوله: حدودا حقيقية أى: بحسب الحقيقة، فانقلب الاسمى حقيقيا، وجعل هذا كليا غير مسلم؛ لأن الحد الاسمى عبارة عن جميع ما اعتبره الواضع فى مفهوم اللفظ، وما اعتبره قد يكون عارضا للأفراد لا ذاتيا، فلا يمكن بعد إثبات الوجود أن يصير حدّا حقيقيّا؛ لأن الحد الحقيقى عبارة عن جميع ذاتيات الشىء الموجودة مثلا مفهوم الماشى حد اسمى للإنسان وبعد إثبات الوجود لا يكون حدا حقيقيا؛ لأنه ليس عبارة عن جميع ذاتيات الأفراد: كزيد وعمرو، فلا بد من تأويل كلامه بأن المراد أنه بعد إثبات الوجود يمكن أن يصير حدا حقيقيا بأن يكون ما اعتبره الواضع جمع ذاتيات الأفراد- كذا ذكره العلامة السيد فى حواشى المطول، وفى الفنارى: أن الواضع إذا تصور حقيقة الشىء وعين الاسم بإزائها، فظاهر أن التعريف حد اسمى قبل العلم بوجودها، وحقيقى بعد العلم بالوجود وإذا تصورها ببعض عوارضها واعتباراتها وضع الاسم بإزائها فالتعريف إنما يكون حدا اسميا بالنظر لتلك الاعتبارات، فبعد العلم بالوجود يكون حدا حقيقيا بالنظر إليها بلا اشتباه، وأما بالنظر لنفس الشىء فرسم اسمى قبل العلم بالوجود ورسم حقيقى بعده، وحينئذ فلا حاجة لما ذكره العلامة السيد من التقييد، وهذا كله إذا أريد بالحد والرسم المعنى المصطلح عليه عند أرباب المعقول، وأما إذا أريد بالحد المعرف مطلقا فالأمر ظاهر
(قوله: كذا فى الشفاء) كتاب لابن سينا، وعلم من كلامه أن الجواب الواحد يجوز أن يكون حدا بحسب
(و) يطلب (بمن العارض المشخص) أى: الأمر الذى يعرض
…
===
الاسم، وبحسب الذات بالقياس إلى شخصين وبالقياس إلى شخص واحد فى وقتين، أما الثانى: فكما مر فى مثالى المثلث والصلاة، وأما الأول فكما إذا سألك سائل عن مفهوم الإنسان فقال ما الإنسان؟ أى: ما مفهوم هذا اللفظ، وكان شخص حاضر يعلم مفهومه وأنه موجود، ولكن لا يعلم تفصيل ذلك المفهوم- فقلت له حيوان ناطق- فهذا حد اسمى بالنظر للسائل، وحقيقى بالنظر للسامع.
(قوله: العارض المشخص لذى العلم) لما كان المتبادر منه أن المراد بالعارض المشخص خصوص الوصف الذى يعين ذا العلم كقولنا فى جواب السؤال المذكور الرجل الطويل الذى لقيته بالأمس إذا كان التعين يحصل بتلك الأوصاف أشار الشارح بقوله: فيجاب بزيد أو نحوه، إلى أن المراد بالعارض المشخص لذى العلم الأمر المتعلق به سواء كان علما له أو وصفا خاصا به كما فى المثال المذكور وسواء اتحد العارض كما فى المثال الأول، أو تعدد كما فى الثانى، وليس المراد المعنى المتبادر فقط وخرج بالمشخص العارض الغير المشخص وهو الأمر العارض العام ككاتب ونحوه، فلا يصح أن يقع فى جواب السؤال بمن لأنها وإن كانت عارضة لحقيقة الإنسان لكنها غير معينة له قال ابن يعقوب، ولما كانت من هاهنا فى غاية الإبهام لم يكن فيها إشعار بخصوصية المجاب به، فإذا قيل فى الجواب زيد تصور السائل من ذلك الجواب ذات زيد، فلذا كانت للتصور وإن لزم من ذلك تصديق بكون خاص فى الدار، وأما قولنا فيما تقدم أدبس فى الإناء أم عسل؟ فالمجاب به مستشعر من السؤال فلم يزد الجواب تصويره، ولهذا قلنا فيما تقدم إنه يرجع إلى التصديق فى التحقيق وعلى هذا يقاس ما يأتى فى ما ونحوها. اه.
ومن هذا تعلم أن قولهم من ونحوها لطلب التصور أى: أصالة فلا ينافى أن طلب التصديق الخاص لازم لها هذا، وذكر السبكى فى عروس الأفراح نقلا عن والده أن الجواب بزيد مفرد لا مركب ولا يقدر مبتدأ ولا خبر، فإذا قلت من عندك؟ فقيل زيد، كان بمنزلة قولك: ما الإنسان؟ فتقول حيوان ناطق، فهو ذكر حد يفيد التصور
(لذى العلم) فيفيد تشخصه وتعينه (كقولنا: من فى الدار) فيجاب بزيد ونحوه مما يفيد تشخصه (وقال السكاكى يسأل بما عن الجنس؛ تقول: ما عندك؛ أى:
===
فقط، وعلى ذلك قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (1) وأما قوله فى الآية الأخرى: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (2) فهو ابتداء كلام يتضمن الجواب، وليس اقتصارا على نفس الجواب بخلاف الآية قبلها
(قوله: لذى العلم) عبر بالعلم دون العقل ليتناول البارى نحو: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (3)
(قوله: تشخصه) أى: تشخصا شخصيا أو نوعيا كما إذا قيل من فى هذا القصر فقيل مثلا الإنسان الصقلى، وكذا إذا قيل من فى السماء من أنواع العالمين فقيل الملك والمراد بالنوع اللغوى الشامل للصنف
(قوله: وتعينه) عطف تفسير
(قوله: من فى الدار) أى: إذا علم السائل أن فى الدار أحدا، لكن لم يتشخص عنده فيسأل بمن عن مشخصه.
(قوله: فيجاب بزيد) أى: لأن العلم يفيد إحضار ما وضع له بعينه وهو عارض له بمعنى أنه خارج عن ماهيته أو جنسه بالعارض القائم به- قاله عبد الحكيم، أو المراد بكونه عارضا للذات أنه متعلق بها لدلالته عليها كما مر، قال فى المطول وأما الجواب بنحو رجل فاضل من قبيلة كذا ونحو ابن فلان وأخو فلان، فإنما يصح ذلك من جهة أن المخاطب يفهم منه التشخص بحسب انحصار الأوصاف فى الخارج فى شخص، وإن كانت تلك الأوصاف بالنظر إلى مفهوماتها كليات
(قوله: وقال السكاكى) أى: فى الفرق بين من وما وهذا مقابل للقيل المتقدم
(قوله: يسأل بما عن الجنس) أى: من ذوى العلم أو من غيرهم، والمراد بالجنس الماهية الكلية سواء كانت متفقة الأفراد أو مختلفتها مجملة أو مفصلة فيشمل جميع أقسام المقول فى جواب ما هو وهو النوع والجنس والماهية التفصيلية والإجمالية، فإذا قيل ما زيد وعمرو؟ فيجاب بإنسان وما الإنسان والفرس؟
فيجاب بحيوان ناطق، أو نوع من الحيوان، فيطلب بما عند السكاكى شرح الاسم وشرح الماهية الموجودة إلا أنه مختص عنده بالأمر الكلى وعند صاحب القيل السابق يطلب بها شرح الاسم كليا كان أو جزئيا، قال عبد الحكيم: ومما ذكر تعلم أن مراد
(1) لقمان: 25.
(2)
الزخرف: 9.
(3)
طه: 49.
أى أجناس الأشياء عندك، وجوابه: كتاب، ونحوه) ويدخل فيه السؤال عن الماهية
…
===
المصنف بالجنس: الجنس اللغوى، فيدخل النوع سواء كان حقيقيا أو اصطلاحيا نحو قولنا: ما الكلمة: أى: جنس من أجناس الألفاظ هى؟ فيجاب بأنها لفظ مفرد مستعمل
(قوله: أى أجناس الأشياء إلخ) أى: أى جنس من أجناس الأشياء عنك؛ لأن المسئول عنه ليس هو الجمع
(قوله: وجوابه) أى: جواب ما عندك لا جواب أى: جنس من أجناس الأشياء عندك؛ لأن قول المصنف أى: أى أجناس الأشياء عندك إنما أتى به للتفسير من جهة المعنى؛ وذلك لأن السؤال بأى إنما يكون عن المميز كما سيذكره المصنف قريبا، وأما ما فإنه يسأل بها عن الجنس فلم يكن جواب أى: مطابقا لجواب ما؛ وذلك لأن المجاب به عن ما لفظ الجنس ككتاب أو فرس، والمجاب به عن أى:
الجنس ومميزه الذى هو الفصل نحو: شىء مكتوب، أو شىء عاقل، أو شىء ملبوس، أو نحو ذلك، لكن لما كان مميز الجنس يستشعر منه الجنس؛ لأن الشىء المكتوب مثلا يستلزم الكتاب فمتى ذكر مميز الجنس الذى عنده فقد ذكر الجنس الذى عنده فسر المصنف ما عندك بأى جنس عندك تسامحا لتلازم جوابيهما، هذا محصل ما قاله اليعقوبى وسم، قال عبد الحكيم: لا يتوهم من تفسير المصنف مطلب ما بمطلب أى: اتحادهما فإن أيا لطلب المميز وما لطلب الماهية إلا أنه لما كان طلب ماهية الشىء مستلزما لطلب تمييز تلك الماهية بعينها عما عداها من حيث اشتمالها على الخصوصية أقيم مطلب أى: مقام مطلب ما ولذا اتحد جوابهما، فيقال: كتاب ونحوه؛ لأنه من حيث إنه مشتمل على بيان الجنس إجمالا جواب لما ومن حيث اشتماله على الخصوصية المميزة عن الأجناس الآخر جواب لأى، هكذا يستفاد من شرح العلامة الشارح للمفتاح. اه.
فأنت تراه جعل جوابهما واحد بالذات مختلفا بالاعتبار وعلى هذا فيصح جعل ضمير وجوابه لما عندك ولأى الأجناس عندك تأمل
(قوله: ونحوه) أى: كفرس وحمار وإنسان
(قوله: ويدخل فيه) أى فى السؤال عن الجنس السؤال عن الماهية والحقيقة أى:
التى هى النوع سواء كان حقيقيا نحو ما الإنسان؟ أو اصطلاحيا نحو ما الكلمة، وأشار الشارح بهذا إلى أن مراد المصنف بالجنس الجنس اللغوى وهو ما صدق على كثيرين
والحقيقة؛ نحو: ما الكلمة؛ أى: أى أجناس الألفاظ هى؟ وجوابه: لفظ مفرد موضوع (أو عن الوصف، تقول: ما زيد؟ وجوابه: الكريم، ونحوه، و) يسأل (بمن عن الجنس من ذوى العلم، تقول: من جبريل؟ أى: أبشر هو، أم ملك، أم جنى؛ وفيه نظر)
…
===
لا الجنس المنطقى، إذ هو مقابل للنوع
(قوله: والحقيقة) عطف مرادف
(قوله: ما الكلمة) أى: ما مدلول هذه اللفظة
(قوله: أى أى أجناس الألفاظ هى) أى: جنس من أجناس الألفاظ هى أى: أى نوع من أنواعها؟ لأنها تتنوع لأنواع مفرد ومركب وموضوع وغير موضوع ومستعمل وغير مستعمل
(قوله: أو عن الوصف) عطف على قوله عن الجنس أى: يسأل بما عن الجنس أو عن الوصف
(قوله: تقول ما زيد) أى:
تقول فى السؤال عن الوصف ما زيد؟ أى: أى وصف، يقال فيه أى هل يقال فيه كريم أو بخيل أو غير ذلك؟ وإنما فسرنا بذلك لقول المصنف وجوابه الكريم، فلو كان المراد الوصف القائم به لكان جوابه الكرم ونحوه
(قوله: ونحوه) أى: كالشجاع والبخيل والجبان، وكان الأولى للمصنف أن يقول: وجوابه كريم بالتنكير.
(قوله: وبمن عن الجنس) عطف على ما من قوله يسأل بما عن الجنس فهو من جملة مقول السكاكى، والمراد الجنس اللغوى فيشمل النوع والصنف.
(قوله: من ذوى العلم) أى: الكائن من دون العلم، وذلك بأن يعلم السائل أن المسئول عنه من ذوى العلم، لكنه يجهل جنسه وقضية التقييد بذوى العلم تقتضى أنه لا يسأل بها عن الجنس مطلقا
(قوله: تقول من جبريل) أى: تقول فى السؤال عن الجنس من ذوى العلم من جبريل أى: ما جنسه إذا كنت عالما بأنه من ذوى العلم جاهلا جنسه وجوابه ملك
(قوله: وفيه نظر) أى: وفيما قاله السكاكى بالنظر للشق الثانى وهو جعل من للسؤال عن الجنس نظر، وحاصله أنا لا نسلم ورود من فى اللغة للسؤال عن الجنس، فالصواب ما مر من أنها للسؤال عن العارض المشخص ورجع بعضهم النظر إلى قوله أو عن الوصف أيضا، فإن المنطقيين قالوا لا يسأل بما عن الصفات المميزة، بل بأى، وأجاب بأن مراد السكاكى أنها قد تخرج عن حقيقتها فيستفهم بها عن الصفات. اه يس. فإن قلت قد يستدل على وروده فى اللغة للسؤال عن الجنس ببيت الكتاب وهو قوله:
إذ لا نسلم أنه للسؤال عن الجنس، وأنه يصح فى جواب: من جبريل؟ أن يقال:
ملك، بل يقال: ملك من عند الله يأتى بالوحى كذا وكذا؛ مما يفيد تشخصه (و) يسأل (بأى عما يميز أحد المتشاركين فى أمر يعمهما)
…
===
أتوا نارى فقلت: منون أنتم
…
فقالوا الجنّ قلت: عموا ظلاما (1)
فإن الجواب دليل على أن السؤال عن الجنس، إذ لو كان السؤال عن المشخص لقالوا فلان وفلان، قلت: لا نسلم أن المسئول عنه الجنس، بل الظاهر أن الشاعر ظنهم من البشر فسألهم عن مشخصهم، وأنهم من أى قبيلة؟ فأجابوا بأنا لسنا من جنس البشر حتى تفحص عن المشخص والمعين ففى إجابتهم ببيان الغير المطابق تنبيه على خطأ السائل فى هذا الظن، فكأن المجيب يقول ليس الأمر كما تظن من أننا من أشخاص الآدميين فنجيبك بما يعنينا، وإنما نحن من جنس الجن والتخطئة فى السؤال واردة
(قوله: إذ لا نسلم أنه) أى: من فى اللغة للسؤال إلخ.
(قوله: وأنه يصح) أى: ولا نسلم أنه يصح
(قوله: بل يقال ملك) أى: بل يقال فى جوابه ملك من عند الله إلخ
(قوله: كذا وكذا) أى: إلى الأنبياء من عند الله وقوله مما يفيد إلخ بيان لكذا وكذا أى وإذا كان لا يجاب إلا بذلك فتكون من: لطلب العارض المشخص لذى العلم كما مر، فإن قلت: إن السكاكى ادعى أن من فى قوله تعالى حكاية عن فرعون: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (2) للسؤال عن الجنس قلت: كلامه ممنوع لم لا يجوز أن يكون للسؤال عن الوصف كما يدل عليه الجواب على أنه يجوز أن يكون الجواب من الأسلوب الحكيم إشارة إلى أن السؤال عن الجنس لا يليق بجنابه تعالى إنما اللائق السؤال عن أوصافه الكاملة، فكأنه قيل لفرعون دع السؤال عن الجنس، فإنه معلوم البطلان؛ لأن ذاته تعالى لا تدخل تحت جنس، بل اللائق بجنابه أن يسأل عن صفاته
(قوله: أحد المتشاركين) هو بصيغة التثنية وهو اقتصار على أقل ما يحصل فيه
(1) البيت من الوافر، وهو لشمر بن الحارث فى الحيوان 4/ 482، 6/ 197 وخزانة الأدب 6/ 167، 168، 170، والدرر 6/ 246، ولسان العرب (حسد)، (منن)، وجواهر الأدب ص 107.
(2)
طه: 49.
وهو مضمون ما أضيف إليه أى
…
===
الاشتراك، وإلا فأى كما يسأل بها عما يميز أحد المتشاركين يسأل بها عما يميز أحد المتشاركات، وقوله فى أمر يعمهما متعلق بالمتشاركين وأتى المصنف بهذا لزيادة البيان والإيضاح للمشاركة، إذ الأمر الذى تشارك فيه الشيئان لا يكون إلا عامّا كذا قيل، وفيه بحث؛ لأن المتشاركين فى دار أو مال لا يسأل بأى عما يميزهما إلا إذا جعلا داخلين تحت أمر يعمهما ولو كان ذلك الأمر يعمهما مفهوم المتشاركين فى هذا المال أو فى هذه الدار- قاله عبد الحكيم، وحاصل ما ذكره المصنف أنه إذا كان هناك أمر يعم شيئين أو أشياء بحيث وقع فيه الاشتراك، وكان واحد منهما أو منها محكوما له بحكم وهو مجهول عند السائل إلا أن له وصفا عند غيره يميزه وأريد تمييزه، فإنه يسأل بأى عن ذلك الموصوف بوصف يميزه وهو صاحب الحكم؛ لأن العلم بالمشترك فيه وهو الأمر العام مع العلم بثبوت الحكم لأحد الشيئين المشتركين أو المشتركات لا يستلزم بالضرورة العلم بتمييز صاحب الحكم من الشيئين أو الأشياء، فيسأل بأى عن الموصوف بالوصف المميز له، فقول المصنف عما يميز المراد عن موصوف ما يميز أى عن موصوف وصف يميز إلخ لقوله بعد أى أنحن أم أصحاب محمد، فالمسئول عنه بأى الأشخاص الموصوفون بالكون كافرين أو الكون أصحاب محمد فقول الشارح بعد، وسألوا عما يميز أى عن موصوف ما يميز وقوله مثل الكون إلخ تمثيل لما يميز- فتأمل.
(قوله: وهو) أى: الأمر الذى يعمهما مضمون إلخ، اعلم أن الأمر المشترك فيه الذى قصد التمييز فيه تارة يكون هو ما أضيف إليه أى: وتارة يكون غيره فالأول كمثال المصنف، فإنهما مشتركان فى الفريقية، والذى يميز أحدهما هو الوصف الذى يذكره المجيب مثل الكون أنتم أو أصحاب محمد ونحو أى: الرجلين أو الرجال عندك فالرجلان مثلا اشتركا فى الرجولية وهو أمر يعمهما، والذى يميز أحدهما هو الوصف الذى يذكره المجيب، والثانى كقوله تعالى حكاية عن سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها (1) أى: أى الإنس والجن يأتينى بعرشها، فإن الأقرب فيه أن الأمر المشترك فيه هو كون كل منهم من جند سليمان ومنقادا لأمره، وبهذا تعلم
(1) النمل: 38.
(نحو: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً أى: أنحن أم أصحاب محمد) فالمؤمنون والكافرون قد اشتركا فى الفريقية، وسألوا عما يميز أحدهما عن الآخر مثل:
الكون كافرين قائلين لهذا القول، ومثل: الكون أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام غير قائلين (و) يسأل (بكم عن العدد نحو: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ (1) أى: كم آية آتيناهم؟
…
===
ما فى قول الشارح وهو مضمون ما أضيف إليه أى ويمكن بتكلف أن يجعل الأمر المشترك فيه من هذا المثال مضمون المضاف إليه بمعنى كون كل منهما مخاطبا بالإضمار- فتأمل.
(قوله: نحو أى الفريقين إلخ) هذا حكاية لكلام المشركين لعلماء اليهود منهم معتقدون أن أحد الفريقين ثبت له الخيرية والفريقية تصدق على كل منهما ولم يتميز عندهم من ثبتت له الخيرية، فكأنهم قالوا: نحن خير أم أصحاب محمد؟ وقد أجابهم اليهود بقولهم: أنتم. وقد كذبوا فى هذا الجواب، والجواب الحق هو أصحاب محمد وكل من الجوابين حصل به التمييز
(قوله: أى أنحن إلخ) هذا تفسير للفريقين
(قوله: قد اشتركا فى الفريقية) لم يقل قد اشتركا فى أمر يعمهما وهو الفريقية لعله للإشارة إلى أن قوله فى المتن فى أمر يعمهما لا حاجة إليه إلا التأكيد ودفع التوهم- كذا قال يس، وقد علمت ما فيه
(قوله: وسألوا) أى: الكافرون أعنى: مشركى العرب أحبار اليهود
(قوله: عما يميز أحدهما) فى الكلام حذف كما مر أى: وسألوا عن موصوف ما يميز أى سألوا عن الفريق الموصوف بالوصف الذى يميز أحد الفريقين عن الآخر.
(قوله: مثل الكون كافرين) اسم الكون ضمير نابت عنه أل وكافرين خبره أى: مثل كونهم كافرين، وقوله قائلين حال من الواو فى سألوا بين بها من صدر منه القول أعنى
(قوله: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً)(2)، ولو قال بدل قوله مثل الكون إلخ مثل كون الجواب أنتم وأصحاب محمد كان أخصر وأوضح
(قوله: ويسأل بكم عن العدد) أى: المعين إذا كان مبهما فيقع الجواب بما يعين قدره كما يقال كم غنما ملكت؟
(1) البقرة: 211.
(2)
مريم: 73.
أعشرين؟ أم ثلاثين؟ ف مِنْ آيَةٍ مميز كم بزيادة من لما وقع من الفصل بفعل متعد بين كم ومميزها كما ذكرنا فى الخبرية، فكم هاهنا للسؤال عن العدد،
…
===
فيقال مائة أو ألفا، ولا يصح الجواب بألوف ومحل الاحتياج للجواب المعين لقدر العدد إذا كان السؤال بها على ظاهره كما مثلنا، وقد يكون السؤال بها عن العدد على غير ظاهره كما فى الآية التى ذكرها المصنف كما قال الشارح فلا يحتاج لجواب.
(قوله: أعشرين أم ثلاثين) بدل من كم
(قوله: مميز كم) أى: وكم مفعول ثان لآتيناهم مقدم عليه، وقوله فمن آية مميز كم فى الكلام حذف أى، وإنما كان المعنى ما ذكر؛ لأن من آية مميز كم
(قوله: لما وقع إلخ) أى: لوقوع وهذا علة لزيادة من أى: فلو لم تدخل من الزائدة على هذا التمييز لتوهم أنه مفعول للفعل
(قوله: كما ذكرنا) أى:
وهذا نظير ما ذكرنا فى حكم الخبرية فى قول الشاعر سابقا (1):
وكم ذدت عنّى من تحامل حادث
…
وسورة أيام حززن إلى العظم
وإن كانت كم هنا فى هذه الآية استفهامية على أنه يجوز أن تكون هنا خبرية والمقام لا يأباه كما بينه الزمخشرى
(قوله: فكم هنا للسؤال عن العدد) هذا صريح فى بقاء كم على حقيقتها من الاستفهام، وأن الغرض منه التوبيخ فهو وسيلة إليه من حيث دلالة الجواب على كثرة الآيات ففيه توبيخ لهم بعدم إيقاظهم مع كثرة الآيات، والفرق بين كم الاستفهامية والخبرية أن الاستفهامية لعدد مبهم عند المتكلم معلوم عند المخاطب فى ظن المتكلم والخبرية لعدد مبهم عند المخاطب ربما يعرفه المتكلم، وأما المعدود فهو مجهول فى كليهما، فلذا احتيج إلى المميز المبين لمعدود ولا يحذف إلا لدليل وأن الكلام مع الخبرية يحتمل الصدق والكذب بخلافه مع الاستفهامية، وأن المتكلم مع الخبرية لا يستدعى جوابا من مخاطب؛ لأنه مخبر والمتكلم مع الاستفهامية يستدعيه؛ لأنه
(1) البيت من الطويل، وهو للبحترى فى الإيضاح ص 112 بتحقيق د/ عبد الحميد هنداوى، وفى شرح المرشدى على عقود الجمان ص 128، وأورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 82، والمخاطب فى البيت أبو الصقر ممدوح البحترى.
ولكن الغرض من هذا السؤال هو التقريع والتوبيخ.
(و) يسأل (بكيف عن الحال، وبأين عن المكان، وبمتى عن الزمان)
===
مستخبر وغير ذلك مما هو مذكور فى مغنى اللبيب
(قوله: ولكن الغرض من هذا الاستفهام هو التقريع والتوبيخ) أى: على عدم اتباع مقتضى الآيات مع كثرتها وبيانها وحينئذ فالمعنى: قل لهم هذا الكلام، فإذا أجابوك بأننا آتيناهم آيات كثيرة فوبخهم على عدم الاتباع مع كثرة الآيات، وإنما كان الغرض من هذا الاستفهام التقريع والتوبيخ، وليس الغرض به استعلام مقدار عدد الآيات من جهة بنى إسرائيل؛ لأن الله تعالى علام الغيوب، فلو كان المراد مجرد علم مقدار الآيات لأعلم الله نبيه بقدرها وتولى ذلك الإعلام، فتعين أن يكون الغرض به التقريع والتوبيخ، قيل ويصح أن يكون الاستفهام على ظاهره بأن يكون القصد أمر النبى- صلى الله عليه وسلم أن يسأل بنى إسرائيل حقيقة ليعلم من جهتهم مقدار الآيات؛ لأنه لم يكن يعلمها بلا إعلام وقد تكون الحكمة إنما هى فى علم مقدارها من جهتهم، وعلى هذا فالمعنى سلهم عما آتيناهم من الآيات فيجيبونك عن عددها فإذا علمت أن كم فى الآية مستعملة فى حقيقتها وهو الاستفهام، وأن الغرض منه التوبيخ كما قال الشارح، لا أنها مستعملة فى التوبيخ سقط ما قيل اعتراضا على المصنف كان المناسب ذكر هذه الآية بعد قوله: ثم إن هذه الكلمات الاستفهامية كثيرا إلخ؛ لأن الكلام هنا فى الاستفهام الحقيقى ولا يصح التمثيل بذلك هنا- تأمل.
(قوله: ويسأل بكيف عن الحال) أى: الصفة التى عليها الشىء كالصحة والمرض والركوب والمشى، فيقال كيف زيد أو كيف وجدت زيدا أى: على أى حال وجدته؟ فيقال صحيح أو مريض ويقال كيف جاء زيد فيقال راكبا أو ماشيا وليست كيف ظرفا، وإن كان يقال فى تفسيرها فى أى حال وجدته؟ لأنه تفسير معنوى كما يقال فى تفسير الحال فى قولنا: جاء زيد راكبا أى جاء فى حالة الركوب، وإنما هى بحسب العوامل ففى قولنا: كيف وجدت زيدا تكون مفعولا أو حالا وفى قولنا: كيف زيد تكون خبرا
(قوله: عن المكان) فيقال: أين جلست بالأمس مثلا، وجوابه أمام الأمير
ماضيا كان أو مستقبلا (وبأيان عن) الزمان (المستقبل، قيل: وتستعمل فى مواضع التفخيم، مثل: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ
…
===
وشبهه ونحو: أين زيد وجوابه فى الدار، أو فى المسجد مثلا
(قوله: ماضيا كان أو مستقبلا) فيقال فى الماضى مثلا متى جئت؟ والجواب سحرا، أو نحوه، ويقال فى المستقبل: متى تأتى؟ فيقال بعد شهر، وكان يمكن الشارح أن يزيد أو حالا؛ لأنه يسأل بمتى عنه أيضا خلافا لما يوهمه اقتصاره.
(قوله: عن الزمان المستقبل) فيقال أيان يثمر هذا الغرس؟ فيقال بعد عشرين سنة مثلا، ويقال أيان تأتى؟ فيقال بعد غد، وظاهر المصنف أن أيان للاستقبال ولو وقع بعدها اسم نحو: أيان مرساها وقال ابن مالك إنها للمستقبل إذا وليها فعل بخلاف ما إذا وقع بعدها اسم كقوله تعالى: أَيَّانَ مُرْساها (1) قال بعضهم: وفيه نظر؛ لأن مرساها مراد به الاستقبال، إذ المراد أيان الزمان الذى ترسى وتستقر فيه هل هو زمان قريب أو بعيد، قيل إن أصل أيان: أىّ أوان فحذفت إحدى الياءين من أى، والهمزة من أوان، فصار أيوان فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فى الياء فصار أيان ورد ذلك بأن كسر الهمزة فيه لغة مستعملة وهو يأبى أن يكون أصله ذلك؛ لأنه تثقيل فى مقام التخفيف اللهم إلا أن يقال الكسر عوض عن الياء المحذوفة، والحق أن كون الاسم غير متمكن يأبى التصريف المذكور انتهى فنرى
(قوله: قيل وتستعمل فى مواضع التفخيم) أى: فى المواضع التى يقصد فيها تعظيم المسئول عنه والتهويل بشأنه، ثم إن هذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه أنها لا تستعمل إلا فى مواضع التفخيم فتكون مختصة بالأمور العظام نحو: أَيَّانَ مُرْساها، وأَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (2)، وعلى هذا فلا يقال: أيان تنام كما قاله السيد، ويحتمل أن المراد منه أنها تستعمل للتفخيم كما تستعمل فى غيره وهو ظاهر كلام النحويين حيث قالوا: إنها كمتى تستعمل للتفخيم وغيره
(قوله: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ)(3) أى: فقد استعملت أيان مع يوم القيامة للتهويل والتفخيم بشأنه، وجواب هذا
(1) النازعات: 42.
(2)
الذاريات: 12.
(3)
القيامة: 6.
(وأنى تستعمل تارة بمعنى كيف) ويجب أن يكون بعدها فعل (نحو: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)
…
===
السؤال يومهم على النار يفتنون، فإن قلت: إن الإخبار بأيان عن يوم القيامة مشكل؛ وذلك لأن اسم الزمان لا يخبر به إلا عن الحدث ولا يخبر به عن الجثة ويوم القيامة كالجثة، قلت فى الكلام حذف مضاف والتقدير: أيان وقوع يوم القيامة أى: يوم القيامة يقع فى أى زمان؟ فلم يلزم الإخبار المذكور، فإن قلت: إن السؤال عن زمان وقوع اليوم الذى هو من أسماء الزمان يلزم عليه أن يكون للزمان زمان يقع فيه، قلت: يجوز أن يعتبر الأخص ظرفا للأعم والعكس وما هنا من هذا القبيل؛ وذلك لأن المستقبل أعم من يوم القيامة؛ لأنه من النفخة الثانية إلى دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، واعترض على المصنف والشارح فى تمثيلهما بأيان يوم القيامة وأيان يوم الدين بأنه كلام محكى عن الإنسان الذى يحسب أن لن يجمع الله عظامه وهو لا يقصد تفخيم يوم القيامة؛ لأنه لا يقر به، اللهم إلا أن يقال إن التفخيم قد تحقق باعتبار أن هذا القائل يقول هذا السؤال بناء على اعتقاد المخاطب استهزاء به وإنكارا عليه أو يقال: إن هذه الحكاية عن ذلك الإنسان بالمعنى وعبر فيها بما يقتضى التفخيم إشعارا بعظم اليوم نفسه، وإن كان الجاحد لا يقر به
(قوله: وأنّى) أى: الاستفهامية وقوله تستعمل إلخ يحتمل أن تكون حقيقة فى الاستعمالين فتكون من قبيل المشترك، وأن تكون مجازا فى أحدهما، وسيأتى فى الشارح
(قوله: تارة) أى: مرة بعد مرة كما فى الصحاح فجردت عن بعض معناها
(قوله: ويجب أن يكون بعدها فعل) أى: بخلاف كيف وظاهره أنه لا فرق بين الماضى وغيره وهو كذلك، فالأول كالآية المذكورة، والثانى كقوله تعالى: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها (1)
(قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)(2) قيل: إن أنّى فى هذه الآية غير الاستفهامية، إذ لو كانت كذلك لاكتفت بما بعدها؛ لأن من شرط الاستفهام أن يكتفى بما بعده من فعل نحو: أنى يكون لى ولدا أو اسم نحو: أنى لك هذا بل هى شرطية بمعنى كيف الشرطية وجوابها محذوف أى: أنى شئتم فأتوا وحذف الجواب لدلالة فأتوا
(1) البقرة: 259.
(2)
البقرة: 223.
أى: على أى حال، ومن أى شق أردتم بعد أن يكون المأتى موضع الحرث. ولم يجئ:
أنى زيد؟ ؛ بمعنى: كيف هو؟ (وأخرى بمعنى: من أين؛ نحو: أَنَّى لَكِ هذا (1))
===
عليه، وحينئذ فتمثيل المصنف وغيره لأنى الاستفهامية بالآية فيه نظر، فالأولى التمثيل بأنى يحيى هذه الله بعد موتها وفيه أن جعلها استفهامية على الوجه الذى ذكره الشارح ظاهر، وحينئذ فلا حاجة لتكلف الحذف، وذكر الضحاك أن أنى فى الآية بمعنى متى، وأنه معنى ثالث لها ويرده سبب النزول وهو ما روى أن اليهود كانوا يقولون: من باشر امرأته من دبرها فى قبلها جاء الولد أحول، فذكر ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية
(قوله: أى على أى حال) تفسير لها بمعنى كيف، والعامل فى أنى هذه فأتوا، وأورد العلامة أبو حيان على ذلك ما حاصله إن أنى إذا كانت شرطية أو استفهامية لها الصدر فلا يعمل فيها ما قبلها- تأمل.
وقوله على أى حال أى: من قيام أو اضطجاع وقوله: ومن أى شق أى: من خلف أو أمام
(قوله: المأتى) بفتح التاء أى مكان الإتيان
(قوله: موضع الحرث) أى: وهو القبل دون الدبر، ومما يؤيد ذلك أن الله تعالى قال فى آية:(2) فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إذ يفهم منه أن ثم موضعا لم يؤمر بالإتيان منه، وغير الدبر مأمور بالإتيان منه إجماعا، فلم يبق محل لم يؤذن فيه إلا الدبر، وأخذ الشيعة من الآية جواز إتيان المرأة فى دبرها، وتأولوا الآية على أن المراد: فأتوا حرثكم أى: ذات الحرث وهى النساء، فيصدق بالإتيان فى أى موضع ورد عليهم بأن الحرث بمعنى المحروث وهو القبل، فشبه الفرج بالأرض المحروثة والمنى بالبذر والذكر بالمحراث والولد بالنبات
(قوله: ولم يجىء أنى زيد) أى: من غير إيلاء الفعل لها وهذا محترز قوله: ويجب أن يكون بعدها فعل
(قوله: بمعنى كيف هو) أى أصحيح أم سقيم.
(قوله: وأخرى بمعنى من أين) أى: وهذه لا يجب أن يكون بعدها فعل وظاهره أن أنى فى تلك الحالة متضمنة لمعنى الاسم والحرف معا وهما الظرفية والابتدائية، وسيأتى عن بعض النحاة ما يخالف ذلك.
(1) آل عمران: 37.
(2)
البقرة: 222.
أى: من أين لك هذا الرزق الآتى كل يوم، وقوله: تستعمل إشارة إلى أنه يحتمل أن يكون مشتركا بين المعنيين، وأن يكون فى أحدهما حقيقة وفى الآخر مجازا، ويحتمل أن يكون معناه: أين إلا أنه فى الاستعمال يكون مع من ظاهرة؛ كما فى قوله: من أين عشرون لنا من أنى أو مقدرة؛ كقوله تعالى: أَنَّى لَكِ هذا (1) أى:
من أنى؛ أى: من أين؛
…
===
قال فى عروس الأفراح: والفرق بين أنى ومن أين أن أنى سؤال عن المكان الذى دخل فيه الشىء ومن أين سؤال عن المكان الذى برز عنه الشىء. اه.
(قوله: أى من أين لك هذا الرزق إلخ) أى: وليس المراد كيف لك هذا بدليل قولها قالت هو من عند الله
(قوله: الآتى كل يوم) لأنه كان يجد عندها فاكهة الشتاء فى الصيف وفاكهة الصيف فى الشتاء، ثم إنه ليس المراد المكان حقيقة، وإنما يراد به ما يراد من قولهم من أى وجه نلت ما نلت؟
(قوله: وقوله تستعمل) أى: دون أن يقول وضعت
(قوله: إشارة إلى أنه) أى أنى، وقوله مشتركا أى: اشتراكا لفظيا، وقوله: بين المعنيين.
أى: معنيى كيف ومن أين
(قوله: ويحتمل أن يكون إلخ) عطف على يحتمل الأول أى:
وإشارة إلى أنه يحتمل أن يكون معناه إلخ، وحاصل كلام الشارح أن المصنف عبر بتستعمل إما للإشارة إلى أنه أى أنى يحتمل أن يكون مشتركا بين المعنيين وأنه حقيقة فيهما وأن يكون حقيقة فى أحدهما مجازا فى الآخر، وإما للإشارة إلى ما قاله بعض النحاة:
إن أنى إذا لم تكن بمعنى كيف معناه أين دائما، لكن تكون من قبلها إما مقدرة كما فى الآية أو ظاهرة كما فى البيت؛ وذلك لأن قول المصنف إنها تستعمل بمعنى من أين صادق بما إذا كان ذلك على جهة إضمار من أو بدونه، والحاصل أن المصنف إنما عبر بتستعمل دون وضعت إشارة إلى أنه يحتمل احتمالات ثلاثة، وهذا ما يفيده كلام المطول، وسم.
والذى فى الحفيد أن قوله: ويحتمل متعلق بالاستعمال الثانى الذى ذكره المصنف بقوله وأخرى بمعنى: من أين، وأن الأولى للشارح أن يقول وقوله: بمعنى من أين معناه:
أين فيكون نصا فى تعلقه بالاستعمال الثانى.
(1) آل عمران: 37.
على ما ذكره بعض النحاة (ثم إن هذه الكلمات) الاستفهامية (كثيرا ما تستعمل فى غير الاستفهام) مما يناسب المقام بحسب معونة القرائن (كالاستبطاء؛ نحو: كم دعوتك، والتعجب؛ نحو: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ (1)
…
===
(قوله: ويحتمل أن يكون معناه) أى: معنى أنى وقوله: أين أى لا مجموع من أين وقوله: إلا أنه أى أنى
(قوله: من أين إلخ) خبر مقدم، وعشرون: مبتدأ مؤخر، ولنا:
صفة له وقوله من أنى الظاهر أنه خبر حذف مبتدؤه وصفته بدليل ما قبله أى: من أنى عشرون لنا والجملة مؤكدة لما قبلها، ويحتمل أن يكون تأكيدا، فالمراد من أين وجود الفصل. اه يس.
(قوله: على ما ذكره إلخ) متعلق بقوله أن يكون معناه إلخ
(قوله: ثم إن هذه الكلمات إلخ) إنما عبر بالكلمات ليشمل الاسم منها والحرف
(قوله: كثيرا ما تستعمل فى غير الاستفهام) أى: الذى هو أصلها فيكون استعمالها فى ذلك الغير مجازا لمناسبة بين المعنى الأصلى وذلك الغير مع وجود القرينة الصارفة عن إرادة ذلك المعنى الأصلى الذى هو الاستفهام وما ذكرناه من أن استعمال تلك الكلمات الاستفهامية فى تلك المعانى المغايرة للاستفهام مجاز هو ما يفيده كلام الشارح فى المطول، والظاهر أنه مجاز مرسل كما يأتى بيانه
(قوله: بحسب معونة) أى إعانة القرائن الدالة على تعيين ما يناسب المقام وهو متعلق بتستعمل أو بمحذوف أى وتعيين ذلك الغير
(قوله: كالاستبطاء) أى:
تأخر الجواب
(قوله: نحوكم دعوتك) أى: نحو قولك لمخاطب دعوته فأبطأ فى الجواب كم دعوتك فليس المراد استفهام المتكلم عن عدد الدعوة لجهله به، إذ لا يتعلق به غرض فقرينة الابطاء مع عدم تعلق الغرض بالاستفهام ومع جهل المخاطب بالعدد دالة على قصد الاستبطاء والعلاقة السببية، وبيان ذلك أن السؤال عن عدد الدعوة الذى هو مدلول اللفظ مسبب عن الجهل بذلك العدد والجهل به مسبب عن كثرته عادة، إذ يبعد جهل القليل وكثرته مسببة عن الاستبطاء، فأطلق اسم المسبب وأراد السبب ولو بوسائط، والأولى إسقاط الوسائط التى لا حاجة لها، وذلك بأن تقول الاستفهام عن عدد
(1) النمل: 20.
لأنه كان لا يغيب عن سليمان عليه الصلاة والسلام إلا بإذنه فلما لم يبصره مكانه تعجب من حال نفسه فى عدم إبصاره إياه، ولا يخفى أنه لا معنى لاستفهام العاقل عن حال نفسه، وقول صاحب الكشاف: نظر سليمان إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال: مالى لا أرى؟ ؛ على معنى أنه لا يراه
…
===
الدعاء مسبب عن تكرير الدعوة وتكريرها مسبب عن الاستبطاء فهو من باب استعمال اسم المسبب فى السبب، ومثل ما قيل هنا يقال فيما مثل به أيضا من قوله تعالى مَتى نَصْرُ اللَّهِ (1) فالاستفهام عن زمان النصر يستلزم الجهل بذلك الزمن والجهل به يستلزم استبعاده عادة أو ادعاء، إذ لو كان قريبا كان معلوما بنفسه أو بأماراته الدالة عليه واستبعاده يستلزم استبطاءه
(قوله: لأنه) أى: الهدهد كان لا يغيب إلخ وهذا علة لمحذوف أى: وإنما كان الغرض من هذا التركيب التعجب؛ لأنه إلخ
(قوله: فى عدم إبصاره) أى: وهو عدم إبصاره له، ففى بمعنى من البيانية، أو أنه من ظرفية المطلق فى القيد أى: تعجب من حال نفسه المتحقق فى عدم إبصاره إياه كذا ذكر بعضهم، وهذا مبنى على أن المستفهم عنه عدم إبصاره، وليس كذلك، إذ معنى العبارة أى شىء ثبت لى فى حال كونى لا أرى الهدهد أى: أى حالة حصلت لى منعتنى رؤيته، فالأولى أن يقال المعنى تعجب من حال نفسه فى وقت عدم إبصاره، فالمراد بحال نفسه هنا الحالة التى قامت به وقت عدم رؤية الهدهد مع حضوره بحسب ظنه أولا فكانت سببا لعدم الرؤية، وتلك الحالة إما غفلة بصره، أو مرض عينيه، أو نحو ذلك
(قوله: ولا يخفى إلخ) علة لمحذوف عطف على قوله تعجب من حال نفسه أى: لأنه استفهم عنها، إذ لا يخفى أنه لا معنى لاستفهام العاقل: كسليمان عن حال نفسه؛ لأن العاقل أدرى بحال نفسه من غيره فكيف يستفهم عنها من الغير، ولما امتنع حمل الكلام على ظاهره من السؤال عن حال نفسه عند عدم الرؤية حمل على التعجب مجازا؛ لأن السؤال عن الحال وهو السبب فى عدم الرؤية يستلزم الجهل بذلك السبب والجهل بسبب عدم الرؤية يستلزم التعجب وقوعا أو ادعاء، إذ التعجب معنى قائم بالنفس يحصل من إدراك الأمور القليلة الوقوع
(1) البقرة: 214.
وهو حاضر لساتر ستره،
…
===
المجهولة السبب، فاستعمال لفظ الاستفهام فى التعجب مجاز مرسل من استعمال اسم الملزوم فى اللازم وما ذكره الشارح من أن العاقل لا يستفهم عن حال نفسه من الغير لا يرد عليه أن المريض يسأل الطبيب عن حاله؛ لأن المريض إنما يسأله عن سبب مرضه أو عما ينفعه لا عن كونه مريضا، ثم إن ما ذكره الشارح من أنه لا معنى لاستفهام العاقل عن حال نفسه ظاهر بالنسبة للأحوال التى لا تخفى على صاحبها كقيامه وقعوده وجوعه وعطشه، فلا يقال ما حالى أى: أنا نائم أو قاعد أو أنا جائع أو لا، وأما الأحوال المنفصلة، أو ما فى حكمها مما تخفى عليه فيجوز أن يستفهم الإنسان عنها كأن يقال ما بالى أوذى دون سائر المسلمين أى: ما السبب الذى صار متعلقا بى وحالا من أحوالى فأوجب أذيتى، ومن المعلوم أن السبب فى عدم رؤيته للهدهد حال منفصلة عنه، وحينئذ فلا يتم ما ذكره الشارح من التعليل، ولما أمكن حمل السؤال فى الآية على الحال المنفصلة التى يمكن السؤال عنها أجرى الاستفهام الواقع فيها على الاستفهام الحقيقى عند الزمخشرى، وإليه أشار الشارح بقوله وقول صاحب الكشاف إلخ، وهو مبتدأ خبر يدل إلخ
(قوله: وهو حاضر) أى: والهدهد حاضر وهذه الجملة حالية، وقوله لسائر متعلق بقوله لا يراه، وحاصله أن سليمان جازم بعدم رؤيته مع حضوره ومتردد فى السبب المانع له من الرؤية مع حضوره هل هو ساتر ستره عنه، أو غير ذلك ككونه خلفه أو على يمينه أو يساره، فسأل الحاضرين عن ذلك السبب الذى منعه فقال لهم:
ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ (1) أى: ما السبب فى عدم رؤيتى له والحال أنه حاضر هل هو ساتر ستره عنى أو غير ذلك ككونه خلفى كذا قرر شيخنا العدوى، ويوافقه ما فى، سم، وفى ابن يعقوب فى بيان كلام الزمخشرى: المذكور هنا ما محصله أن سليمان لما نظر لمكان الهدهد فلم يبصره تردد فى السبب المانع له من الرؤية هل هو ساتر تعلق به فمنعه من الرؤية مع كونه حاضرا، أو ليس هو ساترا مع كونه حاضرا، بل غيبته فلما تردد فى ذلك السبب سأل الحاضرين عن ذلك السبب الذى أوجب له منع الرؤية من
(1) النمل: 20.
أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له؛ يدل أن الاستفهام على حقيقته (والتنبيه على الضلال؛
…
===
كونه ساترا أو غيبته عنه بلا إذن، فقال لهم: مالى لا أرى الهدهد أى: ما السبب فى عدم رؤيتى له هل هو ساتر ستره عنى مع كونه حاضرا أو غيبته بلا إذن. اه.
وربما كان التقرير الأول أقرب لكلام شارحنا، وعلى كل من التقريرين فالمسئول عنه ليس حالا من أحوال نفسه- فلذا صح السؤال عنه
(قوله: وهو حاضر) لظنه حضوره.
(قوله: أو غير ذلك) أى: ككونه خلفه
(قوله: ثم لاح) أى ظهر له لا على وجه الجزم بدليل قوله بعد ذلك كأنه يسأل إلخ
(قوله: فأضرب عن ذلك) أى: عما ذكر من الجزم بحضوره المشار له بقوله وهو حاضر، والمراد أضرب السؤال الذى كان على وجه الاحتمال وتساوى الأمرين والاحتمال الأول هنا يناسب الاحتمال الأول المذكور سابقا، والثانى هنا يناسب الثانى فيما مر وقوله فأضرب عن ذلك أى: حال كونه مستفهما بقوله أم كان من الغائبين أى: بل أكان من الغائبين فأم منقطعة لا متصلة؛ لأن شرطها وقوع الهمزة قبلها
(قوله: كأنه يسأل عن صحة ما لاح له) أى:
هل ما لاح له من كونه غائبا صحيح أم لا وضمير كأنه لسليمان
(قوله: يدل على أن الاستفهام على حقيقته) كذا فى بعض النسخ من غير زيادة لا قبل يدل وهى ظاهرة ويوافقها ما قاله العلامة السيد فى شرح المفتاح ونصه الذى يظهر مما ذكره صاحب الكشاف حمل مالى على حقيقة الاستفهام، فيكون المعنى أى أمر ثبت لى وتلبس بى فى حال عدم رؤيتى الهدهد أهناك ساتر أو مانع آخر. اه.
وفى بعض النسخ لا يدل على أن الاستفهام على حقيقته بإدخال لا على يدل وهذه النسخة مشكلة، فإن قوله على معنى أنه لا يراه لساتر أو غير ذلك والحال أنه حاضر صريح فى أنه استفهام حقيقى عن السبب الذى أوجب منع الرؤية ما هو؟
وأجيب عن هذه النسخة بأن مراد الشارح عدم الدلالة قطعا لاحتمال إرادة التعجب وهذا لا ينافى ظهوره فى حقيقة الاستفهام كما قال السيد فلا مخالفة بين كلام الشارح
نحو: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (1) والوعيد؛ كقولك لمن يسىء الأدب: ألم أؤدب فلانا
…
===
حتى على هذه النسخة وبين كلام السيد وحاصل ما فى المقام أن عدم الرؤية قد يكون لحائل فى جانب الرائى، وقد يكون لحائل فى جانب المرئى فقوله: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ إن كان استفهاما عن حائل فى جانب الرائى يوجب عدم الرؤية فلا يمكن حمل الاستفهام على حقيقته، إذ لا معنى للاستفهام عن حال نفسه فهو مجاز عن التعجب، وإن كان استفهاما عن حائل فى جانب المرئى يوجب عدم الرؤية كالساتر، فيجوز أن يكون الاستفهام على حقيقته، فإن قصد به التعجب وجهل إرادة المعنى الحقيقى بمجرد الانتقال كان كناية وإن قصد به المعنى الحقيقى مع التعجب كان من مستتبعات الكلام، وبهذا ظهر الجمع بين كون الاستفهام على حقيقته وكونه للتعجب وظهر الجمع بين كلام الشارح من أن كلام صاحب الكشاف لا يدل على أن الاستفهام على حقيقته على النسخة الثانية وبين كلام السيد فى شرح المفتاح القائل أن كلام صاحب الكشاف ظاهر فى أن الاستفهام على حقيقته لما علمت أن مراد الشارح عدم الدلالة قطعا ومراد السيد ظهوره فى حقيقة الاستفهام. اه عبد الحكيم.
(قوله: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أى: فليس القصد الاستفهام عن مذهبهم، بل التنبيه على ضلالهم وأنهم لا مذهب لهم ينجون به والعلاقة بين الاستفهام المدلول لذلك اللفظ وبين التنبيه المذكور اللزوم وبيان ذلك أن الاستفهام عن الشىء: كالطريق فى هذا المثال يستلزم تنبيه المخاطب عليه، وتوجيه ذهنه إليه، فإذا سلك طريقا واضح الضلالة كان ذلك غفلة منه عن الالتفات لتلك الطريق، فإذا نبه عليه ووجه ذهنه إليه كان تنبيها له على ضلاله، فالاستفهام عن ذلك يستلزم توجيه ذهنه إليه المستلزم للتنبيه على كونه ضلالا.
قال السيد: فاستعمال صيغة الاستفهام فى التنبيه المذكور من استعمال اسم الملزوم فى اللازم، قال عبد الحكيم: ولك أن تجعل اللفظ مستعملا فى الاستفهام ليتوصل
(1) التكوير: 26.
إذا علم) المخاطب (ذلك) وهو أنك أدبت فلانا؛ فيفهم معنى الوعيد والتخويف فلا يحمله على السؤال.
(والتقرير) أى: حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه
…
===
به إلى التنبيه على طريق الكناية أو يجعل اللفظ مستعملا فى الاستفهام مع التنبيه على أنه من مستتبعات الكلام، وكذا يقال فيما سيجىء بعد، واعلم أن استعمال أداة الاستفهام فى التنبيه المذكور دون التوبيخ بكونه طريق ضلال يتضمن معنى لطيفا وهو الإشارة إلى أن كون ذلك الأمر ضلالا أمر واضح يكفى فى العلم به مجرد الالتفات وإيهام أن المخاطب أعلم بتلك الطريق من المتكلم من حيث إتيانه له بالاستفهام الذى من شأنه أنه إنما يوجه لمن هو أعلم بالمستفهم عنه، وكثيرا ما يؤكد استعمال الاستفهام فى التنبيه على الضلال بالتصريح بالضلال، فيقال لمن ضل عن طريق الصواب: يا هذا إلى أين تذهب قد ضللت فارجع؟ وبهذا تعلم أن التنبيه على الضلال لا يخلو عن الإنكار والنفى
(قوله: إذا علم المخاطب ذلك) هذا ظرف لمحذوف أى: وإنما يكون هذا وعيد إذا علم المخاطب المسىء للأدب ذلك التأديب الحاصل منك لفلان أى: وأنت تعلم أنه يعلم ذلك فلا يحمل كلامك حينئذ على الاستفهام الحقيقى؛ لأنه يستدعى الجهل وهو عالم أنك عالم بتأديب فلان، بل يحمله على مقصودك من الوعيد بقرينة كراهيتك للإساءة المقتضية للزجر بالوعيد، والعلاقة بين الاستفهام والوعيد اللزوم، فإن الاستفهام ينبه المخاطب على جزاء إساءة الأدب، وهذا يستلزم وعيده لاتصافه بإساءة الأدب فهو مجاز مرسل من استعمال اسم الملزوم فى اللازم، ولك أن تجعل الكلام من قبيل الكناية بأن تجعل اللفظ مستعملا فى الاستفهام لينتقل منه إلى الوعيد أو مستعملا فيهما على أن يكون الوعيد من مستتبعات الكلام.
(قوله: والتقرير) أى: الاعتراض بالشىء واستعمال صيغة الاستفهام فى ذلك مجاز مرسل علاقته الإطلاق والتقييد، كما يأتى بيانه
(قوله: أى حمل المخاطب) من إضافة المصدر للمفعول أى: حمل المتكلم المخاطب على الاعتراف بالأمر الذى استقر عنده من ثبوت شىء أو نفيه كما يأتى فى نحو: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ (1) وأَ أَنْتَ
(1) الزمر: 36.
وإلجاؤه إليه (بإيلاء المقرر به الهمزة) أى: بشرط أن يذكر بعد الهمزة ما حمل المخاطب على الإقرار به (كما مر) فى حقيقة الاستفهام من إيلاء المسئول عنه الهمزة؛ تقول: أضربت زيدا؟
…
===
قُلْتَ لِلنَّاسِ (2) الآية
(قوله: وإلجائه إليه) أى: إلى الإقرار، والإلجاء قوة الطلب، وهذا تفسير لما قبله وإلجاء المخاطب للاعتراف بالأمر يكون لغرض من الأغراض كأن يكون السامع منكرا لوقوع ذلك الفعل من المخاطب فتريد أن يسمعه منه من غير قصد لحقيقة الاستفهام المستلزم للجهل، أو يكون فى السماع منه تلذذ بسبب المراجعة فى الخطاب
(قوله: بإيلاء إلخ) متعلق بمحذوف حال أى حال كونه ملتبسا بإيلاء المقرر به وهو ما يعرفه المخاطب للهمزة والحال تفهم الشرطية، ولذا قال الشارح أى: بشرط أن يذكر إلخ
(قوله: ما حمل المخاطب إلخ) أى: لفظ حمل المخاطب بقرينة قوله يذكر (وقوله:
على الإقرار به) أى: بمدلوله
(قوله: من إيلاء المسئول عنه الهمزة) أى: فإذا صرف الاستفهام للتقرير كان الوالى للهمزة هو المقرر به؛ لأن التقرير أى: حمل المخاطب على الإقرار تابع للاستفهام؛ لأن الجواب فى الاستفهام إقرار فالاستفهام مستلزم لحمله على الإقرار فى الجملة فيعتبر فى التقرير ما يعتبر فى أصله، والكاف فى قول المصنف كما مر للتشبيه أى: إيلاء مثل الإيلاء الذى مر فى حقيقة الاستفهام، وتوضيحه أن الهمزة قد سبق أنها تأتى للاستفهام، وقد تأتى للتقرير وللإنكار فإذا أتت لهما وليها المقر به والمنكر كما يليها المستفهم عنه فى حال كونها للاستفهام، وحينئذ فيأتى فى حالة كونها للتقرير، والإنكار التفصيل الذى مر فى الاستفهام من كون المقرر به أو المنكر إما الفعل أو الفاعل أو المفعول أو الحال أو غيرها من الفضلات، فمتى كان المقرر به أو المنكر واحدا من هذه كان واليا للهمزة كما أن المستفهم عنه إما أن يكون هو الفعل أو الفاعل أو المفعول أو الحال أو غيرها من الفضلات فمتى كان المستفهم عنه واحدا من هذه كان واليا للهمزة.
(2) المائدة: 116.
فى تقريره بالفعل، وأأنت ضربت؟ فى تقريره بالفاعل، وأزيدا ضربت؟ فى تقريره بالمفعول؛ وعلى هذا القياس. وقد يقال: التقرير بمعنى التحقيق والتثبيت؛ فيقال:
أضربت زيدا؟
…
===
(قوله: فى تقريره) أى: المخاطب بالفعل أى: إذا أردت أن تحمله على الإقرار بالفعل فأنت عالم بأنه ضربه ولكن قصدت تقريره بالفعل لغرض من الأغراض التى مرت ونحوها
(قوله: وأأنت ضربت فى تقريره بالفاعل) أى: المعنوى لا الاصطلاحى لأن أنت مبتدأ ومثله قوله تعالى حكاية أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (1) إذ ليس مراد الكفار حمله على الإقرار بأن كسر الأصنام قد كان، بل حمله على الإقرار بأن الكسر لم يكن إلا منه، ويدل لهذا إشارتهم للفعل فى قوله تعالى أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا فإنها تقتضى أن المطلوب الإقرار بالفاعل لا بالفعل وقول إبراهيم لهم بل فعله كبيرهم هذا ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب فعلت أو لم أفعل
(قوله: وعلى هذا القياس) أى: قياس بقية الفضلات فتقول: أفى الدار زيد فى تقريره بالمجرور، وأراكبا جئت فى تقريره بالحال.
(قوله: وقد يقال التقرير بمعنى التحقيق والتثبيت) أى: كما يقال بمعنى حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه أى: أنه يطلق بإطلاقين بطريق الاشتراك والذى قصده المصنف من المعنيين هو المعنى الأول أعنى: حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه، ولذا اقتصر الشارح عليه فى حل المتن والدليل على أن المصنف قصد ذلك المعنى لفظ به فى قوله بعد إيلاء المقرر به، إذ لو قصد المعنى الآخر لقال بإيلاء المقرر وحذف قوله به، وعطف التثبيت على التحقيق فى كلام الشارح للتفسير، فالمراد بالتحقيق تحقيق النسبة وتثبيتها، واعلم أن استعمال الاستفهام فى كل من معنيى التقرير مجاز مرسل والعلاقة فى الأول الإطلاق والتقييد؛ وذلك لأن الاستفهام طلب الإقرار بالجواب مع سبق جهل المستفهم، فاستعمل لفظه فى مطلق طلب الإقرار، ثم فى طلب الإقرار من غير سبق جهل، وقول بعضهم العلاقة اللزوم؛ لأن الاستفهام عن أمر معلوم للمخاطب يستلزم حمله
(1) الأنبياء: 62.
بمعنى أنك ضربته البته (والإنكار كذلك؛ نحو: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ (1) أى:
…
===
على إقراره لكونه معلوما له فيه أن اللزوم لا يكفى فى بيان العلاقة لوجوده فى جميع العلاقات، والعلاقة فى الثانى قيل الإطلاق والتقييد؛ لأن الاستفهام عن الشىء يستلزم تحقيقه وتثبيته بالجواب، فاستعمل اللفظ فى مطلق التحقيق والتثبيت، وفيه أن هذا ليس هو الإطلاق والتقييد المعتبر علاقة كما هو ظاهر، وقيل إن العلاقة اللزوم؛ لأن الاستفهام يلزمه التحقيق والتثبيت وفيه ما مر من البحث، فلعل الأولى أن استعمال الاستفهام فى التحقيق على طريق الكناية أو أنه من مستتبعات الكلام كما مر
(قوله: بمعنى أنك ضربته البته) قال سم: ينبغى أن يكون المراد أنه إن كان ضرب المخاطب مجهولا لنفسه فالمقصود إخباره به على وجه التثبيت، وإن كان معلوما له فالمقصود تثبيت إعلامه بكونه معلوما كأنه يقول: هذا معلوم قطعا فلا تطمع فى إنكاره- فتأمل.
(قوله: والإنكار) بالجر عطف على الاستبطاء وقوله كذلك حال من الإنكار والمشار إليه التقرير أى: حال كون الإنكار مماثلا للتقرير فى إيلاء المنكر الهمزة فقول الشارح بإيلاء إلخ بيان للمراد من التشبيه، وانظر لم فصل الشارح بين المفسر والمفسر بالمثال وذكر مثالا لما يكون المنكر فيه المفعول مع أن مثال المصنف وهو قوله: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ مثال له فلو ذكر التفسير قبل المثال، ووطّأ لمثال المصنف بقوله: والمفعول كان أحسن وفى بعض النسخ إسقاط المثال بعد قوله كذلك، وعليه فلا إشكال، والعلاقة بين الاستفهام والإنكار أن المستفهم عنه مجهول، والمجهول منكر أى: ينفى عنه العلم، فاستعمل لفظ الاستفهام فى الإنكار لهذه الملابسة المصححة للمجاز الإرسالى بمعرفة القرائن الحالية- قاله ابن يعقوب، وذكر غيره أن إنكار الشىء بمعنى كراهته والنفرة عن وقوعه يستلزم عدم توجه الذهن إليه وهو يستلزم الجهل به، والجهل يقتضى الاستفهام، والأحسن أن يقال: إن استعمال الاستفهام فى الإنكار إما كناية، أو أنه من مستتبعات الكلام كما مر
(قوله: أغير الله تدعون) فالدعاء مسلم، والمنكر كون المدعو
(1) الأنعام: 40.
بإيلاء المنكر الهمزة كالفعل فى قوله:
أتقتلنى والمشرفىّ مضاجعى
والفاعل فى قوله تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ (1) والمفعول فى قوله تعالى أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا (2)
…
===
غير الله
(قوله: بإيلاء إلخ) وذلك لأن مآل الإنكار إلى النفى، فكما أن أداة النفى تدخل على ما أريد نفيه، كذلك تدخل أيضا على ما أريد إنكاره من الفعل وما بعده
(قوله: أتقتلنى إلخ)(3) تمامه:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
قال الشارح فى أول بحث التشبيه أى: أيقتنلى ذلك الرجل الذى توعدنى، والحال إن مضاجعى سيف منسوب إلى مشارف اليمن وسهام محدودة النصال صافية مجلوة. اه.
وهذا يقتضى أن قوله: أتقتلنى بالياء التحتية لا بصيغة الخطاب، وإنما لم يكن هذا من إنكار الفاعل أعنى: كون ذلك الرجل بخصوصه قاتلا، وإنما يقتله غيره؛ لأن الشاعر ذكر ما هو مانع من الفعل حيث قال: والمشرفى إلخ، فإنه مانع من قتل ذلك الرجل ومن غيره؛ لأنه معه لكل أحد لا لهذا الرجل فقط، وحينئذ فلا يكون الإنكار متوجها للفاعل لعجزه بوجود المانع فتعين أن يكون الإنكار متوجها إلى نفس الفعل
(قوله: والفاعل) أى: اللغوى لا الاصطلاحى كما مر
(قوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ إلخ) أى:
فالمنكر كونهم هم القاسمين لا نفس القسمة للرحمة؛ لأن القاسم لها هو الله تعالى
(قوله: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) فالمنكر كون المتخذ غير الله وأما أصل الاتخاذ فلا يتعلق به إنكار، وهذا بخلاف قوله تعالى: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً (4) فإن الاتخاذ منكر وغير مسلم
(1) الزخرف: 32.
(2)
الأنعام: 14.
(3)
البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص 150، وفى المفتاح ص 352، والكامل ج 2 ص 71، والإيضاح ص 336.
(4)
الأنعام: 74.
وأما غير الهمزة فيجىء للتقرير والإنكار، لكن لا يجرى فيه هذه التفاصيل، ولا يكثر كثرة الهمزة؛ فلذا لم يبحث عنه (ومنه) أى: من مجىء الهمزة للإنكار (: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ (1) أى: الله بكاف له) لأن إنكار النفى نفى له
…
===
(قوله: وأما غير الهمزة إلخ) هذا جواب عما يقال إن تقييد المصنف بالهمزة فى قوله بإيلاء المقرر به الهمزة، وقوله بعد والإنكار كذلك يقتضى أن كلا من التقرير والإنكار لا يكون بغير الهمزة، وليس كذلك
(قوله: فيجىء للتقرير والإنكار) هذا جواب أما، وقد حذف جوابها فى المطول، وهو سائغ
(قوله: هذه التفاصيل) أى: من أن التقرير يكون لما وليها من الفعل أو الفاعل أو المفعول أو غيره من الفضلات، ومن أن الإنكار كذلك يكون لما وليها من الفعل أو الفاعل أو المفعول أو غيره من الفضلات ووجه ذلك أن غيرها إنما يكون لشىء مخصوص، فهل مثلا موضوعة لطلب التصديق، فإذا استعملت فى التقرير أو الإنكار كانت لتقرير النسبة الحكمية أو إنكارها فقط، كما يقال: هل زيد عاجز عن أذيتى عند ظهور عجزه وغير هل من أدوات الاستفهام يعنى ما عدا الهمزة إنما يكون للتقرير بما يطلب تصوره بها وهو مدلو؛ لأنها أو لإنكاره من العدد والزمان والمكان والحال والعاقل وغيره ككم أعنتك، ومن ذا ضربت، وماذا صنعت معكم عند قيام القرينة فى الكل على أن المراد التقرير أو الإنكار، وحينئذ فلا يتأتى فى غير الهمزة أن يكون لتقرير أو إنكار كل ما وليها من فعل أو فاعل أو مفعول أو غيره من الفضلات
(قوله: ومنه أَلَيْسَ اللَّهُ إلخ) إنما فصله؛ لأن فيه الاعتبارين إنكار النفى وتقرير الإثبات أو لما فى هذا المثال من الخلاف كما يأتى بيانه
(قوله: للإنكار) أى: الإبطالى كما فى المغنى.
(قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) أى: فليس المراد به الاستفهام، بل المراد إنكار ما دخلت عليه الهمزة وهو عدم الكفاية فيكون المراد الإثبات، فلذا قال المصنف أى: الله كاف له فإنكار النفى ليس مقصودا بالذات، بل وسيلة للإثبات على أبلغ وجه وهذا الكلام رد على من يتوهم من الكفرة أن الله تعالى ليس بكاف عبده
(قوله: لأن إنكار النفى نفى له) أى: للنفى وهذه مقدمة صغرى والكبرى المذكورة فى المتن ومجموعهما
(1) الزمر: 36.
(ونفى النفى إثبات وهذا) المعنى (مراد من قال: إن الهمزة فيه للتقرير) أى:
لحمل المخاطب على الإقرار (بما دخله النفى) وهو: " الله كاف"(لا بالنفى) وهو:
ليس الله كاف، فالتقرير لا يجب أن يكون بالحكم الذى دخلت عليه الهمزة، بل بما يعرف المخاطب
…
===
دليل على ما ذكر من أن المراد من الآية الإثبات
(قوله: ونفى النفى إثبات) أى: للمنفى وإنما كان كذلك؛ لأنه لا واسطة بينهما، فحيث انتفى أحدهما ثبت الآخر قال سم وإذا تأملت أمثلة الإنكار وجدت معنى النفى فى جميعها، لكن تارة يكون لنفس المذكور وتارة يكون للياقته وانبعاثه كما فى أعصيت ربك الآتى، وبهذا تعلم صحة إطلاق أن الاستفهام الإنكارى فى معنى النفى
(قوله: وهذا المعنى) أى: تحقيق أن الله تعالى كاف عبده
(قوله: إن الهمزة فيه) أى: فى هذا التركيب وهو أليس الله بكاف عبده
(قوله: للتقرير بما دخله النفى) وعلى هذا فيصح أن يقال: إن الهمزة فيه للتقرير كما يصح أن يقال: إنها للإنكار، ومثل: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ قوله تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وأَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً (2) فقد يقال: إن الهمزة للإنكار وقد يقال: إنها للتقرير وكلاهما حسن فعلم أن التقرير ليس يجب أن يكون بما دخلت عليه الهمزة، بل بما يعرفه المخاطب من الكلام الذى دخلت عليه الهمزة من إثبات كما فى آية أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ أو نفى كما فى آية أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ (3) إلخ ومن هذا تعلم أن شرط المصنف فيما سبق إيلاء المقرر به الهمزة ليس كليا- كذا ذكر الفنرى، وفى الغنيمى: إن قلت: إن جعل الهمزة فيما ذكر للتقرير لا يناسب ما مر للمصنف من أن المقرر به يجب أن يلى الهمزة والوالى للهمزة هنا النفى والهمزة ليست لتقريره، بل لتقرير المنفى قلت ما سبق محمول على ما إذا أريد التقرير بمفرد من فعل أو فاعل أو مفعول أو غيرها فمتى أريد التقرير بواحد منها وجب أن يلى الهمزة وما هنا محمول على ما إذا أريد التقرير بالحكم، فإذا أريد ذلك فلا يكون بما دخلت عليه الهمزة، بل بما يعرف المخاطب من ذلك الحكم الذى اشتمل عليه الكلام الذى فيه الهمزة، وإن لم يكن واليا لها كما ذكره الشارح. اه.
(1) الشرح: 1.
(2)
الضحى: 6.
(3)
المائدة: 116.
من ذلك الحكم إثباتا أو نفيا؛ وعليه قوله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ (1) فإن الهمزة فيه للتقرير؛ أى: بما يعرفه عيسى عليه الصلاة والسلام من هذا الحكم، لا بأنه قد قال ذلك؛ فافهم. وقوله: والإنكار كذلك- دل على أن صورة إنكار الفعل أن يلى الفعل الهمزة،
…
===
وهو موافق لما ذكره الفنرى من أن اشتراط المصنف فيما سبق إيلاء المقرر به الهمزة ليس كليا، وذكر العلامة يس: أن قول الشارح فالتقرير لا يجب إلخ أى: عند القائل: إن الهمزة فى الآية المذكورة ونحوها للتقرير: كالزمخشرى فى بعض المحال لا عند المصنف؛ لأن الهمزة فى هذا عنده للإنكار لا للتقرير، وإن قول من قال: إن قول المصنف سابقا والتقرير بإيلاء المقرر به الهمزة لا يصح كليا فيه نظر؛ لأن المصنف لا يوافق هذا القائل فى جعل الهمزة للتقرير فى هذا، بل جعلها للإنكار، ولا شك أن المنكر ولى فيها الهمزة ولما فى هذا المثال من الخلاف فصله بقوله ومنه، وحينئذ فكلام المصنف يصح كليا على مختاره.
(قوله: من ذلك الحكم) أى: مما يتعلق بذلك الحكم الداخلة عليه الهمزة مثلا:
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ إلخ الحكم فيه ثبوت قوله للناس اتخذونى فى إلخ، والذى يتعلق به عدم القول لهم ذلك
(قوله: إثباتا أو نفيا) تعميم فيما يعرفه المخاطب من الحكم الذى اشتمل عليه الكلام الذى فيه الهمزة أى: كان ما يعرفه المخاطب إثباتا أو نفيا أى: ذا إثبات أو نفى أو مثبتا أو منفيّا
(قوله: وعليه) أى: وقد ورد عليه أى: على النفى
(قوله: بما يعرفه عيسى من هذا الحكم) أى: مما يتعلق بهذا الحكم وهو أنه لم يقل اتخذونى وأمى ألهين من دون الله، فإذا أقر عيسى بما يعلم وهو أنه لم يقل ذلك انقطعت أوهام الذين ينسبون إليه ادعاءه الألوهية وكذبهم إقراره وإقامة الحجة عليهم
(قوله: لا بأنه قد قال ذلك) أى: لا التقرير بأنه قد قال ذلك، إذ قول هذا مستحيل فى حقه عليه السلام، ثم إن ظاهره أنه لو كان التقرير على ظاهره كان بالفعل مع أن الذى ولى الهمزة الفاعل فعلى مقتضاه كان الظاهر أن يقول لا بأنه قد قال ذلك دون غيره
(قوله: وقوله) مبتدأ
(1) المائدة: 116.
ولما كان له صورة أخرى لا يلى فيها الفعل الهمزة- أشار إليها بقوله: (ولإنكار الفعل صورة أخرى وهى نحو: أزيدا ضربت أم عمرا؟ لمن يردد الضرب بينهما) من غير أن يعتقد تعلقه، فإذا أنكرت تعلقه بهما فقد نفيته عن أصله
…
===
وجملة الإنكار كذلك مقول القول وقوله دل خبر قوله يعنى أن قول المصنف والإنكار كذلك دل بعمومه على ما قاله الشارح كما هو ظاهر، إذ هو ليس مقصورا على إنكار غير الفعل، بل معناه أن المنكر سواء كان فعلا أو اسما فاعلا أو مفعولا أو غيرهما من المتعلقات يجب أن يلى الهمزة كالمقرر به
(قوله: ولما كان له) أى: لإنكار الفعل صورة أخرى إلخ وضابطها أن يلى الهمزة معمول الفعل المنكر، ثم يعطف على ذلك المعمول بأم أو بغيرها وسواء كان معمول الفعل الوالى للهمزة مفعولا كما فى مثال المصنف- قال فى المطول: أو كان فاعلا نحو: أزيد ضربك أم عمرو لمن يردد الضرب بينهما، وهو مبنى على مذهب من يجيز تقديم الفاعل على عامله أو كان ظرفا زمانيا أو مكانيا نحو:
أفى الليل كان هذا أم فى النهار لمن يردد الكون فيهما أو فى السوق كان هذا أم فى المسجد لمن يردد الكون فيهما إلى غير ذلك من المعمولات، هذا ولم لا يكون لإنكار غير الفعل صورة أخرى كاسم الفاعل مثلا أزيد ضاربك أم عمرو ولعين الدليل الذى ذكره الشارح والماتن، فإن ثبت هذا أمكن حمل الفعل فى المتن على معناه اللغوى
(قوله: لمن يردد إلخ) أى: حالة كونه مقولا لمن يردد الضرب بينهما إلخ
(قوله: من غير أن يعتقد إلخ) بيان لترديد المخاطب الضرب بينهما، وكان الأولى أن يقول بأن يعتقد عدم تعلقه بغيرهما، وإلا فما ذكره الشارح لا يصح؛ لأنه يصدق بما إذا كان المخاطب خالى الذهن عن تعلقه بثالث فى نفس الأمر بخلاف ما إذا اعتقد عدم تعلقه بغيرهما، فإن النفى حينئذ يكون للفعل من أصله، والحاصل أن المراد بترديده الضرب بينهما أن يعتقد الحاضر تعلقه فى نفس الأمر بأحدهما من غير تعيين له
(قوله: فإذا أنكرت تعلقه بهما) فيه إشارة إلى أن المنكر ابتداء هو المفعولان من حيث كونهما متعلق الفعل، فإن إنكارهما من هذه الحيثية يستلزم إنكار الفعل؛ لأنهما محله ونفى المحل يستلزم نفى الحال فإنكارهما من هذه الحيثية للتوسل للمقصود بالذات وهو إنكار الفعل- كذا فى سم.
لأنه لا بد له من محل يتعلق به.
===
(قوله: لأنه لا بد له من محل يتعلق به) وقد انحصر ذلك المحل فى زيد وعمرو على الترديد باعتبار اعتقاد المخاطب، وقد نفى المتكلم ذلك المحل فيلزم انتفاء الفعل من أصله، وحاصله أن المخاطب إذا ادعى حصول الضرب بانحصاره فى زيد وعمرو على الترديد كان هذا حصرا لمحله فى أحدهما، فإذا قلت له: أزيد أضربت أم عمرا بإدخال همزة الإنكار على أحد الأمرين وإدخال أم على الآخر كنت منكرا أن يكون محله أحدهما وإنكار محل الضرب إنكار للازمه وإنكار اللازم مستلزم لإنكار الملزوم وبهذا الاعتبار صار إنكار التعلق بأحدهما كناية عن إنكار أصل الفعل، فالهمزة هنا استعملت استعمال الكنايات؛ لأنها موضوعة لإنكار ما يليها- كذا قرر شيخنا العدوى، قال العلامة اليعقوبى وهاهنا شىء وهو أنه إن أريد أن موالة الهمزة للفعل فى الإنكار تدل على نفى أصل الفعل ولو ذكر له مفعول وموالاتها المفعول تدل على نفيه عن المفعول المذكور خاصة إلا فى صورة الترديد كما هو ظاهر عبارة المصنف لم يصح؛ لأنه متى ذكر المفعول تقدم أو تأخر لم يدل إلا على نفى الفعل حال كونه متعلقا بذلك المفعول، وإن أريد أن الموالاة تدل بشرط أن لا يذكر له معمول سوى الفاعل لم يتجه قوله ولإنكار الفعل صورة أخرى؛ لأن هذا الحصر أعنى حصر الضرب مثلا فى مفعولين أو أكثر يوجب إنكار أصل الفعل ولو فى حال موالة الفعل حال كونه متعلقا بالمفعول، وإذا لم يكن حصر فالإنكار للفعل المتعلق بذلك المفعول تقدم ذلك المفعول أو تأخر لا لأصل الفعل فكيف يجعل التأخير دائما لإنكار أصل الفعل والتقديم للإنكار بشرط الحصر، فالتقديم والتأخير حينئذ متساويان، فكيف يخص التقديم بكونه صورة أخرى مع الحصر والفرض أن الصورة مع التأخير أيضا بشرط الحصر، والحاصل أن حصر التعلق لا بد منه ولى الفعل أم لا عطف عليه بأم وشبهها أم لا حيث أريد نفى أصل الفعل، وإن لم يكن حصر لم يفد نفى أصل الفعل تقدم المعمول أو تأخر، نعم إذا قيل مثلا أزيدا ضربت احتمل أن يراد ما ضربت زيدا، بل غيره بأرجحية وأن يراد ما ضربت زيدا من غير تعرض لما سواه، وإذا قيل أضربت زيدا احتمل على وجه التساوى نفى ضرب زيد فقط مع ضرب الغير- تأمل- انتهى.
(والإنكار إما للتوبيخ؛ أى: ما كان ينبغى أن يكون) ذلك الأمر الذى كان (نحو: أعصيت ربك؟ ! ) فإن العصيان واقع لكنه منكر، وما يقال إنه للتقرير فمعناه التحقيق والتثبيت (أو لا ينبغى أن يكون نحو: أتعصى ربك؟ !
…
===
(قوله: والإنكار) أى: الاستفهام الإنكارى وهو من أنكر عليه إذا نهاه
(قوله: إما للتوبيخ) ظاهره أن الإنكار لا يخرج عن هذه الأقسام فتكون الأمثلة السابقة داخلة فى هذه الأقسام كقوله: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ (1) فيجوز أن يكون للتوبيخ أى: لا ينبغى أن يكون ونحو قوله (2) أيقتلنى إلخ للتكذيب فى المستقبل أى: لا يكون هذا، وهكذا قاله سم، وقوله إما للتوبيخ أى: التعبير والتقريع على أمر قد وقع فى الماضى أو على أمر خيف وقوعه فى المستقبل بأن كان المخاطب بصدد أن يوقعه ففى القسم الأول يفسر التوبيخ بما يقتضى الوقوع أى: ما كان ينبغى أن يكون ذلك الأمر الذى كان؛ لأن العرف أنك إنما تقول ما كان ينبغى لك هذا يا فلان إذا صدر منه، وفى القسم الثانى يفسر بما لا يقتضى الوقوع أى: لا ينبغى أن يكون هذا الأمر الذى أنت أيها المخاطب بصدد عمله وقصده، فالغرض من التوبيخ الندم على ماض والارتداع عن مستقبل
(قوله: أى ما كان ينبغى إلخ) هذا إذا كان التوبيخ على أمر واقع فى الماضى؛ لأن المنفى إنما هو الانبغاء وأما الفعل فهو واقع
(قوله: نحو أعصيت ربك) أى: نحو قولك لمن صدر منه عصيان أعصيت ربك أى: ما كان ينبغى لك أن تعصيه
(قوله: فإن العصيان واقع) أى: فلا يكون الإنكار فيه للتكذيب
(قوله: وما يقال إلخ) حاصله أن الإنكار التوبيخى إذا كان لما وقع فى الماضى لتضمنه للوقوع والتقرر يقال فى الاستفهام فى أمثلته أنه للتقرير بمعنى التحقيق والتثبيت أى: تحقيق ما يعرفه المخاطب من الحكم فى هذه الجملة لما سبق من أن التقرير يقال بهذا المعنى.
(قوله: أو لا ينبغى أن يكون) هذا إذا كان الإنكار للتوبيخ على أمر خيف وقوعه فى المستقبل
(قوله: نحو أتعصى ربك) أى: نحو قولك: لمن هم بالعصيان ولم يقع
(1) الأنعام: 40.
(2)
سبق تخريج البيت لامرئ القيس.
أو للتكذيب) فى الماضى (أى: لم يكن نحو: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ (1)) أى:
لم يفعل ذلك (أو) فى المستقبل؛ أى: (لا يكون،
…
===
منه أتعصى ربك؟ ! أى: أن هذا العصيان الذى أنت بصدد عمله لا ينبغى أن يصدر منك فى الاستقبال وهذا التوبيخ لا يقتضى وقوع الموبخ عليه بالفعل كما هو ظاهر، وإنما يقتضى كون المخاطب بصدد الفعل- كذا ذكر العلامة اليعقوبى، وفى عبد الحكيم، ويس: أن تفسير الإنكار التوبيخى بلا ينبغى أن يكون بصيغة المستقبل إذا كان الموبخ عليه واقعا فى الحال أو بصدد الوقوع فى المستقبل، فيصح أن يقال لمن تلبس بالعصيان أتعصى ربك أى: لا ينبغى أن يتحقق ويحدث منك هذا العصيان الذى تلبست به كما يصح أن يقال ذلك لمن هم به ولم يقع منه ولا ينافى ما قاله الشيخان ذكر أن فى التفسير بقوله لا ينبغى أن يكون؛ لأن أن وإن خلصت المضارع للاستقبال لا تخلص يكون له، بل هى محتملة للحال معها
(قوله: أو للتكذيب) عطف على قوله للتوبيخ ويسمى الإنكار التكذيبى بالإنكار الإبطالى أيضا وقوله فى الماضى أى فيكون بمعنى لم يكن وحاصله أن المخاطب إذا ادعى وقوع شىء فيما مضى أو نزل منزلة المدعى له أتى بالاستفهام الإنكارى تكذيبا له فى مدعاه
(قوله: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ إلخ) أى: خصكم وهذا خطاب لمن اعتقد أن الملائكة بنات الله وأن المولى خصنا بالذكور وخص نفسه بالبنات أى: لم يكن الله خصكم بالأفضل الذى هو الأولاد الذكور واتخذ لنفسه أولادا دونهم وهم البنات، بل أنتم كاذبون فى هذه الدعوى لتعاليه سبحانه عن الولد مطلقا فليس المراد توبيخهم، بل تكذيبهم فيما قالوا؛ لأن التوبيخ بصيغة الماضى على فعل حصل من المخاطب
(قوله: أو فى المستقبل) أى: فيكون بمعنى لا يكون، قال سم:
سكت عن الحال لعدم تأتيه، إذ العاقل لا يدعى التلبس بما ليس ملتبسا به حتى يكذب نعم يتأتى فيه نفى الانبغاء واللياقة- ا. هـ كلامه، وفى ابن يعقوب، والأطول أن الإنكار الإبطالى إذا كان بمعنى لا يكون يكون للحال وللاستقبال، وكأن المصنف سكت عن الحال؛
(1) الإسراء: 40.
نحو: أَنُلْزِمُكُمُوها (1)) أى: أنلزمكم تلك الهداية والحجة؟ ؛ بمعنى أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الإسلام
…
===
لأنه أجزاء من الماضى والمستقبل وتأمله
(قوله: أَنُلْزِمُكُمُوها) الهمزة للاستفهام، ونلزم: فعل مضارع مرفوع بالضمة، والكاف: مفعول به، والميم: علامة الجمع، والواو:
للإشباع وضم الميم واجب حيث وليها ضمير متصل كما هنا عند ابن مالك راجح مع جواز السكون عند سيبويه ويونس، وقد قرئ: أنلزمكموها بالسكون- كذا فى يس.
(قوله: تلك الهداية) تفسير للضمير المنصوب وهو الهاء والهداية فى الأصل الدلالة الموصلة للمطلوب أريد بها هنا ما يترتب عليها بحسب الشأن من اتباع الشرع الذى قامت عليه الأدلة والعمل به أو أن المراد بالهداية هنا الاهتداء وعليه فالإلزام به من حيث الإكراه على ما هو سبب فى حصوله من اتباع الشرع والعمل به
(قوله: أو الحجة) أى: التى قامت على العمل بالشرع والإكراه عليها من حيث إلزام قبولها فيترتب على ذلك العمل بالشرع أى لا نكرهكم على قبول تلك الحجة المترتب على قبولها العمل بالشرع
(قوله: بمعنى أنكرهكم على قبولها) أى: الحجة، إذ هى التى يناسبها القبول فهو راجع للاحتمال الثانى، (وقوله: ونقسركم) أى: نقهركم ونكرهكم على الإسلام وهذا مناسب للتفسير الأول أعنى: الهداية فهو راجع له على طريق اللف والنشر المشوش- كذا قرر شيخنا العدوى، وقوله ونقسركم من القسر وهو القهر يقال قسره على الأمر قسرا من باب ضرب قهره فهو مرادف لنكرهكم، لكن تفنن فى التعبير، واعلم أن مثل هذا الخطاب يذكر لإسقاط إثارة العداوة الموجبة لنفرة الكافرين أو لإظهار عدم حاجة الناصح إلى قتال المنصوح؛ لأن المنفعة للمنصوح فإنك إذا نصحت رجلا، ثم أحسست منه بالإباية فقلت له: لست أقهرك على قبول نصحى ولا أقاتلك على تركه، وإنما علىّ البلاغ والنصح كان ذلك أدعى للقبول لما فيه من ترك الاقتصار على عدم السماع والقبول- فأفهم لئلا يقال: إن مثل هذا الخطاب يفهم الترخيص فى التكليف وترك المبالغة فى الغرض- كذا ذكر اليعقوبى.
(1) هود: 28.
والحال أنكم لها كارهون؟ يعنى: لا يكون هذا الإلزام.
(والتهكم) عطف على الاستبطاء، أو على الإنكار؛ وذلك أنهم اختلفوا فى أنه إذا ذكر معطوفات كثيرة أن الجميع معطوف على الأول، أو كل واحد عطف على ما قبله (نحو: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا (1)) وذلك أن شعيبا- عليه الصلاة والسلام كان كثير الصلوات، وكان قومه إذا رأوه يصلى تضاحكوا، فقصدوا بقولهم: أصلاتك تأمرك
…
===
(قوله: والحال أنكم لها كارهون) الظاهر أن هذه الحال مؤكدة لما استلزمه العامل أعنى نلزمكم؛ لأن الإلزام بالشىء يقتضى كراهته
(قوله: يعنى لا يكون هذا الإلزام) أى: لا يكون منى إلزام الأمة الهداية ولا قبول الحجة الدالة على العمل بالشرع؛ لأن هذا لا يكون إلا من الله فالذى على الإبلاغ لا الإكراه وهذا الكلام من نوح لقومه الذين اعتقدوا أنه يقهر أمته على الإسلام، ولا يقال: إن هذا الكلام يقتضى عدم الأمر بالجهاد مع أنه مأمور به قطعا؛ لأنا نقول لم يرسل بالجهاد أحد من الأنبياء إلا نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم كذا قرر شيخنا العدوى.
وقد تبين بما تقرر أن التوبيخ يشارك التكذيب فى النفى، ويختلفان فى أن النفى فى التوبيخ متوجه لغير مدخول الهمزة وهو الانبغاء ومدخولها واقع أو كالواقع، وفى التكذيب يتوجه لنفس مدخولها فمدخولها غير واقع فافهم
(قوله: التهكم) أى:
الاستهزاء والسخرية
(قوله: اختلفوا فى أنه إلخ) أى: فى جواب أنه إلخ؛ لأن الاختلاف إنما هو فى جواب هذا الاستفهام لا فيه
(قوله: أو كل واحد إلخ) ظاهره كان العطف بحرف مرتب كالفاء. وثم وحتى، أو كان غير مرتب كالواو وأو وأم، ونقل بعضهم عن الكمال ابن الهمام أن محل هذا الخلاف ما لم يكن العطف بحرف مرتب وإلا كان كل واحد معطوفا على ما قبله اتفاقا، واعلم أن ثمرة الخلاف الذى ذكره الشارح تظهر فيما إذا كان المعطوف عليه أولا ضميرا مجرورا فعلى القول بأن الجميع معطوف على الأول لا بد من إعادة الخافض مع الجميع عند غير ابن مالك، وعلى القول بأن كل
(1) هود: 87.
الهزؤ والسخرية، لا حقيقة الاستفهام. (والتحقير، نحو: من هذا؟ ) استحقارا بشأنه مع أنك تعرفه (والتهويل، كقراءة ابن عباس: وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ. مِنْ فِرْعَوْنَ (1)
…
===
واحد معطوف على ما قبله فلا يحتاج لإعادته إلا مع الأول كما فى مررت بك وبزيد وعمرو.
(قوله: الهزؤ والسخرية) أى: بشعيب وصلاته فكأنهم لعنة الله عليهم يقولون لا قربة لك توجب اختصاصك بأمرنا ونهينا إلا هذه الصلاة التى تلازمها وليست هى ولا أنت بشىء، وبهذا الاعتبار صارت الصلاة مما يشك فى كونه سببا للأمر فنسب لها مجازا عقليا من الإسناد للسبب فى الجملة وهذا غير المجاز اللغوى الذى فى هذا التركيب باعتبار أداة الاستفهام، وذلك أن الاستفهام عن الشىء يقتضى الجهل به، والجهل به يقتضى الجهل بفائدته، والجهل بفائدته يقتضى الاستخفاف به وهو ينشأ عنه الهزؤ فهو مجاز مرسل علاقته اللزوم- كذا قيل- والأحسن أن يكون استعمال أداة الاستفهام فى التهكم من باب الكناية أو يجعل التهكم من مستتبعات الكلام كما مر نظيره
(قوله: لا حقيقة الاستفهام) أعنى السؤال عن كون الصلاة آمرة بما ذكر
(قوله: والتحقير) العلاقة بينه وبين الاستفهام اللزوم؛ وذلك لأن الاستفهام عن الشىء يقتضى الجهل به وهو يقتضى عدم الاعتناء به؛ لأن الشىء المجهول غير ملتفت إليه وعدم الاعتناء بالشىء يقتضى استحقاره، فاستعمال الاستفهام فى التحقير إما مجاز مرسل على ما قيل أو أنه كناية وهو أولى أو أنه من مستتبعات الكلام؛ وذلك لأنك إذا كنت عارفا بالمسئول عنه، وقلت: فى مقام الاحتقار من هذا فكأنك تفرضه شيئا آخر غير المشاهد المعلوم وتسأل عنه ولم ترض بحاله فيتولد التحقير وصرت كأنك قلت هذا شخص مستخف به حقير- كذا قرر شيخنا العدوى، واعلم أن التحقير عد الشىء حقيرا والاستهزاء عدم المبالاة به وإن كان كبيرا عظيما فى نفسه، وربما اتحد محلهما وإن اختلفا مفهوما لما بينهما من الارتباط فى الجملة لصحة نشأة أحدهما من الآخر
(قوله: مع أنك تعرفه) أى: تعرف هذا المشار إليه
(قوله: والتهويل)
(1) الدخان: 30، 31.
بلفظ الاستفهام) أى: مِنْ بفتح الميم (ورفع فِرْعَوْنَ) على أنه مبتدأ، و" من" الاستفهامية خبره، أو بالعكس؛ على اختلاف الرأيين، فإنه لا معنى لحقيقة الاستفهام فيها؛ وهو ظاهر، بل المراد: أنه لما وصف الله العذاب بالشدة والفظاعة زادهم تهويلا بقوله: مِنْ فِرْعَوْنَ أى: هل تعرفون من هو فى فرط عتوه وشدة شكيمته، فما ظنكم بعذاب يكون المعذب به مثله
…
===
أى التفظيع والتفخيم لشأن المستفهم عنه لينشأ عنه غرض من الأغراض وهو فى الآية تأكيد شدة العذاب الذى نجا منه بنو إسرائيل، واستعمال أداة الاستفهام فى التهويل مجاز مرسل علاقته المسببية؛ لأنه أطلق اسم المسبب وأريد السبب؛ لأن الاستفهام عن الشىء مسبب عن الجهل به، والجهل مسبب عن كونه هائلا؛ لأن الأمر الهائل من شأنه عدم الإدراك حقيقة أو ادعاء.
(قوله: بلفظ الاستفهام) أى: والجملة استئنافية لتهويل أمر فرعون المفيد لتأكيد شدة العذاب بسبب أنه كان متمردا معاندا لا يكف عتوه
(قوله: على اختلاف الرأيين) أى: فى الاسم الواقع بعد من الاستفهامية، فالأخفش يقول: إن الاسم مبتدأ مؤخر ومن الاستفهامية خبر مقدم وسيبويه يقول بعكس ذلك
(قوله: وهو ظاهر) أى: لأن الله لا يخفى عليه شىء حتى يستفهم عنه
(قوله: بل المراد أنه) أى المولى سبحانه وقوله العذاب أى: عذاب فرعون لبنى إسرائيل
(قوله: بالشدة) أى: بما يدل على شدته وفظاعة أمره أى:
شناعته وقباحته حيث قال سبحانه من العذاب المهين، ولا شك أن وصف العذاب بكونه مهينا لمن عذب به يدل على شدته وشناعته
(قوله: زادهم) أى: زاد المخاطبين تهويلا وأصل التهويل حصل من قوله المهين
(قوله: أى هل تعرفون من هو إلخ) أى: هل تعرفون الذى هو فى ذلك غاية فخبر هو محذوف أى: هل تعرفون فرعون الذى هو غاية فى عتوه المفرط أى: طغيانه الشديد وشكيمته الشديدة أى: تكبره وتجبره الشديدين فقوله فى فرط عتوه وشدة شكيمته من إضافة الصفة للموصوف، والشكيمة فى الأصل:
جلد يجعل على أنف الفرس، كنى به هنا عن التكبر والتجبر والظلم
(قوله: فما ظنكم بعذاب إلخ) أى: فهو أخوف وأشد وقد نجيتكم منه فلتشكرونى
(قوله: يكون المعذب به)
(ولهذا قال: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (1)) زيادة لتعريف حاله وتهويل عذابه.
(والاستبعاد، نحو: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى (2)) فإنه لا يجوز حمله على حقيقة الاستفهام؛
…
===
بكسر الذال على صيغة اسم الفاعل ويدل على ذلك قوله بعد زيادة لتعريف حاله وتهويل عذابه، فإن الهاء فى حاله وعذابه لفرعون كما هو ظاهر والضمير فى مثله يرجع لمن هو ملتبس بفرط العتو وشدة الشكيمة وتوضيح ما فى المقام أن تقول: إن المراد بهذا الاستفهام تفظيع أمر فرعون والتهويل بشأنه وهو مناسب هنا؛ لأنه لما وصف عذابه بالشدة زيادة فى الامتنان على بنى إسرائيل بالإنجاء منه هوّل بشأن فرعون وبيّن فظاعة أمره ليعلم بذلك أن العذاب المنجى منه غاية فى الشدة حيث صدر ممن هو شديد الشكيمة عظيم العتو فكأنه قيل نجيناهم من عذاب من هو غاية فى العتو والتجبر، وناهيك بعذاب من هو مثله، وحينئذ فاللائق إنكم تشكرونى فكيف تكفرونى.
(قوله: ولهذا) أى: ولأجل التهويل بشأن فرعون
(قوله: إِنَّهُ كانَ عالِياً) أى: فى ظلمه من المسرفين فى عتوه، فكيف حال العذاب الذى يصدر من مثله
(قوله: زيادة إلخ) تعليل للمقول المذكور بعد تعليله بقوله: ولهذا فالعلة الأولى علة له مطلقا، والعلة الثانية: علة له مقيدا بالعلة الأولى
(قوله: لتعريف) أى: فى تعريف حاله
(قوله: وتهويل عذابه) أشار بهذا إلى أن تعريف حاله من حيث تهويل عذابه لا من حيثية أخرى
(قوله: والاستبعاد) السين والتاء زائدتان وهو عد الشىء بعيدا والفرق بينه وبين الاستبطاء أن الاستبعاد متعلقه غير متوقع، والاستبطاء متعلقه متوقع غير أنه بطىء فى زمن انتظاره ولا تنحصر المعانى المجازية فيما ذكره المصنف، فإن منها ما لم يذكره كالأمر نحو: فهل أنتم مسلمون أى: أسلموا والزجر نحو: أتفعل هذا أى: انزجر والعرض نحو ألا تنزل عندنا- كما فى سم.
(1) الدخان: 31.
(2)
الدخان: 13.
وهو ظاهر، بل المراد استبعاد أن يكون لهم الذكرى بقرينة قوله: وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ (1)) أى: كيف يذكرون ويتعظون ويوفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل فى وجوب الأذكار من كشف الدخان
…
===
(قوله: وهو ظاهر) أى: لاستحالة حقيقة الاستفهام من العالم بخفيات الأمور وظواهرها مع منافاته للجملة الحالية؛ لأن الجملة الحالية تنافى الحمل على الاستفهام الحقيقى، وإذ امتنع حمل الاستفهام هنا على حقيقته طلب له معنى يناسب المقام فيحمل عليه، والمناسب هنا هو استبعاد تذكرهم بدليل قوله: وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ، وأيضا مثل هذا الكلام عرفا إنما يراد به الاستبعاد، فكأنه قيل من أين لهم التذكر والرجوع للحق، والحال أنه جاءهم رسول يعلمون أمانته فتولوا وأعرضوا عنه بمعنى أن الذكرى بعيدة من حالهم وغاية البعد النفى لذلك، وتوجيه العلاقة بين الاستفهام والاستبعاد أن الاستفهام مسبب عن استبعاد الوقوع؛ لأن بعد الشىء يقتضى الجهل به، والجهل به يقتضى الاستفهام عنه- انتهى من تقرير شيخنا العدوى.
(قوله: أى كيف يذكرون) هذا حل معنى مفيد للنفى والإنكار فليست كيف مستفهما بها عن الحال فلا يرد أن مقتضاه أن أن هنا بمعنى كيف مع أنه يجب حينئذ أن يليها فعل ولم يلها هنا فعل، بل هى بمعنى من أين فلو عبر به كان أحسن
(قوله: وأدخل) أى وأشد دخولا
(قوله: فى وجوب الإذكار) أى فى ثبوت التذكر
(قوله: من كشف الدخان) تنازعه أعظم وأدخل وأعمل الثانى قيل: إن هذا الدخان علامة من علامات يوم القيامة وهو ما ذهب إليه ابن عباس (2) لقوله- عليه الصلاة والسلام أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر وروى أن حذيفة قال: يا رسول الله وما الدخان فتلا- عليه السلام هذه الآية فَارْتَقِبْ
(1) الدخان: 13، 14.
(2)
أورده السيوطى فى الدر المنثور 5/ 745 من حديث حذيفة وأصل الحديث عند مسلم.