المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الباب الثامن: الإيجاز والإطناب والمساواة]: - حاشية الدسوقي على مختصر المعاني - جـ ٢

[محمد بن أحمد الدسوقي]

فهرس الكتاب

- ‌[أغراض الحذف]:

- ‌ ذكر المسند

- ‌[أغراض الإفراد]:

- ‌[أغراض كون المسند فعلا أو اسما]:

- ‌أغراض تقييد الفعل بمفعول ونحوه، وترك تقييد الفعل:

- ‌[ترك تقييد الفعل]:

- ‌[أغراض‌‌ تقييد الفعل بالشرط:إن وإذا ولو]:

- ‌ تقييد الفعل بالشرط:

- ‌[استطراد إلى التغليب]:

- ‌[أغراض التنكير]:

- ‌ تنكير المسند

- ‌[أغراض التخصيص بالإضافة والوصف وتركه]:

- ‌[تخصيص المسند بالإضافة أو الوصف]:

- ‌[غرض التعريف]:

- ‌(وأما تعريفه

- ‌[ترك تقييد المسند بالحال أو المفعول أو نحو ذلك]:

- ‌[أغراض كون المسند جملة]:

- ‌[كون المسند جملة للتقوّى]:

- ‌‌‌[أغراض التأخيروالتقديم]:

- ‌[أغراض التأخير

- ‌[تأخير المسند]:

- ‌[أغراض التقديم]:

- ‌[تقديم المسند]:

- ‌[[الباب الرابع: ] أحوال متعلقات الفعل]

- ‌[حال الفعل مع المفعول والفاعل]:

- ‌[أغراض تقديم المتعلقات على الفعل]:

- ‌[[الباب الخامس: ] القصر]:

- ‌[طرق القصر]:

- ‌[طريقة العطف]:

- ‌(ومنها النفى والاستثناء

- ‌[التقديم]:

- ‌[[الباب السادس: ] القول فى‌‌ الإنشاء]:

- ‌ الإنشاء]:

- ‌[أنواع الإنشاء]:

- ‌[الطلب]:

- ‌[ومن أنواع الطلب: التمني]:

- ‌[ومن أنواع الطلب: الاستفهام]:

- ‌[ومن أنواع الطلب: الأمر]:

- ‌[ومن أنواع الطلب: النهي]:

- ‌ومن أنواع الطلب: النداء

- ‌[[الباب السابع: ] الفصل والوصل]

- ‌[تعريف الفصل والوصل]:

- ‌[أحوال الوصل والفصل للاشتراك فى الحكم]:

- ‌[الفصل لعدم الاشتراك فى الحكم]:

- ‌[الوصل بغير الواو من حروف العطف]:

- ‌[الفصل لعدم الاشتراك فى القيد]:

- ‌[الفصل لكمال الانقطاع]:

- ‌[الفصل لكمال الانقطاع]:

- ‌[الفصل لشبه كمال الانقطاع]:

- ‌[الفصل لشبه كمال الاتصال]:

- ‌[الفصل لشبه كمال الانقطاع]:

- ‌[أنواع الاستئناف]:

- ‌[حذف صدر الاستئناف]:

- ‌[الوصل لدفع الايهام]:

- ‌[محسنات الوصل]:

- ‌[تذنيب]:

- ‌[الباب الثامن: الإيجاز والإطناب والمساواة]:

- ‌[إيجاز القصر]:

- ‌[إيجاز الحذف]:

- ‌[الإطناب]:

- ‌[ذكر الخاص بعد العام]:

- ‌[الإيجاز والإطناب النسبيان]:

الفصل: ‌[الباب الثامن: الإيجاز والإطناب والمساواة]:

[الباب الثامن: الإيجاز والإطناب والمساواة]:

قال (السكاكى: أما الإيجاز والإطناب فلكونهما نسبيين) أى: من الأمور النسبية

===

الشرطية إذا وقعت حالا انسلخت الأداة فيها عن معنى الشرط فلا تكون الجملة حينئذ إنشائية كما صرح بذلك الدمامينى.

[القول: فى الإيجاز والإطناب والمساواة]:

(قوله: قال السكاكى) أى اعتذارا عن ترك تعريف الإيجاز والإطناب بتعريف يعين فيه القدر لكل منهما من الكلام بحيث لا يزيد ذلك القدر ولا ينقص

(قوله: أما الإيجاز والإطناب إلخ) إن قلت لم يذكر أن المساواة من الأمور النسبية مع أنها منها، إذ لا تعرف إلا بالنسبة لنفي الإيجاز والإطناب، فإن كون الكلام مساواة إنما يعرف بكونه ليس فيه زيادة على المتعارف ولا نقصان عنه قلت: ذكر السيد في شرح المفتاح أنه لم يتعرض للمساواة، وإن كانت نسبية أيضا؛ لأنه لا فضيلة لكلام الأوساط فما يصدر عن البليغ مساويا له لا يكون بليغا، إذ ليس فيه نكتة يعتد بها. اه.

وبحث فيه بأن عدم الاعتداد إنما يكون إذا قصد البليغ تجريده عن النكت، وليس بمتعين لجواز أن يكون في المقام مقتضيات وخصوصيات لا يراعيها غير البليغ، وأما البليغ فمن حقه أن يراعيها ويشير إليها مع كون لفظيهما متطابقين، وأجاب العلامة عبد الحكيم بأن المراد بكونه ليس بليغا من حيث إنه مساو لكلام الأوساط وإن كان من حيث اشتماله على المزايا والخصوصيات التي يقتضيها المقام بليغا معتدا به؛ لأنه بهذا الاعتبار إيجاز بالقياس إلى المتعارف أو إلى مقتضى المقام

(قوله: فلكونهما نسبيين) الفاء داخلة على جواب أما وهو قوله لا يتيسر إلخ، وقوله لكونهما نسبيين: علة للجواب مقدمة عليه لإفادة الحصر أو للاهتمام بها، وفى الكلام حذف، والأصل لكونهما نسبيين، والمنسوب إليه مختلف القدر، ولا بد من هذا الحذف حتى تنتج العلة المدعى وهو عدم إمكان التعيين، فالمنسوب إليه هو كل منهما بالنظر للآخر فكل منهما منسوب ومنسوب إليه

(قوله: أى من الأمور النسبية) أى: المنسوبة إلى غيرها

ص: 627

التى يكون تعقلها بالقياس إلى تعقل شىء آخر؛ فإن الموجز إنما يكون موجزا بالنسبة إلى كلام أزيد منه، وكذا المطنب إنما يكون مطنبا بالنسبة إلى ما هو أنقص منه (لا يتيسر الكلام فيهما إلا بترك التحقيق)

===

كالأبوة والبنوة

(قوله: التى يكون تعقلها) أى: إدراكها

(قوله: بالقياس) أى: بالنسبة إلى تعقل شىء آخر، فتعقل الإيجاز يتوقف على تعقل الإطناب وبالعكس؛ وذلك لأن الإيجاز ما كان من الكلام أقل بالنسبة لغيره، والإطناب ما كان أزيد بالنسبة لغيره، وحينئذ فتعقل كل منهما متوقف على تعقل ذلك الغير ضرورة توقف تعقل المنسوب على تعقل المنسوب إليه لأخذه فى مفهومه

(قوله: فإن الموجز إلخ) أى: فإن الكلام الموجز، وهذا علة لكونهما نسبيين

(قوله: إنما يكون موجزا) أى: إنما يدرك من حيث وصفه بالإيجاز

(قوله: وكذا المطنب) أى: وكذلك الكلام المطنب، (وقوله: إنما يكون مطنبا) أى: إنما يدرك من حيث وصفه بالإطناب، وإنما قيدنا بقولنا من حيث كذا إلخ فيهما؛ لأنه لو نظر فى كل منهما من حيث إنه جملة أو جملتان أو له متعلقات أو لا لم يكن نسبيا وهو ظاهر- كذا فى ابن يعقوب، والأحسن ما قاله العلامة عبد الحكيم، وحاصله أن قوله:

إنما يكون أى: الخارج والذهن موجزا بالنسبة إلى كلام آخر زائد عنه إما محقق أو مقدر، وكلمة من بعد أزيد وأنقص ليست تفصيلية، بل هي صلة للفعل الذي تضمنته صيغة التفضيل بمعنى أصل الفعل

(قوله: إلا بترك التحقيق) استثناء من محذوف أى: لا يتيسر التكلم فيها بحال من الأحوال إلا بحالة ترك التحقيق فوجب ترك التعريف لتعذره، ثم إن المراد من التحقيق على ما فهم المصنف من كلام السكاكى التعريف المبين لمعناهما، والمعنى حينئذ لا يتيسر الكلام فيهما إلا بترك التعريف المبين لمعناهما، ولذا أورد على السكاكى النظر الآتي على ما سيتضح لك، والشارح فهم أن المراد من التحقيق فى كلام السكاكى تعيين مقدار كل واحد منهما أى: لا يتيسر الكلام فيهما إلا بترك التحديد والتعيين، لمقدار كل منهما، عليه فلا يتأتى الإيراد الآتى، وقد حل الشارح كلام السكاكى هنا بما فهمه حيث فسر التحقيق بالتعيين، وأجاب عن النظر الآتى فى كلام المصنف بما حل به هنا، وكان الأولى له أن يفسر التحقيق بالتعريف

ص: 628

والتعيين؛ أى: لا يمكن التنصيص على أن هذا المقدار من الكلام إيجاز وذاك إطناب؛ إذ ربّ كلام موجز يكون مطنبا بالنسبة إلى كلام آخر، وبالعكس

===

مجاراة للمصنف ثم يجيب عن النظر بما فهمه، والحاصل أنه إن أريد بالتحقيق فى كلام السكاكى التعريف الذى يضبط كل واحد منهما ولو فى الجملة كما فهم المصنف فهذا ممكن، ولذا اعترضه المصنف بما يأتى، وإن أريد بالتحقيق فى كلامه تعيين مقدار كل بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، وهو ما فهمه الشارح، فهذا غير ممكن، وعلى هذا لا يرد على السكاكى شىء.

(قوله: والتعيين) أى: تعيين القدر المخصوص لكل منها، وهذا تفسير من الشارح للتحقيق الواقع فى كلام السكاكى غير ما فهمه المصنف، وأورد عليه النظر الآتى.

(قوله: أى لا يمكن إلخ) هذا تفسير لعدم التيسر إشارة إلى أنه ليس المراد أنه ممكن بعسر كما هو ظاهره، وفى هذا التفسير إشارة إلى أن المراد بالتحقيق التنصيص، وأن النفى منصب على القيد أعنى: ترك التحقيق؛ وذلك لأن عدم ترك التحقيق والتنصيص عبارة عن التنصيص المذكور

(قوله: على أن هذا المقدار من الكلام إيجاز إلخ) ظاهره إطلاق لفظ إيجاز على نفس الألفاظ وهو مخالف لما يأتى من قوله: فالإيجاز أداء المعنى بأقل إلخ، فإن كان يطلق عليهما كما فى لفظ الخبر والإنشاء، فالأمر واضح، وإن كان لا يطلق إلا على أحدهما فقط فيؤول أحد الموضعين ليرجع للآخر والأمر فى ذلك سهل- اه يس.

(قوله: إذ رب كلام إلخ) علة لقوله أى: لا يمكن ورب هنا للتكثير أو التحقيق، وقوله إذ رب كلام موجز إلخ- مثلا: زيد المنطلق موجز بالنسبة لزيد هو المنطلق، ومطنب بالنسبة لزيد منطلق، فقول الشارح إذ رب كلام موجز مثل: زيد المنطلق، وقوله يكون مطنبا بالنسبة لكلام آخر وهو: زيد منطلق، وقوله وبالعكس أى:

قد يكون الكلام مطنبا نحو: زيد المنطلق موجزا بالنسبة لكلام آخر نحو: زيد هو المنطلق أى: وإذا كان الكلام الواحد قد يكون موجزا بالنسبة لكلام ومطنبا بالنسبة لكلام آخر، فكيف يمكن أن يقال على طريق التحقيق والتحديد: إن هذا القدر إيجاز وهذا إطناب، والحاصل أن تعيين مقدار من الكلام للإيجاز أو للإطناب بحيث لا يزاد عليه

ص: 629

(والبناء على أمر عرفى) أى: وإلا بالبناء على أمر يعرفه أهل العرف (وهو متعارف الأوساط) الذين ليسوا فى مرتبة البلاغة، ولا فى غاية الفهاهة

===

ولا ينقص عنه غير ممكن؛ لأن ذلك موقوف على كون المضاف إليه متحد القدر بحيث يقال ما زاد على هذا القدر إطناب وما نقص عنه إيجاز، والمنسوب إليه الإيجاز والإطناب غير متحد فى القدر، بل مختلف، فلذلك تجد الكلام الواحد بالنسبة إلى قدر إيجازا وإلى قدر آخر إطنابا، ومن هذا تعلم أن مجرد كونهما نسبيين لا يكفى فى امتناع التعيين والتحقيق، بل لا بد مع ذلك من اختلاف المنسوب إليه كما ذكرنا سابقا

(قوله: على أمر عرفى) أى: متعارف بين أهل العرف فى أداء المقاصد من غير رعاية بلاغة ومزية، فيعتبر كل من الإيجاز والإطناب بالنسبة إليه، فما زاد عليه إطناب وما نقص عنه إيجاز- كما قال المصنف بعد.

(قوله: أى وإلا بالبناء إلخ) أشار الشارح بهذا إلى أن قول المصنف والبناء عطف على ترك أى: لا يمكن الكلام فيهما إلا بترك التحقيق، وإلا بالبناء على أمر عرفى؛ لأن البناء على الأمر العرفى أقرب ما يمكن به ضبطهما المحتاج إليه لأجل تمايز الأقسام، وإيضاح ذلك أن تعيين مقدار كل منهما وتحديده لما كان غير ممكن، وكان الأمر محتاجا إلى شىء يضبطهما فى الجملة، وضبط المنسوب بضبط المنسوب إليه والمنسوب إليه غير منضبط على وجه التعيين كما عرفت طلب أقرب الأمور إلى الضبط وهو الكلام العرفي ليبنيا عليه وإنما كان أقرب إلى الضبط؛ لأن أفراده وإن تفاوتت لكنها متقاربة، ومعرفة مقداره لا تتعذر غالبا، وحيث كان المنسوب إليه وهو الأمر العرفي مضبوطا في الجملة كان المنسوب أيضا الذى هو الإيجاز والإطناب مضبوطا فى الجملة

(قوله: وهو) أى: الأمر العرفى

(قوله: متعارف الأوساط) أى: المتعامل به فى عرف الأوساط من الناس

(قوله: ولا فى غاية الفهاهة) أى: العجز عن الكلام بل كلامهم يؤدى أصل المعنى المراد أعنى المطابقى من غير اعتبار مطابقة مقتضى الحال ولا اعتبار عدمها ويكون صحيح الإعراب، والحاصل أن المراد بالأوساط من الناس العارفون باللغة وبوجوه صحة الإعراب دون الفصاحة والبلاغة فيعبرون عن مرادهم

ص: 630

(أى: كلامهم فى مجرى عرفهم فى تأدية المعانى) عند المعاملات والمحاورات (وهو) أى: هذا الكلام (لا يحمد) من الأوساط (فى باب البلاغة) لعدم رعاية مقتضيات الأحوال (ولا يذم) أيضا منهم؛ لأن غرضهم تأدية أصل المعنى بدلالات وضعية، وألفاظ كيف كانت،

===

بكلام صحيح الإعراب من غير ملاحظة النكات التى يقتضيها الحال، فإن قلت: إن متعارف الأوساط قد يختلف بأن يتعارفوا عبارتين عن معنى واحد إحداهما أزيد من الأخرى من غير زيادة فى المعنى، وحينئذ فما المعتبر منهما وإن اعتبرا لم تتمايز الأقسام قلت: سيأتى رد هذا بأن الأوساط ليس فى قدرتهم اختلاف العبارات بالطول والقصر؛ لأنهم إنما يعرفون اللفظ الموضوع للمعنى فعبارتهم محدودة بذلك، واختلاف العبارة بالطول والقصر إنما يكون من البلغاء بسبب تصرفهم فى لطائف الاعتبارات

(قوله: أى كلامهم فى مجرى عرفهم) فى بمعنى عند والمجرى مصدر بمعنى الجريان والعرف بمعنى العادة أى: كلامهم عند جريانهم على عادتهم، أو أن إضافة مجرى للعرف من إضافة الصفة للموصوف أى: كلامهم على حسب عادتهم الجارية فى تأدية إلخ

(قوله: عند المعاملات) متعلق بمحذوف أى: التى تعرض لهم الحاجة إلى تأديتها عند المعاملات والمحاورات أى: المخاطبات أعم من أن تكون تلك المخاطبة فى معاملة أو لا

(قوله: أى هذا الكلام) أى: المتعارف بين الأوساط

(قوله: من الأوساط) قيد بذلك؛ لأنه قد يحمد من البليغ؛ لأنه يورده لكونه مقتضى المقام بأن يكون المخاطب من الأوساط

(قوله: فى باب البلاغة) أى: بحيث يعد بليغا

(قوله: لعدم رعاية مقتضيات الأحوال) أعنى:

اللطائف والاعتبارات

(قوله: ولا يذم أيضا منهم) أى: بحيث يعد مخلا، وقيد بقوله منهم: للاحتراز عن البلغاء، فإن كلام الأوساط قد يذم بالنسبة لهم إذا لم تراع فيه مقتضيات الأحوال، وبتقييد الشارح بالأوساط اندفع ما يقال: إن كلام أهل العرف إن كان رتبة وسطى بين الإيجاز والإطناب، فإما أن يكون هو المساواة أو لا، فإن كان هو المساواة فهى محمودة إن طابقت مقتضى الحال، ومذمومة إن لم تطابقه؛ لأن كل ما خرج عن أصل البلاغة التحق بأصوات البهائم- فكيف يقول المصنف إن كلام الأوساط

ص: 631

ومجرد تأليف يخرجها عن حكم النعيق.

(فالإيجاز أداء المقصود بأقل من عبارة المتعارف، والإطناب أداؤه بأكثر منها، ثم قال) أى: السكاكى

===

لا يحمد ولا يذم وإن كان غير المساواة فهو ممنوع لانحصار الكلام فى الإيجاز والإطناب والمساواة وحاصل الجواب: أن المراد لا يحمد ولا يذم من الأوساط؛ لأنهم لا يعتبرون المزايا والخواص، وهذا لا ينافى أنه يحمد ويذم من البليغ باعتبار اختلاف المقامات على ما سلف وتقسيم الكلام إلى الأقسام الثلاثة خاص بالكلام البليغ، وأما كلام الأوساط فلا يوصف بواحد من الثلاثة- فتأمل ذلك.

(قوله: ومجرد تأليف) أى: وتأليف مجرد عن النكات، وهو إما بالرفع عطف على تأدية أو بالجر عطف على دلالات

(قوله: يخرجها عن حكم النعيق) أى: بسبب كونه مطابقا للصرف واللغة والنحو مما يتوقف عليه تأدية أصل المعنى، وأصل النعيق تصويت الراعى فى غنمه، والمراد به هنا أصوات الحيوانات العجم والمراد بحكمه عدم دلالته

(قوله: فالإيجاز) أى: إذا بنينا على أنه لا يتيسر الكلام فى الإيجاز والإطناب إلا بالبناء على أمر عرفى فيقال فى تعريف الإيجاز هو أداء المقصود أى: ما يقصده المتكلم من المعانى

(قوله: بأقل) أى: بعبارة أقل أى: قليلة فأفعل ليس على بابه (وقوله: من عبارة المتعارف) فيه أن العبارة هى الكلام المعبر به والمتعارف هو الكلام أيضا كما مر من أن متعارف الأوساط كلامهم الجارى على عادتهم فى تأدية المعنى، وحينئذ فلا معنى لإضافة العبارة للمتعارف، إلا أن يقال: إنها بيانية والمعنى بعبارة أقل من العبارة التى هى متعارف الأوساط، وبعد ذلك فالمطابق للسياق أن يقول بأقل من المتعارف، إذ لا فائدة فى زيادة عبارة

(قوله: والإطناب أداؤه) أى: ويقال فى تعريف الإطناب هو أداء المقصود بعبارة أكثر من العبارة التى هى متعارف الأوساط، وقد يقال: إن الإطناب على اصطلاح السكاكى يعم المساواة كما يأتى وهذا لا يلائمه- اللهم إلا أن يقال: إن هذا التعريف مبنى على اصطلاح آخر. اه فنرى.

وقوله والإطناب إلخ أى: ويقال فى تعريف المساواة هى أداء المقصود بقدر المتعارف

(قوله: ثم قال أى السكاكى) هذا إشارة إلى كلام آخر للسكاكى فى الإيجاز

ص: 632

(الاختصار لكونه نسبيا يرجع فيه تارة إلى ما سبق) أى: إلى كون عبارة المتعارف أكثر منه (و) يرجع تارة (أخرى إلى كون المقام خليقا بأبسط مما ذكر) أى: من الكلام الذى ذكره المتكلم،

===

(قوله: الاختصار) أى: الذى هو الإيجاز؛ لأنهما عند السكاكى مترادفان، وإنما عبر أولا بالإيجاز وثانيا بالاختصار تفننا، وكان يغنى السكاكى عن هذا الكلام لو قال فى الكلام السابق إلا بالبناء على أمر عرفي أو على ما يقتضيه المقام

(قوله: لكونه نسبيا) علة مقدمة على المعلول أى: الاختصار يرجع فيه تارة لما سبق إلخ لكونه نسبيا

(قوله: يرجع فيه) أى: ينظر فيه أى: ينظر فى تعريفه.

(قوله: تارة) أى: فى بعض الأحيان

(قوله: إلى ما سبق) أى: إلى التعريف الذى قد سبق، وقوله أى: إلى كون إلخ: هذا بيان التعريف الذى سبق، وفيه أن الذى سبق كونه أقل من عبارة المتعارف لا كون المتعارف أكثر منه، وأجيب بأنه يلزم من كونه أقل من المتعارف أن يكون المتعارف أكثر منه، فما ذكره الشارح سابق بطريق الالتزام، وإنما لم يحمل الشارح كلام المصنف على ظاهره بحيث يقول أى: إلى كونه أقل من المتعارف؛ لأن هذا هو صريح معنى الاختصار، فلا وجه للقول برجوع الاختصار إليه، لأنه رجوع الشىء إلى نفسه وهو باطل، وليناسب قول المصنف بعد وأخرى إلى كون المقام إلخ، حيث اعتبر فيه الكون المتعلق بالغير وهو المقام فعلى بيان ما سبق بما قال الشارح قرينة فى كلام المصنف، وهى قوله بعد: وأخرى إلى كون المقام خليقا بأبسط منه حيث لم يقل خليقا بأقل مما يليق بالمقام هذا، ويمكن أن يقال بقطع النظر عن كلام الشارح: إن معنى كلام المصنف يرجع فى تعريفه تارة إلى اعتبار ما سبق وهو متعارف الأوساط، فيقال كما تقدم الإيجاز أداء المقصود بأقل من عبارة المتعارف

(قوله: ويرجع تارة أخرى) أى: ويرجع فى تعريفه

(قوله: إلى كون) أى: إلى اعتبار كون المقام الذى أورد فيه الكلام الموجز

(قوله: خليقا) أى: حقيقا وجديرا بحسب الظاهر

(قوله: بأبسط) أى: بكلام أبسط

(قوله: أى من الكلام الذى إلخ) أى: من الكلام الذى ذكره المتكلم، سواء كان ما ذكره المتكلم أقل من عبارة المتعارف أو أكثر منها أو مساويا لها-

ص: 633

وتوهم بعضهم أن المراد ب [ما ذكر] متعارف الأوساط؛ وهو غلط لا يخفى

===

مثلا: رب شخت، ويا رب شخت ويا رب قد شخت- هذه الثلاثة أقل مما يقتضيه المقام كما يأتى، وأولها أقل من المتعارف، والثانى مساو له، والثالث أكثر منه، وأشار الشارح بهذا التفسير إلى أنه ليس المراد بكونه ذكر أنه سبق له ذكر فيما تقدم

(قوله: وتوهم بعضهم) هو الشارح الخلخالى، وحاصل كلامه أن المراد بما ذكر فى قول المصنف بأبسط مما ذكر ما ذكره آنفا وهو متعارف الأوساط وهذا غلط؛ لأنه عليه ينحل كلام المصنف لقولنا يرجع الإيجاز أيضا إلى اعتبار كون المقام الذي أورد فيه الكلام الموجز أبسط من المتعارف، ومحصل ذلك أن الموجز ما كان أقل من مقتضى المقام الأبسط من المتعارف وهذا صادق بما إذا كان فوق المتعارف ودون مقتضى المقام أو مساويا للمتعارف ودون مقتضى المقام أو أقل منهما، ولا يشمل ما إذا كان مقتضى المقام مساويا للمتعارف أو أنقص ففيه قصور، ويلزم على هذا القول أن ما كان أقل من المتعارف أو مساويا له وقد اقتضاه المقام لا يكون الأقل منه إيجازا، ولا يعرف لهذا قائل، إذ هو تحكم محض والتفسير الأول متعين ويلزم على هذا القول أيضا التكرار والتداخل فى كلام المصنف مع وجود مندوحة عنه وهو ما ذكره الشارح فى تفسير ما ذكر، ووجه التكرار أن كلا من قسمى الإيجاز يرجع إلى متعارف وإن اختلف المعنيان، فالمعنى الأول فيه الرجوع إليه باعتبار أن المعنى المتعارف أكثر منه كما قال الشارح، والمعنى الثانى يرجع إليه باعتبار أن المقام خليق بأبسط من عبارة المتعارف، وأيضا يرد على كلام الخلخالى هذا أنه لا معنى لقولنا مرجع كون الكلام موجزا كون المقام خليقا بأبسط من المتعارف، وذلك لأن كون المقام خليقا بأبسط من المتعارف لا يناسب أن يكون علة للإيجاز، إذ لا معنى لقولنا هذا الكلام موجز لكون المقام خليقا بأبسط من المتعارف، بل المناسب فى التعليل أن يقال لكون المقام خليقا بأبسط منه أى: من هذا الكلام، وأيضا يلزم على هذا القول الذى قاله الخلخالى أن يكون قول المصنف مما ذكر إظهارا فى محل الإضمار، إذ المناسب بأبسط منه- قرر ذلك شيخنا العلامة العدوى.

ص: 634

على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ يعنى: كما أن الكلام يوصف بالإيجاز لكونه أقل من المتعارف كذلك يوصف به لكونه أقل مما يقتضيه المقام بحسب الظاهر، وإنما قلنا:[بحسب الظاهر] لأنه لو كان أقل مما يقتضيه المقام ظاهرا وتحقيقا لم يكن فى شىء من البلاغة؛ مثاله قوله تعالى: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي (1)

الآية، فإنه إطناب بالنسبة إلى المتعارف؛ أعنى: قولنا: يا رب شخت، وإيجاز بالنسبة إلى مقتضى المقام ظاهرا؛ لأنه مقام بيان انقراض الشباب وإلمام المشيب؛ فينبغى أن يبسط فيه الكلام غاية البسط.

فللإيجاز معنيان

===

(قوله: على من له قلب) أى: عقل، وقوله أو ألقى السمع أى: أصغى أو أمال السمع، وهو شهيد أى: حاضر ولا يخفى ما فى كلامه من الاقتباس من الآية الشريفة

(قوله: بحسب الظاهر) أى: بحسب ظاهر المقام لا بحسب باطنه؛ لأن باطن المقام يقتضى الاقتصار على ما ذكر؛ لأنه إنما عدل عما يقتضيه الظاهر لغرض كالتنبيه على قصور العبارة أو لأجل التفرغ لطلب المقصود، فإذا كان ما هو أقل مما يقتضيه المقام بحسب الظاهر بليغا

(قوله: وتحقيقا) أى: وباطنا وهما منصوبان على التمييز المحول عن الفاعل أى: لأنه لو كان أقل مما يقتضيه ظاهر المقام وباطنه

(قوله: لم يكن فى شىء من البلاغة) أى: لعدم مطابقته لمقتضى المقام ظاهرا وباطنا، وإذا لم يكن فى شىء من البلاغة فكيف يوصف بالإيجاز الذى هو وصف الكلام البليغ؟ !

(قوله: مثاله) أى: مثال الموجز المفهوم من الإيجاز الراجع لكون الكلام أقل مما يقتضيه المقام بحسب الظاهر

(قوله: قوله تعالى) أى: حكاية عن سيدنا زكريا

(قوله: وإلمام المشيب) من عطف اللازم على الملزوم والإلمام النزول

(قوله: فينبغى) أى: لكون المقام مقام التشكي مما ذكر.

(قوله: أن يبسط فيه الكلام غاية البسط) بناء على الظاهر كأن يقال: وهن عظم اليد والرجل، وضعفت جارحة العين، ولانت حدة الأذن إلى غير ذلك

(قوله: فللإيجاز) أى: الذى هو الاختصار عند السكاكى

(قوله: معنيان) هما كون الكلام أقل من المتعارف

(1) مريم: 4.

ص: 635

بينهما عموم من وجه (وفيه نظر؛ لأن كون الشىء أمرا نسبيا لا يقتضى تعسر تحقيق معناه) إذ كثيرا ما تحقق معانى الأمور النسبية، وتعرف بتعريفات تليق بها كالأبوة، والأخوة،

===

وكونه أقل مما يقتضيه المقام بحسب الظاهر، ويلزم من كون الإيجاز له معنيان أن يكون الإطناب كذلك، لكنه ترك ذلك لانسياق الذهن إليه مما ذكره فى الإيجاز

(قوله: عموم من وجه) أى: وخصوص كذلك؛ وذلك لأن كون الكلام أقل من متعارف الأوساط أعم من أن يكون أقل مما يقتضيه المقام بحسب الظاهر أو لا، وكون الكلام أقل مما يقتضيه المقام بحسب الظاهر أعم من أن يكون أقل من متعارف الأوساط أو لا فيتصادقان فيما إذا كان الكلام أقل من عبارة المتعارف، ومن مقتضى المقام جميعا كما إذا قيل: رب شخت بحذف حرف النداء وياء الإضافة فإنه أقل من مقتضى الحال لاقتضائه أبسط منه لكونه مقام التشكي من إلمام الشيب وانقراض الشباب، وأقل من عبارة المتعارف أيضا وهى: يا ربى شخت بزيادة حرف النداء وياء الإضافة، وينفرد المعنى الأول دون الثاني فى قوله إذا قال الخميس أى: الجيش نعم بحذف المبتدأ فإنه أقل من عبارة المتعارف، وهى هذه نعم فاغتنموها، وليس من مقتضى المقام؛ لأن المقام لضيقه يقتضى حذف المبتدأ. وكما مر فى نحو. قولك للصياد: غزال عند خوف فوات الفرصة فإنه أقل من المتعارف وهو هذا غزال، وليس بأقل مما يقتضيه المقام؛ لأنه يقتضي هذا الاختصار وينفرد المعنى الثاني دون الأول فى قوله تعالى رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي (1) فإن المقام يقتضي أكثر منه كما مر والمتعارف أقل منه كما لا يخفى، فلا يخفى عليك إجراء هذه النسبة أعنى نسبة العموم والخصوص من وجه بين الإطناب على التفسيرين له، وكذا بين الإيجاز بالمعنى الثانى وبين الإطناب بالمعنى الأول.

(قوله: وفيه نظر) أى: فيما ذكره السكاكى أولا وثانيا

(قوله: لا يقتضى تعسر تحقيق معناه) أى: لا يقتضى تعسر بيان معناه بالتعريف أى: والمتبادر من كلام السكاكى أن كون الشىء نسبيا يقتضى تعسر بيان معناه بالتعريف

(قوله: وتعرف بتعريفات إلخ)

(1) مريم: 4.

ص: 636

وغيرهما. والجواب: أنه لم يرد تعسر بيان معناهما؛ لأن ما ذكره بيان لمعناهما؛ بل أراد تعسر التحقيق والتعيين فى أن هذا القدر إيجاز، وذلك إطناب.

(ثم البناء على المتعارف والبسط

===

عطفه على ما قبله عطف تفسير

(قوله: كالأبوة) أى: فإنهم عرفوها بكون الحيوان متولدا من نطفته آخر من نوعه من حيث هو كذلك، وعرفوا الأخوة بكون الحيوان متولدا هو وغيره من نطفة آخر من نوعهما

(قوله: وغيرهما) كالبنوة فإنهم عرفوها بكون الحيوان متولدا من نطفة آخر من نوعه

(قوله: والجواب أنه) أى: السكاكى، وقوله لم يرد أى: بتعسر التحقيق فى قوله لكونهما نسبيين لا يتيسر الكلام فيهما إلا بترك التحقيق

(قوله: تعسر بيان معناهما) أى: بالتعريف الضابط لكل واحد منهما كما فهم المصنف وضمير التثنية راجع للإيجاز والإطناب

(قوله: لأن ما ذكره) أى:

السكاكى فى تعريف الإيجاز والإطناب بيان لمعناهما أى: فبيانه لمعناهما بما ذكره دليل على عدم هذه الإرادة

(قوله: بل أراد إلخ) الأوضح أن يقول بل أراد بتعسر التحقيق تعسر التعريف المحتوى على تعيين المقدار لكل بحيث لا يزاد عليه ولا ينقص عنه، وإنما كان تبيين هذا المقدار متعسرا لتوقفه على اتحاد المنسوب إليه وهو هنا مختلف، والحاصل أنه ليس مراد السكاكى بتعسر التحقيق تعسر التعريف المبين لمعنى كل منهما كما فهم المصنف واعترض بما ذكر، بل أراد بتعسر التحقيق تعسر التعريف المشتمل على تعيين المقدار لكل، وحينئذ فلا اعتراض والدليل على هذه الإرادة تعريفه للإيجاز والإطناب كما هو مبين لمعناهما بعد حكمه بتعسر تحقيقهما الذى هو الامتناع

(قوله: ثم البناء على المتعارف) أى: على متعارف الأوساط أى: على عبارتهم المتعارفة بينهم وهذا اعتراض ثان على السكاكى، حاصله أن ما ذكره السكاكى فى تعريف الإيجاز والإطناب من بنائهما على متعارف الأوساط ومن بنائهما على البسط الموصوف بأنه أبسط مما ذكره المتكلم فيه بحث؛ لأن هذا فى الحقيقة رد إلى الجهالة والمطلوب من التعاريف الإخراج من الجهالة لا الرد إليها

(قوله: والبسط) أى: والبناء على البسط أى: على الكلام المبسوط اللائق بالمقام لاقتضائه إياه؛ لأن البناء إنما هو على الكلام

ص: 637

الموصوف) بأن يقال: الإيجاز هو الأداء بأقل من المتعارف، أو مما يليق بالمقام من كلام أبسط من الكلام المذكور (رد إلى الجهالة) إذ لا تعرف كمية متعارف الأوساط، وكيفيتها؛ لاختلاف طبقاتهم،

===

لا على البسط وأيضا الموصوف بكونه أزيد من الكلام المذكور إنما هو الكلام

(قوله: الموصوف) أى: بأنه أبسط مما ذكره المتكلم

(قوله: بأن يقال) أى: فى البناء على المتعارف

(قوله: هو الأداء) أى: أداء المعنى المقصود بأقل من المتعارف أى: والإطناب أداؤه بأكثر من المتعارف.

(قوله: أو مما يليق إلخ) عطف على قوله من المتعارف وهذا بيان للبناء على البسط، وحاصله أن يقال الإيجاز أداء المقصود بأقل مما يليق بالمقام، والإطناب أداؤه بأكثر منه

(قوله: من كلام إلخ) بيان لما يليق بالمقام أي الذي هو كلام أبسط من الكلام الذى ذكره المتكلم

(قوله: رد إلى الجهالة) أى: والمطلوب من التعاريف الإخراج من الجهالة لا الرد إليها، وقوله رد إلى الجهالة أى: إحالة على أمر مجهول، فالجهالة: مصدر بمعنى اسم المفعول.

(قوله: إذ لا تعرف إلخ) علة لمحذوف أى: وإنما كان فى البناء على الأول وهو متعارف الأوساط رد إلى الجهالة؛ لأنه لا تعرف إلخ، وحاصله أن تصور التعريف متوقف على تصور أجزائه الإضافية وغيرها، والمتعارف المذكور في التعريف لم يتصور قدره ولا كيفه فيزداد بذلك جهله، فيكون التعريف المذكور فيه لفظ المتعارف مجهولا والمراد بكمية متعارف الأوساط عدد كلمات عبارتهم هل هو أربع كلمات أو خمس

(قوله: وكيفيتها) أى: ولا كيفية متعارف الأوساط، وأنث الضمير باعتبار أن متعارف الأوساط عبارة، وأراد بكيفية متعارف الأوساط تقديم بعض الكلمات وتأخير بعضها، ثم إن معرفة الكيف لا يتعلق بها الغرض الذي يخصنا هنا، إلا أن الجهل به يزداد به جهل متعارف الأوساط فيكون التعريف المذكور فيه لفظ المتعارف مجهولا، ويصح أن يراد بكيفية متعارف الأوساط كون كلماته طويلة أو قصيرة

(قوله: لاختلاف طبقاتهم) أى:

لاختلاف مراتب الأوساط فمنهم من يعبر عن المقصود بعبارة قصيرة ومنهم من يعبر

ص: 638

ولا يعرف أن كل مقام أى مقدار يقتضى من البسط حتى يقاس عليه ويرجع إليه.

والجواب: أن الألفاظ قوالب المعانى،

===

عنه بعبارة طويلة، وهذا علة لقوله: إذ لا تعرف إلخ

(قوله: ولا يعرف إلخ) عطف على قوله: إذ لا تعرف، وهذا بيان لكون البناء على البسط فيه رد للجهالة، وحاصله أن كون المقام يقتضي كذا وكذا لا أقل ولا أكثر مما لا ينضبط، فلا يكاد يعرف لتفاوت المقامات كثيرا ومقتضياتها مع دقتها، فقوله: ولا يعرف أن كل مقام أى: ولا يعرف جواب أن كل مقام، والمراد بالمعرفة المنفية هنا وفيما مر المعرفة التصورية، (وقوله: أى مقدار) مفعول مقدم ليقتضى، وقوله من البسط أى: من ذى البسط، وأصل التركيب ولا يعرف جواب أن كل مقام يقتضي أى: مقدار من الكلام المبسوط

(قوله: حتى يقاس عليه) فيحكم بأن المذكور أقل منه أو أكثر، وهذا غاية للمنفى وهو المعرفة من قوله: ولا يعرف وضمير عليه راجع للقدر الذى يقتضيه المقام

(قوله: ويرجع إليه) عطف تفسير

(قوله: والجواب أن الألفاظ إلخ) هذا جواب عن الأول، وحاصله أنا لا نسلم أن المتعارف غير معروف، بل يعرفه كل أحد من البلغاء وغيرهم، وذلك لأن الألفاظ قوالب المعانى فهى على قدرها بحسب الوضع بمعنى أن كل لفظ بقدر معناه الموضوع له، فمن عرف وضع الألفاظ ولو كان عاميا عرف أى: معنى يفرغ فى ذلك القالب من اللفظ ضرورة أن المعنى الذى يكون على قدر اللفظ هو ما وضع له مطابقة، فإذا أراد تأدية المعنى الذى قصده عبر عنه باللفظ الموضوع له من غير زيادة ولا نقص، فالتصرف فى العبارة بما يوجب طولها وقصرها من اللطائف والدقائق الزائدة على أصل الوضع شأن البلغاء والمحققين، ولا يتوقف متعارف الأوساط واستعماله على ذلك، وحينئذ فمتعارف الأوساط معروف للبلغاء وغيرهم ومحدود معين عندهم فى كل حادثة وهو اللفظ الموجود للمعنى الذى أريد تأديته، وحيث كان المتعارف محدودا معينا فيقاس به ويصح التعريف به، ولا يكون فى البناء عليه رد للجهالة لوضوحه بالنسبة للبلغاء وغيرهم

(قوله: الألفاظ قوالب المعانى) أى: لأنها من حيث فهمها منها أو من حيث وضعها لها مساوية لها، وعكس بعضهم نظرا إلى أن المعنى يستحضر أولا ثم يأتى باللفظ

ص: 639

والأوساط الذين لا يقدرون فى تأدية المعانى على اختلاف العبارات والتصرف فى لطائف الاعتبارات- لهم حد من الكلام يجرى بينهم فى المحاورات والمعاملات، معلوم للبلغاء وغيرهم. فالبناء على المتعارف واضح بالنسبة إليهما جميعا، وأما البناء على البسط الموصوف فإنما هو للبلغاء العارفين لمقتضيات الأحوال بقدر ما يمكن لهم، فلا يجهل عندهم ما يقتضيه كل مقام من مقدار البسط.

(والأقرب) إلى الصواب

===

على طبقه، وجمع بين القولين بأن الأول باعتبار السامع والثاني باعتبار المتكلم

(قوله: والأوساط) مبتدأ خبره قوله لهم حد إلخ.

(قوله: على اختلاف العبارات) أى: على الإتيان بعبارات مختلفة بالطول والقصر عند إفادة المعنى الواحد

(قوله: والتصرف) عطف على اختلاف عطف سبب على مسبب أى: ولا يقدرون على التصرف فى العبارات بمراعاة النكات اللطيفة المعتبرة أى: التى شأنها أن تعتبر

(قوله: لهم حد إلخ) أى: لكل معنى أريد إفادته عندهم حد أى:

عبارة محدودة أى: معلومة أى: وحينئذ فلا يكون فى البناء على متعارف الأوساط رد إلى الجهالة لوضوحه للبلغاء وغيرهم، وظهر لك مما قلناه أن القدرة على تأدية المعنى الواحد بعبارات مختلفة فى الطول والقصر إنما هو شأن البلغاء، بخلاف الأوساط فإن لهم فى إفادة كل معنى حدا معلوما من الكلام يجرى فيما بينهم يدل عليه بحسب الوضع ولا قدرة لهم على أزيد من ذلك ولا أنقص

(قوله: وأما البناء على البسط إلخ) هذا جواب عن الاعتراض الثانى، وحاصله أن البناء على البسط مقصور على البلغاء لا يتجاوزهم إلى غيرهم ولا نسلم عدم معرفة البلغاء لما يقتضيه كل مقام عند النظر فيه، وحينئذ فيكون التعريف بما فيه البسط الموصوف ليس فيه رد للجهالة للعلم بالبسط الموصوف عند البلغاء

(قوله: الموصوف) أى: بكونه أبسط مما ذكره المتكلم

(قوله: فلا يجهل عندهم إلخ) أي لأنهم يعرفون أي مقام يقتضي البسط، ويعرفون أن ذلك المقام المقتضى للبسط يقتضي أي مقدار منه، وحينئذ فيكون التعريف به ليس فيه رد للجهالة

(قوله: والأقرب إلخ) هذا يقتضي أن ما قاله السكاكى قريب إلى الصواب مع أن غرض المصنف

ص: 640

(أن يقال: المقبول من طرق التعبير عن المراد

===

أنه ليس بصواب؛ لأنه نظر فيه ولم يجب عنه وعدل إلى غيره، ويقتضى أيضا أن هذا الكلام الذي أتى به ليس بصواب بل أقرب إليه من غيره وليس هذا مرادا، وأجيب بأن أفعل ليس على بابه بل المراد القريب للصواب، والمراد بقربه للصواب تمكنه منه، وكثيرا ما يعبر بالقرب من الشىء عن كونه إياه كقوله تعالى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (1) فإن العدل من التقوى داخل فيها لا أنه قريب إليها فقط

(قوله: أن يقال) أى: فى ضبط الإيجاز والإطناب

(قوله: المقبول من طرق التعبير إلخ) خرج الإخلال والتطويل والحشو مفسدا أو غير مفسد فإن هذه وإن كانت طرقا للتعبير عن المراد إلا أنها غير مقبولة، وحاصل ما أشار إليه المصنف منطوقا ومفهوما أن هنا خمس طرق؛ لأن المراد إما أن يؤدى بلفظ مساو له أولا، والثاني إما أن يكون ناقصا عنه أو زائدا عليه، والناقص إما واف أو غير واف، والزائد إما لفائدة أو لا، فهذه خمسة المقبول منها ثلاثة وهى ما أدى بلفظ مساو أو بناقص مع الوفاء أو بزائد لفائدة، وما أدى بناقص بلا وفاء وهو الإخلال غير مقبول، وما أدى بزائد لا لفائدة غير مقبول وفيه قسمان الحشو والتطويل فصارت الطرق ستة ثلاثة مقبولة وهى المساواة والإيجاز والإطناب وثلاثة غير مقبولة وهى الإخلال والتطويل والحشو، ثم إن المراد بتلك الطرق مقبولة أو غير مقبولة بالنظر للتعبير عن المقصود بقطع النظر عن حال المتكلم من كونه بليغا أو من الأوساط، فلا يرد أنه إن أريد بقبول الطرق الثلاثة الأول القبول مطلقا أى: سواء كان من البليغ أو من الأوساط، فالزائد والناقص الوافي غير مقبولين من الأوساط، لأنهما خروج عن طريقهم لغير داع وإن أريد القبول من البليغ فليس المساوي والناقص الوافي مقبولين منه مطلقا، بل إذا كان ذلك لداع، ويمكن الجواب أيضا باختيار الشق الثانى. وأن المصنف اتكل في عدم التقييد بالبليغ للعلم به من كون الكلام في أساليب البلاغة التي هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال.

(1) المائدة: 8.

ص: 641

تأدية أصله بلفظ مساو له) أى: الأصل المراد (أو) بلفظ (ناقص عنه واف، أو بلفظ زائد عليه لفائدة)

===

(قوله: تأدية أصله) أى: أصل المراد والإضافة بيانية أى: تأدية الأصل الذى هو المراد- اه يعقوبى، وإنما زاد لفظ الأصل إشارة إلى أن المعتبر فى المساواة والإيجاز والإطناب المعنى الأول أعنى: المعنى الذى قصد المتكلم إفادته للمخاطب ولا يتغير بتغير العبارات واعتبار الخصوصيات، فقولنا: جاءنى إنسان وجاءنى حيوان ناطق كلاهما من باب المساواة وإن كان بينهما تفاوت من حيث الإجمال والتفصيل، والقول بأن أحدهما إيجاز والآخر إطناب وهم انتهى عبد الحكيم

(قوله: بلفظ مساو له) وذلك بأن يؤدى بما وضع لأجزائه مطابقة وهذه التأدية أعنى تأدية المراد بلفظ مساو هى المساواة وقد اعتمد المصنف فى معرفة أن الأول مساواة، وأن الثانى إيجاز، وأن الثالث إطناب على إشعار المفهومات بذلك كما لا يخفى. اه أطول.

(قوله: أو بلفظ ناقص عنه) أى: عن المعنى المراد بأن يؤدى بأقل مما وضع لأجزائه مطابقة فالنقصان باعتبار التصريح

(قوله: واف) أى: بذلك المعنى المراد إما باعتبار اللزوم إذا لم يكن هناك حذف، أو باعتبار الحذف الذى يتوصل إليه بسهولة من غير تكلف، فخرج الإخلال، فإن التوصل إلى المحذوف فيه بتكلف وهذه التأدية أعنى تأدية المراد بلفظ ناقص واف هى الإيجاز- كذا قرر شيخنا العدوى، وعبارة المولى عبد الحكيم: أو بلفظ ناقص عنه أى: عن مقدار أصل المراد إما بإسقاط لفظ منه، أو التعبير عن كله بلفظ ناقص عن ذلك المقدار فيشمل إيجاز القصر وإيجاز الحذف، فقولنا: سقيا له وشكرا له مساو لأصل المراد غير ناقص عنه؛ لأن تقدير الفعل إنما هو لرعاية قاعدة نحوية: وهو أنه مفعول مطلق لا بد له من ناصب، والعرب القح تفهم أصل المراد من ذلك وهو حمده تعالى من غير تقدير وهو متعارف الأوساط أيضا، فالقول بأنه إيجاز عند المصنف ومساواة عند السكاكى لمخالفته مع السكاكى لا يسمع بدون سند قوى من القوم. اه كلامه.

(قوله: أو بلفظ زائد عليه) أى: بأن يكون أكثر مما وضع لأجزائه مطابقة لفائدة، وهذه التأدية أعنى: تأدية أصل المراد بلفظ زائد عليه لفائدة هى الإطناب.

ص: 642

فالمساواة أن يكون اللفظ بمقدار أصل المراد، والإيجاز أن يكون ناقصا عنه وافيا به، والإطناب أن يكون زائدا عليه لفائدة (واحترز بواف عن الإخلال) وهو أن يكون اللفظ ناقصا عن أصل المراد، غير واف به (كقوله:

===

(قوله: فالمساواة أن يكون إلخ) المتبادر من هذا التقرير أن قول المصنف لفائدة قيد فى الإطناب وهو صريح الاحتراز الآتى فى المتن أيضا وفيه نظر؛ لأنه يقتضى أن المساواة والإيجاز مقبولان مطلقا- وليس كذلك، إذ كيف يقبلان عند البلغاء عند عدم الفائدة، فالأولى تقييدهما بها أيضا، ويراد بها ما يعم كون المأتى به هو الأصل، ولا مقتضى للعدول عنه كما فى المساواة حيث لا يوجد فى المقام مناسبة سواها، ولذا قال السبكى فى عروس الأفراح: الذى يظهر لى من كلام المصنف وهو الصواب أن قوله لفائدة يتعلق بالثلاثة من جهة المعنى، وما اقتضته عبارته من تعلقها بالزائد فقط- فليس كذلك، بل يقال: المساواة تأدية أصل المعنى بلفظ مساو له لفائدة والإيجاز تأديته بلفظ ناقص لفائدة والإطناب تأديته بلفظ زائد لفائدة

(قوله: واحترز) هو بالبناء للمفعول أو بالبناء للفاعل ويكون فيه التفات؛ لأن المقام مقام تكلم، ويصح أن يقرأ بلفظ المضارع، ووجه الاحتراز بما ذكره عن الإخلال أن المراد بالوفاء أن تكون الدلالة على ذلك المراد مع نقصان اللفظ واضحة فى تراكيب البلغاء ظاهرة لا خفاء فيها، والإخلال كما قال الشارح أن يكون اللفظ ناقصا عن أصل المراد غير واف به لخفاء الدلالة حيث يحتاج فيها إلى تكلف وتعسف، فإن قلت: إذا وجدت قرائن الدلالة اعتبرت وكانت مقبولة وإن لم توجد فلا دلالة أصلا حتى تكون مقبولة أو غير مقبولة.

قلت القرائن لا بد منها، لكن قد يكون الفهم منها واضحا، وقد يكون الفهم منها تعسفا وتكلفا لخفائها وبعد الأخذ منها كما يشهد بذلك صادق الذوق فى شاهد الإخلال الآتى قريبا

(قوله: كقوله) أى: الحارث بن حلزة اليشكرى بكسر الحاء المهملة وتشديد اللام وكسرها والزاى المعجمة المفتوحة، واليشكرى نسبة لبنى يشكر: بطن من بكر بن وائل، والبيت المذكور من قصيدة من مجزوء الكامل المضمر المرفل، وقبله:

ص: 643

والعيش خير فى ظلال

النّوك) أى: الحمق والجهالة (ممن عاش كدا) أى:

مكدودا متعوبا.

(أى: الناعم، وفى ظلال العقل) يعنى: أن أصل المراد: أن العيش الناعم فى ظلال النوك خير من العيش الشاق فى ظلال العقل. ولفظه غير واف بذلك فيكون مخلا فلا يكون مقبولا.

===

عيشن بجدّ لا يضر

ك النّوك ما أوليت جدّا (1)

(قوله: والعيش) أراد به المعيشة أى: ما يتعيش به من مأكل ومشرب، وفى الكلام حذف الصفة أى: الناعم، والمراد بنعومته كونه لذيذا، وقيل المراد بالمعيشة:

الحياة، والمراد بنعومتها كونها مع الراحة

(قوله: فى ظلال النوك) حال من ضمير خير أو من المبتدأ على رأى سيبويه وإضافة الظلال للنوك من إضافة المشبه به للمشبه بجامع الاشتمال والظلال: جمع ظلة بالضم وهى ما يتظلل به كالخيمة، فشبه النوك الذى هو الجهل بالظلال بجامع الاشتمال وأضاف المشبه به للمشبه

(قوله: أى الحمق والجهالة) تفسير للنوك بضم النون، والمراد بالحمق والجهالة عدم العقل الذى يتأمل به فى عواقب الأمور

(قوله: ممن عاش) أى: من عيش من عاش كدا حالة كونه فى ظلال العقل؛ وذلك لأن الجاهل الأحمق يتنعم على أى وجه ولا يضيق على نفسه بشىء والعاقل يتأمل فى العواقب والآفات وخوف الفناء والممات فلا يجد للعيش لذة

(قوله: أى مكدودا متعوبا) المتبادر من هذا التفسير أنه حال من ضمير عاش ولما كان مصدرا أوله ب" مكدودا" على ما هو أحد الطرق فى وقوع المصدر حالا، ويحتمل أن يكون صفة مصدر محذوف أى: عيشا كدا، وقوله: متعوبا: تفسير ل" مكدودا"

(قوله: أى الناعم إلخ) هذا بيان لما أخل به الشاعر وتوضيحه أن البيت يفيد أن العيش فى حال الجهل سواء كان ناعما أو لا خير من عيش المكدود سواء كان عاقلا أو لا، مع أن هذا غير مراد الشاعر، بل

(1) البيت للحارث بن حلزة فى ديوانه ص 46، وجمهرة اللغة ص 1000، والأغانى 11/ 44، وبهجة المجالس 1/ 187، وجمهرة الأمثال 1/ 129، وشعراء النصرانيّة ص 417، ولكنه ورد برواية أخرى:

فعش بجدّ لا يضر

ك النّوك ما لاقيت حدّا

ص: 644

(و) احترز (بفائدة عن التطويل) وهو أن يزيد اللفظ على أصل المراد لا لفائدة، ولا يكون اللفظ الزائد متعينا (نحو: قوله (1): )

===

مراده أن العيش الناعم فقط مع رذيلة الجهل والحماقة خير من العيش الشاق مع فضيلة العقل، والبيت لا يفى بهذا المعنى المراد؛ لأن اعتبار الناعم فى الأول وفى ظلال العقل فى الثانى لا دليل عليه، فنبه المصنف على أن فى المصراع الأول حذف الصفة أى: والعيش الناعم، وفى المصراع الثانى حذف الحال أى: ممن عاش كدّا فى ظلال العقل، وكل منهما لا يعلم من الكلام ولا يدل عليه دلالة واضحة، إذ لا يفهم السامع هذا المراد من البيت حتى يتأمل فى ظاهر الكلام فيجده غير صحيح لاقتضائه أن العيش ولو مع النكد فى حالة الحمق خير من العيش النكد فى ظلال العقل وهذا غير صحيح لاستوائهما فى النكد وزيادة الثانى بالعقل الذى من شأنه التوسعة وإطفاء بعض نكدات العيش، فإذا تأمل فى ظاهر الكلام ووجده غير صحيح قدر ما ذكر من الأمرين فى البيت لأجل صحة الكلام، ولا يقال: إن المحذوف فى هذا البيت دلت عليه القرينة التى هى عدم صحة ظاهر الكلام فهى التى عرفتنا أن المراد الناعم وأن المراد فى ظلال العقل وحيث كان هناك قرينة دالة على ذلك المحذوف فلا إخلال؛ لأنا نقول لا نسلم أن القرينة هنا تدل على تعيين ما ذكر سلمنا أنها تدل (2)، لكن دلالة ظنية لا يهتدى إليها إلا بمزيد نظر وتأمل فهو لا يخلو عن الخلل بهذا الاعتبار، هذا وذكر العلامة جلال الدين السيوطى فى شرح عقود الجمان: أنه لا إخلال فى البيت بل فيه النوع البديعى المسمى بالاحتباك حيث حذف من كل ما أثبت مقابله فى الآخر، فما ذكره فى كل محل قرينة معينة للمحذوف من المحل الآخر.

(قوله: عن التطويل) أى: وعن الإسهاب وهو أعم من الإطناب فإنه التطويل مطلقا لفائدة أو لغيرها كما ذكره التنوخى وغيره- كذا فى عروس الأفراح.

(قوله: نحو قوله) أى: قول عدى بن زيد العبادى من قصيدة طويلة يخاطب بها النعمان بن المنذر حين كان حابسا له، ويذكره فيها حوادث الدهر وما وقع لجذيمة وللزباء من الخطوب ومطلعها:

(1) البيت لعدى بن زيد فى ذيل ديوانه ص 183.

(2)

كذا بالمطبوعة.

ص: 645

وقدّدت، الأديم لراهشيه (وألفى) أى: وجد (قولها كذبا ومينا)

والكذب والمين واحد. قوله: [قددت] أى: قطعت، والراهشان: العرقان فى باطن الذراعين، والضمير فى راهشيه، وفى ألفى لجذيمة

===

أأبدلت المنازل أم عيينا

تقادم عهدهنّ فقد بلينا

إلى أن قال:

ألا يأيها المثرى المرجّى

ألم تسمع بخطب الأوّلينا

(قوله: وقددت)(1) من القد وهو القطع والتقديد مبالغة فيه والأديم الجلد

(قوله: لراهشيه) اللام بمعنى إلى التى للغاية أى: قطعت الجلد الملاصق للعروق إلى أن وصل القطع للراهشين

(قوله: ومينا) فى رواية مبينا وعليها فلا شاهد فى البيت، وهذه الرواية خلاف رواية الجمهور وإن كانت موافقة لبقية القصيدة؛ لأن أبياتها كلها مكسور فيها ما قبل الياء

(قوله: والكذب والمين واحد) أى: فلا فائدة فى الجمع بينهما، ولا يقال: فائدته التوكيد، إذ عطف أحد المترادفين على الآخر يفيد تقرير المعنى؛ لأنا نقول التأكيد إنما يكون فائدة إن قصد لاقتضاء المقام إياه، وليس مقام هذا الكلام مقتضيا لذلك؛ لأن المراد منه الإخبار بمضمون المقصود وهو أن جذيمة غدرت به الزباء وقطعت راهشيه وسال منه الدم حتى مات وأنه وجد ما وعدته به من تزوجه كذبا، فإن قلت: إن الثانى وهو المين متعين للزيادة؛ لأن الأول واقع فى مركزه، والثانى معطوف عليه قلت مدار التعين وعدم التعين أنه إن لم يتغير المعنى بإسقاط أيهما كان، فالزائد غير متعين وإن تغير المعنى بإسقاط أحدهما دون الآخر، فالزائد هو الآخر ولا يعتبر فى ذلك كون أحدهما متقدما والآخر متأخرا- كذا ذكر العلامة عبد الحكيم.

(قوله: العرقان فى باطن الذراعين) ينزف الدم منهما عند القطع

(قوله: لجذيمة) هو بفتح الجيم بصيغة المكبر وبضمها بصيغة المصغر كان من العرب الأولى وكنيته أبو مالك وكان فى أيام الطوائف، وقال أبو عبيد كان بعد عيسى- صلوات الله

(1) البيت لعدى بن زيد فى ذيل ديوانه ص 183، والأشباه والنظائر 3/ 213 والدرر 6/ 73، والشعر والشعراء 1/ 233، ولسان العرب (مين) ومعاهد التنصيص 1/ 310.

ص: 646

الأبرش، وفى قددت. وفى قولها للزباء. والبيت فى قصة قتل الزباء لجذيمة؛ وهى معروفة.

(و) احترز أيضا بفائدة (عن الحشو) وهو زيادة معينة لا لفائدة (المفسد) للمعنى (كالندى

===

وسلامه عليه- بثلاثين سنة، وتولى الملك بعد أبيه وهو أول من ملك الحيرة وكان ملكه متسعا جدا ملك من شاطئ الفرات إلى ما والى ذلك إلى السواد وكان يغير على ملك الطوائف حتى غلب على كثير مما فى أيديهم وهو أول من أوقد الشمع ونصب المجانيق للحرب

(قوله: الأبرش) البرش فى الأصل نقط تخالف شعر الفرس ثم نقل للأبرص، وقيل لذلك الرجل الأبرش لبرص كان به، فهابت العرب أن تصفه بذلك فقالوا الأبرش والوضاح، وقيل سمى بذلك؛ لأنه أصابه حرق نار فبقى أثر نفطانه سودا وحمرا

(قوله: وفى قولها) أى: وفى لفظ قولها

(قوله: للزباء) هى امرأة تولت الملك- بعد أبيها

(قوله: وهى معروفة) وحاصلها أن جذيمة قتل أبا الزباء وغلب على ملكه وألجأ الزباء إلى أطراف مملكتها، وكانت عاقلة أديبة فبعثت إليه بأن ملك النساء لا يخلو من ضعف فى السلطان، فأردت رجلا أضيف إليه ملكى وأتزوجه فلم أجد كفؤا غيرك فأقدم على لذلك فطمع فى زواجها لأجل أن يتصل ملكه بملكها، وقيل: إنه بعث يخطبها فكتبت إليه إنى راغبة فى ذلك فإذا شئت فاشخص إلى فشاور وزراءه فأشاروا عليه بزواجها إلا قصير بن سعد فإنه قال له يأيها الملك لا تفعل فإن هذه خديعة ومكر فعصاه، وأجابها إلى ما سألت فقال قصير عند ذلك لا يطاع لقصير أمر فصار ذلك مثلا ولم يكن قصيرا، ولكن كان اسما له، ثم إنه قال له: أيها الملك حيثما عصيتنى وتوجهت إليها إذا رأيت جندها قد أقبلوا إليك، فإن ترجلوا وحيوك ثم ركبوا وتقدموا فقد كذب ظنى، وإن رأيتهم حيوك وطافوا بك فإنى معرض لك العصا وهى فرس لجذيمة لا تدرك فاركبها وفر بها تنج وقد أعدت لأخذه فرسانا، فلما حضر غير مستعد للحرب فى أبواب حصنها حيوه وطافوا به فقرب قصير إليه العصا فشغل عنها فركبها قصير فنجا فنظر جذيمة إلى قصير على العصا وقد حال دونه السراب فقال ما ذل من جرت به العصا

ص: 647

===

فصار مثلا، فأدخلته الزباء فى بيتها وكانت قد ربت شعر عانتها حولا وكشفت له عن باطنها، وقالت له: هذه عانة عروس أو عانة آخذ بالثأر، فقال: بل آخذ بالثأر فأيس من الحياة، فأمرت بشد عضديه كما يفعل بالمفصود وأجلس على نطع، ثم أمرت برواهشه فقطعت وكان قد قيل لها احتفظى على دمه فإنه إن ضاعت قطرة منه طلب بثأره فقطرت قطرة من دمه فى الأرض، فقالت: لا تضيعوا دم الملك، فقال جذيمة:

دعوا دما ضيعه أهله فلم يزل الدم يسيل إلى أن مات، وإنما اختارت هذا الوجه فى موته لأجل اشتفاء غيظها منه باللوم وهو فى سبيل الموت، ثم إن قصيرا أتى إلى عمرو بن سعد وهو ابن أخت جذيمة وقد كان جذيمة استخلفه على مملكته حين سار للزباء فأخبره الخبر وحضه على الثأر، واحتال لذلك فقطع أنفه وأذنيه ولحق بالزباء وزعم أن عمرا فعل به ذلك، وأنه اتهمه على ممالأته لها على خاله يخدعها حتى اطمأنت له وصارت ترسله إلى العراق بمال فيأتى إلى عمرو فيأخذ منه ضعفه ويشترى به ما تطلبه، ويأتى إليها به إلى أن تمكن منها وسلمته مفاتيح الخزائن وقالت له: خذ ما أحببت فاحتمل ما أحب من مالها وأتى عمرا فانتخب من عسكره فرسانا وألبسهم السلاح واتخذ غرائر وجعل شراجها من داخل، ثم حمل على كل بعير رجلين معهما سلاحهما وجعل يسير فى النهار حتى إذا كان الليل اعتزل عن الطريق فلم يزل كذلك حتى شارف المدينة فأمرهم بلبس السلاح ودخلوا الغرائر ليلا، فلما أصبح دخل وسلم عليها وقال هذه العير تأتيك بما لم آتك بمثله قط فصعدت فوق قصرها وجعلت تنظر العير وهى تدخل المدينة فأنكرت مشيها وجعلت تقول:

ما للجمال مشيها وئيدا

أجندلا يحملن أم حديدا (1)

أم صرفانا باردا شديدا

أم الرجال جثّما قعودا

(1) الرجزان للزباء فى لسان العرب (صرف)، والأول منهما، فى الأغانى 15/ 256، وخزانة الأدب 7/ 295، وشرح عمدة الحافظ، وبلا نسبة فى أساس البلاغة (وأد)، والثانى: فى تاج العروس (صرف)، وجمهرة اللغة ص 1237، وبلا نسبة فى تهذيب اللغة 13/ 163.

ص: 648

فى قوله:

ولا فضل فيها) أى: فى الدنيا (للشجاعة والنّدى .. وصبر الفتى لولا لقاء شعوب)(1)

هى علم للمنية؛

===

فلما دخلت العير فى المدينة حلوا شراجهم وخرجوا بالسلاح وأتى قصير بعمرو فأقامه على سرداب كان لها كانت إذا خرجت تخرج منه، فأقبلت لتخرج من السرداب فوجدت عمرا على بابه فجعلت تمص خاتما وفيه سم وتقول: بيدى لا بيد عمرو، وفارقت الدنيا.

(قوله: فى قوله) أى: قول أبى الطيب المتنبى من قصيدته التى رثى بها يماك التركى غلام سيف الدولة وأولها فيه الخرم وهو حذف الحرف الأول من الوتد المجموع ومطلعها:

لا يحزن الله الأمير فإنّنى

لآخذ من حالاته بنصيب

ومن سرّ أهل الأرض ثمّ بكى أسى

بكى بعيون سرّها وقلوب

وإنّى وإن كان الدّفين حبيبه

حبيب إلى قلبى حبيب حبيبى

وقد فارق الناس الأحبّة قبلنا

وأعيا دواء الموت كلّ طبيب

سبقنا إلى الدّنيا فلو عاش أهلها

منعنا بها من جيئة وذهوب

تملّكها الآتى تملّك سالب

وفارقها الماضى فراق سليب

ولا فضل فيها

البيت

وهى قصيدة طويلة

(قوله: والندى) أى: الإعطاء

(قوله: شعوب) بفتح الشين مأخوذ من الشعبة وهى الفرقة

(قوله: علم للمنية) أى: علم جنس فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث وسميت المنية بذلك؛ لأنها تشعب وتفرق بين الأحبة أى: لولا

(1) البيت لأبى الطيب المتنبى فى شرح ديوانه 2/ 73، وأورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 143.

ص: 649

صرفها للضرورة، وعدم الفضيلة على تقدير عدم الموت إنما يظهر فى الشجاعة والصبر

===

تيقن لقاء المنية لم يكن للأمور المذكورة فضل

(قوله: صرفها) أى: جرها بالكسر من غير تنوين، وقوله للضرورة أى: لضرورة موافقة القوافى وجعله الجر بالكسر صرفا هو أحد قولين، والثانى أنه التنوين، وقوله صرفها للضرورة أى: مع كونها ممنوعة من الصرف لما ذكرنا، وانظر هل يقال: يجوز أن يكون علما على الموت وهو مذكر، وحينئذ فيجوز فيه الصرف وعدمه باعتبارين كما قيل بذلك فى أسماء البلدان والأماكن فليحرر- قاله يس، والظاهر الجواز وأنه لا فرق

(قوله: وعدم الفضيلة على تقدير عدم الموت إلخ) هذا بيان لمفهوم البيت، وتقدير لما يرد على قوله: والندى من كونه حشوا مفسدا للمعنى وللجواب عنه؛ وذلك لأن منطوقه ثبوت الفضيلة للشجاعة وما معها على تقدير وجود الموت؛ لأن لولا حرف امتناع لوجود بمعنى أنها تدل على امتناع جوابها لوجود شرطها، وقوله لا فضل فيها: هو الجواب فى الحقيقة، لكن لكون الجواب لا يتقدم يقال فيه إنه دليل الجواب، وأصل التركيب لولا لقاء شعوب لا فضل فيها للشجاعة والندى والصبر وهذا الجواب منفى فى ذاته فإذا نفى بمقتضى لولا كان إثباتا؛ لأن نفى النفى إثبات فيصير مدلول الكلام ومنطوقه ثبوت الفضل للأمور المذكورة على تقدير وجود الموت ومفهومه عدم الفضيلة لما ذكر على تقدير عدم الموت وهذا مسلم فى غير الندى، والحاصل أن هذا البيت يفيد بحسب المنطوق أن وجود الموت مقتض لفضل الشجاعة والصبر والكرم ويفيد بحسب المفهوم أن نفى الموت مقتض لنفى الفضل عما ذكر واستلزام وجود الموت لفضل الشجاعة واستلزام نفيه لنفى فضلها صحيح؛ لأن الإنسان متى علم أنه لا يموت لم يبال بالقدوم على المعركة، وهذا المعنى يستوى فيه الناس جميعا فلا فضل على تقديره لأحد على أحد، بخلاف ما إذا علم أنه يموت ومع ذلك يقتحم المعركة فلا يكاد يوجد هذا المعنى إلا لأفراد قلائل من الناس فيثبت لهم الفضل باختصاصهم بما لا طاقة لكل أحد عليه، وكذلك الصبر على شدائد الدنيا استلزام وجود الموت لفضله واستلزام نفى الموت لنفى فضله صحيح؛ لأنه لو انتفى الموت

ص: 650

لتيقن الشجاع بعدم الهلاك، وتيقن الصابر بزوال المكروه، بخلاف الباذل ماله إذا تيقن بالخلود وعرف احتياجه إلى المال دائما فإن بذله حينئذ أفضل مما إذا تيقن بالموت وتخليف المال. وغاية اعتذاره ما ذكره الإمام ابن جنى؛ وهو أن فى الخلود وتنقل الأحوال فيه من عسر إلى يسر، ومن شدة إلى رخاء

===

لم يكن له فضل؛ لأن الناس كلهم إذا علموا أنه لا موت بتلك الشدة صبروا حرصا على تلك الفضيلة أعنى فضيلة نفى الجزع، إذ ليست تلك الشدة مفضية إلى الموت الذى هو أعظم مصيبة وما دونها جلل، ومع ذلك لا بد أن تزول عادة بخلاف ما إذا علم الإنسان أن تلك الشدة ربما أفضت إلى الموت الذى هو أشد الشدائد ومع ذلك يصبر عليها، فهذا لا يتصف به إلا القليل من الناس فيثبت له الفضل باختصاصه بما لا طاقة لكل أحد عليه وأما استلزام وجود الموت لفضيلة الكرم واستلزام نفى الموت لنفى فضيلة الكرم فغير صحيح؛ لأن المتبادر أن فضل الكرام إنما يكون عند نفى الموت لا عند وجوده؛ لأن الإنسان إذا علم أنه لا يموت ومع ذلك يتكرم حتى يبقى معدما، والعدم مما يؤدى إلى فضيحة ومقاساة شدائد دائمة فلا يكاد يوجد على هذه الحالة إلا النادر فيثبت له الفضل لاختصاصه بما لا طاقة لكل أحد عليه، وأما إذا تيقن وجود الموت وترك المال هان عليه بذله وعدم بقائه للورثة بعده وهذا مما يكثر مرتكبه فلا فضل فيه

(قوله: لتيقن الشجاع بعدم الهلاك) أى: فلا يكون له فضل باقتحامه الدخول فى المعركة لاستواء الناس جميعا فى ذلك

(قوله: وتيقن الصابر بزوال المكروه) أى:

بحسب العادة وعدم الهلاك بتلك الشدة فلا فضل فيه؛ لأن الناس كلهم إذا تيقنوا ذلك صبروا حرصا على فضيلة عدم الجزع

(قوله: فإن بذله حينئذ أفضل) أى: لأن الخلود يوجب الحاجة لزيادة المال

(قوله: مما إذا تيقن بالموت وتخليف المال) أى: لأنه جدير بأن يجود بماله.

(قوله: وغاية اعتذاره) الضمير عائد على الحشو والكلام من باب الحذف والإيصال أى: غاية الاعتذار عن ذلك الحشو بحيث يخرجه عن الفساد فحذف الجار واتصل الضمير بالمصدر (وقوله ما ذكره ابن جنى) أى: فى شرح ديوان المتنبى، وحاصل

ص: 651

ما يسكن النفوس، ويسهل البؤس فلا يظهر لبذل المال كثير فضل.

(و) عن الحشو (غير المفسد) للمعنى

===

ذلك الاعتذار أن نفى الموت مما يوجب رجاء الانتقال من عسر إلى يسر ومن فقر إلى غنى حسبما جرت به عادة الزمان الطويل من تقرر ذلك الانتقال فيه، وذلك مما يحمل على الكرم لكل أحد فينتفى الفضل عن الكرم على تقدير نفى الموت؛ لأن الإنسان إذا تيقن الخلود أنفق وهو موقن بالخلف لكونه يعلم أن الله يخلفه وينقله من حالة العسر إلى حالة اليسر، بخلاف ما إذا أيقن بالموت فإنه لا يوقن بالخلف لاحتمال أن يأتيه الموت فجأة قبل تغير حاله، وحينئذ فيثبت الفضل للبذل على تقدير وجود الموت، وقول الشارح وتنقل الأحوال فيه أى: فى الخلود وقوله: ما يسكن إلخ: بتشديد الكاف اسم أن، (وقوله: ويسهل البؤس) أى: الشدة ورد ذلك الاعتذار بأمور الأول أن الشخص على تقدير الخلود يكثر خوفه من الابتلاء بالشدة والضيق حتى يكون خوفه ذلك أعظم من رجاء الخلف، وحينئذ فلا يكون رجاؤه الخلف مسهلا للإكرام عند انتفاء الموت، فيكون للبذل حينئذ فضل الثانى أن الشخص على تقدير الخلود يقوى احتياجه للمال فيكون لبذله مع احتياجه له فضل الثالث أن الشخص على ذلك التقدير يشتد تعلق قلبه بحوز المال ليكفى شر المهمات بصرفه فيها، وأما رجاء عود المال إليه بتنقل الأحوال فهو فى غاية الضعف؛ لأنه أمر معتاد يمكن تخلفه، بل قد تخلف بالفعل فى بعض الأفراد، وحينئذ فيكون فى البذل على ذلك التقدير فضل، وأما مع اعتبار وجود الموت وعدم الخلود فيسهل بذل المال لتيقن أنه يموت ويخلفه لوارثه، ومن ثم كان ترك الشاب للمال وإعراضه عن أمور الدنيا أفضل من ترك الشيخ الفانى لذلك لشدة حرص الشاب عليه لظنه طول الحياة المحتاج لكثرة المال بحسب العادة وضعف تعلق الشيخ بالمال لترقبه الموت كل لحظة- اللهم إلا أن يقال: إن تخريج الكلام ولو على وجه ضعيف أولى من حمله على الفساد، وبعضهم أجاب عن البيت بأن المراد بالندى الكرم بالنفس وفيه نظر لعوده إلى الشجاعة حينئذ فيكون فى الكلام تكرار مع أن الأصل عدم استعماله لذلك المعنى- كذا اعترض الشارح على هذا الجواب، وقد يقال: هذا الاعتراض إنما يرد إذا

ص: 652

(كقوله:

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنّنى عن علم ما فى غد عمى

فلفظ [قبله]

===

كان غرض المجيب تصحيح كلام أبى الطيب بالكلية، وأما إذا كان مقصوده إخراجه عن رتبة الحشو المفسد فلا يرد ذلك، إذ غاية ما لزم على ذلك الجواب كونه من التطويل، واعترض ابن السبكى فى عروس الأفراح على المصنف فى تمثيله بالبيت المذكور بأن الندى ليس زيادة لفظ لمعنى مدلول لغيره حتى يكون حشوا، بل إتيان بلفظ لمعناه، إلا أنه فاسد فى المقام، والحشو من القبيل الأول كالتطويل لما تقدم من أنه لا يفرق بينهما إلا فى التعيين وعدمه، وأجيب: بأن المراد بالزيادة بالنسبة إلى الحشو أن يؤتى بما لا يحتاج إليه سواء كان ذلك المأتى به مدلولا على معناه بغيره أم لا، وحينئذ فلا اعتراض على المصنف فى تمثيله بالندى فى البيت.

(قوله: كقوله) أى قول زهير بن أبى سلمى، وهذا البيت من آخر قصيدته التى قالها فى الصلح الواقع بين عبس (1) وذبيان وأولها:

أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم

بحومانة الدّرّاج فالمتثلّم (2)

ودار لها بالرّقمتين كأنّها

مراجيع وشم فى نواشر معصم

(قوله: علم اليوم) مصدر مبين للنوع أى: أعلم علما متعلقا بهذين اليومين أو مفعول به بناء على أن أعلم بمعنى أجعل- كذا فى الفنرى، وقرر شيخنا أن جعله مفعولا به بناء على أن المراد بالعلم المعلوم أى: أعلم المعلوم أى: الأمر الواقع فى هذين اليومين، وقوله ولكننى عن علم أى: عن الأمر المعلوم أى: الذى شأنه أن يعلم، وقوله ما فى غد أى: الواقع فى غد بدل من علم، وقوله عمى أى: جاهل وغير عالم به فهى صفة مشبهة بمعنى جاهل، ومعنى البيت أن علمى يحيط بما مضى وبما هو حاضر ولكننى عم عن الإحاطة بما هو منتظر متوقع يريد لا أدرى ماذا يكون غدا.

(1) عبس وفى المطبوع قيس.

(2)

البيتان لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص 4، وهى معلقة من المعلقات السبع قالها فى الصلح الواقع بين عبس وذبيان.

ص: 653

حشو غير مفسد، وهذا بخلاف ما يقال: أبصرته بعينى، وسمعته بأذنى وكتبته بيدى فى مقام يفتقر إلى التأكيد.

===

(قوله: حشو) أى: زائد على أصل المراد لا لفائدة؛ لأن الأمس يدل على القبلية لليوم لدخول القبلية فى مفهوم الأمس؛ لأنه اليوم الذى قبل يومك وهو متعين للزيادة، إذ لا يصح عطفه على اليوم كما عطف الأمس بحيث يكون التقدير، وأعلم علم قبله بالإضافة إلا بالتعسف، وأيضا المناسب حيث أراد الجمع بين الثلاثة أعنى الغد واليوم وغيرهما أن يذكر الأمس؛ لأنه هو المستعمل كثيرا فى مقابلة كل من الغد واليوم لا لفظ القبل فيتعين للزيادة فلا يقال هو كالمين بالنسبة للكذب- قاله اليعقوبى.

(قوله: غير مفسد) أى: لأنه لا يبطل بوجوده المعنى قال فى الأطول: لك أن تقول اللام فى الأمس للاستغراق أى: كل أمس ووصفه بالقبلية من قبيل وصف الجنس بما يعم كل فرد تعيينا لعمومه وتنصيصا عليه كما ذكر فى قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ (1) وحينئذ فلا يكون قبله حشوا

(قوله: وهذا) أى: قبله، (وقوله:

فى مقام) متعلق بيقال (وقوله: يفتقر إلى التأكيد) أى: لدفع توهم أو خوف إنكار أى: وقبله فى البيت لم يكن للتأكيد أى: لدفع توهم أو إنكار

(قوله: بخلاف إلخ) أى: فإنه ليس من الحشو، وهذا جواب عما يقال: إن زيادة قبله فى البيت بمنزلة زيادة الأذن واليد مثلا فى قول القائل سمعته بأذنى وكتبته بيدى؛ لأن السمع ليس إلا بالأذن والكتب ليس إلا باليد، فكما لم يجعلوا ذلك وما أشبهه حشوا بل جعلوه تأكيدا كذلك قبله، وحاصل الجواب أن التأكيد إنما يكون عند خوف الإنكار أو وجوده أو تجويز الغفلة أو نحو ذلك- ولا يصح شىء من ذلك هنا- فزيادة قبله ليست لقصد التأكيد لعدم اقتضاء المقام له بخلاف زيادة اليد والأذن فى المثال فإنها لقصد التأكيد، وذلك لأن الإبصار قد يكون بالقلب فدفع بقوله بعينى إرادته، وقد يطلق السمع على العلم فدفع بقوله: بأذنى إرادته، وقوله: كتبت قد يستعمل بمعنى أمرت بالكتابة، فدفع بقوله: بيدى إرادته، والحاصل أن التأكيد إن اقتضاه المقام كما فى الأمثلة المذكورة كان فائدة لا حشوا وإلا كان حشوا كما فى البيت.

(1) الأنعام: 38.

ص: 654

(المساواة) قدمها لأنها الأصل المقيس عليه (نحو: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (1)،

===

(قوله: المساواة) أى: أمثلتها فهذا شروع فى الأمثلة بعد الكلام على تعاريف الحقائق الثلاثة ولم يعين مقام كل منها فى كل مثال اكتفاء بما تقدم مما يفيد أن مقام المساواة هو مقام الإتيان بالأصل حيث لا مقتضى للعدول عنه ومقام الإيجاز هو مقام حذف أحد المسندين أو المتعلقات ومقام الإطناب هو مقام ذكر ما لا يحتاج إليه فى أصل المعنى كقصد البسط حيث الإصغاء مطلوب وكرعاية الفاصلة، وقد تقدم أن المساواة عبارة عن لفظ أتى به ليدل على معناه بتمامه من غير أن يكون ناقصا عن أجزاء المعنى المراد ولا زائدا عليه.

(قوله: المقيس عليه) أى: الذى قيس عليه أى: نسب إليه الإيجاز والإطناب وهذا تفسير لما قبله، وفيه أن الأصل الذى قيس عليه الإيجاز والإطناب إنما هو أصل المعنى المراد على ما اختاره المصنف فالوجه أنه إنما قدم المساواة لقلة مباحثها، ولك أن تقول إنها الأصل والمقيس عليه عند السكاكى وهذا القدر كاف فى تقديمها انتهى عبد الحكيم، وفى ابن يعقوب إنما كانت المساواة أصلا يقاس عليها مع أنها نسبة أيضا يتوقف تعقلها على تعقل غيرها؛ لأن تصورها من حيث ذاتها لا يتوقف على تعقل شىء بمعنى أن إدراك أن هذا دال على مجموع ما وضع له فقط من غير تعرض لأكثر من هذا لا يتوقف على شىء ومن هذا الوجه يقاس عليها وإنما يتوقف تعقلها على تعقل غيرها من حيث وصفها بالمساواة المعتبرة اصطلاحا وهى أنها لفظ ليس فيه إيجاز أى: نقصان عن الأصل ولا إطناب أى: زيادة عليه ولا يصح القياس عليها من هذا الوجه

(قوله: ولا يحيق) أى: لا ينزل المكر السيئ وهو فى جانب الله أن يفعل بالعبد ما يهلكه، وقوله إلا بأهله أى: إلا بمستحقه بعصيانه وكفره، وإنما كان هذا الكلام مساواة؛ لأن المعنى قد أدى بما يستحقه من التركيب الأصلى والمقام يقتضى ذلك؛ لأنه لا مقتضى للعدول عنه إلى الإيجاز والإطناب. اه يعقوبى. وفى الفنرى حاق به الشىء:

(1) فاطر: 43.

ص: 655

وقوله:

فإنّك كالليل الذى هو مدركى

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع)

أى: موضع البعد عنك ذو سعة، شبهه فى حال سخطه وهوله بالليل.

===

أحاط به ووصف المكر بالسيئ: إيماء إلى أن بعض المكر ليس سيئا كما فى قوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ (1) لأن مكر الله جزاء السيئ، وجزاء السيئ ليس سيئا.

اه.

كذلك مكر المقاتل المجاهد فى حال التحرف والتحيز، وبهذا يندفع قول ابن السبكى فى العروس اعتراضا على المصنف: إن الآية من قبيل الإطناب؛ لأن السيئ زيادة، إذ كل مكر لا يكون إلا سيئا

(قوله: وقوله) أى: النابغة الذبيانى فى مدح أبى قابوس وهو النعمان بن المنذر ملك الحيرة حين غضب عليه وقد كان من ندمائه وأهل أنسه فمدحه بأن مطروده لا يفر منه ولو بعد فى المسافة؛ لأن له أعوانا فى كل محل قرب أو بعد يأتون به إليه فمتى ذهب لمكان أدركه كالليل

(قوله: وإن خلت)(2) أى: ظننت والمنتأى بالنون الساكنة والتاء المفتوحة والهمزة المفتوحة الممدودة محل الانتياء وهو البعد مأخوذ من انتأى عنه أى: بعد فهو اسم مكان، وعليه فلا يتعلق به الجار والمجرور؛ لأن اسم المكان لا يعمل ولا فى الظرف على الصحيح، وحينئذ فعنك متعلق بواسع لتضمنه معنى البعد، وظاهر كلام الشارح أنه متعلق بالمنتأى حيث قال أى: موضع البعد عنك ذو سعة، وأجيب بأنه حل معنى، أو على رأى من جوز عمله فى الظرف.

(قوله: ذو سعة) فيه نظر؛ لأن الموصوف بالسعة إنما هو المسافة التى بين المخاطب وموضع البعد الذى هو مقام المتكلم فكيف يوصف بها ذلك المكان؟ وأجيب بأن وصفه بها باعتبار وصف تلك المسافة التى لها به تعلق فهو من باب المجاز المرسل الذى علاقته التعلق

(قوله: شبهه) أى: شبه الشاعر الممدوح، (وقوله: فى حال سخطه) أى: عليه وهو له أى: تخويفه له، وهذا تقييد للمشبه فهو بيان لحالته أى: شبه السلطان

(1) آل عمران: 54.

(2)

البيت للنابغة فى ديوانه ص 56، ولسان العرب (طور)، (نأى) وكتاب العين 8/ 393.

ص: 656

قيل فى الآية: حذف المستثنى منه، وفى البيت: حذف جواب الشرط فيكون كل منهما إيجازا لا مساواة؛ وفيه نظر؛ لأن اعتبار هذا الحذف رعاية لأمر لفظى لا يفتقر إليه فى تأدية أصل المراد، حتى لو صرح به لكان إطنابا، بل تطويلا.

===

حال كونه فى تلك الحالة وليس هذا بيانا لوجه الشبه؛ لأن وجه الشبه عموم الأماكن وبلوغه كل موطن فى أسرع لحظة، وأشار الشارح بما ذكره لدفع ما يقال: إن المقام مقام مدح والمناسب له التشبيه بالأمر اللطيف فهلا شبهه بالصبح، وحاصل الجواب أن الشاعر إنما قصد تشبيهه حال كونه فى هذه الحالة وهذه إنما يناسبها التشبيه بالليل ولو قصد تشبيهه حال كونه فى غير هذه الحالة لقال كأنك كالصبح؛ لأن المناسب للمدح التشبيه بالأشياء اللطيفة- كذا قرر شيخنا العدوى.

(قوله: حذف المستثنى منه) أى: لأن المعنى لا يحيق المكر السيئ بأحد إلا بأهله

(قوله: حذف جواب الشرط) أى: لأن التقدير وإن خلت أن المنتأى عنك واسع أى:

فأنت مدرك لى فيه وجعل جواب الشرط محذوفا بناء على مذهب البصريين من أن الجواب لا يتقدم

(قوله: وفيه) أى: فى هذا القيل

(قوله: لأن اعتبار هذا الحذف) أى: فى الآية والبيت

(قوله: رعاية لأمر لفظى) المراد بالأمر اللفظى ما لا يتوقف إفادة المعنى عليه فى الاستعمال، وإنما جر إلى تقديره مراعاة القواعد النحوية الموضوعة لسبك تراكيب الكلام وسمى ذلك أمرا لفظيا لعدم توقف تبادر المعنى المقصود على تقديره.

(قوله: لا يفتقر إليه إلخ) أى: لأن معنى المستثنى منه مفهوم من الكلام، وكذلك الجزاء معناه مفهوم من المصراع الأول

(قوله: إطنابا) أى: إن كان لفائدة

(قوله: بل تطويلا) أى: إن لم يكن فيه فائدة أصلا، والمراد بالتطويل التطويل بالمعنى اللغوى أى: الزائد لا لفائدة وإن كان متعينا، فاندفع ما يقال: إن الأولى أن يقول بل حشوا؛ لأن الزائد متعين، والحاصل أن ما جرى عرف الاستعمال بالاستغناء عنه بلا قرينة خارجة عن ذلك الكلام المأتى به يكون تقديره مراعاة للقواعد المتعلقة باللفظ، فلا يكون حذفه إيجازا، والمستثنى منه والجواب مستغنى عنهما فى ذلك التركيب غير محتاج إليهما فى الإفادة فلا يكون حذفهما إيجازا، وما جرى العرف بذكره بحيث لا يستغنى عنه فى نفس التركيب إلا بقرينة خارجية يكون حذفه إيجازا للحاجة إليه فى المعنى.

ص: 657