الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال البخاري رحمه الله: (وقال مجاهد: لا يتعلم العلم مُسْتَحْي ولا مُستكبر). أما المستكبر فقد بيّنا سبب عدم تعلُّمِه، وأما المُسْتَحي فالمقصود به الحياء المذموم الذي يمنع الطالب من السؤال عما ينبغي السؤال عنه ليتعلم، ولهذا فقد أعقب البخاري قول مجاهد هذا بقولٍ لعائشة رضي الله عنها ليبين المراد بالحياء المذكور في قول مجاهد وأنه المذموم الذي يمنع من التعلم، فقال البخاري:(وقالت عائشة رضي الله عنها: «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ» (1).
النوع الخامس: المبادرة إلى تحصيل العلم في أوقات الشباب:
من أَجَلِّ نعمِ الله تعالى على عبد ٍ أن يوفِّقه لطلب العلم في الصِّغر، لما للتعلم في الصِّغر من فوائد هامة، منها: ــ
(1) أخرجه البخاري - كتاب العلم - باب الحياء في العلم (1 47).
أـ أن الصغير أفرغ قلبًا ووقتًا، فيرسخ في نفسه ما يتلقاه من العلم، ومن هنا قيل: إن التعلم في الصِّغر كالنقش على الحجر، وإن التعلم في الكِبَر كالنقش على الماء. والصغير أقدر على الحفظ من الكبير.
ب ــ أن التفقه في الدين لابد له من طول المدة، أي التعلم لزمن طويل، نظراً لكثرة العلوم الشرعية وتشعبها وطولها، فكان التعلم في الصِّغر أعون على الإلمام بهذه العلوم بتفصيلاتها، التي يعسر الإلمام بها إذا ما تعلَّم في الكِبَر.
ولأهمية التعلم في الصِّغر لم يخل كتاب من الكتب التي تكلمت في موضوع العلم من التنبيه عليه، ومن هذا: ــ
أـ ما ذكره البخاري قال: (قال عمر رضي الله عنه: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تَسُودُوا). قال البخاري: وبعد أن تسودوا، وقد تعلمَّ أصحاب النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم في كِبَر سنِّهم (1). أهـ
والمقصود بالسيادة في قول عمر رضي الله عنه: الرياسة والولاية، وقد حَضَّ سيدنا عمر على التفقّه قبلها لسببين، الأول: أن الولاية عادة ما تمنع من التعلم نظراً لشدة انشغال صاحبها مع أَنَفَتِه عن التعلم، والسبب الثاني: أن الجهل قبيح من صاحب الولاية مُهْلِك له ولغيره إذا سَاسَ الناس بغير علم. فإذا كان الصواب والأوْلي هو التعلم قبل السيادة فإن هذا لا يكون إلا في الصِّغر.
ولئلا يفهم أحد من قول سيدنا عمر أن السيادة مانعة من التفقه بإطلاق فقد عقَّب البخاري عليه قائلا: (وبعد أن تسودوا) فمن فاته العلم قبل السيادة فلا يفوتنّه بعدها، ودَلّل البخاري على هذا بقوله (وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كِبَر
(1) انظر: صحيح البخاري - كتاب العلم- باب الاغتباط في العلم والحكمة (1/ 39).
سِنّهم) فبيَّن أن كِبَر السن ليس مانعاً من التعلم وإن كان الأوْلى الشروع في هذا في الصِّغر.
قال الحافظ ابن حجر في شرح قول سيدنا عمر رضي الله عنه: (وقد فسّره أبو عبيد في كتابه «غريب الحديث» فقال: معناه تفقهوا وأنتم صغار، قبل أن تصيروا سادة فتمنعكم الأنفة عن الأخذ عمن هو دونكم فتبقوا جُهّالا)(1).
ب ــ وقال الخطيب البغدادي (ينبغي لمن اتسع وقته، وأصَحَّ الله له جسمه، وحَبَّب إليه الخروج عن طبقة الجاهلين، وألقى في قلبه العزيمة على التفقه في الدين أن يغتنم المبادرة إلى ذلك خوفا من حدوث أمر يقطعه عنه، وتجدد حال تمنعه منه. ثم روى الخطيب بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل وهو يعظه: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ
(1) انظر: فتح الباري - كتاب العلم- باب الاغتباط في العلم والحكمة (1/ 166).
وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ») (1).
فينبغي على الطالب أَن يُبَادِرَ شبابَهُ وأَوقَاتَ عُمرِهِ إلى التَّحصيل، ولا يغتر بخدع التسويف فإن كل ساعة تمضي من عمره لا بدل لها ولا عوض عنها.
فعليك أن تغتنم الشباب والصحة فاجعل الاجتِهَادَ غنِيمَةَ صِحَّتك، والعمل فُرصة فراغك، فليس كُلُّ الزَّمَانِ مُسْتَسْعَدًا، ولاما فات مُستَدرَكًا.
فعَنْ الرَّبِيعِ قَالَ: «لَمْ أَرَ الشَّافِعِيَّ آكِلاً بِنَهَارٍ، وَلَا نَائِمًا بِلَيْلٍ، لاِهْتِمَامِهِ بِالتَّصْنِيفِ» (2).
قَالَ بَعضُ الشُّعراء (3):
إذَا هَبَّتْ رِيَاحُك فَاغْتَنِمْهَا
…
فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونُ
(1) انظر: (الفقيه والمتفقه) للخطيب البغدادي. (2/ 171). وأخرجه الحاكم في المستدرك، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما كتاب الرقاق- (4/ 341) رقم (7846)
(2)
انظر: المجموع للإمام النووي (1/ 69)
(3)
انظر: أدب الدنيا والدين للماوردىّ (ص 202) طبعة مكتبة الرياض الحديثة.
وَلا تَغْفُلْ عَنْ الإحْسَانِ فِيهَا
…
فَمَا تَدْرِي السُّكُونُ مَتَى يَكُونُ
وَإِنْ دَرَّتْ نِيَاقُك فَاحْتَلِبْهَا
…
فَمَا تَدْرِي الْفَصِيلُ لِمَنْ يَكُونُ
وينبغِي أَن يغتنم التَّحصيل في وقت الفراغِ والنَّشاط، وحال الشَّبابِ وقُوَّة البدن، ونباهة الخَاطِرِ، وقِلَّة الشَّواغلِ، قبل عوارِضِ البطالة، وارتفاع المنزِلة.
قال الشَّافِعِيُّ -رحمه الله تعالى-: «تَفَقَّهْ قَبْلَ أَنْ تَرْأَسَ، فَإِذَا رَأَسْتَ فَلَا سَبِيلَ إلَى التَّفَقُّهِ» (1).
وقد قيل: «العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك» (2).
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «الْعِلْمُ إذَا أَعْطَيْته كُلَّك أَعْطَاك بَعْضَهُ» (3).
(1) المجموع للإمام النووي (1/ 69)
(2)
انظر: تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، للعلامة أبي إسحاق إبراهيم ابن جماعة الكناني -رحمه الله تعالى- (ص 70 - 71).
(3)
المصدر السابق.
وقال بعضهم: «طلب العلم في الصغر كالنقش في الحجر» (1).
وقال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى- (2):
لن يبلغ العلم جميعاً أحداً
…
لا ولو حاوله ألف سنة
إنما العلم عميق بحره
…
فخذوا من كل شيء أحسنه
قال الإمام برهان الإسلام الزرنوجي -رحمه الله تعالى-: «لابد من الجد والمواظبة والملازمة لطالب العلم. وإليه الإشارة في القرآن الكريم بقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(العنكبوت:69)، وقوله تعالى:(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)(مريم:12)
وقد قيل: من طلب شيئًا وجدَّ وجَدَ، ومن قرع الباب ولَجّ ولج.
وقيل: بقدر ما [تتعنى] تنال ما تتمنى» (3).
(1) انظر: مختصر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر -رحمه الله تعالى- اختصره الشيح أحمد بن عمر المحمصاني البيروتي (ص 75)
(2)
انظر: ديوان الشافعي للأستاذ / نعيم زرزور (ص 109).
(3)
انظر: تعليم المتعلم للإمام برهان الإسلام الزرنوجي -رحمه الله تعالى- (ص 22).