الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الرابع: التحليِّ بمحاسن الأخلاق:
وبعد التنزه عن المعاصي يكون التحلي بمحاسن الأخلاق من باب التخلية والتحلية.
روى البخاري رحمه الله في كتاب بدء الوحي من صحيحه حديث السيدة عائشة رضي الله عنها في كيف بدأ الوحي؟، وفيه قالت:«حتى جَاءَهُ الحَقُّ وهو في غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فقال: اقْرَأْ ــ إلى أن قالت ــ فَرَجَعَ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ على خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فقال: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُوهُ حتى ذَهَبَ عنه الرَّوْعُ، فقال لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: لقد خَشِيتُ على نَفْسِي. فقالت خَدِيجَةُ: كَلَّا والله ما يُخْزِيكَ الله أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ على نَوَائِبِ الحَقِّ» (1). (الحديث (رقم 3). والكَلَّ هو من لا
(1) رواه البخاري - كتاب بدء الوحي - باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/ 4).
يستقل بأمر نفسه، كما في قوله تعالى:(وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ)(النحل:76)
فلما خشي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نفسه لما جاءه المَلَك أول مرة، بشَّرته السيدة خديجة رضي الله عنها بأن الله لا يخزيه أبداً.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في الفتح: (ثم استدلت على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبداً بأمر استقرائي وصفته بأصول مكارم الأخلاق، لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من يستقل بأمره أو من لا يستقل، وذلك كله مجموع فيما وصفته به)(1).
يدل هذا الحديث على أن التمسك بمكارم الأخلاق مظنة التوفيق، وأن الله تعالى لا يخزي من حَسُن خُلُقِه في نفسه ومع الناس بل يوفقه سبحانه
(1) انظر: فتح الباري - (1/ 24).
ويسدِّدُه، ولهذا فقد قدّمت بذكر هذا الحديث لأنبِّه طالب العلم خاصة ــ وكل مسلم عامة ــ على أهمية التمسك بمكارم الأخلاق ومجاهدة النفس في اكتسابها إن كانت عارية عنها، فإنها مظنة التوفيق، وطالب العلم أحوج الناس إلى عون الله تعالى وتوفيقه، فإن الطالب قد يضل في اختيار المعلم أو الكتاب فيهلك أو يضيع بعض عمره سدى حتى يهتدي للمعلم الصالح والكتاب النافع، وقد يكون ضلالُهُ في طلب العلم عقوبةً قدريةً له من الله على فساد ِ قصده أو خبثِ سريرته، وقد يسلك الطالب سبيل الضلالة ويعتقده الحق عقوبة من الله تعالى:(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ)(فاطر:8)
وقال تعالى: (وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ)(ابراهيم:27)
فلا نجاة إذن إلا بالاستقامة ليكون الطالب
من أهل الوعد المذكورين في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)(محمد:17)، وفي قوله تعالى:(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(العنكبوت:69)
والتحلي بمحاسن الأخلاق يشتمل على التحلي بما ظهر منها ومابطن:
فالمكارم الظاهرة: يأتي على رأسها الحياء فإنه أساسها بل أساس الخيرات كلها، ثم بر الوالدين، وصلة الأرحام، والرفق بالناس، والعفو واحتمال الأذى، وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم، والجود والكرم، وغيرها.
وأما المكارم الباطنة: فأولها الإخلاص، ثم الصدق، والتوكل، والصبر، وقصر الأمل، والزهد والورع، والحلم والأناة، والتواضع، وإحسان الظن بالمسلمين، وغيرها.
وإذا كان هناك خُلُق مما ذكرناه ينبغي التنبيه
عليه على وجه الخصوص في هذا المقام فهو التواضع: وضده الكبر والتعالي على الناس والعُجب والفخر.
فقد قال النووي في آداب المتعلم: (وينبغي له أن يتواضع للعلم والمعلِّم، فبتواضعه يناله، وقد أُمرنا بالتواضع مُطلقا فهنا أولى، وقد قالوا: العلم حرب للمتعالي كالسيل حرب للمكان العالي. وينقاد لمعلمه ويشاوره في أموره ويأتمر بأمره كما ينقاد المريض لطبيب حاذق ناصح، وهذا أَوْلى لتفاوت مرتبتهما)(1).
وإنما أردنا التنبيه على التواضع خاصة لأن الكبر والعُجب يضادان التعلم، وإذا ابتلي بهما طالب العلم انقطع وحُرِمَ العلم، فإن الكبر يجعل معلمه يرغب عن تعليمه، كما أن العُجب يجعل الطالب يستغني عن طلب المزيد من العلم، وكلاهما يمنعانه من قبول العلم ممن هو دونه في رتبة ٍ أو سِنّ ٍ أو شرف ٍ. فصار التواضع خير زاد له في طلب العلم.
(1) انظر: المجموع للأمام النووي - باب آداب المتعلم- (1/ 65).