الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِنّ الدَاءَ أَكثَرَ ما تَراهُ
…
يَكون مِنَ الطَعامِ أو الشَرابِ
جواز المدارة والفرق بين المدارة والمداهنة
(1) رواه البخاري، بَاب لم يَكُنْ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَاحِشًا ولا مُتَفَحِّشًا.
وقال عياض-رحمه الله: «وأما إلانة القول له بعد أن دخل فعلى سبيل التألف له» .
قال ابن حجر رحمه الله: «وهذا الحديث أصل في المداراة وفي جواز غيبة أهل الكفر والفسق
ونحوهم والله أعلم» (1).
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ» (2).
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ -رحمه الله تعالى-: «المداراة التي تكون صدقة للمداري هي تخلق الإنسان الأشياء المستحسنة مع من يدفع إلى عشرته ما لم يشبها بمعصية الله. والمداهنة: هي استعمال المرء الخصال التي تستحسن منه في العشرة وقد يشوبها ما يكره الله جل وعلا» (3).
قال بعض الحكماء: «رأس المداراة ترك
(1) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، (10/ 454) ط دار الفكر. بيروت
(2)
أخرجه الطبراني وابن حبان وابن السني والبيهقي في شعب الإيمان، قال الحافظ في الفتح: أخرجه بن عدي والطبراني في الأوسط وفي سنده يوسف بن محمد بن المنكدر ضعفوه وقال بن عدي أرجو أنه لا بأس به وأخرجه بن أبي عاصم في آداب الحكماء بسند أحسن منه. انظر: فتح الباري (10/ 528). ط دار الفكر. بيروت.
(3)
انظر: صحيح ابن حبان، باب حسن الخلق،
المماراة».
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «إنا لنكشر في وجوه أقوام ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتلعنهم» (1).
وعن محمد بنِ الحنفية رضي الله عنه قال: «لَيْسَ بِحَكِيمٍ مَنْ لَا يُعَاشِرُ بِالمَعْرُوفِ مَنْ لَا يَجِدُ مِنْ مُعَاشَرَتِهِ بُدًّا حَتَّى يَجْعَلَ الله فَرَجًا أَوْ قَالَ مَخْرَجًا» (2).
وَأَنْشَدَ المُتَنَبِّي:
وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا عَلَى الْحُرِّ أَنْ يَرَى
…
عَدُوًّا لَهُ مَا مِنْ صَدَاقَتِهِ بُدُّ
وكن كما قال هلال بن العلاء الرقى:
لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ
…
أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس.
(2)
انظر: الآداب الشرعية، فصل في مداراة من يتقي فحشه.
إنِّي أُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ
…
لِأَدْفَعَ الشَّرَّ عَنِّي بِالتَّحِيَّاتِ
وَأُظْهِرُ الْبِشْرَ لِلْإِنْسَانِ أَبْغَضُهُ
…
كَأَنَّمَا قَدْ مَلَا قَلْبِي مَحَبَّاتِ
وَلَسْتُ أَسْلَمُ مِمَّنْ لَسْتُ أَعْرِفُهُ
…
فَكَيْفَ أَسْلَمُ مِنْ أَهْلِ المَوَدَّاتِ
النَّاسُ دَاءٌ وَدَاءُ النَّاسِ تَركُهُم
…
وَفِي الْجَفَاءِ بِهِمْ قَطْعُ الْأُخُوَّاتِ
فَسالِم الناسَ تَسلَم مِن غوائِلِهِم
…
وَكُن حَريصاً عَلى كَسبِ التقياتِ
وَخالِق الناسَ وَاصبِر ما بُلَيتَ بِهِم
…
أَصَمٌ أَبكَمٌ أَعمى ذا تقيات
وكن أيضا كما قال بعض الحكماء: «الق صديقك وعدوك بوجه الرضا من غير مذلة لهما، ولا هيبة منهما، وتوقر من غير كبر، وتواضع من غير مذلة، وكن في جميع أمورك في أوسطها، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم» .
كما قيل:
عَلَيكَ بِأَوساطِ الأَمورِ فإِنّها
…
طَريقٌ إِلى نَهجِ الصِراط قَويمُ
وَلا تَكُ فيها مُفرَطا أَو مُفرَطا
…
فَإِنّ كُلا حالِ الأُمورِ ذميمُ
قال الشيخ صالح بن حميد -عافاه الله-: المداراة صورة من صور التعامل الدال على الحكمة، والموصل إلى المقصود مع حفظ ما للداعي والمدعو من كرامة ومروءة.
وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه فقال: المداراة مع الناس، ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها -السابق-».
قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلام وترك
الإغلاظ، وذلك من أقوى أسباب الألفة. قال: وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط، لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من الدهان: وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضى بما هو فيه من غير إنكار عليه.
والمداراة: هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك. اهـ.
إذا تقرر هذا المعنى فهو الذي قد عناه الحسن البصري رحمه الله بقوله: كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول هي كل العقل.
ومن الطريف قول أبي يوسف رحمه الله في تعداد من تجب مداراتهم فعد منهم: القاضي المتأول والمريض والمرأة والعالم ليقتبس من علمه. وأكثر ما تجري المداراة في اتقاء الأشرار والمكاره.
وقد جاء في حكم لقمان: يا بني كذب من قال إن الشر بالشر يطفأ، فإن كان صادقا فليوقد نارين ولينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى، وإنما يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار.
وسلوك المداراة مأذون فيه لأن الإنسان خلق للاجتماع لا للعزلة، وللتعارف لا للتناكر، وللتعاون لا للانفرادية. والإنسان تعرض له عوارض نفسية وطبيعية من الحب والبغض والرضى والغضب والاستحسان والاستهجان، فلو سار على أن يكاشف الناس بكل ما يعرض له من هذه الشئون في كل وقت وعلى أي حال لاختل الاجتماع ولم يثبت التعارف ولانقبضت الأيدي عن التعاون، فكان من حكمة الله في خلقه أن هيأ الإنسان لأدب يتحامى به عما يحدث تقاطعا أو يدعو إلى تخاذل، وهذه هي المداراة التي نعني.
إذن فالمداراة ترجع إلى حسن اللقاء ولين الكلام، وتجنب ما يشعر ببغض أو غضب أو
استنكار. . إلا في أحوال يكون الإشعار به خيرا من الكتمان وأرجح وأصلح.
ومن لطيف المنقول في سير المتقدمين المقتدى بهم ما جاء في وصية سحنون لابنه محمد: (. . . وسلم على عدوك وداره فإن رأس الإيمان بالله مداراة الناس).
ويقول محمد بن أبي الفضل الهاشمي. قلت لأبي: لم تجلس إلى فلان وقد عرفت عداوته؟ قال: أخبي نارا وأقدح ودا.
فالنفوس المطبوعة على المداراة نفوس أدركت أن الناس خلقوا ليكونوا في الائتلاف كجسد واحد. وشأن الأعضاء السليمة أن تكون ملتئمة متماسكة على قدر ما فيها من حياة، ولا يقطع العضو المركب في الجسد إلا أن يصاب بعلة يعجز الطب عن علاجه إلا بالبتر.
فالمداراة يقصد بها جمع الناس على الرضا والتآلف في حدود ما ينبغي أن يكون. وهي لا تمنع
قضاء بالعدل ولا تحجب نصيحة بالرفق، وينبغي أن يعلم أن لذكاء الرجل وحكمته مدخلا عريضا في فقه المداراة وحسن استخدامها وطريقة الإفادة منها.
وقد يكون للتنوع في طبقات الناس تنوع في مداراتهم، فمداراة المنحرف عن الحق لسوء فهم أو خطأ في ظن، أكبر من مداراة من يحارب الحق والفضيلة إن صادفك واقتضى الحال مداراته.
ومداراة من يرجى رشده وصلاحه أكبر من مداراة من شب متماديا في الانحراف ولؤم الطبع حتى يوشك أن ينقطع أملك في إصلاحه واستقامة أمره.
ومن كل ذلك تعرف أن المداراة مسلك كريم يتقنه الحكماء والأذكياء ولا يتعدى حدوده الفضلاء.
إذا رغبت في كلمة عن المداهنة لتميزها عن المداراة فلتعلم أن المداهنة إظهار الرضا عن الغلط من الظلم والفسق. . ومن قول باطل أو عمل ممنوع.
والمداهنة مسلك ذميم ينطوي تحت جناحيه الكذب، وخلف الوعد.
أما الكذب فلأن المداهن يصف الرجل بغير ما يعرفه عنه، ومن دخل الكذب من باب، سهل عليه أن يأتيه من أبواب متفرقة.
وأما إخلاف الوعد فلأن المداهن يقصد إلى إرضاء صاحبه في الحال فلا يبالي أن يعده بشيء وهو عازم على أن لا يصدق في وعده.
المداهنون يجعلون ألسنتهم طوع بغية الوجيه، ويعجلون إلى قول ما يشتهي إن يقولوه. (1).
قال الماردي رحمه الله: «إن الإنسان وإن كان مأمورا بتآلف الأعداء، ومندوبا إلى مقاربتهم، فإنه لا ينبغي أن يكون لهم راكنا وبهم واثقا بل يكون منهم على حذر، ومن مكرهم على تحرز، فإن العداوة إذا استحكمت في الطباع صارت طبعا لا يستحيل، وجبلة لا تزول وإنما يُستكفى بالتأَلُف إظهارها، ويُستدفع به أضرارُها، كالنار يُستدفع بالماء إحراقُها،
(1) انظر: مفهوم الحكمة في الدعوة، للشيخ صالح بن عبد الله بن حميد (ص 36) بتصرفٍ.
ويُستفاد به إنضاجُها، وإن كانت محرقة بطبع لا يزُولُ وجوهر لا يتغيرُ» (1).
وقال الشاعر:
وَإِذَا عَجَزْت عَنْ الْعَدُوِّ فَدَارِهِ
…
وَامْزَحْ لَهُ إنَّ الْمِزَاحَ وِفَاقُ
فَالنَّارُ بِالْمَاءِ الَّذِي هُوَ ضِدُّهَا
…
تُعْطِي النِّضَاجَ وَطَبْعُهَا الْإِحْرَاقُ
قال الشيخ صالح بن حميد -عافاه الله-: فواجب العناية بمحاربة المداهنة حتى تنفى من الأرض وتكون الأوطان ودور التربية منابت نشء يميزون المداهنة من المداراة، فيخاطبون الناس في رقة وأدب وشجاعة، ويحترمون من لا يلوث أسماعهم بالملق الكاذب، ولا يكتمهم الحقائق متى اتسع المقام لحديث المصارحة (2).
(1) انظر: أدب الدنيا والدين، (ص 224).
(2)
انظر: مفهوم الحكمة في الدعوة، للشيخ صالح بن عبد الله بن حميد (ص 41).