الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمجرد التغليب لا يصحح استعمال إن هاهنا بل لا بد من أن يقال: لما غلب صار الجميع بمنزلة غير المرتابين فصار الشرط قطعى الانتفاء فاستعمل فيه إن على سبيل الفرض والتقدير للتبكيت والإلزام كقوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا (1) وقُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (2).
[استطراد إلى التغليب]:
(والتغليب) باب واسع يجرى
…
===
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (3)
(قوله: فمجرد إلخ) هذا هو البحث السابق أعاده ليرتب عليه الجواب وهو قوله: بل لا بد إلخ، وقوله: بل لا بد إلخ أى: بل يجب الجواب بذلك بناء على تفسير التغليب بما ذكره الشارح هنا فلا ينافى أنه على تفسيره بما قلناه سابقا نقلا عن المطول لا يجب ذلك إذ لا إشكال،
(قوله: فاستعمل فيه إن على سبيل الفرض والتقدير) أى: بأن نزل الريب المقطوع بعدمه منزلة المشكوك فيه ففيه تنزيلان.
الأول: تنزيل المرتابين منزلة غير المرتابين بسبب تغليبهم عليهم، والثانى: تنزيل الريب المقطوع بعدمه منزلة المشكوك فيه
(قوله: للتبكيت) أى: لأجل إسكات الخصم وإلزامه بما لا يقول به؛ وذلك لأن الخصم إذا تنزل مع خصمه إلى إظهار مدعاه المحال فى صورة المشكوك فى وقوعه اطمأن لاستماعه منه، فيرتب له على ذلك لازما مسلم الانتفاء فيسكت الخصم ويسلم ويلتزم بما كان لا يقول به كما تقدم
(قوله: فإن آمنوا إلخ) أى: فإن آمن الذين على غير دينكم بمماثل دينكم فى الحقيقة فقد اهتدوا، ولا شك أن وجود دين غيره حقا محال فنزل قطعى الانتفاء منزلة المشكوك فيه، واستعمل فيه إن على سبيل الفرض والتقدير
(قوله: قل إن كان للرحمن ولد إلخ) أى: فكون الرحمن له ولد محال، فنزل ذلك الأمر المقطوع بانتفائه منزلة المشكوك فيه، واستعمل فيه إن على سبيل الفرض والتقدير
(قوله: والتغليب إلخ) قال صاحب البيان:
هو ترجيح أحد المعلومين على الآخر فى إطلاق لفظه عليهما والقيد الأخير لإخراج
(1) البقرة: 137.
(2)
الزخرف: 81.
(3)
المائدة: 161.
ففى فنون كثيرة كقوله تعالى: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (1) غلب الذكر على الأنثى بأن أجرى الصفة المشتركة بينهما على طريقة إجرائها على الذكور خاصة فإن القنوت مما يوصف به الذكور والإناث لكن لفظ قانتين إنما يجرى على الذكور فقط
…
===
المشاكلة، وفى المطول: جميع باب التغليب من المجاز؛ لأن اللفظ فيه لم يستعمل فيما وضع له ألا ترى أن القانتين موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف، وإطلاقه على الذكور والإناث إطلاق على غير ما وضع له، وفى المغنى: أنهم يغلبون الشىء على غيره لتناسب بينهما أو اختلاط، والقوم وإن لم ينصوا على هذه فى علاقات المجاز المرسل، لكنهم نصوا على ما ترجع إليه وهو المجاورة، ويصح جعل التغليب من قبيل عموم المجاز ا. هـ.
وبالجملة فالتغليب إما مجاز مرسل علاقته الجزئية أو المصاحبة، أو من قبيل عموم المجاز- فتأمل.
(قوله: فى فنون) أى: فى تراكيب سنده من الكلام باعتبارات أحوال ولا يختص بالنوع السابق وهو إن فى مقام الجزم بوقوع الشرط على خلاف الأصل، وليس المراد بالفنون العلوم
(قوله: غلب الذكر إلخ) ويحتمل أن يكون لفظ القانتين صفة لجمع مقدر أى: من جمع قانتين، ولفظ الجمع مذكر فيوصف حقيقة بوصف الذكور، وإن كان واقعا على مؤنث فلا تغليب. حينئذ. اهـ سم.
(قوله بأن أجرى الصفة المشتركة بينهما) أى: وهى القنوت
(قوله: على طريقة إجرائها على الذكور خاصة) أى: وهى جمعها بالياء والنون أى: بأن ذكرت تلك الصفة المشتركة على الطريقة المذكورة مرادا بها الذكور والإناث على سبيل المجاز المرسل والعلاقة البعضية، أو مرادا بها الذوات المتصفة بالقنوت على سبيل عموم المجاز
(قوله: فإن القنوت مما يوصف به الذكور والإناث) أى: فيقال رجل قانت وامرأة قانتة، وهذا علة لكون القنوت صفة مشتركة بين المذكر والمؤنث
(قوله: إنما يجرى على الذكور فقط) أى: لأن صيغة
(1) التحريم: 12.
(و) نحو: (قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (1)
…
===
الجمع بالواو والياء والنون خاصة بالذكور، ونكتة هذا التغليب الإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال حتى عدت- أى مريم- من جملتهم وأدخلت فى التعبير عنهم، واعلم أن التغليب فى الآية مبنى على أن من تبعيضية، أما إذا كانت لابتداء الغاية، والمعنى وكانت مريم مبتدأة وناشئة من القوم القانتين؛ لأنها من نسل إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن ذرية هرون أخى موسى فلا يتعين التغليب، إذ المراد بالقانتين محض الذكور من آبائها والوجه الأول أعنى جعل من تبعيضية وارتكاب التغليب فى الآية أحسن لفوات نكتة التغليب المذكور على الوجه الثانى، وفوات وصفها بجهات الفضل؛ لأن كونها من أعقاب الأنبياء الكرام القانتين لا يستلزم كونها قانتة، والغرض وصفها بالحسب أى:
بالفضل والصلاح لا بالنسب.
(قوله: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) اعترض بأن هذا من قبيل الالتفات لا من قبيل التغليب؛ وذلك لأن قوم اسم ظاهر غائب، فلما عدل عنه إلى الخطاب فى تجهلون فقد تحقق الالتفات، وأجيب بأنا لا نسلم أنه من الالتفات؛ وذلك لأن لفظ قوم له جهتان جهة غيبة وجهة خطاب ومراعاة كل منهما جرى على مقتضى الظاهر فلا يكون التفاتا؛ وذلك لأن قوما اسم ظاهر غائب، وقد حمل على أنتم فصار عبارة عن المخاطبين ثم إنه وصف بتجهلون اعتبارا لجهة خطابه الحاصلة بحمله على أنتم وترجيحا لها على جهة غيبته الثابتة له فى نفسه؛ لأن الخطاب أشرف وأدل وجانب المعنى أقوى وأكمل، وهذا فى الحقيقة اعتبار لجانب المعنى وترجيح له على جانب اللفظ وبهذا القدر لا يتغير الأسلوب ولا يتحقق النقل من طريق إلى طريق آخر الذى هو الالتفات، وبهذا يتضح صحة أنه من التغليب على ما فى الشارح.
قال ابن جماعة: وفى جعل هذا من التغليب نظر، إذ هذا من ملاحظة المعنى وترجيحه على اللفظ، ومثل هذا لا يعد تغليبا، إذ لا يصدق على هذا ضابطه المتقدم عن صاحب البيان أعنى: ترجيح أحد المعلومين على الآخر فى إطلاق لفظه عليهما- فتأمل.
(1) النمل: 55.
غلب جانب المعنى على جانب اللفظ لأن القياس: يجهلون- بياء الغيبة- لأن الضمير عائد على قوم ولفظه لفظة الغائب لكونه اسما مظهرا لكنه فى المعنى عبارة عن المخاطبين فغلب جانب الخطاب على جانب الغيبة. (ومنه: ) أى: ومن التغليب (أبوان) للأب والأم (ونحوه) كالعمرين لأبى بكر وعمر، والقمرين للشمس والقمر بأن يغلب أحد المتصاحبين أو المتشابهين على الآخر بأن يجعل الآخر
…
===
وهذا الاعتراض مبنى على ما مر عن صاحب البيان فى ضابط التغليب، أما على ما قاله غيره من أنه إعطاء أحد المتصاحبين أو المتشابهين حكم الآخر بأن يجعل الآخر موافقا له فى الهيئة أو المادة فلا يرد ذلك
(قوله: غلب) أى: رجح جانب المعنى وهو الخطاب على جانب اللفظ وهو الغيبة نظرا لقوم
(قوله: لكنه فى المعنى عبارة عن المخاطبين) أى: لأنه محمول على أنتم، فمدلول قوم هنا الذوات المخاطبون؛ لأن الخبر عين المبتدأ فى المعنى
(قوله: فغلب جانب الخطاب إلخ) اعلم أن استعمال تجهلون فى ذلك الموضع مجاز وتوضيحه أن صيغة تجهلون موضوع للجماعة المخاطبين غير المذكورين بلفظ الغائب، فاستعمل فى الجماعة المخاطبين المذكورين بلفظ الغائب لعلاقة الصحبة أو الضدية أو المشابهة.
(قوله: ومنه إلخ) فصله بمن عن النوعين السابقين تنبيها على أن بينه وبينهما تفاوتا، وذلك لشهرة كثير منه وتداوله فى مقامات عديدة: كالأبوين والعمرين، فكأنه قال: ومنه ما اشتهر من أبوين ونحوه، وهذا التغليب يسمى تغليب التثنية، وظاهر كلامهم أنه سماعى، بل صرح بذلك بعضهم.
(قوله: والقمرين للشمس والقمر) وعليه قول المتنبى: (1)
واستقبلت قمر السّماء بوجهها
…
فأرتنى القمرين فى وقت معا
أراد الشمس وهو وجهها وقمر السماء يعنى أن وجهها لشدة صقالته انطبعت فيه صورة القمر لما استقبلته، كما تنطبع الصورة فى المرآة فرأى برؤية وجهها الشمس والقمر فى آن واحد
(قوله: وذلك) أى: وكيفية ذلك أى: التغليب، والباء فى قوله بأن
(1) البيت من الكامل، وهو للمتنبى فى ديوانه 2/ 4، ومغنى اللبيب 2/ 687.
متفقا له فى الاسم ثم يثنى ذلك الاسم ويقصد اللفظ إليهما جميعا، فمثل أبوان ليس من قبيل قوله تعالى: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (1) كما توهمه بعضهم لأن الأبوة ليست صفة مشتركة بينهما كالقنوت.
فالحاصل أن مخالفة الظاهر فى مثل القانتين من جهة الهيئة والصيغة، وفى مثل أبوان من جهة المادة وجوهر اللفظ بالكلية
…
===
يغلب للتصوير أى: وكيفية التغليب مصورة بتغليب أحد المتصاحبين أى: كما فى أبى بكر وعمر، وقوله: أو المتشابهين أى كالشمس والقمر، وقوله: بأن يجعل تفسير لتغليب أحد الأمرين المذكورين
(قوله: متفقا له) أى: معه
(قوله: ثم يثنى ذلك الاسم) أى: على مذهب ابن الحاجب القائل بأن مجرد التوافق فى الاسم يكفى فى التثنية الحقيقية، وإن لم يحصل اتفاق فى المعنى لا على مذهب الجمهور القائلين: لا بد فيها من الاتفاق فى المعنى أيضا، وإلا لم يكن مثنى حقيقة، بل ملحق به ولذلك تأولوا الزيدين بالمسميين بزيد وجعلوا مثل قرأين للحيض والطهر والعينين للشمس والذهب وباب التغليب ملحقا بالمثنى إلا إذا أول نحو القمرين بالمسميين بذلك.
واعلم أن شأنهم أن يغلبوا المذكر أو الأخف أو الأشرف والمذكر يغلب على غيره، وإن كان غيره أخف والأخف يقدم على غيره، وإن كان غيره أشرف، والادعاء فى سبب التغليب كاف
(قوله: ويقصد اللفظ) أى: ويطلق اللفظ عليهما جميعا
(قوله: من جهة الهيئة) أى: لأن هيئة قانتين غير هيئة قانتات، وقوله من جهة الهيئة أى: لا من جهة المادة؛ لان مادة القنوت تكون للذكر والأنثى، وقوله:
والصيغة عطف تفسير
(قوله: وفى مثل أبوان من: جهة المادة) أى: لأن مادة الأب غير مادة الأم، وقوله وجوهر اللفظ أى: ذات اللفظ عطف تفسير، والحاصل أن الأبوان نوع من التغليب غير النوع السابق وهو وكانت من القانتين، وقوله بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فلذا فصله بمن تنبيها على التفاوت بينه وبين السابقين،
(1) التحريم: 12.
(ولكونهما) أى: إن وإذا (لتعليق أمر) هو حصول مضمون الجزاء (بغيره) يعنى حصول مضمون الشرط (فى الاستقبال) متعلق بغيره على معنى أنه يجعل حصول الجزاء مترتبا ومتعلقا على حصول الشرط فى الاستقبال
…
===
فإن السابقين للمفرد المغلوب حق فى اللفظ قبل التغليب، وإنما غلب ما هو زائد على جوهر اللفظ من الهيئة، وهذا ليس للمفرد المغلوب حق فى اللفظ قبل التغليب أصلا هنا، ثم إن قوله وفى مثل أبوان إلخ: يشعر بأنه لا تجوز فى أبوان من جهة الهيئة وليس كذلك؛ لأن هيئة التثنية موضوعة للمشتركين فى المعنى واللفظ كالزيدين على مذهب الجمهور أو بحسب اللفظ فقط كما هو مذهب ابن الحاجب والأبوان هيئتهما ليست كذلك، فيكون التجوز واقعا فى الهيئة كالمادة، وقد يقال: إنما اقتصر على جهة المادة؛ لأنها جهة الافتراق بين مثل أبوان ومثل القانتين، لكن ارتكاب المجاز فى المادة فى مثل أبوين لضرورة الهيئة، إذ هيئة التثنية لا تمكن إلا بعد تغيير مادة أحد الشيئين إلى مادة الآخر
(قوله: ولكونهما إلخ) علة قدمت على معلولها وهو كان كل إلخ ليقع فى ذهن السامع الحكم معللا من أول وهلة فيكون أثبت وأوقع فى النفس من الحكم المنتظر علته
(قوله: بغيره) الباء بمعنى على
(قوله: متعلق بغيره) أى: فمعنى الكلام أن إن وإذا يفيدان أن المتكلم علق فى حال التكلم حصول الجزاء فى الاستقبال على حصول الشرط فى ذلك الاستقبال، وقوله: متعلق بغيره أى: تعلقا اصطلاحيا فيكون ظرفا لغوا- وفيه نظر، فإن الغير اسم جامد لا يصح أن يتعلق به الظرف، وأجيب بأنه إنما صح التعلق به؛ لأن لفظ الغير واقع على الحصول الذى هو مصدر فأعطى ما هو بمعنى المصدر حكم المصدر، وإذا صح عمل الضمير العائد على المصدر فى الظرف فى قوله (1):
وما الحرب إلّا ما علمتم وذقتم
…
وما هو عنها بالحديث المرجّم
فأولى اسم الظاهر الذى هو بمعنى المصدر، ولهذا قال الشارح على معنى إلخ فهو يشير إلى ما قلنا، وفيه إشارة إلى أن ترتب الجزاء على الشرط جعلى لا عادى ولا شرعى
(1) هو لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص 18، وخزانة الأدب (3/ 10)، (8/ 119)، ولسان العرب (رجم) والدرر (5/ 44).
ولا يجوز أن يتعلق بتعليق أمر لأن التعليق إنما هو فى زمان التكلم لا فى الاستقبال؛ ألا ترى أنك إذا قلت: إن دخلت الدار فأنت حر- فقد علقت فى هذه الحالة حريته على دخول الدار فى الاستقبال (كان كل من جملتى كل) من إن وإذا يعنى الشرط والجزاء (فعلية استقبالية) أما الشرط: فلأنه مفروض الحصول فى الاستقبال فيمتنع ثبوته ومضيه، وأما الجزاء: فلأن حصوله معلق على حصول الشرط فى الاستقبال ويمتنع تعليق حصول الحاصل الثابت على حصول ما يحصل فى المستقبل
===
ولا عقلى، فإن قلت: إن دخلت الدار فأنت حر كان ترتب الحرية على الدخول بالتزام المتكلم وجعله، لا باستلزامه إياه عقلا أو شرعا أو عادة
(قوله: ولا يجوز أن يتعلق إلخ) نوقش هذا بأن التعليق، وإن لم يكن مستقبلا بحسب ذاته؛ لأنه جعل شىء معلقا على شىء وهو حالى إلا أنه مستقبل من حيث متعلقه أعنى: المعلق والمعلق عليه فما المانع من جواز التعليق به للعلم باستقباليته من حيث متعلقه.
(قوله: أى من إن وإذا) بيان لكل الثانية
(قوله: يعنى الشرط والجزاء) بيان للجملتين اللتين هما بيان لكل الأولى، وحاصل المعنى: ولأجل إفادة إن وإذا ما تقدم كانت كل جملة من جملتى الشرط والجزاء- المنسوبتين لكل واحد من إن وإذا- فعلية استقبالية بأن تصدر بالمضارع، فيقال فيهما مثلا: إن تجئ أكرمك، وإذا تجئ أكرمك فلا تكون واحدة منهما اسمية ولا ماضوية
(قوله: أما الشرط) أى: أما اقتضاء العلة لكون جملة الشرط فعلية استقبالية
(قوله: فلأنه مفروض الحصول فى الاستقبال) أى:
للأنا أفدنا فى التعليق أنه هو الذى إذا حصل فى الاستقبال حصل غيره
(قوله: فيمتنع ثبوته) أى الذى هو مفاد الاسمية، وقوله ومضيه أى: الذى هو مفاد الماضوية، وقد يقال: اقتضاء العلة الاستقبالية جملة الشرط مسلم، وأما اقتضاؤها للفعلية فلا؛ لجواز أن تكون جملة الشرط اسمية استقبالية من حيث خبرها لكونه فعلا نحو: زيد ينطلق، فإنها تفيد الاستمرار التجددى، وأجيب بأن الجملة الاسمية من حيث هى اسمية لا تدل على حدوث ولا تجدد، إذ شأنها أن تدل على مجرد الثبوت والحصول، فلذا اشترط فى الجملة الشرطية كونها فعلية
(قوله: وأما الجزاء) أى: وأما اقتضاء العلة لكون جملة الجزاء فعلية استقبالية
(قوله: ويمتنع تعليق حصول الحاصل) أى: فيما مضى أو الآن على حصول ما
(ولا يخالف ذلك لفظا إلا لنكتة) لامتناع مخالفة مقتضى الظاهر من غير فائدة، وقوله:
لفظا إشارة إلى أن الجملتين وإن جعلت كلتاهما أو إحداهما اسمية أو فعلية ماضوية
===
يحصل فى المستقبل، هذا وما ذكره من الامتناع ظاهر إن كان معنى تعليق الجزاء على الشرط أن الشرط إذا حصل يحصل الجزاء بعده، لكن لا نسلم أن هذا معنى التعليق، بل معناه جعل الشرط سببا فى حصول الجزاء، وإذا كان كذلك فيقال: إنه لا مانع من كون ما يأتى سببا فيما يحصل الآن كما إذا قلت: إن كان زيد يبرأ غدا فنحن نفرح الآن، وقد يقال نمنع أن يكون الفرح الحاصل الآن مسببا عما يحصل فى المستقبل وهو البرء بالفعل، بل هو مسبب عن شىء حصل الآن وهو إخبار الصادق بأن البرء يحصل فى المستقبل، ولا شك أن هذا سابق على الفرح فمعنى التركيب حينئذ إن ثبت أن زيدا يبرأ فى المستقبل فنحن نفرح الآن
(قوله: ولا يخالف ذلك) أى: ما ذكر من كون كل من جملتى الشرط والجزاء فعلية استقبالية بأن تكون الجملتان غير فعليتين، أو غير استقباليتين فى لفظهما، أو من جهة لفظهما، لا يقال يرد عليه قوله الآتى، وقد تستعمل إن فى غير الاستقبال إلخ، فإنه إذا جاز استعمالها قليلا لغير الاستقبال من غير نكتة لم يصح قوله ولا يخالف ذلك إلا لنكتة، ولم يصح التعليل بقوله لامتناع مخالفة إلخ؛ لأنا نقول الكلام هنا حيث أريد الاستقبال بدليل أن هذا مرتب على قوله سابقا ولكونهما لتعليق أمر بغيره فى الاستقبال إلخ، وقوله وقد تستعمل إلخ حيث أريد غير الاستقبال فهو مسألة أخرى ا. هـ سم.
(قوله: إلا لنكتة) أى: إلا لفائدة، وذلك لأن ظاهر الحال يقتضى مراعاة الموافقة بين اللفظ والمعنى فلا يعدل عن الموافقة المذكورة إلا لنكتة، والعدول عنها بلا نكتة ممنوع فى باب البلاغة
(قوله: اسمية) راجع لقوله: أو إحداهما، وقوله: أو فعلية ماضوية راجع لكل من الأمرين، وأورد عليه أن جملة الشرط لا تكون إلا فعلية، والجواب أن بعض النحويين: كالأخفش جوز كون شرط إذا جملة اسمية كما فى إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) فلعل الشارح بنى كلامه على ذلك، أو أراد بقوله: أو إحداهما
(1) الانشقاق: 1.
فالمعنى على الاستقبال حتى أن قولنا: إن أكرمتنى الآن فقد أكرمتك أمس- معناه: إن تعتد بإكرامك إياى الآن فأعتد بإكرامى إياك أمس، وقد تستعمل إن فى غير الاستقبال قياسا مطردا مع كان نحو: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ (1) كما مر،
…
===
أحدا معينا وهو جملة الجزاء
(قوله: فالمعنى على الاستقبال) أى: فالمعنى لا تمكن المخالفة فيه بخلاف اللفظ، فإنه قد يخالف لنكتة
(قوله: حتى إن قلنا إلخ) مبالغة فى كون المعنى على الاستقبال، فكأنه قال: فالمعنى على الاستقبال حتى فى هذا المثال المتوهم فيه عدم الاستقبال بسبب التقييد بالآن والأمس، ولما كان ظاهر الجملتين أنهما ماضويتان لفظا ومعنى احتيج فيهما لهذا التأويل لئلا تنخرم القاعدة
(قوله: إن تعتد) أى: إن تعد إكرامك إياى الآن وتمن به علىّ فأعتد بإكرامى إياك أمس أى: فأعده وأمنّ به فالاعتداد الواقع شرطا وجزاء استقبالى والآن والأمس ظرفان للإكرام لا للاعتداد، قوله: فأعتد إلخ: هو بصيغة المضارع أو الأمر بناء على ما جوزه الشارح من كون الجزاء قد يكون إنشاء بلا تأويل؛ وذلك لأنه لما كان الغرض من الجزاء بيان ما يترتب على الشرط صح كونه أمرا لدلالته على الحدث فى الاستقبال، فيجوز أن يترتب على الشرط بخلاف الشرط، فإنه مفروض الصدق فى الاستقبال فلا يكون إنشاء
(قوله: وقد تستعمل إن فى غير الاستقبال) أى: وهو الماضى حقيقة أى: لفظا ومعنى ذلك فيما إذا قصد بها تعليق الجزاء على حصول الشرط فى الماضى، ولا يقال هذا ينافى قوله سابقا، أما الشرط فلأنه مفروض الحصول فى الاستقبال؛ لأنا نقول هذا فيما إذا استعملت للتعليق فى المستقبل كما هو فى الغالب، واعلم أنه كما إن قد تستعمل فى غير الاستقبال قد تستعمل إذا للماضى نحو: حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ (2) وللاستمرار نحو:
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا (3)
(قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) فيه إنه إن كان المعلق عليه حقيقة هذا الفعل فهو مشكل؛ لأن المعلق مستقبل ولا يمكن تعليقه بالماضى، وإن كان التقدير: وإن ثبت فى المستقبل كونكم مرتابين فيما مضى فأتوا بسورة إلخ،
(1) البقرة: 23.
(2)
الكهف: 96.
(3)
البقرة: 14.
وكذلك إذا جىء بها فى مقام التأكيد بعد واو الحال لمجرد الوصل والربط دون الشرط نحو: زيد وإن كثر ماله بخيل وعمرو وإن أعطى جاها لئيم؛ وفى غير ذلك قليلا
…
===
كانت إن لم تستعمل حقيقة إلا مع المستقبل، وقد يجاب باختيار الأول إلا أن فى الكلام حذفا أى: وإن كنتم فى ريب فيما مضى واستمر ذلك الريب لوقت الخطاب فأتوا بسورة أى: فأنتم مطالبون بما يزيله وهو المعارضة المفيدة للجزم للعلم بأن المأمور بطلب المعارضة هو المرتاب فى الحين لا الذى سبق منه الريب وهو الآن مؤمن
(قوله: وكذا إذا جىء بها) أى: بأن وقوله فى مقام التأكيد أى: تأكيد الحكم
(قوله: بعد واو الحال) اعلم أن العامل فى هذه الحال وصف مأخوذ من الكلام أى: زيد متصف بالبخل حال كونه مفروضا كثرة ماله، وقول بعضهم العامل فيها المشتق الذى اشتمل عليه الكلام فيه نظر، إذ لا يطرد ذلك فقد لا يكون فى الكلام مشتق نحو: زيد وإن أساء أخوك
(قوله: لمجرد الوصل) أى: وصل ما بعدها وهو الجملة الحالية بما قبلها وهو صاحبها أى: ربطه به، ثم إن المراد أنها للوصل مع الواو لا أنها مفيدة للوصل وحدها
(قوله: والربط) عطف تفسير
(قوله: دون الشرط) أى: التعليق أى: وحينئذ فلا يكون؛ لأن هذه جواب؛ لأنه لا يكون لها جواب إلا إذا أريد بها التعليق، وهنا قد انسلخت عن التعليق للوصل والربط، وإذ قد علمت أن إن هذه لا تحتاج إلى جواب فهى خارجة عما نحن بصدده وهو إن الشرطية؛ لأن جملة إن هذه حالية لا شرطية
(قوله: زيد وإن كثر ماله بخيل) أى: زيد بخيل، والحال أن ماله كثير أى: إنه بخيل فى حال كثرة ماله، ولا شك أن هذا تأكيد للبخل؛ لأنه إذا ثبت له البخل حال كثرة المال دل على ملازمة البخل له وأنه لا ينفك عنه
(قوله: وفى غير ذلك) أى: وقد تستعمل إن فى غير الاستقبال مع كونها للشرط فى غير ما ذكر من الأمرين السابقين قليلا
(قوله: كقوله) أى: قول أبى العلاء المعرى فيا وطنى إلخ: وهذا البيت من قصيدة مطلعها:
مغانى اللّوى من شخصك اليوم أطلال
…
وفى النّوم معنى من خيالك محلال
وبعد البيت المذكور فى الشرح:
كقوله:
فيا وطنى إن فاتنى بك سابق
…
من الدّهر فلينعم لساكنك البال
ثم أشار إلى تفصيل النكتة الداعية إلى العدول عن لفظ الفعل المستقبل بقوله: (كإبراز غير الحاصل فى معرض الحاصل
…
===
فإن أستطع آتيك فى الحشر زائرا
…
وهيهات لى يوم القيامة أشغال
وقوله: إن فاتنى أى إن فوتنى، وقوله من الدهر: بيان للسابق، والباء فى قوله:
بك بمعنى فى أى: إن فوتنى من السكنى فيك دهر سابق على حد قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ (1)، وقوله: فلينعم بفتح العين على صيغة المبنى للمفعول، لكن بمعنى المبنى للفاعل- كذا ذكر بعضهم، والذى ذكره شيخنا العلامة العدوى: أنه بفتح الياء والعين ناقلا ذلك عن كتب اللغة، والبال بمعنى القلب، والمعنى: فليجعل قلبه متنعما وجواب إن محذوف أى: فلا لوم علىّ: لأنى قد تركتك كرها من غير عيب فيك دل عليه قوله: فلينعم لساكنك البال، ومعنى البيت: إنه إن كان زمن سابق من الدهر فوت علىّ الإقامة والسكنى فى وطنى ولم يتيسر لى الإقامة فيه وتولاه غير فلا لوم علىّ؛ لأنى تركته من غير عيب فيه، وحينئذ فلتطب نفس ذلك الساكن ولينعم بالا والغرض من ذلك إظهار التحسر والتحزن على مفارقة الوطن، والشاهد فى قوله: إن فاتنى، فإنها مستعملة فى الماضى لفظا ومعنى بقلة
(قوله: إلى تفصيل النكتة) أى: إلى تفصيل سبب النكتة فهو على حذف مضاف؛ وذلك لأنه لم يذكر إلا نكتة واحدة، وذكر لها أسبابا عدة على ما ذكره الشارح كما سيظهر لك لا على ما ذكره الزاعم.
(قوله: كإبراز) أى: إظهار، وقوله غير الحاصل: وهو الأمر المستقبل
(قوله: فى معرض الحاصل) معرض: كمسجد اسم لموضع عرض الشىء أى ذكره وظهوره وموضع الذكر والظهور للشىء عبارة عن اللفظ الدال عليه فهو مكان اعتبارى لا حقيقى والمعنى كإظهار المعنى الاستقبالى الغير الحاصل باللفظ الدال على المعنى الحاصل
(1) القصص: 44.
لقوة الأسباب) المتآخذة فى حصوله نحو: إن اشتريت كان كذا- حال انعقاد أسباب الإشتراء (أو كون ما هو للوقوع كالواقع) هذا عطف على قوة الأسباب وكذا المعطوفات بعد ذلك لأنها كلها علل لإبراز غير الحاصل فى معرض الحاصل
===
فى الحال أو فى الماضى، فإن قلت: إن الشرط إنما يفيد التعليق ولا دلالة له على الإظهار المذكور، قلت: إنه يدل عليه على جهة التخيل ولو قال المصنف كإيهام أو تخييل إبراز إلخ لكان أظهر؛ لأن نكتة العدول فى الحقيقة إنما هو التخييل المذكور؛ وذلك لأن إبراز غير الحاصل فى معرض الحاصل محصله التعبير عن المستقبل الذى لم يحصل بما يشعر بحصوله
(قوله: لقوة الأسباب) لما كان إبراز غير الحاصل فى معرض الحاصل يحتاج إلى سبب أشار المصنف إلى بيان الأسباب والعلل فى ذلك بقوله لقوة إلخ: فهو علة للإبراز المذكور، وأل فى الأسباب للجنس فيشتمل ما له سبب واحد
(قوله: المتآخذة) بالمد مع تخفيف الخاء أى: التى أخذ بعضها بعضد بعض، والمراد المجتمعة فى حصوله، ومعلوم أن الشىء إذا قويت أسبابه يعد حاصلا
(قوله: حال انعقاد) أى: اجتماع وانتظام أسباب الاشتراء، والحال أنه لم يحصل بالفعل وهو ظرف للقول المقدر أى: نحو قولك إن اشتريت فى حال إلخ: أو نقول ذلك فى حال إلخ، والمراد بأسباب الاشتراء حضور سوق السلعة التى كثرت فيه مع قلة المشترى ووجود الثمن ورغبة البائعين فى البيع، فإذا وجدت هذه الأسباب عد الشراء الذى لم يحصل حاصلا فيعبر عنه بما يبرزه فى صورة الحاصل.
(قوله: أو كون ما هو للوقوع) أى: ما هو آئل للوقوع كالواقع فى الماضى يعنى: أنه يعبر بالماضى عن المعنى المستقبل فى جملة الشرط لقصد إبراز غير الحاصل فى معرض الحاصل؛ لكون ذلك المعنى الاستقبالى شأنه الوقوع، فهو كالواقع فى ترتب ثمرة الوقوع فى الجملة على كل منهما نحو: إن مت كان كذا وكذا
(قوله: عطف على قوة الأسباب) أى: فالمعنى أنه يبرز غير الحاصل فى صورة الحاصل لقوة الأسباب، أو لكون المعنى الاستقبالى شأنه الوقوع فهو كالواقع أو للتفاؤل إلخ، فالنكتة التى ذكرها المصنف للعدول عن المضارع إلى الماضى واحدة تعددت أسبابها، واعترض على ما ذكره الشارح
على ما أشار فى إظهار الرغبة؛ ومن زعم أنها كلها عطف على إبراز غير الحاصل فى معرض الحاصل فقد سها سهوا بيّنا.
(أو التفاؤل أو إظهار الرغبة فى وقوعه)(1) أى: وقوع الشرط (نحو: إن ظفرت بحسن العاقبة فهو المرام) هذا
…
===
من العطف بأنه من عطف العام على الخاص؛ وذلك لأن الآئل للوقوع أيلولته إما لقوة أسبابه المتآخذة فيه، وإما للعلم بوقوعه من جهة أخرى وعطف العام على الخاص وكذا عكسه لا يجوز بأو، إلا أن يجاب بحمل الأول على ما يمكن تخلفه عند اجتماع أسبابه لمانع وحمل الثانى على ما لم يمكن تخلفه كما فى الموت، وحينئذ فهو من عطف المغاير
(قوله: على ما أشار إليه) أى: المصنف فى قوله الآتى فإن الطالب إلخ: فإن محصله بيان أن فى إظهار الرغبة تقدير غير الحاصل حاصلا وتخيله كذلك، ولو كان العطف على إبراز لما تأتى هذا البيان، وقوله على ما أشار إليه متعلق بقوله؛ لأنها كلها علل إلخ
(قوله: فقد سها سهوا بينا) أى: من وجوه: الأول: إنه خلاف ما أشار له المصنف فى إظهار الرغبة من أنها أى: المعطوفات علل للإبراز. الثانى: أن إبراز غير الحاصل فى معرض الحاصل يشتمل عليه كل ما بعده، وحينئذ فلا يصح أن يكون قسيما له.
الثالث: أن التفاؤل لا يحصل بمجرد المخالفة، بل لا بد من تنزيل غير الحاصل منزلة الحاصل لذلك
(قوله: أو التفاؤل) أى: من السامع أى: إنه يبرز غير الحاصل فى معرض الحاصل فى جملة الشرط لما فى ذلك الإبراز من التفاؤل الذى هو ذكر ما يسر به السامع؛ وذلك لأن المخاطب إذا كان يتمنى شيئا فعبر له بما يشعر بحصوله وهو معنى إبرازه فى معرض الحاصل أدخل عليه ذلك الإبراز السرور (قوله أو إظهار الرغبة) أى من المتكلم أى: أنه يبرز غير الحاصل فى معرض الحاصل لأجل إظهار المتكلم الرغبة فى وقوع ذلك الشرط بسبب ذلك الإبراز الحاصل بالتعبير بالماضى عن المستقبل.
(قوله: أى وقوع الشرط) يجوز عود الضمير على غير الحاصل والمعنى واحد
(قوله: فهو المرام) بوزن مكان وضمير فهو للظفر أى: فالظفر بحسن العاقبة هو المرام
(1) التفاؤل للسامع وهو ذكر ما يسره، والرغبة من المتكلم، والمثال المذكور صالح لهما.
يصلح مثالا للتفاؤل وإظهار الرغبة، ولما كان اقتضاء إظهار الرغبة إبراز غير الحاصل فى معرض الحاصل يحتاج إلى بيان ما أشار إليه بقوله:(فإن الطالب إذا عظمت رغبته فى حصول أمر يكثر تصوره) أى: الطالب (إياه) أى: ذلك الأمر (فربما يخيل) ذلك الأمر (إليه حاصلا) فيعبر عنه بلفظ الماضى (وعليه) أى: على استعمال الماضى مع إن لإظهار الرغبة فى الوقوع
…
===
(قوله: يصلح مثالا للتفاؤل) أى: على جعل ضمير ظفرت مفتوحا للمخاطب، وقوله وإظهار الرغبة أى: على جعل الضمير مضموما للمتكلم، كذا ذكر بعضهم، وعبارة النوبى: إن ظفرت على صيغة المتكلم مثال لإظهار الرغبة، وعلى صيغة المخاطب مثال لهما- ا. هـ.
(قوله: فإن الطالب إلخ) هذا علة لكون إظهار الرغبة علة لإبراز غير الحاصل فى معرض الحاصل وهى علة غائبة إن أبقيت على ظاهرها؛ لأن إظهار الرغبة متأخر عن الإبراز وعلة فاعلية إن أريد قصد إظهارها لتقدمه على الإبراز المذكور
(قوله: فى حصول أمر) أى: فى المستقبل
(قوله: يكثر تصوره) بفتح حرف المضارعة وضم ثالثه وتصوره بالرفع فاعل، كذا ضبطه بعض مشايخنا، وهذا غير متعين، بل يصح ضم حرف المضارعة وكسر ثالثه ونصب تصوره على أنه مفعول أى: يكثر من حصول صورته فى الذهن
(قوله: فربما) أى: فبسبب الكثرة المذكورة ربما إلخ، وهى هنا للتكثير
(قوله: يخيل إليه) أى: إلى ذلك الطالب الذى عظمت رغبته، وقوله حاصلا أى: فى الماضى وهو حال وقوله فيعبر عنه إلخ أى: وهذا معنى إبراز غير الحاصل فى معرض الحاصل أى: وقد لا يخيل له ذلك الأمر حاصلا فلا يعبر عنه
(قوله: وعليه) إنما قال وعليه للتفاوت بينهما؛ لأن الله منزه عن الرغبة، والمراد بها هنا لازمها وهو كمال الرضا، وأيضا ما ذكره المصنف من بيان اقتضاء إظهار الرغبة للإبراز لا يجرى فى حقه تعالى؛ لأن كثرة التصور وتخيل الحصول محال فى حقه تعالى- ا. هـ أطول.
(قوله: لإظهار الرغبة فى الوقوع) معنى إظهار الرغبة فى حقه تعالى إظهار كمال رضاه بإرادة التحصن فهو مجاز فى لازمه، وقيل المراد: إظهار كون الشىء مرغوبا فيه فى
ورد قوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً (1) حيث لم يقل: إن يردن، فإن قيل: تعليق النهى عن الإكراه بإرادتهن التحصن يشعر بجواز الإكراه عند انتفائها على ما هو مقتضى التعليق بالشرط- أجيب بأن القائلين بأن التقييد بالشرط
…
===
نفس الأمر، لا إظهار الرغبة القائمة بالمتكلم- كذا فى الفنرى. وفى ابن يعقوب أن إظهار رغبته تعالى فى وقوع الشىء إظهار إيجابه وطلبه طلبا جازما
(قوله: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) الفتيات: الإماء، والبغاء: الزنى، كانت الجاهلية تكره الإماء على الزنا ويأتين لهم بالدراهم، فجاء الإسلام بتحريم ذلك.
(قوله: إن أردن تحصنا) أى: عفة، فقد جىء بلفظ الماضى، وهو أردن، ولم يقل يردن مع أن النهى عن الإكراه المعلق على ذلك استقبالى حيث قيل ولا تكرهوا إلخ: للدلالة على رغبة المولى سبحانه فى إرادتهن التحصن أى: للدلالة على رضا المولى بذلك أو على أن هذا الأمر طلبه المولى طلبا جازما على ما مر
(قوله: تعليق النهى) أى:
وهو قوله لا تكرهوا إلخ: والتعليق من حيث إنه الجزاء فى المعنى أو حقيقة على ما مر من الخلاف
(قوله: يشعر بجواز الإكراه عند انتفائها) أى: لأن قوله إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً يقتضى بمفهوم المخالفة أنهن إذا لم يردن تحصنا يجوز للموالى إكراههن على البغاء مع أنه لا يجوز أصلا
(قوله: أجيب إلخ) وأجيب أيضا بأن التقييد بالشرط لموافقة الواقع؛ لأنه لا يتأتى الإكراه عند انتفاء إرادة التحصن؛ لأنهن إذا أردن عدم التحصن كان أمرهن بالزنا موافقا لغرضهن، والطالب للشىء لا يتصور إكراهه عليه، وإن لم يردن تحصنا ولا عدمه، بل كن غافلات فلا يتأتى الإكراه؛ لأن الإكراه إنما هو للممتنع، غاية الأمر أن فى أمرهن بالزنا تنبيها لهن إن كن غافلات، وأما ما قيل من أن الإكراه يتصور مع إرادة البغاء بأن تريد الأمة البغاء مع شخص أو فى مكان فيكرهها على البغاء مع غير ذلك الشخص، أو فى غير ذلك المحل فغير صحيح؛ لأن الإكراه حينئذ ليس على البغاء، بل على تعيين الفاعل أو المحل
(قوله: بأن القائلين إلخ) أى: وهم القائلون باعتبار مفهوم الشرط
(1) النور: 33.
يدل على نفى الحكم عند إنتفائه إنما يقولون به إذا لم يظهر للشرط فائدة أخرى؛ ويجوز أن تكون فائدته فى الآية المبالغة فى النهى عن الإكراه؛ يعنى أنهن إذا أردن العفة فالمولى أحق بإرادتها، وأيضا دلالة الشرط على انتفاء الحكم إنما هو بحسب الظاهر، والإجماع القاطع على حرمة الإكراه مطلقا؛
…
===
(قوله: على نفى الحكم) أى: كحرمة الإكراه هنا، وقوله عند انتفائه أى: انتفاء الشرط، وحاصل هذا الجواب أن اعتبار مفهوم المخالفة مشروط بأن لا يكون للتقييد بالشرط فائدة أخرى غير إخراج ما لم يكن فيه الشرط عن الحكم، وهنا يجوز أن تكون الفائدة فى التقييد به المبالغة فى نهى الموالى عن الإكراه لما فى ذلك من التوبيخ للموالى بذكر ما يظهر به فضيحتهم، وحيث كان للتقييد بالشرط هنا فائدة أخرى غير الإخراج سقط باعتبارها اعتبار مفهوم الشرط؛ لأن مفهوم المخالفة إنما يعتبر إذا كان القيد للإخراج لا لفائدة أخرى.
(قوله: يعنى أنهن) أى: الإماء مع خستهن وشدة ميلهن إلى الزنا، وقوله: فالمولى أى: فالمالك أحق بإرادتها لكماله وقلة ميله بالنسبة لميلهن، وحينئذ فيكون طلب إرادة العفة منه متأكدا، وإذا تأكد طلب إرادة العفة والتحصن منه كان النهى المتعلق به عن الإكراه على الزنا قويا مبالغا فيه، فظهر من هذا أن المقصود من القيد المبالغة فى نهى الموالى وتوبيخهم، وحينئذ فلا مفهوم له؛ لأن مفهوم المخالفة إنما يعتبر إذا كان القيد للإخراج فقط لا لفائدة أخرى، فإن قلت: جعل المقصود من القيد ما ذكر يقتضى أن المبالغة فى النهى إنما هى فى هذه الحالة فقط، وهى إرادتهن التحصن لا مطلقا، والمقصود تأكيد النهى مطلقا. قلت: لما كان الإكراه لا يتحقق إلا فى هذه الحالة تعرض لها، لا لكون تأكيد النهى والمبالغة فيه مختصا بها، وحينئذ فالتعرض لتلك الحالة لا ينافى تأكد النهى عن الإكراه مطلقا حتى عند عدم إرادتهن التحصن على فرض تأتيه فى تلك الحالة فتأمل.
(قوله: وأيضا دلالة الشرط) أى: مفهوم الشرط على انتفاء الحكم وهو الحرمة، أو المراد دلالة الشرط من حيث مفهومه، وهذا جواب ثان عن أصل الإشكال فهو
فقد عارضه؛ والظاهر يدفع بالقاطع.
قال (السكاكى: أو للتعريض) أى: إبراز غير الحاصل فى معرض الحاصل: إما لما ذكر، وإما للتعريض بأن ينسب الفعل إلى واحد والمراد غيره (نحو) قوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (1)
…
===
عطف على قوله بأن القائلين إلخ، فكأنه قال: وأجيب أيضا بأن دلالة إلخ، وحاصله أن الآية وإن دلت على انتفاء حرمة الإكراه عند انتفاء الشرط فتلك الدلالة بحسب الظاهر نظرا لمفهوم المخالفة، لكن قد عارض ذلك المفهوم الإجماع القاطع ومن المقرر أنه إذا تعارض أمران أحدهما قاطع والآخر ظاهر دفع الظاهر بالقاطع
(قوله: فقد عارضه) أى:
فقد عارض الإجماع الشرط أى: مفهومه
(قوله: والظاهر يدفع بالقاطع) المراد بالظاهر هنا مفهوم الشرط والمراد بالقاطع هنا الإجماع، واعترض هذا الجواب بأن الإجماع لا ينسخ النص حذرا من تقديم الإجماع على النص الذى هو أصل له فى الجملة، وأجيب بأن الإجماع يجوز أن ينسخ النص على الصحيح لاستناده إلى النص، فكأنه الناسخ
(قوله: أو التعريض) عطف على قوله لقوة الأسباب، كما يفيده قول الشارح أى: إبراز إلخ
(قوله: بأن ينسب الفعل إلى واحد) أى: حقيقة أو مجازا
(قوله: والمراد غيره) أى:
ولا بد فيه من القرائن المؤدية لفهم الغير، وإلا فقولك: جاءنى زيد مريدا ابنه ليس من التعريض فى شىء
(قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ إلخ) اعترض بأن النبى معصوم من الإشراك فكيف يسند إليه، وأجيب بأن هذه قضية شرطية لا تستلزم الوقوع فالإسناد على سبيل الفرض، وإنما عبر بالفعل الماضى المقتضى لوقوع ذلك تعريضا بالمخاطبين، فالإشراك فى الحقيقة إنما هو منسوب لغيره؛ لأن التعريض أن ينسب الفعل لواحد والمراد غيره، فالإشراك نسب لواحد وهو النبى والمراد غيره ممن وقع منه الإشراك، وحاصل ما فى المقام أن الشرك من النبى مقطوع بعدم حصوله، فنزل منزلة المشكوك فيه، فكان
(1) الزمر: 65.
فالمخاطب هو النبى- صلى الله عليه وسلم، وعدم إشراكه مقطوع به لكن جىء بلفظ الماضى إبرازا للإشراك غير الحاصل فى معرض الحاصل على سبيل الفرض والتقدير
…
===
المقام مقام إن تشرك، لكن جىء بلفظ الماضى، وإن كان المعنى على الاستقبال إبرازا للإشراك المقطوع بعدم حصوله فى معرض الحاصل فرضا وتقديرا تعريضا بمن حصل منه أنه حبط عمله ولا يضر فى دخول إن كون الفعل معلوم الانتفاء؛ لأن إن تدخل على معلوم الانتفاء إذا نزل منزلة المشكوك فيه لغرض من الأغراض.
(قوله: فالمخاطب هو النبى) الحصر إضافى أى: لا أمته، وإلا فغيره من الأنبياء مخاطب أيضا بدليل قوله تعالى: وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ إن قلت وإذا كان كل واحد من الأنبياء خوطب بهذا الخطاب فلم أفرد الضمير، فالجواب أنه إنما أفرد الخطاب باعتبار كل واحد؛ لأن الحكم المذكور مخاطب به كل واحد منهم على حدته- كذا قرره شيخنا العدوى، ويفيد ذلك ما ذكره عبد الحكيم حيث قال: إن المخاطب هو النبى وليس الخطاب عاما له ولجميع الأنبياء بقرينة ما قبله لا على ما وهم؛ لأن الحكم المذكور موحى به إلى كل واحد منهم خطاب على حدة. اهـ.
(قوله: مقطوع به) أى: فى جميع الأزمنة؛ لأن الأنبياء معصومون من الشرك قبل البعثة وبعدها
(قوله: لكن جئ إلخ) يفهم منه أنه لولا الإبراز المذكور؛ لأجل التعريض لجئ بلفظ الاستقبال وتصح الشرطية، مع أنه إذا كان إشراكه مقطوعا بعدمه فلا تصح إن؛ لأنها للأمور المشكوكة، والجواب أنهم يستعملون فى مثل ذلك إن لتنزيله منزلة ما لا قطع بعدمه على سبيل المساهلة وإرخاء العنان
(قوله: بلفظ الماضى) أى: وإن كان المعنى على الاستقبال
(قوله: غير الحاصل) أى: من النبي صلى الله عليه وسلم لا فى الماضى ولا فى الحال
(قوله: على سبيل الفرض والتقدير) متعلق بالحاصل الثانى؛ والحاصل أنه نزل إشراكه الذى هو غير حاصل فى جميع الأزمنة منزلة إشراك فرض وقوعه منه- صلى الله عليه وسلم فى الماضى، وإنما احتيج لذلك؛ لأنه لم يحصل منه- عليه الصلاة والسلام إشراك فى الماضى أصلا
تعريضا بمن صدر عنهم الإشراك بأنه قد حبطت أعمالهم؛ كما إذا شتمك أحد فتقول: والله إن شتمنى الأمير لأضربنه، ولا يخفى أنه لا معنى للتعريض بمن لم يصدر عنهم الإشراك، وأن ذكر المضارع لا يفيد التعريض لكونه
…
===
(قوله: تعريضا بمن صدر عنهم الإشراك بأنه قد حبطت أعمالهم) أى: لتحقق سببه منهم، وقوله: تعريضا علة للإبراز ووجه التعريض المذكور أن الفعل إذا رتب عليه وعيد فى حال نسبته فرضا وتقديرا إلى ذى شرف وهو لم يحصل منه فهم منه المخاطبون أن الوعيد واقع بهم إن صدر منهم ذلك الفعل، ولهذا التعريض فائدة وهى توبيخ الكفار بأن أعمالهم كأعمال الحيوانات العجم لا ثمرة فيها؛ لأن إشراك أشرف الخلق إذا كان يحبط عمله، فما بالك بأعمالهم وأنهم لا يستحقون الخطاب لكونهم فى حكم البهائم
(قوله: إن شتمنى الأمير إلخ) أى: تعريضا بأن من شتمك يستحق العقوبة وأنك تضربه
(قوله: ولا يخفى إلخ) هذا رد لاعتراض الخلخالى على السكاكى، وحاصل ذلك الاعتراض أن التعريض عام لمن صدر منهم الإشراك فى الماضى وغيرهم، وهذا التعريض يحصل بإسناد الفعل إلى من يمتنع منه ذلك الفعل، سواء كان ذلك الفعل بصيغة الماضى أو بصيغة المضارع أعنى لئن تشرك، وحينئذ فما قاله السكاكى من أن العدول عن المستقبل إلى الماضى قد يكون للتعريض لا يتم، وحاصل رد الشارح عليه أن من لم يصدر منهم الإشراك لا يستحقون التعريض بهم؛ لأن القصد من التعريض التوبيخ وهو إنما يكون على ما وقع من القبيح لا على ما سيقع منه، ولا نسلم أن التعريض بهم يحصل هنا بإسناد الفعل إلى من يمتنع منه ذلك الفعل سواء كان ذلك الفعل ماضيا أو مضارعا، بل إنما نشأ من إسناد صيغة الماضى فقط؛ لأنه وإن كان بمعنى المستقبل لكن التعبير به مع إن لإبراز ذلك المعنى فى صورة الحاصل خلاف الأصل، فلا بد من نكتة لارتكابه وهى هنا التعريض بخلاف المضارع، فإنه لو عبر به مع إن لكان على أصله فلا يحتاج لنكتة فلا وجه لإفادته للتعريض.
قال العلامة اليعقوبى: وفى هذا الرد بحث وهو أن كون المضارع على أصله ينتفى عنه التعريض إنما ذلك إن نسب لمن يصح صدوره منه ويشك فيه، وأما إن أسند
على أصله؛ ولما كان فى هذا الكلام نوع خفاء وضعف نسبه إلى السكاكى وإلا فهو قد ذكر جميع ما تقدم. ثم قال: (ونظيره) أى: نظير لَئِنْ أَشْرَكْتَ (فى التعريض) لا فى استعمال الماضى مقام المضارع فى الشرط للتعريض- قوله تعالى (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي (1)
…
===
لمن علم انتفاؤه عنه قطعا طلب لذلك الإسناد وجه فيصح كونه للتعريض بمن صدر منه كالماضى، بل نقول وبمن لم يصدر منه إن صح الصدور منه ليتحقق تهديده على ما يتوقع منه، وأجاب عنه بعضهم بأن الإسناد الفرضى يكفى فيه الإمكان الذاتى، وحينئذ فلا تعريض من جهة الإسناد- فتأمل.
(قوله: على أصله) أى: أصل الشرط المعلوم من المقام أى: وإنما يفهم التعريض مما خالف مقتضى الظاهر
(قوله: ولما كان هذا الكلام) أى: وهو قوله أو للتعريض كقوله تعالى إلخ
(قوله: نوع خفاء وضعف) أما الخفاء أى: الدقة فظاهر، وأما الضعف فإما لتوهم أن التعريض يحصل من صيغة المضارع كما ذكره الخلخالى، وحينئذ فلا يتم ما ذكره السكاكى من أن العدول للماضى قد يكون للتعريض وقد عرفت اندفاعه عند الشارح، وإما لما ذكره الزوزنى: من أن الإتيان بالشرط فى الآية ماضيا ليس سببه التعريض، بل سببه أن جملة الجواب جواب لقسم مقدر بدليل دخول اللام عليها لتقدمه على أداة الشرط وجواب الشرط محذوف فضعف أمر أداة الشرط لتقدم القسم وجعل الجواب له فلم تستطع أن تعمل فى لفظ المضارع، فأتى لها بفعل شرط ماض حتى لا يظهر لها أثر عمل، وحاصله أن العدول عن المضارع إلى الماضى ليس للتعريض، بل لضعف أداة الشرط، ولا يخفى أن هذا الوجه مدفوع بما تقرر من عدم التنافى بين المقتضيات لجواز تعددها فيمكن أن يكون العدول لضعف الأداة وللتعريض- هذا محصل ما فى الفنارى.
(قوله: نسبه للسكاكى) أى: للتبرى منه أو لأجل أن تتثبت النفس، وتتأمل حتى تدرك المقصود ولا تنفر بمجرد الخفاء والضعف لعلمها بأنه مقول هذا الإمام الكبير
(قوله: ثم قال)
(1) يس: 22.
أى: وما لكم لا تعبدون الذى فطركم بدليل: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (1) إذ لولا التعريض لكان المناسب أن يقال: وإليه أرجع
…
===
أى: السكاكى
(قوله: أى وما لكم لا تعبدون) ليس هذا بيانا للمعنى الذى استعمل فيه ومالى إلخ، بل هو بيان للمعرض بهم وهو المراد من الكلام؛ وذلك لأن المراد الإنكار على المخاطبين فى عدم العبادة بطريق التعريض لا إنكار المتكلم على نفسه، وإنما كان المراد ذلك بدليل قوله تعالى بعد: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إذ لولا الإشارة إلى المخاطبين بهذا الإنكار على وجه التعريض لكان المناسب وإليه أرجع؛ لأنه الموافق للسياق، واعترض على المصنف بأنه قد تقدم التمثيل بهذه الآية للالتفات على مذهب السكاكى، ومقتضى ما تقدم فى الالتفات أن المعبر عنه بالتكلم فى قوله: مالى، هم المخاطبون على وجه المجاز؛ لأن الالتفات على مذهبه هو التعبير عن معنى اقتضاء المقام بطريق آخر غير ما هو الأصل فيه، وإذا كان التعريض هو أن يعبر عن معنى بعبارة هى فيه حقيقة أو مجاز ليفهم غير ذلك المعنى بالقرائن تحقق التنافى بينهما لاقتضاء الأول وهو كونه للالتفات أن المراد نفس المخاطبين، واقتضاء الثانى وهو كونه للتعريض أن المراد المتكلم ولكن لينتقل منه إلى المخاطبين بالقرينة، وقد يجاب بأن المراد فى الالتفات بكون التعبير عن معنى بطريق غير طريقه كون التعبير لإفادة ذلك المعنى ولو بالانتقال إليه بالقرائن ولو لزم التسامح فى إطلاق التعبير على نحو هذا القصد، وعلى هذا فكونه للالتفات لا ينافى كونه للتعريض، بل يصح كونه التفاتا من حيث إن المعنى المنتقل إليه عدل عن طريقه مع اقتضاء المقام إياه وكونه تعريضا من حيث مجرد التلويح له بالقرائن فافهم هذا، فإن فيه دقة- أفاده العلامة اليعقوبى، وأجاب العلامة ابن قاسم: بأن الآية صالحة للالتفات بأن يكون قوله:
وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي مستعملا فى المخاطبين بأن يكون عبر عنهم بطريق التكلم مجازا على سبيل الالتفات وصالح للتعريض بأن يكون المراد من قوله وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي حقيقة وهو المتكلم المخصوص فيصح أن يجعل التفاتا وأن يجعل
(1) يس: 22.
على ما هو الموافق للسياق (ووجه حسنه: ) أى: حسن هذا التعريض (إسماع) المتكلم (المخاطبين) الذين هم أعداؤه (الحق) هو المفعول الثانى للإسماع (على وجه
…
===
تعريضا فلا منافاة بين ما فى الموضعين، فإن قلت: إن احتمال التعريض قد دل عليه الدليل وهو قوله: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيكون متعينا- قلت: هذا دليل ظنى فلا يفيد اليقين لجواز أن يكون فيه التفات أيضا، وأن المعنى وإليه أرجع، ثم إن من المعلوم أن الحمل على الحقيقة أولى فيكون التعريض فى الآية أرجح؛ لأن التعريض لا يكون إلا فى المعنى الحقيقى وعلى الالتفات يكون المعنى مجازا. نعم ما ذهب إليه الشارح من أنه يجوز أن يكون التعريض أيضا باعتبار المعنى المجازى، وأن التعريض هنا بناء على استعمال وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي فى المخاطبين مجازا فلا يكون الحمل على التعريض أرجح من الحمل على الالتفات، فإن قيل كيف يمكن التعريض حينئذ مع أن التعريض كما تقدم أن ينسب الفعل إلى واحد والمراد غيره وعلى التجوز لا يكون منسوبا إلى أحد، والمراد غيره، بل يتحد المنسوب إليه والمراد- قلت: أجاب الأستاذ السيد عيسى الصفوى: بأنه يكفى صدق ذلك بحسب اللفظ، فإنه بحسب اللفظ منسوب إلى المتكلم والمراد غيره وهو المخاطب
(قوله: على ما هو الموافق للسياق) أى: سياق الآية وهو متعلق بقوله لكان المناسب أن يقال
(قوله: ووجه حسنه) هذا مرتبط بمحذوف أى:
والتعريض حسن ووجه حسنه إلخ
(قوله: أى حسن هذا التعريض) أى: الواقع فى النظير أعنى: قوله تعالى وَما لِيَ لا أَعْبُدُ
إلخ، وليس المراد وجه حسن التعريض مطلقا، إذ ما ذكره المصنف من الوجه لا يجرى فى قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ، إذ لا يتأتى فيه قوله: حيث لا يريد المتكلم لهم إلا ما يريد لنفسه. وعبارة عبد الحكيم قوله: هذا التعريض لا مطلق التعريض، إذ لا يجرى ذلك فى قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ؛ لأن المقصود فيه نسبة الحبط إليهم على وجه أبلغ.
(قوله: هو المفعول الثانى) أى: والمفعول الأول المخاطبين أى: أن يسمع المتكلم أولئك المخاطبين الذين هم أعداؤه ومن شأنهم أن لا يقبلوا له نصحا بحق، وإنما نبه
لا يزيد) ذلك الوجه (غضبهم وهو) أى: ذلك الوجه (ترك التصريح بنسبتهم إلى الباطل، ويعين) عطف على لا يزيد؛ وليس هذا فى كلام السكاكى؛ أى:
على وجه يعين (على قبوله) أى: قبول الحق (لكونه) أى: كون ذلك الوجه (أدخل فى إمحاض النصح حيث لا يريد) المتكلم (لهم إلا ما يريد لنفسه، ولو للشرط) أى لتعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشرط فرضا (فى الماضى
…
===
الشارح على كون الحق مفعولا ثانيا دفعا لما يتوهم من أن الحق صفة لإسماع أى: إسماع المتكلم المخاطبين الإسماع الحق
(قوله: لا يزيد ذلك الوجه غضبهم) أى: مع أن من شأن المخاطب إذا كان عدوا للمتكلم تضاعف غضبه عند سماع الحق من المتكلم.
(قوله: ترك التصريح إلخ) أى: لأن المتكلم إنما أنكر على نفسه صراحة وإن فهم منه بالقرينة إرادة الغير
(قوله: وليس هذا فى كلام السكاكى) أى: صراحة وإن كان من نتائج قوله لا يزيد غضبهم؛ لأن المراد أنه لا يثير غضبهم وما لا يثير الغضب فمن شأنه الإعانة على قبول الحق
(قوله: فى إمحاض النصح) أى: فى إخلاص النصح ومن المعلوم أن ما كان أدخل فى إخلاص النصح يكون فى غاية القبول
(قوله: حيث لا يريد) أى: حيث أظهر لهم أنه لا يريدهم إلا ما يريد لنفسه، وذلك لأنه نسب ترك العبادة إلى نفسه فبين أنه على تقدير تركه للعبادة يلزمه من الإنكار ما يلزمهم فقد أدخل نفسه معهم فى هذا الأمر فلا يريد لهم فيه إلا ما يريد لنفسه
(قوله: ولو للشرط) أى: أصلها أن تكون للشرط، وإنما قدرنا ذلك؛ لأنها قد تأتى لغير ذلك كما يأتى
(قوله: بحصول) الباء بمعنى على
(قوله: فرضا) متعلق بحصول مضمون الشرط لا بالتعليق؛ لأنه محقق وهو نصب على المصدرية أى: حصول فرض أو على الحالية أى:
حال كون ذلك الحصول مفروضا ومقدرا أو على التمييز أى: على حصول مضمون الشرط من جهة الفرض، وإنما قيد الشارح ذلك الحصول بالفرض لئلا يلزم المنافاة بين قول المصنف الآتى مع القطع بانتفاء الشرط وبين كلام الشارح.
(قوله: فى الماضى) متعلق بحصول مضمون الشرط الذى تضمنه لفظ الشرط فى كلام المصنف لا بالتعليق ولا بحصول مضمون الجزاء اللذين تضمنهما أيضا لفظ الشرط
مع القطع بانتفاء الشرط) فيلزم انتفاء الجزاء كما تقول: لو جئتنى أكرمتك؛ معلقا الإكرام بالمجىء مع القطع بانتفائه فيلزم انتفاء الإكرام؛
…
===
فى كلامه، أما الأول: فلأن التعليق فى الحال لا فى الماضى، وأما الثانى: فلأن حصول الجزاء غير مقيد بالماضى، بل معلق على حصول الشرط وإن لزم تقييده بالماضى؛ لأن المعلق على أمر مقيد بالماضى يلزم تقييده بالماضى- ا. هـ سم.
(قوله: مع القطع بانتفاء الشرط) أى: بانتفاء مضمونه أى مع القطع بانتفاء مضمون الشرط فى الواقع فلا ينافى فرض حصوله وقوله مع القطع إلخ حال من الشرط أى حالة كونه مصاحبا للقطع بانتفاء مضمون الشرط، والمراد بالشرط الثانى الجملة الشرطية المعلق عليها بخلاف الشرط الأول، فإنه بمعنى التعليق كما صرح به الشارح ولا يراد أن المعرفة إذا أعيدت كانت عينا لأنه أغلبى
(قوله: فيلزم انتفاء الجزاء) فيه بحث؛ لأنه لا يتفرع على القاطع بانتفاء الشرط انتفاء الجزاء لجواز أن يكون للجزاء سبب آخر غير الشرط، وأجيب بأن المراد فيلزم انتفاء الجزاء من حيث ترتبه على ذلك الشرط وهذا لا ينافى وجوده من حيث ترتبه على سبب آخر غير الشرط، ثم إن تعبير الشارح بيلزم لا يلائم قوله الآتى بل معناه إلخ، وإنما يناسب فهم ابن الحاجب من أنها للاستدلال بانتفاء اللازم الذى هو الثانى على انتفاء الملزوم الذى هو الأول؛ لأن تعبيره باللزوم فيه ميل إلى ذلك الفهم، لكن فهم ابن الحاجب هذا سيرده الشارح فكان الأولى للشارح أن يقول بدل ذلك فينفى الجزاء أى إن لو إذا أفادت القطع بانتفاء الشرط أفادت انتفاء الجزاء بحسب متفاهم عرف اللغة؛ لأنها تفيد توقف الثانى على الأول وأنه شرط فيه خارجا وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط- اللهم إلا أن يقال: مراده بقوله فيلزم أى:
بالنظر لعرف اللغة أى: فيلزم على إفادتها لغة توقف الثانى على الأول، وأنه شرط فيه انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط- كذا قرر شيخنا العلامة العدوى.
(قوله: كما تقول إلخ) حاصله أن ذلك القول يفهم بحسب عرف اللغة أن المجىء شرط فى الإكرام وأنه على تقدير وقوعه يقع الإكرام، ويفهم أن المجىء لم يقع فيلزم حيث كان المجىء شرطا، وانتفى انتفاء المشروط الذى هو الجزاء
فهى لامتناع الثانى- أعنى الجزاء-؛ لامتناع الأول- أعنى الشرط؛ يعنى أن الجزاء منتف بسبب انتفاء الشرط؛ هذا هو المشهور بين الجمهور، واعترض عليه ابن الحاجب بأن الأول سبب والثانى مسبب، وانتفاء السبب لا يدل على انتفاء المسبب لجواز أن يكون للشىء أسباب متعددة، بل الأمر بالعكس لأن انتفاء المسبب يدل على انتفاء جميع أسبابه؛ فهى لامتناع الأول لامتناع الثانى، ألا ترى أن قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا (1) إنما سيق ليستدل بامتناع الفساد على امتناع تعدد الآلهة
…
===
(قوله: فهى لامتناع) أى: مفيدة لامتناع إلخ فلا ينافى قوله سابقا لتعليق حصول إلخ فصريح معنى لو هو ذلك التعليق ومآله امتناع الثانى لامتناع الأول.
(قوله: يعنى أن الجزاء إلخ) هذا يوافق ما يأتى للشارح دون ابن الحاجب وقوله منتف بسبب انتفاء الشرط أى: من حيث ترتبه عليه فلا ينافى أنه يوجد لسبب آخر
(قوله: هذا) أى: كونها لامتناع الثانى لامتناع الأول هو المشهور وقوله واعترض عليه أى: على ذلك القول المشهور.
(قوله: لجواز إلخ) قال سم: هذا مبنى على جواز تعدد العلل لمعلول واحد، أو أن هذا خاص بلو دون بقية الشروط
(قوله: أسباب متعددة) أى: مختلفة تامة كل واحد منها كاف فى وجوده وذلك كالشمس والقمر والسراج، فإن كل واحد منها سبب فى الضوء على البدل كاف فى وجوده
(قوله: يدل على انتفاء جميع أسبابه) أى: لأن السبب التام يستحيل وجوده بدون مسببه، إذ المعلول لا يجوز تخلفه عن علته التامة فانتفاؤه يستلزم انتفاء جميع علله التامة.
(قوله: فهى لامتناع الأول لامتناع الثانى) أى: فهى مفيدة لذلك وليست مفيدة لامتناع الثانى لامتناع الأول كما قال الجمهور
(قوله: إنما سيق ليستدل إلخ) أى:
لأن المعلوم هو امتناع الفساد وانتفاؤه لكونه مشاهدا، وإنما يستدل بالمعلوم على المجهول
(1) الأنبياء: 22.
دون العكس، واستحسن المتأخرون رأى ابن الحاجب حتى كادوا يجتمعون على أنها لامتناع الأول لامتناع الثانى؛ إما لما ذكره، وإما لأن الأول ملزوم والثانى لازم وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم من غير عكس؛ لجواز أن يكون اللازم أعم.
وأنا أقول:
…
===
دون العكس كما هو مقتضى كلام الجمهور
(قوله: دون العكس) أى: لأنه لا يلزم من انتفاء تعدد الإله انتفاء الفساد أى: استحالته لصحة وقوعه بإرادة الواحد الأحد لحكمة، والحاصل أن انتفاء الأول إنما جاء من انتفاء الثانى لا بالعكس كما هو قضية كلام الجمهور
(قوله: على أنها لامتناع الأول) أى: مفيدة لامتناع الأول
(قوله: إما لما ذكره) أى: ابن الحاجب أى وهو أن الأول سبب والثانى مسبب، وانتفاء السبب لا يدل على انتفاء المسبب بخلاف العكس
(قوله: وإما لأن الأول ملزوم إلخ) هذا التعليل علل به الرضى وجماعة، وإنما عدلوا عما قاله ابن الحاجب من قوله؛ لأن الأول سبب إلخ إلى ما قالوه؛ لأن ما قاله ابن الحاجب من سببية الأول قاصر وليس كليا، إذ الشرط النحوى عندهم أعم من أن يكون سببا نحو: لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا، أو شرطا نحو: لو كان لى مال لحججت، فإن وجود المال ليس سببا فى الحج، بل شرط أو غيرهما نحو: لو كان النهار موجودا كانت الشمس طالعة، إذ وجود النهار ليس سببا لطلوع الشمس، بل الأمر بالعكس ولا شرطا فى طلوعها، ولكن كل من وجود النهار ووجود المال ملزوم لطلوع الشمس والحج، فلذا عدلوا إلى التعبير باللازم والملزوم، واعترض عليهم بأن ما قالوه لا يتم أيضا فى نحو: لو كان الماء حارا لكانت النار موجودة، فإن الحرارة ليست ملزومة للنار؛ لأنها قد توجد بالشمس فإن ادعوا أن المراد اللزوم ولو جعليا وادعائيا فلابن الحاجب أن يريد السببية ولو جعلية وادعائية إلا أن يجاب بأنه يعلم من تتبع اللغة أن الشرطية اعتبر فيها اللزوم ولم يعتبر فيها السببية حتى يصح أن يعتبر كونها جعلية وادعائية. اهـ ابن قاسم.
(قوله: أن يكون اللازم أعم) أى: كما فى قولك لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجودا
(قوله: وأنا أقول) أى: فى رد اعتراض ابن الحاجب على الجمهور،
منشأ هذا الاعتراض قلة التأمل لأنه ليس معنى قولهم: لو لامتناع الثانى لامتناع الأول أنه يستدل بامتناع الأول على امتناع الثانى حتى يرد عليه أن انتفاء السبب أو الملزوم لا يوجب انتفاء المسبب أو اللازم؛ بل معناه
…
===
وحاصل ما ذكره من الرد أن لو لها استعمالان أحدهما أن تكون للاستدلال العقلى وذلك فيما إذا كان انتفاء الجزاء معلوما وانتفاء الشرط غير معلوم فيؤتى بها للاستدلال بالمعلوم على المجهول أى: لأجل تحصيل العلم بالمجهول فهى حينئذ للاستدلال على امتناع الأول بامتناع الثانى لأفادتهما أن العلة فى العلم بانتفاء الأول العلم بانتفاء الثانى ثانيهما أن تكون للترتيب الخارجى وذلك فيما إذا كان كل من انتفاء الطرفين معلوما، لكن العلة فى انتفاء الثانى فى الخارج مجهولة فيؤتى بها لبيان أن علة انتفاء الثانى فى الخارج هو انتفاء الأول فهى حينئذ لامتناع الثانى لامتناع الأول، وتكون القضية حينئذ وإن كانت فى صورة الشرطية فى معنى الحملية المعللة، فإذا قلت: لو جئتنى لأكرمتك كان المعنى على هذا الاحتمال أن الإكرام إنما انتفى فى الخارج بسبب انتفاء المجئ، ويكون هذا كلاما مع من كان عالما بانتفاء الجزاء وهو طالب أو كالطالب لعلة انتفائه فى الخارج وعلمه بذلك حاصل بدليل آخر يسمى علة العلم، والاستعمال الأول اصطلاح المناطقة، والاستعمال الثانى اصطلاح أهل العربية، فابن الحاجب فهم من قول أهل العربية أنها حرف لامتناع الثانى لامتناع الأول اصطلاح المناطقة وهو أنها للاستدلال، وحينئذ فالمعنى أنها حرف يؤتى به للاستدلال على امتناع الثانى لامتناع الأول ولم يهتد لمرادهم من أنها للدلالة على أن العلة فى انتفاء الثانى فى الخارج انتفاء الأول فاعترض عليهم بأنها للاستدلال على امتناع الأول بامتناع الثانى لا للاستدلال على امتناع الثانى بامتناع الأول ولو اطلع ابن الحاجب على حقيقة الحال وفهم معنى عبارتهم الواقعة منهم، وأن المراد أن امتناع الأول سبب لامتناع الثانى لا أنه دليل عليه ما اعترض عليهم
(قوله: منشأ هذا الاعتراض) أى: اعتراض ابن الحاجب على الجمهور
(قوله: قلة التأمل) أى:
فى عبارتهم الصادرة منهم وهى قولهم لو لامتناع الثانى لامتناع الأول
(قوله: أنه يستدل إلخ) أى: كما فهم ابن الحاجب
(قوله: أن انتفاء السبب أو الملزوم) المراد به
أنها للدلالة على أن انتفاء الثانى فى الخارج إنما هو بسبب انتفاء الأول فمعنى:
وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ (1) أن انتفاء الهداية إنما هو بسبب انتفاء المشيئة؛ يعنى أنها تستعمل للدلالة على أن علة انتفاء مضمون الجزاء فى الخارج هى انتفاء مضمون الشرط من غير التفات إلى أن علة العلم بانتفاء الجزاء ما هى،
…
===
الأول والتعبير الأول منظور فيه لتعليل ابن الحاجب والثانى منظور فيه لتعليل الرضى والمراد بالمسبب واللازم الثانى، وقوله لا يوجب أى: لجواز كونه أعم كما مر فقولك:
لو كان إنسانا كان حيوانا، أو لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجودا لا ينتج استثناء نقيض المقدم فيه، بل هو عقيم
(قوله: أنها للدلالة) أى: أنها وضعت لأجل الدلالة إلخ فهى لام العلة لا للتعدية؛ لأن المعنى الموضوعة هى له لزوم الثانى للأول
(قوله: إنما هو بسبب انتفاء الأول) أى: لكون انتفاء الأول علة فى انتفائه فى الخارج فالنفيان معلومان ولكن العلة فى انتفاء الثانى فى الخارج مجهولة للمخاطب فيؤتى بلو لإفادة تلك العلة.
(قوله: فمعنى وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ) فيه تعريض ابن الحاجب بأنه لم يهتد لفهم المراد من عبارتهم
(قوله: إنما هو بسبب انتفاء المشيئة) أى: لأن انتفاء المشيئة علة فى انتفاء الهداية فى الخارج
(قوله: هى انتفاء مضمون الشرط) نقض هذا بقولنا: لو كان هذا إنسانا لكان حيوانا، إذ ليس انتفاء الحيوانية فى الواقع علته انتفاء الإنسانية، وبكل صورة يكون الشرط معلولا والجزاء علة نحو: لو أضاء العالم لطلعت الشمس، وكذا فى صورة كون الجزاء علة خاصة يمكن أن يوجد المعلول بأخرى نحو: لو أضاءت الدار لطلعت الشمس، فإن عدم العلة المعينة ليس علة لعدم المعلول اللهم إلا أن يقال: هذه الأمثلة وأمثالها واردة على قاعدة المناطقة الآتية غير صحيحة بحسب اللغة- ا. هـ فنرى.
(قوله: من غير التفات إلخ) أى: أن الجمهور لم يلتفتوا لما ذكر فى قولهم لو لامتناع الثانى لامتناع الأول كما زعمه ابن الحاجب حيث فهم أن مرادهم أن انتفاء
(1) النحل: 9.
ألا ترى أن قولهم: لولا لامتناع الثانى لوجود الأول؛ نحو: لولا علىّ لهلك عمر؛ معناه أن وجود علىّ سبب لعدم هلاك عمر لا أن وجوده دليل على أن عمر لم يهلك؛ ولهذا صح مثل قولنا: لو جئتنى لأكرمتك لكنك لم تجئ؛ أعنى عدم الإكرام بسبب عدم المجىء، قال الحماسى:
ولو طار ذو حافر قبلها
…
لطارت ولكنّه لم يطر (1)
===
الأول علة فى العلم بانتفاء الثانى ودليل عليه، فاعترض عليهم بما مر
(قوله: ألا ترى إلخ) هذا تنظير لما قاله فى لو أتى به لتوضيح المقام
(قوله: لوجود الأول) أى: لأن لو للنفى فلما زيدت عليها لا النافية نفت النفى ونفى النفى إثبات
(قوله: أن وجود على سبب) أى: فى الخارج
(قوله: لا أن وجوده إلخ) أى: لأن عدم هلاك عمر معلوم للمخاطب كما أن وجود علىّ كذلك ولا يستدل بمعلوم على معلوم، إذ المعلوم لا يستدل عليه، والحاصل أن وجود علىّ لم يقصد إفادته للعلم بعدم هلاك عمر فإن المراد بيان السبب المانع من هلاكه
(قوله: ولهذا صح) أى: لكون معنى لو الدلالة على أن انتفاء الثانى فى الخارج إنما هو بسبب انتفاء الأول لا الاستدلال بامتناع الأول على امتناع الثانى كما فهم ابن الحاجب صح إلخ، إذ لو كانت للاستدلال لما صح ذلك القول لما فيه من استثناء نقيض المقدم وهو لا ينتج شيئا كما نص عليه علماء المنطق لجواز أن يكون اللازم أعم، فتعين أن يكون ذلك الاستثناء إشارة إلى علو انتفاء الجزاء
(قوله: قال الحماسى) بكسر السين نسبة للحماسة وهى فى الأصل الشجاعة، ثم سمى بها كتاب أبى تمام الذى جمع فيه أشعار البلغاء المتعلقة بالشجاعة، فإذا قيل بيت حماسى فمعناه:
منسوب للحماسة والشجاعة لتعلقه بها، وإذا قيل شاعر حماسى معناه: أن شعره مذكور فى ديوان الحماسة أى: الكتاب المذكور، وأتى بكلام الحماسى دليلا لقوله صح دفعا لتوهم أن هذا القول غير صحيح
(قوله: ولو طار إلخ) أى: فعدم طيران الفرس معلوم،
(1) البيت من المتقارب، وهو للحماسى فى شرح عقود الجمان/ 114.
يعنى أن عدم طيران تلك الفرس بسبب أنه لم يطر ذو حافر، وقال المعرى:
ولو دامت الدّولات كانوا كغيرهم
…
رعايا ولكن ما لهنّ دوام (1)
وأما المنطقيون فقد جعلوا إن ولو أداة للزوم وإنما يستعملونها فى القياسات لحصول العلم بالنتائج؛
…
===
والغرض بيان السبب فى عدم طيرانها وهو عدم طيران ذى حافر قبلها
(قوله: ولو دامت الدولات إلخ) هو بضم الدال جمع دولة بمعنى الملك أى: أهل الدولات يعنى الملوك الماضية، وقوله كانوا أى: أهل دولة زماننا رعايا لهم، قال الحفيد: وهذا البيت قد دخله القلب، والأصل: ولو كانت الدولات رعايا لهذا الممدوح لما ذهبت دولتهم- وفيه نظر، إذ لا داعى لارتكاب القلب، بل معنى البيت ولو دامت الدولات للملوك الماضية واستمرت دولتهم لآخر الزمان لكان أهل زماننا من الأمراء رعايا لهؤلاء الملوك كغيرهم- كذا قال الغنيمى، وفيه أن هذا لا يناسب مقام المدح، فلعل الأولى أن يقال:
معنى البيت لو دام أهل الدولات أى: الملوك الماضية إلى آخر الزمان لكانوا رعايا لهذا الممدوح لاستحقاقه الإمارة عليهم لما فيه من الفضائل فنفى دوام الدولات الماضية سبب فى عدم كونهم رعايا كغيرهم للممدوح؛ لأنهم لا يعيشون معه إلا رعايا، ومعلوم أن بانقراضهم انتفى كونهم رعايا له، فليس الغرض الاستدلال على نفى كونهم رعايا له، وإنما المراد بيان سبب ذلك الانتفاء فى الخارج ولهذا صح استثناء نقيض المقدم
(قوله: كغيرهم) خبر لكان ورعايا خبر بعد خبر أو أنه خبر لكان وكغيرهم حال مقدمة
(قوله: وأما المنطقيون) هذا مقابل لمحذوف أى وهذا أى: ما ذكر من أنها للدلالة على أن انتفاء الثانى فى الخارج بسبب انتفاء الأول قاعدة اللغويين، وأما قاعدة المنطقيين إلخ
(قوله: إن ولو) أى: ونحوهما
(قوله: للزوم) أى: للدلالة على لزوم التالى للمقدم ليستفاد من نفى التالى نفى المقدم وقد جعلوا هذا الاستدلال اصطلاحا وأخذوه مذهبا- كذا فى عبد الحكيم.
(قوله: وإنما يستعملونها) أى: أداة اللزوم سواء كانت إن أو لو أو غيرهما كإذا ومتى وكلما، وفى بعض النسخ يستعملونهما أى إن ولو، وقوله لحصول العلم أى:
(1) البيت من الطويل، وهو للمعرى فى شرح عقود الجمان/ 114.
فهى عندهم للدلالة على أن العلم بانتفاء الثانى علة العلم بانتفاء الأول؛ ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم من غير التفات إلى أن علة انتفاء الجزاء فى الخارج ما هى، وقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا (1)
…
===
لاكتسابه
(قوله: فهى عندهم للدلالة) أى: موضوعة لأجل الدلالة إلخ فلا يقال:
إن كلامه يفهم أن معناها نفس الدلالة المذكورة وهو غير مراد، وإنما المراد أن معناها لزوم الثانى للأول مع انتفاء اللازم المعلوم، فيستدل به على انتفاء الملزوم المجهول كما أفاد ذلك السيرامى، ثم إن قوله فهى عندهم إلخ يقتضى أنها إنما تستعمل عندهم فى ذلك كما إذا استثنى نقيض التالى نحو: لو كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، لكن النهار ليس بموجود فالشمس ليست بطالعة فهى هنا للدلالة على أن العلم بانتفاء الثانى علة للعلم بانتفاء الأول مع أنها قد تستعمل عندهم للدلالة على أن العلم بوجود الأول علة للعلم بوجود الثانى كما إذا استثنى عين المقدم نحو: لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا لكن الشمس طالعة ينتج عين التالى أى: فالنهار موجود فهى هنا للدلالة على أن العلم بوجود الأول علة للعلم بوجود الثانى، إلا أن يقال: اقتصر الشارح على ما ذكره؛ لأنه الأغلب أو أن ما قاله على سبيل التمثيل- تأمل. سم.
(قوله: ضرورة انتفاء الملزوم) أى: وهو الأول وقوله بانتفاء اللازم أى: بسبب انتفاء اللازم أى: الذى هو الثانى
(قوله: من غير التفات إلخ) أى: كما التفت إلى ذلك علماء اللغة، قال السيرامى: استعمال لو على قاعدة اللغويين أكثر فى القرآن والحديث وأشعار العرب، وعلى قاعدة المناطقة أكثر فى استعمالات أرباب التآليف خصوصا فى كتب المنطق والحكمة؛ لأن المقصود عندهم تحصيل العلوم لا بيان أن سبب الثبوت أو الانتفاء فى الواقع ماذا، وثمرة الخلاف بين الطريقتين تظهر فى استثناء نقيض المقدم فإنه جائز عند أهل العربية دون أهل الميزان وفى استثناء عين المقدم فإنه بالعكس، وأما
(1) الأنبياء: 22.
وارد على هذه القاعدة لكن الاستعمال على قاعدة اللغة هو الشائع المستفيض؛ وتحقيق هذا المبحث على ما ذكرنا من أسرار هذا الفن، وفى هذا المقام مباحث أخرى شريفة أوردناها فى الشرح وإذا كانت لو للشرط فى الماضى (فيلزم
…
===
استثناء نقيض التالى فجائز اتفاقا واستثناء عينه باطل اتفاقا
(قوله: وارد على هذه القاعدة) من الورود وهو المجئ والإتيان أى: آت على هذه القاعدة من إتيان الجزئى على الكلى لا من الإيراد وهو الاعتراض، وإنما كانت الآية المذكورة واردة على هذه القاعدة؛ لأن القصد بها تعليم الخلق الاستدلال على الوحدانية بأن يستدلوا بالتصديق بانتفاء التعدد وليس القصد بها بيان أن علة انتفاء الفساد فى الخارج انتفاء التعدد، ثم إن ظاهر الشارح أن هذه القاعدة غير لغوية وأن الآية وردت على مقتضاها لا على لغة العرب وفيه أن هذا بعيد جدا كيف والقرآن عربى، وأجيب بأن وروده على هذه اللغة لا ينافى كونه عربيا؛ لأن ذلك إنما هو باعتبار الغالب بدليل اشتمال القرآن على ألفاظ غير عربية كما تقدم وبأن هذه القاعدة عربية أيضا جرى عليها أهل الميزان ولكنها قليلة الاستعمال بالنسبة للقاعدة الأخرى فى استعمال اللغويين، وإنما نسبت للمناطقة لاستعمالهم لها كثيرا وجريانهم عليها؛ وذلك لأن غرضهم تركيب الأدلة من القضايا الشرطية اللزومية والمناسب فى اعتبار الشرط الملازمة بين المقدم والتالى ليستفاد من نفى التالى نفى المقدم، وعلى هذا الجواب فيقال: إن مراد الشارح بأهل اللغة فى قوله على قاعدة أهل اللغة المعربون؛ لأن كلا الاستعمالين لغوى لأن العرب قد يقصدون الاستدلال على الأمور العرفية كما يقال: هل زيد فى البلد فتقول لا لو كان فيها لحضر مجلسنا، فتستدل بعدم الحضور على عدم كونه فى البلد وسمى علماء البيان مثل هذا بالطريق البرهانى، أو يقال: المراد بقاعدة اللغة الكثيرة الاستعمال عندهم وليس المراد أنهم لا يقولون بغيرها
(قوله: على ما ذكرنا) أى: تحقيقا آتيا على ما ذكرنا ومراده بالمبحث هنا المسألة، وليس المراد به الاعتراض.
(قوله: وإذا كانت لو للشرط فى الماضى إلخ) أشار بذلك إلى أن الفاء فى قول المصنف فيلزم فاء الفصيحة واقعة فى جواب شرط مقدر (وقوله: فيلزم) أى غالبا كما
عدم الثبوت والمضى فى جملتيها) إذ الثبوت ينافى التعليق، والاستقبال ينافى المضى فلا يعدل فى جملتيها عن الفعلية الماضوية إلا لنكتة، ومذهب المبرد أنها تستعمل فى المستقبل استعمال إن وهو مع قلته ثابت نحو قوله عليه الصلاة والسلام:" اطلبوا العلم ولو بالصين"(1)،
…
===
يستفاد من قول الشارح بعد وهو مع قلته ثابت
(قوله: عدم الثبوت) أى: عدم الحصول فى الخارج والمقصود به نفى اسمية شىء من جملتيها
(قوله: والمضى) بالرفع عطف على عدم وقوله فى جملتيها أى: جملة الشرط وجملة الجزاء المنسوبتين إليها تنازعه عدم الثبوت والمضى
(قوله: إذ الثبوت) أى: الحصول فى الخارج ينافى التعليق أى: المتقدم الذى هو تعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشرط فرضا، وإنما كان الثبوت منافيا للتعليق؛ لأن الحصول الفرضى المأخوذ فى تعريف التعليق يلزمه القطع بالانتفاء والقطع بالانتفاء يلزمه عدم الثبوت قاله السيد فى حواشى المطول.
(قوله: والاستقبال ينافى المضى) أى: إن كونهما استقباليتين ينافى ما تقرر من كونها التعليق شىء بشىء فى المضى وأشار الشارح بهذا إلى أن التفريع فى المتن على طريق اللف والنشر المرتب، فقوله فيلزم عدم الثبوت فى جملتيها مفرع على قوله ولو للشرط أى: التعليق، وقوله: ويلزم المضى فى جملتيها مفرع على قوله: فى الماضى
(قوله: عن الفعلية الماضوية) لفظا ومعنى أى: إلى المضارعية فى اللفظ وإن كان المعنى ماضيا
(قوله: ومذهب المبرد أنها تستعمل فى المستقبل استعمال إن) أى: فى المستقبل فلا تحتاج إلى نكتة
(قوله: وهو) أى: استعمالها فى المستقبل.
(قوله: نحو قوله عليه الصلاة والسلام إلخ) قد يقال إن لو هذه لا جواب لها وإنما هى للربط فى الجملة الحالية كما تقدم فى إن وكلامنا فى لو الشرطية، وحينئذ فلا يصح التمثيل بما ذكر وقد يجاب بأن كلامه مبنى على القول بأن لو هذه جوابها مقدر والأصل ولو يكون الطلب بالصين فاطلبوه ولو تكون المباهاة بالسقط فإنى أباهى به
(1) موضوع، أخرجه ابن عدى والعقيلى والبيهقى وغيرهم كما فى ضعيف الجامع (1005).
" فإنى أباهى بكم الأمم يوم القيامة"(1) ولو بالسقط
…
===
فالشرط فى هذين المثالين مستقبل بدليل أنه فى حيز اطلبوا وأباهى بكم الأمم يوم القيامة الذى هو مستقبل ولو مثل الشارح بقول الشاعر:
ولو تلتقى أصداؤنا بعد موتنا
…
ومن دون رمسينا من الأرض سبسب
لظلّ صدى صوتى وإن كنت رمّة
…
لصوت صدى ليلى يهشّ ويطرب (2)
كان أحسن، فعلم مما تقدمه كله أن للو أربع استعمالات: - أحدها أن تكون للترتيب الخارجى، والثانى: كونها للاستدلال، والثالث: أن تكون وصلة للربط فى الجملة الحالية، والرابع: أن تكون بمعنى إن للشرط فى المستقبل، وقد تكون للدلالة على استمرار شىء بربطه بأبعد النقيضين ومن ذلك" قوله- عليه السلام أو قول عمر على ما قيل:
نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" (3) فالخوف وعدمه نقيضان وعدمه أبعد لعدم العصيان منه فعلق عدم العصيان على إلا بعد إشارة إلى أن عدم العصيان منه مستمر وأن العصيان لا يقع من صهيب أصلا وقد تكون للتمنى ومصدرية أخذا مما يأتى ومثل لهما بقوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (4) فدخولها على المضارع فى نحو قوله تعالى: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ (5)
(قوله: فإنى أباهى بكم الأمم) هذا ليس من تتمة ما قبله، بل من حديث آخر وهو قوله عليه السلام:
" تناكحوا تناسلوا فإنى" إلخ فمراد الشارح تعداد الأمثلة والحديث الأول" وهو اطلبوا
(1) صحيح، أخرجه أحمد وابن حبان وغيرهما، بلفظ: فإنى مكاثر
…
خ خ كما فى الإرواء (1784).
(2)
البيتان من الطويل وهما لأبى صخر الهذلى فى شرح أشعار الهذليين ص 938، وشرح شواهد المغنى ص 643، وللمجنون فى ديوانه ص 39، وشرح التصريح 2/ 255 والبيتان بلا نسبة فى تاج العروس (لو).
(3)
اشتهر فى كلام الأصوليين وأصحاب المعانى وأهل العربية من حديث عمر، وبعضهم يرفعه للنبى صلى الله عليه وسلم وذكر البهاء السبكى أنه لم يظفر به بعد البحث، وانظر كشف الخفاء 2/ 391 تحقيق د/ عبد الحميد هنداوي.
(4)
الحجر: 2.
(5)
الحجرات: 7.
(فدخولها على المضارع فى نحو: ) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ (1) أى: لوقعتم فى جهد وهلاك، والفعل هو الإطاعة؛ يعنى أن امتناع عنتكم
…
===
العلم ولو بالصين" قال ابن حبان لا أصل له كما فى الغماز
(قوله: فدخولها على المضارع إلخ) هذا مفرع على قوله: فيلزم المضى فى جملتيها أى: وحيث كان ذلك لازما فدخولها على المضارع إلخ
(قوله: فى جهد) هو بفتح الجيم المشقة والطاقة والمراد هنا الأول، وأما بالضم فهو بمعنى الطاقة ليس إلا وقوله وهلاك الواو بمعنى أو، إذ لا يجوز إرادة معنيين من لفظ واحد.
(قوله: لقصد استمرار الفعل) أى: للإشارة إلى قصد استمرار الفعل، والمراد بالفعل الفعل اللغوى وهو الحدث، والمراد باستمراره الاستمرار التجددى، وحاصله: إن دخول لو على المضارع فى الآية على خلاف الأصل لنكتة اقتضاها المقام، وهى الإشارة إلى أن الفعل الذى دخلت عليه يقصد استمراره فيما مضى وقتا بعد وقت وحصوله مرة بعد أخرى، ولو نفت ذلك الاستمرار، واستمرار الفعل على وجه التجدد إنما يحصل بالمضارع لا بالماضى، الذى شأنه أن تدخل عليه لو فالعدول عن الماضى للمضارع لهذه النكتة التى اقتضاها المقام
(قوله: فيما مضى وقتا فوقتا) أشار بقوله فيما مضى إلى أن لو على معناها وأن المضارع الواقع موقع الماضى أفاد الاستمرار فيما مضى، وبقوله وقتا فوقتا، إلى أن الانتفاء ملاحظ بحسب أوقات الوجود فإن الإطاعة توجد فى العرف وقتا فوقتا فيلاحظ انتفاؤها كذلك، فيكون المضارع المنفى كالمثبت فى أن المستفاد منه تجددى لا ثبوتي. اهـ فنرى.
(قوله: والفعل) أى: الذى قصد استمراره فى الآية هو الإطاعة وعليه ففى كلام المصنف حذف مضاف أى: لقصد امتناع استمرار إلخ بدليل قوله يعنى أن امتناع عنتكم بسبب إلخ، هذا ويمكن الاستغناء عن تقديره فى كلام المصنف بأن يكون المعنى لقصد
(1) الحجرات: 7.
بسبب امتناع استمراره على إطاعتكم فإن المضارع يفيد الاستمرار، ودخول لو عليه يفيد امتناع الاستمرار، ويجوز أن يكون الفعل امتناع الإطاعة؛ يعنى أن امتناع عنتكم بسبب استمرار امتناعه عن إطاعتكم
…
===
الاستمرار المذكور أى: من يطيعكم بقطع النظر عن لو، ويفهم امتناع الاستمرار من لو، وليس المعنى لقصد الاستمرار من لو يطيعكم المحوج لتقدير المضاف المتقدم، وحاصل ما ذكره الشارح أن الكلام مشتمل على نفى وهو لو وقيد وهو الاستمرار المفاد بالمضارع فيجوز أن يعتبر نفى القيد، وأن يعتبر تقييد النفى فالمعنى على الأول انتفى عنتكم بسبب امتناع الاستمرار على الإطاعة فى الكثير، وعلى الثانى انتفى عنتكم بسبب الامتناع المستمر على إطاعتكم فى الكثير
(قوله: بسبب امتناع استمراره إلخ) هذا يفيد ثبوت أصل إطاعته- عليه الصلاة والسلام لهم فى بعض الأمور، وهو كذلك فموافقته لهم فى بعض الأمور التى لا تضر لا توجب الهلاك، بل فيها تطييب لخواطرهم، ولذا أمر عليه السلام بمشاورتهم وإلا فهو غنى عنها والذى يوجب وقوعهم فى المشقة والهلاك إنما هو استمراره- عليه الصلاة والسلام على إطاعتهم فيما يستصوبون حتى كأنه مستتبع فيما بينهم ويستعملونه فيما يعن لهم وفى ذلك من اختلال الرسالة والرياسة ما لا يخفى، وأورد على الوجه الأول أنه إذا كان المنفى استمرار الإطاعة فى كثير من الأمر كان أصل الإطاعة فى الكثير ثابتا مع أن الواقع خلافه؛ لأنه إنما أطاعهم فى القليل، وأجيب بأن المفهوم معطل بالنظر للقيد، أو يقال: يكفى كون ما أطاعهم فيه كثيرا فى نفسه وإن كان قليلا بالنسبة إلى مقابله.
واعلم أن هذا الإيراد إنما يتوجه على الوجه الأول فى كلام الشارح لا على الوجه الثانى؛ لأن محصله أن العلة فى انتفاء العنت الامتناع المستمر على إطاعتهم فى الكثير فيكون أصل الفعل وهو الإطاعة فى الكثير منفيا.
(قوله: ويجوز أن يكون الفعل) أى: الذى قد قصد استمراره امتناع الإطاعة أى: إن لوحظت لو قبل دخول الفعل المفيد للاستمرار عليها، فلما دخل عليها صارت كأنها جزء منه والاستمرار ملاحظ بعد النفى فهو حينئذ من تقييد النفى بخلافه على
لأنه كما أن المضارع المثبت يفيد استمرار الثبوت يجوز أن يفيد المنفى استمرار النفى والداخل عليه لو يفيد استمرار الامتناع كما أن الجملة الإسمية المثبتة تفيد تأكيد الثبوت ودوامه
…
===
الوجه الأول، فإن الفعل الدال على الاستمرار ملحوظ قبل النفى فهو من نفى القيد، وفى تأخير هذا الوجه الثانى وتعبيره فى جانبه بالجواز إشارة لرجحان الوجه الأول ولذلك قال فى المطول: إنه الظاهر، ووجه ذلك بأمرين:
الأول أن القياس اعتبار الامتناع واردا على الاستمرار حسب ورود كلمة لو المفيدة للامتناع على صيغة المضارع المفيد للاستمرار؛ لأن استفادة المعانى من الألفاظ على وفق ترتيبها، وأما اعتبار الاستمرار واردا على النفى فهو خلاف القياس فلا يصار إليه إلا عند تعذر الجريان على موجب القياس نحو: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (1) أو لم يكن فيه مزية كما فى قوله تعالى وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (2) حيث حمل على استمرار نفى الحزن عنهم إذ ليس فى نفى استمرار الحزن مزيد فائدة.
الثانى: أن العلة فى نفى عنتهم نفى الاستمرار على إطاعتهم، لا استمرار نفى الإطاعة الذى تضمنه ذلك الوجه الثانى؛ وذلك لأن استمرار نفى الإطاعة يقتضى أن أصل الفعل وهو الإطاعة منفى بخلاف نفى الاستمرار على الإطاعة فإنه يفيد ثبوته ومعلوم أن أصل الإطاعة لا يترتب عليه العنت لما يترتب عليه من مصلحة استجلابهم واستمالة قلوبهم- ا. هـ سم.
(قوله: لأنه كما أن إلخ) علة لقوله ويجوز إلخ ودفع بهذا ما يقال معنى قولهم: إن المضارع يفيد الاستمرار أى: استمرار معناه وهذا الاحتمال بخلافه؛ لأنه يلزم عليه أن المضارع إنما أفاد استمرار معنى لو وهذا خلاف القاعدة، وحاصل الدفع أنه لا مانع من كون الفعل المضارع المنفى يفيد استمرار النفى كما أن المثبت يفيد استمرار الثبوت، وذلك إذا لوحظ النفى قبل دخول الفعل المفيد للاستمرار بحيث جعل النفى كأنه جزء من الفعل.
(قوله: كما أن الجملة الاسمية إلخ) هذا تنظير للفعلين المثبت والمنفى وهذا
(1) الكهف: 49.
(2)
البقرة: 38.
والمنفية تفيد تأكيد النفى ودوامه لا نفى التأكيد والدوام كقوله تعالى: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (1) ردا لقولهم آمَنَّا
…
===
بالنسبة للوجه الثانى؛ لأن المعتبر فيه تأكيد النفى وكذا هنا المعتبر تأكيد الثبوت
(قوله: والمنفية تفيد تأكيد النفى) أى: استمرار الانتفاء ومن هذا يتخرج الجواب عن النفى فى قوله تعالى:
وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (2) بأن ترجع المبالغة إلى نفى الظلم، فالمعنى انتفى الظلم عن المولى انتفاء مبالغا فيه، فالجملة مفيدة لتأكيد النفى والمبالغة فيه لا لنفى التأكيد والمبالغة وإلا لاقتضت أن المنفى إنما هو المبالغة فى الظلم فيفيد ثبوت أصل الظلم وهو باطل.
(قوله: لا نفى التأكيد) إن قلت قضية قاعدة أن النفى يتوجه إلى القيد فى الكلام أن الجملة المنفية إنما تفيد نفى التأكيد، قلت هذا إذا اعتبر القيد سابقا على النفى، وأما إذا اعتبر سبق النفى كانت مفيدة لتأكيد النفى، والحاصل أنه إذا اعتبر القيد سابقا على النفى أفادت نفى القيد غالبا، وتارة تفيد نفى المقيد، وتارة تفيد نفيهما معا عند الشارح خلافا للشيخ عبد القاهر حيث أوجب نفى القيد، وأما إذا اعتبر تقدم النفى فإنما تفيد تأكيد النفى أو يقال إن هذا- أى: إفادة تأكيد النفى- استعمال آخر للنفى كما قاله سم.
(قوله: ردا لقولهم آمَنَّا) بيان ذلك أن قولهم آمنا يفيد حدوث الإيمان منهم وصدوره فى الماضى ولو مرة؛ لأن الماضى يدل على الوقوع والانقطاع فرد المولى سبحانه عليهم بقوله: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ مؤكدا للنفى بالباء الزائدة فى الخبر، فالنفى ملحوظ أولا قبل التأكيد فهى مفيدة لتأكيد النفى، والمعنى حينئذ إيمانهم منفى نفيا مؤكدا وعلى هذا فقوله: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ سالبة كلية مناقضة للموجبة الجزئية حكما، التى هى قولهم: آمَنَّا وليس التأكيد ملحوظا أولا قبل النفى بحيث يكون الكلام من نفى التأكيد وإلا لم يكن ردا لقولهم؛ لأن نفى التأكيد يقتضى ثبوت أصل إيمانهم وهذا عين دعواهم.
(1) البقرة: 8.
(2)
فصلت: 46.
على أبلغ وجه وآكده (كما فى قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)(1) حيث لم يقل: الله مستهزئ بهم قصدا إلى استمرار الاستهزاء وتجدده وقتا فوقتا (و) دخولها على المضارع (فى نحو: وَلَوْ تَرى)(2) الخطاب لمحمد- عليه الصلاة والسلام
…
===
(قوله: على أبلغ وجه) متعلق بقوله ردا
(قوله: وآكده) مرادف لما قبله وهو بالمد لا بهمزتين لقول الخلاصة:
ومدّا ابدل ثانى الهمزين من
…
كلمة إن يسكن كآثر وائتمن
(قوله: الله يستهزئ بهم) الاستهزاء هو السخرية والاستخفاف، والمراد به إنزال الحقارة والهوان بهم فهو من باب إطلاق الشىء على غايته لعلاقة السببية؛ لأن غرض المستهزئ من استهزائه إدخال الهوان على المستهزأ به، فيستهزئ مجاز مرسل ويصح أن يكون استعارة تبعية بأن شبه الهوان بالاستهزاء واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق منه يستهزئ بمعنى ينزل الهوان بهم، ويحتمل أن يكون من باب المشاكلة بأن سمى جزاء الاستهزاء باسمه لوقوعه فى صحبته، كما سمى جزاء السيئة سيئة لوقوعه فى صحبتها، وحينئذ فهو مجاز مرسل علاقته المجاورة أو المصاحبة.
(قوله: حيث لم يقل إلخ) أشار بذلك إلى أن التنظير من حيث مطلق العدول إلى المضارع، وإن كان العدول هنا عن اسم الفاعل إلى المضارع وفيما سبق العدول عن الماضى إلى المضارع، وإنما كان الأصل المعدول عنه هنا اسم فاعل لاقتضاء المقام إياه لمشاكلة ما وقع منهم؛ لأنهم قالوا إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (3).
(قوله: وتجدده وقتا فوقتا) هذا تفسير لما قبله وهو محط القصد وإلا فالاستمرار مفاد بالاسمية المعدول عنها أيضا بمعونة المقام، لكن فرق بين الاستمرارين؛ لأن الاستمرار فى الاسمية فى الثبوت والاستمرار فى وضع المضارع موضع الماضى فى التجدد وقتا فوقتا، والثانى أبلغ
(قوله: ولو ترى إذ وقفوا على النار إلخ) نزل ترى منزلة
(1) البقرة: 15.
(2)
البقرة: 14.
(3)
الأنعام: 27.
أو لكل من تتأتى منه الرؤية (إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أى: أروها حتى يعاينوها، أو أطلعوا عليها اطلاعا هى تحتهم، أو أدخلوها فعرفوا مقدار عذابها
…
===
اللازم مبالغة فى أمرهم الفظيع بحيث إذا اتصف الرائى بالرؤية مطلقا حين وقوفهم على النار رأى أمرا فظيعا- كذا قاله يس وفى عبد الحكيم: أن المفعول محذوف أى: ولو ترى الكفار فى وقت وقوفهم ولا يجوز أن يكون إذ مفعولا؛ لأنه إخراج لإذ والرؤية عن الاستعمال الشائع أعنى الظرفية والإدراك البصرى من غير ضرورة ا. هـ كلامه.
(قوله: أو لكل من تتأتى منه الرؤية) أى: بناء على أن الخطاب موجه لغير معين ففى التخصيص تسلية للرسول- عليه السلام وفى التعميم تفضيح لهم لظهور بشاعة حالهم لكل أحد.
(قوله: حتى يعاينوها) حتى تعليلية
(قوله: أو أطلعوا عليها) تفسير ثان لوقفوا وهو أولى من الأول لعدم احتياجه إلى تكلف تضمين أو نيابة حرف عن حرف بخلاف الأول، وكون الوقف بمعنى الاطلاع مما ذكره فى القاموس، وفى بعض النسخ: وأطلعوا بالواو والأولى أولى من الثانية، وعلى الثانية فالعطف للتفسير، ومعنى أطلعوا عليها أنهم وقفوا فوقها وهى تحتهم كما ذكره الشارح
(قوله: هى تحتهم) الجملة حال من ضمير عليها أى: حال كونها تحتهم بحيث إنهم كالآيلين للسقوط فيها- كذا قرر شيخنا العدوى. ويؤيده ما فى ابن يعقوب أن المراد بوقوفهم على النار اطلاعهم عليها، والمراد باطلاعهم عليها أن يروها تحتهم وهم بصدد السقوط فيها
(قوله: أو أدخلوها) يعنى أن وقوفهم على النار: إما أن يفسر بإراءتها أو بالاطلاع عليها- كما تقدم- أو يفسر بالإدخال فيها
(قوله: فعرفوا مقدار عذابها) راجع للتفاسير الثلاثة وهى الإرائة والاطلاع والإدخال، وكان الأحسن أن يقول أو عرفوا إلخ للإشارة إلى أن هذا معنى آخر للوقوف على النار ويوضح لك ذلك قول الزجاج إن قوله تعالى: إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ يحتمل ثلاثة أوجه الأول أن يكونوا قد وقفوا عندها حتى يعاينوها فهم موقوفون إلى أن يدخلوها الثانى أن يكونوا قد وقفوا عليها وهى تحتهم أى: إنهم وقفوا على النار فوق الصراط وعلى هذين الوجهين وقفوا من وقفت الدابة، الثالث أنهم عرفوها من وقفت
وجواب لو محذوف؛ أى: لرأيت أمرا فظيعا (لتنزيله) أى المضارع (منزلة الماضى لصدوره) أى: المضارع أو الكلام
…
===
على كلام فلان علمت معناه
(قوله: وجواب لو محذوف) أتى الشارح بهذا دفعا لما يقال: إن لو للتمنى وهى تدخل على المضارع، وحينئذ فلا يصح الاستشهاد بهذه الآية على دخول لو الشرطية على المضارع، وحاصل الجواب أنا لا نسلم أنها هنا للتمنى، بل هى شرطية وجوابها محذوف
(قوله: أى لرأيت أمرا فظيعا) أى: شنيعا تقصر العبارة عن تصويره، قال الفنارى: ولا يخفى أن الأولى أن يقدر الجزاء مستقبلا مناسبا للشرط أى:
لترى أمرا فظيعا والنكتة التنزيل والاستحضار المذكوران
(قوله: أى المضارع) أى:
المعنى المضارع بمعنى المستقبل.
(قوله: منزلة الماضى) أى: والماضى تناسبه لو كما تقدم
(قوله: لصدوره إلخ) يحتمل أن يكون علة للتنزيل أى: وإنما نزل ذلك المعنى الاستقبالى منزلة الماضى حتى دخلت عليه لو التى هى فى الأصل للماضى لصدوره أى: صدور الإخبار عن ذلك المعنى الاستقبالى بالفعل المضارع عمن لا خلف فى أخباره فكأنه وقع، لكن هذا الاحتمال بعيد من كلام الشارح، والذى يدل عليه قول الشارح لكنه عدل إلى المضارع إلخ أنه علة لمحذوف أى: وإنما يعبر عن ذلك المعنى الاستقبالى بعد تنزيله منزلة الماضى بصيغة الماضى ليكون هناك مناسبة بين الدال والمدلول لصدور ذلك الإخبار بذلك الفعل المضارع عمن لا تخلف فى إخباره والمستقبل والماضى عنده سواء فلا يحتاج إلى التحويل لصيغة الماضى إلا لو كان الإخبار بذلك الفعل صادرا ممن التخلف فى إخباره؛ لأنه إذا كان كذلك يحتاج إلى التعبير بالماضى زيادة فى تأكيد تحقق الوقوع نفيا لذلك الإمكان هذا تحقيق ما فى المقام على ما قرره شيخنا العدوى، فإن قلت: إن تنزيل المضارع منزلة الماضى فى التحقيق ينافى دخول لو الدالة على الامتناع قلت: لا منافاة؛ لأن الامتناع باعتبار الإسناد إلى المخاطب، والتحقق باعتبار أصل الفعل، فالمنزل منزلة الماضى لتحققه هو أصل الرؤية، والذى فرض وقوعه وأدخل عليه لو هو الرؤية بالنسبة للمخاطب فذكر لو يدل على أن الرؤية بمثابة من الفظاعة يمتنع معها رؤية المخاطب- كذا أجاب عبد الحكيم.
(عمن لا خلاف فى إخباره) فهذه الحالة إنما هى فى القيامة لكنها جعلت بمنزلة الماضى المتحقق فاستعمل فيها لو وإذ المختصتان بالماضى لكن عدل عن لفظ الماضى ولم يقل: ولو رأيت إشارة إلى أنه كلام من لا خلاف فى إخباره، والمستقبل عنده بمنزلة الماضى فى تحقق الوقوع؛ فهذا الأمر مستقبل فى التحقق ماض بحسب التأويل كأنه قيل: قد انقضى هذا الأمر لكنك ما رأيته ولو رأيته لرأيت أمرا فظيعا (كما) عدل عن الماضى إلى المضارع (فى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)(1) لتنزله منزلة الماضى لصدوره عمن لا خلاف فى إخباره، وإنما كان الأصل هاهنا هو الماضى
…
===
(قوله: عمن لا خلاف) أى: لا تخلف فى إخباره وهو الله الذى يعلم غيب السموات والأرض
(قوله: فهذه الحالة) أى: رؤيتهم واقفين على النار
(قوله: لكنها جعلت بمنزلة الماضى المتحقق) أى: بجامع التحقق فى كل، لأن تلك الحالة الحاصلة فى يوم القيامة لما أخبر بوقوعها المولى صارت محققة
(قوله: لكن عدل إلخ) فى الكلام حذف، والأصل وكان المناسب أن يعبر عن ذلك المعنى بالماضى حيث نزل منزلة الماضى ليكون هناك مناسبة بين الدال والمدلول لكن عدل إلخ
(قوله: والمستقبل عنده بمنزلة الماضى) أى: فيستوى عنده التعبير بالماضى والمستقبل فالتعبير بأيهما كالتعبير بالآخر وقوله والمستقبل إلخ: عطف لازم على ملزوم وهذا محط العلة والفائدة
(قوله: فهذا) أى: ما ذكر من رؤيتهم واقفين على النار
(قوله: مستقبل فى التحقق) أى: لأنه يوم القيامة.
(قوله: ماض بحسب التأويل) أى: التنزيل
(قوله: قد انقضى) أى: قد مضى هذا الأمر وهو رؤيتهم واقفين على النار
(قوله: لكنك ما رأيته) إشارة لمعنى لو
(قوله: لتنزيله) أى: المعنى المضارع بمعنى المستقبل منزلة الماضى أى: والماضى تناسبه رب المكفوفة بما، وقوله لصدوره يحتمل أن يكون علة للتنزيل أو لمحذوف على ما مر فى
(1) الحجر: 2.
لأنه قد التزم ابن السراج وأبو على فى الإيضاح أن الفعل الواقع بعد رب المكفوفة بما يجب أن يكون ماضيا لأنها للتقليل فى الماضى؛ ومعنى التقليل هاهنا: أنه تدهشهم أهوال القيامة فيبهتون فإن وجدت منهم إفاقة ما تمنوا ذلك، وقيل هى مستعارة للتكثير أو للتحقيق،
…
===
الآية السابقة
(قوله: لأنه قد التزم إلخ) الضمير للحال والشأن وأشار الشارح بهذا إلى أن التمثيل بهذه الآية مبنى على هذا المذهب فقط، وأما الجمهور فأجازوا وقوع الفعل المستقبل بعدها كقوله:
ربّما تكره النفوس من الأم
…
ر له فرجة كحل العقال
والجملة الاسمية كقوله:
ربّما الجامل المؤبّل فيهم
…
وعناجيج فوقهنّ المهار.
(قوله: المكفوفة بما) أى: عن عمل الجر
(قوله: لأنها) أى: رب المكفوفة للتقليل فى الماضى أى: أنها للتقليل وهو إنما يظهر فى الماضى؛ لأن التقليل إنما يكون فيما عرف حده والمعروف حده إنما هو الواقع فى الماضى، والمستقبل مجهول لم يعرف حتى يوصف بقلة أو كثرة، وحينئذ فلا تدخل عليه رب. كذا وجه أبو على وابن السراج، وفيه بحث لإمكان العلم بالمستقبل كما فى الآية؛ لأن المتكلم هو الله تعالى الذى يعلم غيب السموات والأرض، وحينئذ فإفادتها للتقليل لا تمنع من دخولها على المستقبل، وحينئذ يكون المعنى قليل من يوجد منه ذلك الفعل فى المستقبل، أو حصول ذلك الفعل فى المستقبل قليل
(قوله: ومعنى التقليل إلخ) جواب عما يقال: إن ودادتهم للإسلام وتمنيهم له يحصل منهم كثيرا، وحينئذ فما معنى التقليل
(قوله: فيبهتون) أى: يتحيرون
(قوله: فإن وجدت منهم إفاقة ما تمنوا ذلك) أى: فقلة التمنى لذلك باعتبار قلة الزمان الذى يقع فيه، وهذا لا ينافى كثرته فى نفسه
(قوله: وقيل هى مستعارة) أى: منقولة والمراد بالاستعارة هنا مطلق النقل والتجوز لا المصطلح عليها. والعلاقة فى استعمالها فى التكثير الضدية وفى التحقيق اللازمية؛ لأن التقليل فى الماضى يلزمه التحقيق، وحاصل ذلك القول أن رب مطلقا مكفوفة أو لا موضوعة للتقليل وهى هنا مستعملة فى التكثير أو
ومفعول يَوَدُّ محذوف لدلالة لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ عليه ولَوْ للتمنى حكاية لودادتهم،
…
===
التحقيق على سبيل الاستعارة لكن الذى فى المغنى أن الكثير فى رب أن تكون للتكثير، وحينئذ فلا حاجة للاستعارة كذا قيل، وقد يقال: إن استعارتها للتكثير بالنسبة لأصل الوضع وإن شاع استعمالها فى التكثير حتى التحق بالحقيقة- كما فى عبد الحكيم، وحينئذ فلا اعتراض، ثم إن عبارة الشارح توهم أنه على القول باستعارتها للتكثير لا تختص بالماضى وحينئذ فلا يكون فى الآية شاهد لتنزيل المضارع منزلة الماضى على ذلك القول- وليس كذلك، بل على أنها للتكثير تختص أيضا بالماضى عند ابن السراج وأبى على؛ لأن التكثير كالتقليل إنما يكون فيما عرف حده والتكثير باعتبار أن الكفار فى حال إفاقتهم دائما يودون كونهم مسلمين، فالتكثير نظرا للتمنى فى نفسه والتقليل نظرا إلى أن أكثر أحوالهم الدهشة، والأوقات التى يفيقون فيها ويتمنون الإسلام قليلة
(قوله: ومفعول يود محذوف) أى: على كل من الوجوه السابقة من كون رب للتقليل أو التكثير أو التحقيق، وقوله محذوف أى: تقديره الإسلام أو كونهم مسلمين أو نحو ذلك، ولا يصح أن يكون المفعول لو كانوا مسلمين؛ لأنهم لم يودوا ذلك، إذ لا معنى لودادة التمنى؛ ولأن لو التى للتمنى للإنشاء ولا يعمل ما قبل الإنشاء فيما بعده
(قوله: ولو للتمنى) أى: فلا جواب لها
(قوله: حكاية لودادتهم) أى: بناء على أن الجملة معمولة لمحذوف حالا أى: قائلين لو كانوا مسلمين، واعترض هذا بأنه كيف يكون هذا حكاية لودادتهم مع أنهم لا يقولون هذا اللفظ أعنى لو كانوا مسلمين، وإنما يقولون: لو كنا مسلمين، وأجيب بأنه لما عبر عنهم بطريق الغيبة فى الودادة حيث قال يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ولم يقل وددتم جاز أن يعبر فى حكاية كلامهم بطريق الغيبة، وحاصل ما فى المقام أن المحكى عنه إذا كان غائبا كما فى الآية فإنه يجوز الحكاية عنه بما وقع منه بذاته ويجوز الحكاية عنه بمعنى ما وقع منه فتقول: حلف زيد بالله لأفعلن وحلف بالله ليفعلن، وإن كان الواقع منه لأفعلن، وكذا يقول تمنى فلان التوبة، وقال لو كنت تائبا، ولو قلت لو كان تائبا لكان حسنا، وكما تقول حكاية لوصف زيد لك بالكرم قال زيد فلان
وأما على رأى من جعل لو التى للتمنى حرفا مصدريا فمفعول يَوَدُّ* هو قوله:
لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (1).
(أو لاستحضار الصورة) عطف على قوله: لتنزيله؛ يعنى أن العدول إلى المضارع فى نحو: وَلَوْ تَرى * إما لما ذكر، وإما لاستحضار صورة رؤية الكافرين موقوفين على النار؛
…
===
كريم مصرحا باسمك ولو قلت قال زيد إنى كريم لكان حسنا، فقول الشارح حكاية لودادتهم أى: بالمعنى.
(قوله: وأما على رأى من جعل لو التى للتمنى حرفا مصدريا إلخ) فيه أن من لا يجعلها للتمنى لا يجعلها حرفا مصدريا، بل هو قول آخر يجاب بأن معنى كلام الشارح، وأما من جعل لو التى نجعلها للتمنى وهى الواقعة بعد فعل يفيد التمنى كما هنا حرفا مصدريا
(قوله: هو قوله لو كانوا مسلمين) أى: المصدر المنسبك من تلك الجملة أى:
كونهم مسلمين. بقى احتمال ثالث فى لو المذكورة فى الآية وهى كونها شرطية جوابها محذوف كما أن مفعول يود كذلك أى: ربما يود الذين كفروا الإيمان لو كانوا مسلمين لنجوا من العذاب، وعلى هذا فلا تكون الجملة حكاية لودادتهم.
(قوله: أو لاستحضاره الصورة) السين والتاء زائدتان أى: أو لإحضار المتكلم للسامع الصورة أى: صورة رؤية الكفار موقوفين على النار وصورة ودادة إسلامهم
(قوله: يعنى أن العدول إلخ) الحاصل أن المضارع فى هذه الأمثلة على حقيقته؛ لأن مضمونها إنما يتحقق فى المستقبل، لكن نزل ذلك المعنى الاستقبالى منزلة الماضى قضاء لحق ما دخل عليه من لو ورب، وإنما نزل منزلة الماضى لكونه محقق الوقوع مثله وعدل عن التعبير بالماضى للمضارع لصدوره عمن لا تختلف فى إخباره، هذا حاصل ما تقدم، وحاصل ما ذكره هنا بقوله يعنى إلخ أنه نزل أولا ذلك المعنى الاستقبالى منزلة الماضى لتحقق وقوعه فصح استعمال لو ورب فيه لصيرورته ماضيا
(1) الحجر: 2.
لأن المضارع مما يدل على الحال الحاضر الذى من شأنه أن يشاهد كأنه يستحضر بلفظ المضارع
…
===
بالتأويل، ثم نزل ذلك الماضى تأويلا منزلة الواقع الآن وعدل عن لفظ الماضى للفظ المضارع استحضارا للصورة العجيبة تفخيما لشأنها فهو حكاية للحال الماضية تأويلا، وإنما احتجنا فى حكاية الحال هنا لتنزيل الحالة المستقبلة منزلة الماضى ولم ننزلها منزلة الحاصلة الآن من أول الأمر؛ لأنه لم يثبت فى كلامه حكاية الحال المستقبلة والواقع فى استعمالهم إنما هو حكاية الحال الماضية كما فى قوله تعالى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ (1) فظهر لك من هذا أن قوله أو لاستحضار الصورة عطف على لصدوره، وقول الشارح عطف على تنزيله فيه شىء؛ لأنه يلزم على عطفه على النزيل عطف الخاص على العام؛ وذلك لأن التنزيل المذكور سابقا صادق بأن يكون معه استحضار للصورة أولا والعطف المذكور من خواص الواو ولا يجوز بأو، اللهم إلا أن يقال: إنه مشى على القول بالجواز
(قوله: لأن المضارع مما يدل على الحال) أى: على الشأن والأمر، وقوله الحاضر أى: الحاصل الذى شأنه أن يشاهد بخلاف الشىء الماضى والمستقبل، هذا وظاهر الشارح أن المعنى الاستقبالى نزل منزلة الحالة الحاصلة الآن لأجل استحضار تلك الصورة العجيبة، وعبر عنها بالمضارع لدلالته على الأمر الحاضر، وفيه نظر؛ لأن هذا يقتضى حكاية الحال المستقبلة وهو غير ثابت، وإنما الثابت حكاية الحال الماضية فلا بد من جعل ذلك من حكاية الحال الماضية تقديرا كما قلنا سابقا، هذا محصل ما فى الحواشى، وقرره شيخنا العلامة العدوى أيضا، وذكر المولى عبد الحكيم: أن استحضار الصورة غير حكاية الحال فإن إحضار الصورة من غير قصد إلى الحكاية والتنزيل وهما إنما يكونان لما وقع بالفعل وإحضار الصورة يكون فيما لم يقع، وحينئذ فلا ينافى هذا ما فى الرضى من أنه لم يثبت حكاية الحال المستقبلة كما ثبت حكاية الحال الماضية ا. هـ كلامه مع بعض زيادة وعليه فما ذكره الشارح من العطف والعناية ظاهر.
(1) الكهف: 18.