الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
مناقشة دعاوى المناوئين حول منهج ابن تيمية
حرص المناوئون لابن تيمية رحمه الله على إضعاف ثقة الناس به وبكلامه، فأقاموا الشُبه على منهجه رحمه الله كما أقاموها على بعض تفصيلات المعتقد، ومع اختلاف كثير منهم معه في المعتقد كالأشاعرة والمتصوفة وغيرهم، إلا أنهم جميعاً لا يصمدون أمام الحقائق، فالمُدعي يطالَب بإثبات صدق دعواه، وذلك بإيراد كلام الخصم، ليكون حجة على صدق الدعوى، وهم إذا طولبوا بذلك ولّوا على أدبارهم هاربين.
وقد يجد الناظر المحقق أن عندهم بعض النصوص التي ينقلونها عن ابن تيمية رحمه الله ولكن هذه النصوص إما أن تكون مبتورة فلا ينقلونها كاملة فيقع اللبس، أو أن ينقلوها وهم لا يفهمونها على حقيقتها، بسبب الجهل بمذهب السلف، وبما تحمله المصطلحات والألفاظ من معان.
وأما دعوى أن ابن تيمية رحمه الله على خلاف مذهب السلف
…
، فيجاب عن أصحاب الدعوى بأن يقال لهم: ماذا تريدون بمصطلح السلف: إن كان المراد سلف الأشاعرة والمتصوفة وغيرهم من المبتدعة فإن ابن تيمية رحمه الله لم ينتسب إلى أحد منهم، ولم يقل بقولهم، بل كان يرد عليهم ويناقشهم.
وأما إذا كان المراد بالسلف: سلف الأمة وأئمتها، وأن ابن تيمية على خلاف ما كانوا عليه، فهذا من أعجب العجب، أن يكون الشارح لمعتقد السلف، والمستدل له، والمدافع عنه على خلافه، ثم يكون أصحاب الدعوى من أهل الأهواء هم حملة هذا المعتقد الحق، والمدافعون عنه.
وإذا كان المتهمون لابن تيمية بهذه التهمة، والقائلون بها ليسوا على معتقد السلف الصالح، فلم يفهموه، أو فهموه ولم يطبقوه فكيف تقبل منهم مثل هذه الدعاوى والتهم المزيفة.
وإذا أردنا تحقيق الأمر من جهة ابن تيمية رحمه الله فإنه سيتضح من فعله ومن قوله: فهو الذي أوذي وطرد؛ لأجل كلمة الحق وعقيدة السلف، وهو الذي نوظر وحوقق لأجلها، وهو الذي سُجن وأُبعد عن أهله ووطنه لأجلها، وهو الذي ذاق المتاعب والآلام لأجلها، وليست هذه علائم من ينتسب ويدعي الانتماء إلى عقيدة السلف دون وعي وقناعة، بل هذه دلائل إيمانه بهذا المعتقد، وتصديقه الجازم به.
وأما ما يؤيد ارتباط ابن تيمية رحمه الله بمذهب السلف، وقناعته به، وتطبيقه له من أقواله في مؤلفاته فهو كثير جداً، فمن منهجه رحمه الله ربط الناس بمذهب السلف، وتقرير هذا المذهب كلما سنحت فرصة، سواء أكان عن طريق الإجمال، أم عن طريق التفصيل.
وقد أعلن وأخبر بمصادره في الاعتقاد من كتب السلف، وكرّرها مراراً، فهي عن أئمة معروفين من السلف كالإمام أحمد (ت - 241هـ) ، والخلال (ت - 311هـ) ، وابن خزيمة (ت - 311هـ) ، والآجري (ت - 360هـ) ، وابن بطة (ت - 387هـ) ، وابن مندة (ت - 395هـ) وابن أبي زمنين (ت - 399هـ) ، وغيرهم من أئمة السلف رحمهم الله أجمعين - (1) ، وكتب هؤلاء وغيرهم ثابتة لهم، وذلك بصحة نقلها إلينا.
فقد ذكر مترجموهم كتبهم التي ألفوها في الاعتقاد في عداد كتبهم، وكتبهم قد طبع أكثرها محققاً، وقد بين محققوها صحة نسبة هذه الكتب إلى مؤلفيها، إضافة إلى توافق ما في هذه الكتب مع اعتقاد السلف الذي هو اعتقاد
(1) انظر على سبيل المثال: الحموية ص28 - 30، منهاج السنة النبوية 2/363 - 367، شرح حديث النزول ص228 - 230.
مؤلفيها، فلا يبقين مكان لتشكيك من شكك في صحة نسبة بعض كتب السلف إلى مؤلفيها، إذ لا يملك المشكك دليلاً يعتمد عليه في تقوية تشكيكه، إضافة إلى أن المشكك من خارج الدائرة فهو على غير معتقد هؤلاء الأئمة، وتشكيكه في صحة نسبة هذه الكتب إنما هو لهدف وهوى في نفسه وهو التشكيك في صحة المعتقد كله والله المستعان.
ومع هذا فيدعو ابن تيمية رحمه الله إلى تقليب كتبه، والبحث عن أي قول يخالف فيه مذهب السلف الصالح، وقد أمهل مخالفه ليبحث في كتبه ثلاث سنوات، ومع هذا فلم يستطع المخالفون له - ومنهم بعض العلماء والقضاة - أن يجدوا نصاً يستندون إليه، يقول رحمه الله:(وقلت مرات: قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (1) ، يخالف ما ذكرته فأنا راجع عن ذلك
…
) (2) ، وهو رحمه الله يقر بما أقر به السلف من وجوب اتباع الكتاب والسنة، قال رحمه الله:(من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار)(3) .
وقال - أيضاً -: (أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني، ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف الأمة، فما كان في القرآن وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة)(4) .
وقال - أيضاً -: (وأنتم تعلمون - أصلحكم الله - أن السنة التي يجب
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/3 كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واللفظ له، ومسلم في صحيحه 4/1962 كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة، وورد بألفاظ مختلفة.
(2)
انظر: مناظرة في العقيدة الواسطية (ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية 3/169) .
(3)
الواسطية (ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية 3/157) .
(4)
مناظرة في العقيدة الواسطية (ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية 3/161) .
اتباعها، ويحمد أهلها، ويذم من خالفها: هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: في أمور الاعتقادات، وأمور العبادات، وسائر أمور الديانات، وذلك إنما يعرف بمعرفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه في أقواله وأفعاله، وما تركه من قول وعمل، ثم ما كان عليه السابقون والتابعون لهم بإحسان) (1) .
وجعل رحمه الله منهج أهل السنة والجماعة أنهم: (يجعلون كلام الله وكلام رسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه، وإليه يرد ما تنازع الناس فيه، فما وافقه كان حقاً، وما خالفه كان باطلاً)(2) .
إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان يدعو إلى مذهب السلف الصالح، فلم يكن يدعو إلى مذهب غيره، ولذا أنكر رحمه الله على من زعم أنه يدعو إلى المذهب الحنبلي بقوله:(ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم، ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا، والإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاءه به النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجيء به الرسول لم نقبله، وهذه عقيدة محمد صلى الله عليه وسلم (3) .
وبين - أيضاً - أن الاعتقاد الحق ليس مختصاً بالإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله (4) .
وأن الاعتقاد الحق والسنة إنما أضيفت له، وجعله إمام أهل السنة؛ لكونه أظهر السنة وبينها في وقت فتنة القول بخلق القرآن، لا أنه أنشأها وابتدأها، وإلا فالسنة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فأصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وكل ما قاله الإمام أحمد (ت - 241هـ) فهو قول الأئمة قبله، كمالك (5) ،
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 3/378، وانظر: 12/237.
(2)
درء تعارض العقل والنقل 1/277.
(3)
مناظرة في العقيدة الواسطية (ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية 3/169) .
(4)
انظر: مناظرة في العقيدة الواسطية (ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية 3/189) .
(5)
مالك بن أنس بن مالك الأصبحي المدني، أبو عبد الله، شيخ الإسلام، إمام دار الهجرة، سمع من الزهري ونافع وغيرهما، صاحب الموطأ، وإليه ينسب المذهب المالكي، ت سنة 179هـ.
انظر في ترجمته: وفيات الأعيان لابن خلكان 3/284، سير أعلام النبلاء للذهبي 8/48.
والثوري (1) ، والأوزاعي (2) ، وحماد بن زيد (3) ، وحماد بن سلمة (4) ،
وهو قول التابعين وقول الصحابة قبل هؤلاء الذي أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم (5) ، وذكر ابن تيمية رحمه الله أن جعل الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله إماماً في السنة، لا يعني جواز تقليده في أصول الدين، فإن التقليد في أصول الدين مذموم بإطلاق، وأنه هو نهى عن تقليده وتقليد غيره من العلماء.
وأن أصحابه كإبراهيم الحربي (6) ، وبقي بن مخلد (7) ، وغيرهما لا يقبلون
(1) الثوري: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله، أمير المؤمنين في الحديث، أحد الأئمة المجتهدين، إمام أهل العراق في زمانه، وصف بالورع والزهد والعلم، ت سنة 161هـ.
انظر في ترجمته: تهذيب التهذيب لابن حجر 4/111، شذرات الذهب لابن العماد 1/250.
(2)
الأوزاعي: عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الدمشقي الأوزاعي، الفقيه، صاحب سنة واتباع، وزهد وورع، وهو من أفضل أهل زمانه، ت سنة 157هـ.
انظر في ترجمته: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1/184، تذكرة الحفاظ للذهبي 1/178.
(3)
حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي، مولاهم البصري، أبو إسماعيل، شيخ العراق في عصره، من الحفاظ، كان ضريراً طرأ عليه العمى، وخرج حديثه الأئمة الستة، ت سنة 179هـ.
انظر في ترجمته: حلية الأولياء لأبي نعيم 6/257، تهذيب التهذيب لابن حجر 3/9.
(4)
حماد بن سلمة بن دينار البصري الربعي بالولاء، أبو سلمة، مفتي البصرة، محدث نحوي، حافظ ثقة، ساء حفظه لما كبر، ت سنة 167هـ.
انظر في ترجمته: حلية الأولياء لأبي نعيم 6/249، تهذيب التهذيب لابن حجر 3/11.
(5)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 6/215، بيان تلبيس الجهمية له 2/91.
(6)
إبراهيم الحربي: إبراهيم بن إسحاق الحربي، الإمام الزاهد، كان عالماً بالفقه، حافظاً للحديث، طلب العلم على الإمام أحمد، وصنف كتباً كثيرة، ت سنة 285هـ.
انظر في ترجمته: تاريخ بغداد للخطيب 6/27، طبقات الشافعية للسبكي 2/256، شذرات الذهب لابن العماد 2/190.
(7)
بقي بن مخلد بن يزيد الأندلسي القرطبي، أبو عبد الرحمن، حافظ مفسر محقق، إمام مجتهد، ت سنة 276هـ.
انظر في ترجمته: الصلة لابن بشكوال 1/118، طبقات الحنابلة لأبي يعلى 1/120.
كلام الإمام أحمد (ت - 241هـ) إلا بحجة يبينها لهم (1) .
وبهذا يتضح أن ابن تيمية رحمه الله موافق لما عليه السلف من الاعتقاد الحق، وأنه وإياهم يأخذون من مصادر واحدة هي الكتاب والسنة، وأنه رحمه الله لم يدع إلى مذهب أو طريق غير الطريق والصراط السوي الذي سار عليه العلماء والأئمة الذين يقتدى بفعالهم.
وأما دعوى أن ابن تيمية رحمه الله يأخذ بالتأويل الفاسد في تعامله مع النصوص الشرعية: فهذه دعوى باطلة، ذلك أنه رحمه الله كان من أكثر الناس بياناً في كتبه لمسألة التأويل، ولبيان خطرها، ويذكر رحمه الله أنه تتبع كلام السلف - رضوان الله عليهم - هل لهم في تأويل النصوص، وخاصة نصوص الصفات كلام ومقال؟، فلم يجد لهم شيئاً من ذلك، وهو الذي أخبر رحمه الله أنه متبع لهدي السلف الصالح، مقتف أثرهم، يقول رحمه الله بعد أن ذكر أن بعض التأويلات مكذوبة عليه:
(وأما الذي أقوله الآن وأكتبه، وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس: أن جميع ما في القرآن من آيات الصفات، فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف
…
) (2) .
وقد بين رحمه الله أن التأويل عند السلف له معنيان (3) :
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 6/216.
(2)
مجموع فتاوى ابن تيمية 6/394.
(3)
التأويل عند أهل اللغة يعود إلى هذين المعنيين - أيضاً -، وأما المعنى الثالث الذي قاله المتكلمون، - وهو ما سيأتي بيانه - فلم يرد في معاجم اللغة المعتمدة المتقدمة، ولم يرد - أيضاً - عن السلف.
انظر في كتب اللغة: مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/86 - 87، الصحاح للجوهري 4/1627 - 1628، مجمل اللغة لابن فارس 1/107، وانظر: الإكليل في المتشابه والتأويل لابن تيمية ص28 - 31، التدمرية له ص91 - 92.
المعنى الأول: بمعنى التفسير، وبيان المعنى، ومن ذلك قول الله عز وجل:{نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36] .
ومنه قول جابر بن عبد الله (1) رضي الله عنه: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به)(2) .
ومعنى التأويل هنا التفسير.
المعنى الثاني: بمعنى الحقيقة وهي: ما يؤول إليه الكلام ويرجع إليه، فإن كان الكلام خبراً كان تأويله بهذا المعنى: نفس الشيء المخبر به، وإن كان الكلام طلباً كان تأويله بهذا المعنى هو: فعل هذا الشيء المطلوب.
ومن تأويل الخبر قوله عز وجل {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53] ، فتأويل الخبر هذا هو حدوث الشيء المخبر به.
وقول الله عز وجل: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف: 100] ، فالسجود هو الذي آلت إليه رؤيا يوسف عليه السلام.
وأما الاستدلال على الكلام إن كان طلباً، فمنه قول عائشة (3) رضي الله عنها:
(كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا
(1) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي، أبو عبد الله، أحد المكثرين من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، له ولأبيه صحبة، كان ممن شهد العقبة، شهد المشاهد غير بدر وأحد منعه أبوه عن حضورها، ت سنة 74هـ وقيل غير ذلك.
انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 1/221، الإصابة لابن حجر 1/213.
(2)
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 2/887، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
عائشة بنت أبي بكر الصديق، أم المؤمنين تزوجت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أكملت ست سنوات، كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة، ت سنة 58هـ.
انظر في ترجمتها: الاستيعاب لابن عبد البر 4/356، الإصابة لابن حجر 4/361.
وبحمدك، اللهم اغفر لي» يتأول القرآن) (1) أي يعمل به.
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله الفرق بين نوعي التأويل عند السلف: بأن المعنى الأول يكون التأويل فيه بمعنى العلم والكلام كالتفسير والشرح والإيضاح.
ويكون وجود التأويل - أيضاً - في القلب، وهو وجود ذهني لفظي رسمي في اللسان والكتاب.
وأما المعنى الثاني: فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء كانت ماضية أو مستقبلة، ويكون التأويل من باب الوجود العيني الخارجي، فتأويل الكلام هو الحقائق الثابتة في الخارج (2) .
وهذان المعنيان لا يذم ابن تيمية رحمه الله إذا أقر بهما، كما يقر بهما السلف الصالح رحمهم الله أجمعين -.
وقد حدث عند المتكلمين تعريف ثالث للتأويل لم يكن معروفاً عند السلف، ولا في معاجم اللغة المتقدمة، وقد نقل هذا المعنى عن ابن الأثير (ت - 630هـ) ، وابن الكمال (3) ، وغيرهما من المتأخرين.
وهذا المعنى للتأويل عند المتكلمين له تعريفات عدة أشهرها تعريفه بأنه:
صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به (4) .
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 2/299 كتاب الأذان، باب التسبيح والدعاء في السجود، ومسلم في صحيحه 1/350 كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود.
(2)
انظر: الإكليل في المتشابه والتأويل ص26.
(3)
ابن الكمال: محمد بن أحمد بن داود بن موسى اللخمي، ابن الكمال، أبو عبد الله، فقيه مقريء، له حظ في اللغة والأدب، تجول في بلاد الأندلس، وقرأ بمرسية، ت سنة 712هـ.
انظر في ترجمته: الدرر الكامنة لابن حجر 3/405، معجم المؤلفين لكحالة 8/259.
(4)
انظر: أساس التقديس للرازي ص235.
وقد عرّفه الآمدي (1) بقوله: (أما التأويل - من حيث هو تأويل مع قطع النظر عن الصحة والبطلان - هو: حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه، مع احتماله له)(2) .
ويذكر ابن تيمية رحمه الله أن هذا المعنى للتأويل لم يكن معروفاً عند السلف فيقول: (وأن التأويل بمعنى صرف اللفظ عن مفهومه إلى غير مفهومه فهذا لم يكن هو المراد بلفظ التأويل في كلام السلف، اللهم إلا أنه إذا علم أن المتكلم أراد المعنى الذي يقال إنه خلاف الظاهر جعلوه من التأويل الذي هو التفسير؛ لكونه تفسيراً للكلام، وبياناً لمراد المتكلم به، أو جعلوه من النوع الآخر الذي هو الحقيقة الثابتة في نفس الأمر التي استأثر الله بعلمها؛ لكونه مندرجاً في ذلك، لا لكونه مخالفاً للظاهر)(3) .
ثم بين رحمه الله أن السلف كانوا ينكرون التأويلات التي تخرج الكلام عن مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهي من تحريف الكلم عن مواضعه (4)، ولذا قال رحمه الله في موضع آخر:(إنا لا نذم كل ما يسمى تأويلاً مما فيه كفاية، وإنما نذم تحريف الكلم عن مواضعه، ومخالفة الكتاب والسنة، والقول في القرآن بالرأي)(5) .
وقال رحمه الله: (الخلاف في لفظ (التأويل) على المعنى المرجوح، وأنه حمل اللفظ على الاحتمال المرجوح دون الراجح لدليل يقترن به، فهذا اصطلاح متأخر، وهو التأويل الذي أنكره السلف والأئمة) (6) .
وذكر رحمه الله أن المتكلمين ليس لهم ضابط دقيق يُرجع إليه فيما يصلح
(1) الآمدي: علي بن محمد بن سالم الثعلبي، أبو الحسن الآمدي، أصولي متكلم، كان حنبلياً، ثم انتقل إلى المذهب الشافعي، ت سنة 631هـ.
انظر في ترجمته: وفيات الأعيان لابن خلكان 2/455، طبقات الشافعية للسبكي 8/306.
(2)
الإحكام للآمدي 1/53.
(3)
الصفدية 1/291.
(4)
انظر: الصفدية 1/291.
(5)
مجموع فتاوى ابن تيمية 6/20 - 21.
(6)
مجموع فتاوى ابن تيمية 16/408.
للتأويل وما لا يصلح له، ولذا وقعوا في الاضطراب والاختلاف، يقول في ذلك:(فإنك إذا تأملت كلامهم لم تجد لهم قانوناً فيما يتأول وما لا يتأول، بل لازم قولهم إمكان تأويل الجميع، فلا يقرون إلا بما يُعلم ثبوته بدليل منفصل عن السمع، وهم لا يجوّزون مثل ذلك، ولا يمكنهم أن يقولوا مثل ذلك)(1) .
وفي الجملة فإن التأويل المقبول هو ما دل على مراد المتكلم، وأما تأويلات المتكلمين التي يحرفون بها نصوص الصفات وغيرها، فلا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد ذلك، ولم تأت قرينة تدل على ما يريدون، بل مما يعلم بالاضطرار في عامة النصوص الشرعية أن مراد أهل التأويل في تأويلهم يخالف مراد الله في كلامه، ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته.
ومما يعلم - أيضاً - من رد ابن تيمية رحمه الله على المتكلمين في تأويلاتهم الباطلة في عامة كتبه ورسائله في المعتقد أنه لا يقر بهذا التأويل الباطل، إذ بيّن رحمه الله دوافع تأويلاتهم الباطلة، ونتائجه، وفي المقابل بيّن معنى التأويل الصحيح، وأقسامه، وشروطه في كلام له طويل مبثوث في كتبه، فلا يتهم رحمه الله بأنه من أهل التأويل الباطل المذموم، وقد فصّل كل هذا التفصيل (2) .
وأما دعوى أن ابن تيمية رحمه الله متبع للهوى في أموره: في نظرته للأشخاص، وفي تعامله مع النصوص، فالجواب عن هذه الدعوى أن ننظر في موقف ابن تيمية رحمه الله من الهوى.
فالهوى أصله: محبة الإنسان الشيء، وغلبته على قلبه، كما قال الله عز وجل
(1) درء تعارض العقل والنقل 5/344.
(2)
فصل رحمه الله في موضوع التأويل؛ لأنه يرى خطره العظيم، وخاصة في كتابيه: درء تعارض العقل والنقل، وبيان تلبيس الجهمية، وانظر: الإمام ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل لمحمد الجليند، موقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود 3/1144 - 1169، موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة لسليمان الغصن ص479 - 826.
{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ} [النازعات: 40]، واستهوته الشياطين: ذهبت بهواه وعقله، كما قال تعالى:{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ} [الأنعام: 71] ، أي زينت له الشياطين هواه (1) .
وأما تعريف الهوى في الاصطلاح الشرعي فهو ميل النفس إلى ما ترغبه، إذا خرج عن حد الشرع والاعتدال، كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله:
(اتباع الإنسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل الذي يحبه، ورد القول والفعل الذي يبغضه بلا هدى من الله)(2)، وقال - أيضاً رحمه الله:
(من خرج عن موجب الكتاب والسنة من المنسوبين إلى العلماء والعباد يُجعل من أهل الأهواء، كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء، وذلك أن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه)(3)، ثم ذكر قول الله عز وجل {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119] ، وقال:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] .
والهوى نوعان: هوى في الشبهة، وهوى في الشهوة، وهوى الشبهة أخطر من هوى الشهوة، ولذا قال ابن تيمية رحمه الله:(واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات)(4) .
والهوى - بحد ذاته - ليس محرماً، ولا مذموماً، وإنما الذم في اتباعه، فأصل الهوى محبة النفس، وبغضها، ولا يلام عليه صاحبه؛ لأنه قد لا يملكه صاحبه، وإنما يلام على اتباعه، كما قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] .
(1) انظر: لسان العرب لابن منظور 15/372 - 373 مادة (هوا) .
(2)
مجموع فتاوى ابن تيمية 4/189.
(3)
الاستقامة 2/224 - 225، وهو في مجموع فتاوى ابن تيمية 28/133، وهما فصل واحد بعنوان (في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وانظر: الاعتصام للشاطبي 2/176، مقدمات في الأهواء والافتراق والبدع للعقل ص21 - 25.
(4)
مجموع فتاوى ابن تيمية 28/132، الاستقامة 2/223.
وقال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]، وقال عليه الصلاة والسلام:«ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، وثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضا» (1) .
ومن اتبع غير أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو متبع لهواه بغير هدى من الله (2) .
قال الحسن البصري (3) رحمه الله: (اتهموا أهواءكم ورأيكم على دين الله، وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم)(4) ، وقال مالك بن دينار (5)
رحمه الله: (بئس العبد عبد همه هواه وبطنه)(6)، وقال ابن تيمية رحمه الله:(المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه)(7) ، وقد ذكر الشعبي (8) رحمه الله سبب تسمية
(1) أخرج الحديث أبو نعيم في الحلية 2/343، والمنذري في الترغيب والترهيب 1/86، باب الترهيب من ترك السنة، وصححه الألباني انظر: صحيح الجامع الصغير 1/583، وسلسلة الأحاديث الصحيحة 4/412 - 416.
(2)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 28/132، الاستقامة 2/221 - 223.
(3)
الحسن البصري: الحسن بن يسار البصري، أبو سعيد، تابعي، إمام أهل البصرة، أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان، أشبه الناس بكلام الأنبياء، ت سنة 110هـ.
انظر في ترجمته: حلية الأولياء لأبي نعيم 2/131، وفيات الأعيان لابن خلكان 1/354.
(4)
انظر: الإبانة لابن بطة 1/389.
(5)
مالك بن دينار البصري بن لؤي القرشي، كان عالماً زاهداً، كثير الورع، من ثقات التابعين، ومن أعيان كتبة المصاحف، ت سنة 127هـ.
انظر في ترجمته: وفيات الأعيان لابن خلكان 3/287، سير أعلام النبلاء للذهبي 5/363.
(6)
انظر: ذم الهوى لابن الجوزي ص25.
(7)
انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/402.
(8)
الشعبي: عامر بن شراحيل بن ذي كبار الهمذاني الشعبي، أبو عمرو، الإمام، كان فقيهاً محدثاً، حدث عن عدد من الصحابة، يروي له الجماعة، ت سنة 104هـ.
انظر في ترجمته: أخبار القضاة لوكيع 2/413، وفيات الأعيان لابن خلكان 2/227. الشعبي: عامر بن شراحيل بن ذي كبار الهمذاني الشعبي، أبو عمرو، الإمام، كان فقيهاً محدثاً، حدث عن عدد من الصحابة، يروي له الجماعة، ت سنة 104هـ.
انظر في ترجمته: أخبار القضاة لوكيع 2/413، وفيات الأعيان لابن خلكان 2/227.
الهوى فقال: (إنما سمي الهوى، لأنه يهوي بصاحبه)(1) .
وقد بين ابن تيمية رحمه الله خطر الهوى، وضرره على المسلم بقوله:
(وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه..)(2) .
ومن خطره أنه من الأسباب الجالبة لأنواع من الفساد على الأمة، فبعد أن ذكر شيخ الإسلام رحمه الله الجهل والظلم قال:(الثالث: اتباع الظن وما تهوى الأنفس حتى يصير كثير منهم مديناً باتباع الأهواء في هذه الأمور المشروعة)(3) .
وبيّن أن اتباع الهوى في النصوص: مبدأ البدع، فقال رحمه الله:(فكان مبدأ البدع هو: الطعن في السنة بالظن والهوى، كما طعن إبليس في أمر ربه برأيه وهواه)(4) .
ومن خطره - أيضاً - ما نبه إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أنه مجلبة للهم والحزن، وضيق الصدر، فقال:(من اتبع هواه في مثل طلب الرئاسة والعلو وتعلقه بالصور الجميلة، أو جمعه للمال يجد في أثناء ذلك من الهموم والغموم والأحزان والآلام وضيق الصدر ما لا يعبر عنه، وربما لا يطاوعه قلبه على ترك الهوى، ولا يحصل له ما يسره، بل هو في خوف وحزن دائماً، إن كان طالباً لما يهواه فهو قبل إدراكه حزين متألم حيث لم يحصل، فإذا أدركه كان خائفاً من زواله وفراقه)(5) .
(1) رواه الدارمي في سننه 1/109، باب اجتناب أهل الأهواء والبدع والخصوم.
(2)
منهاج السنة النبوية 5/256.
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية 22/357.
(4)
مجموع فتاوى ابن تيمية 3/350.
(5)
مجموع فتاوى ابن تيمية 10/651.
ومن بيان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لخطر الهوى أن ذكر أن المحبة لهوى النفس أو لأمر دنيوي، ليست محبة لله، فقال:(وأما من أحب شخصاً لهواه، مثل أن يحبه لدنيا يصيبها منه، أو لحاجة يقوم له بها، أو لمال يتآكله به، أو بعصبية فيه، ونحو ذلك من الأشياء فهذه ليست محبة لله، بل هذه محبة لهوى النفس، وهذه المحبة هي التي توقع أصحابها في الكفر والفسوق والعصيان)(1) .
وينبه ابن تيمية رحمه الله إلى أن خشية الله عز وجل هي أهم علاج لمريض الهوى، فصاحب الهوى يحتاج معه إلى الخوف الذي ينهى النفس عن الهوى، وإلى الخشية المانعة من اتباع الهوى إذ هي سبب لصلاح حال الإنسان.
وكذلك يعالَج الهوى بالعلم، وبالذكر، وهذه الثلاثة مستلزمة لبعض، فإذا قوي العلم والتذكر دفع الهوى، وإذا اندفع الهوى بالخشية أبصر القلب وعلم (2) .
وأما اتهام ابن تيمية رحمه الله بأنه يأخذ بخبر الواحد في أمور الاعتقاد، فهذا في حقيقة الأمر تزكية له، واعتراف له بالفضل، إذ قال بما يقوله السلف - رضوان الله عليهم - من أن خبر الواحد يفيد العلم، بل لا يعلم مخالف من السلف قال بغير هذا القول، وأما من جاء بعد السلف من العلماء؛ فأئمتهم من الفقهاء، وأكثر المتكلمين على هذا وهذا أن خبر الواحد يفيد العلم.
ولما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله خبر الواحد العدل، الذي تلقته الأمة بالقبول، قال (هذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الأولين والآخرين، أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع، وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة)(3) .
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 11/520.
(2)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 15/243 - 244، وانظر: أدب الدنيا والدين للماوردي ص13 - 19.
(3)
انظر: كلام شيخ الإسلام في مختصر الصواعق المرسلة للموصلي 2/373.
فخبر الواحد: إما أن لا يقوم دليل على صدقه، فهذا لا يفيد العلم، كما قال ابن تيمية رحمه الله:(ولا ريب أن مجرد خبر الواحد الذي لا دليل على صدقه لا يفيد العلم)(1) .
وإما أن تقوم به أدلة، أو تحفه قرائن تدل على صدقه، فهذا الخبر يفيد العلم اليقيني، يقول شيخ الإسلام رحمه الله:(ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له أو عملاً به أنه يوجب العلم، وهذا الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه)(2)، ثم ذكر جمهرة كبيرة من العلماء القائلين بهذا القول وقال رحمه الله:(الخبر الذي تلقاه الأمة بالقبول تصديقاً له، أو عملاً بموجبه يفيد العلم عند جماهير الخلف والسلف)(3) .
ويمثل خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول: أحاديث الصحيحين، يقول في ذلك ابن تيمية رحمه الله:(جمهور متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة الحديث تلقوها بالقبول، وأجمعوا عليها، وهم يعلمون علماً قطعياً أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها)(4) .
وإذا أفاد خبر الواحد العلم فإنه يوجب العمل، وهذا هو المقرر عند الأئمة، ولذا قال ابن تيمية رحمه الله: (ومن الحديث الصحيح ما تلقاه المسلمون بالقبول فعملوا به
…
فهذا يفيد العلم، ويجزم بأنه صدق؛ لأن الأمة تلقته بالقبول تصديقاً وعملاً بموجبه) (5) .
وعن الأخذ بخبر الواحد في الاعتقاد، قال رحمه الله: (مذهب أصحابنا أن
(1) الرد على المنطقيين ص38.
(2)
مقدمة في التفسير (ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية 13/351) .
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية 18/48، وانظر: المسودة لآل تيمية ص242.
(4)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص174.
(5)
مجموع فتاوى ابن تيمية 18/16، رفع الملام عن الأئمة الأعلام ص54 - 55.
أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات) (1) .
وأما القول بأن شيخ الإسلام رحمه الله يكفّر المسلمين، وخاصة المخالفين: فإن هذه دعوى لا بينة لها، والبينة قائمة على خلافها، فنصوص ابن تيمية رحمه الله متوافرة على النهي عن تكفير المسلمين، والتحذير منه ما لم تتوافر الشروط، وتنتفي الموانع؛ لأن التكفير حكم شرعي يترتب على الحكم على أحد به أحكام شرعية أخرى. لكن ابن تيمية رحمه الله يذكر أن أهل الأهواء يكذبون عليه، ويقوّلونه ما لم يقله، أو يعتقده، فأهل الأهواء أهون شيء عليهم الكذب المختلق وهذا منه (2) ، ونبّه رحمه الله إلى أن الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم (3) .
ويعرّف ابن تيمية رحمه الله الكفر بقوله: (الكفر: عدم الإيمان، باتفاق المسلمين، سواء اعتقد نقيضه وتكلم به، أو لم يعتقد شيئاً ولم يتكلم)(4) .
ويفصل - في موضع آخر - في تعريفه بأن (الكفر عدم الإيمان بالله ورسله، سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب بل شك وريب، أو إعراض عن هذا كله حسداً أو كبراً، أو اتباعاً لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة، وإن كان الكافر المكذب أعظم كفراً، وكذلك الجاحد المكذب حسداً مع استيقان صدق الرسل)(5) .
ويحذر ابن تيمية رحمه الله من تكفير أهل القبلة من المسلمين الذين يرتكبون الذنوب والخطايا، مبيناً أن هذه الذنوب لا تخرجهم من دائرة المسلمين، قال رحمه الله (ومذهب أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أهل القبلة بمجرد
(1) المسودة لآل تيمية ص248.
(2)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 27/479.
(3)
انظر: منهاج السنة النبوية 4/337.
(4)
مجموع فتاوى ابن تيمية 20/86.
(5)
الكيلانية (ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية 12/335)، وانظر: درء تعارض العقل والنقل له 1/42، الرد على البكري له ص258.
الذنوب، ولا بمجرد التأويل، بل الشخص الواحد إذا كانت له حسنات وسيئات فأمره إلى الله) (1)، وحين حكى رحمه الله تكفير بعض الفرق الضالة لمخالفيهم قال:(والذي نختاره أن لا نكفر أحداً من أهل القبلة)(2) .
ويفرق رحمه الله بين تكفير المطلق وتكفير المعين كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويذكر أن الأئمة - كالإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله كانوا يكفرون بعض أهل الأهواء كالجهمية، لكنهم لم يكفروا أعيانهم، وكذلك الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله لما قال لحفص الفرد (3) :
كفرت بالله العظيم؛ لاعتقاده خلق القرآن، لم يحكم بردته، بل بين له أن هذا القول كفر، ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله، وهكذا بقية الأئمة (4) .
ويذكر رحمه الله أنه لا يصح إطلاق تكفير المعين، والتساهل فيه، بل لا بد من توافر أسباب التكفير من عمل أو اعتقاد أو قول المكفر، وانتفاء موانع التكفير كالجهل، أو التأويل، أو وجود الشبهة، وعدم قيام الحجة، يقول رحمه الله:(إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع)(5)، ويقول رحمه الله:(لا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة)(6)، ثم ذكر قول الباري عز وجل:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ،
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 27/478، وانظر: الفرقان بين الحق والباطل ص19.
(2)
درء تعارض العقل والنقل 1/95.
(3)
حفص الفرد البصري، أبو عمرو، مبتدع ضال، من أئمة الجبرية، صاحب كلام، له مناظرات مع الإمام الشافعي، كفره الشافعي فيها.
انظر في ترجمته: الفهرست لابن النديم ص255، ميزان الاعتدال للذهبي 1/564، لسان الميزان لابن حجر 2/330.
(4)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 23/348 - 349، وانظر: ذم الكلام للهروي ص254.
(5)
الكيلانية (ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية 12/487 - 488) .
(6)
مجموع فتاوى ابن تيمية 11/406.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وقال رحمه الله في توضيح هذه القاعدة:(وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة)(1) .
وينبه ابن تيمية رحمه الله إلى أن الكفر لا يطلق على كل من عمل الكفر، بل يقال: من عمل هذا العمل فهو كافر، أو هذا العمل كفر، أو يقال لمن عمله: من عمل عملك فهو كافر، وهكذا من الألفاظ المجملة (2) .
ومعنى قيام الحجة عند ابن تيمية رحمه الله يكون بشيئين، كما قال: (والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين، أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلاً
…
) (3)، وأطال في ذكر الأمثلة لهذه القاعدة ثم قال:(وهذا باب واسع جداً فتدبره)(4) .
وبيّن رحمه الله أن أهل السنة لا يكفرون المخالف لهم، وإن كان مخالفهم يكفرهم - أحياناً - يقول رحمه الله: (وأئمة السنة والجماعة، وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها، ولو ظلمهم، كما قال تعالى:{كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] . ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير
(1) الكيلانية (ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية 12/466) .
(2)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 35/167.
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية 20/59.
(4)
مجموع فتاوى ابن تيمية 20/61، وانظر: 3/231.
والهدى والعلم، لا يقصدون لهم الشر
…
، فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي) (1) .
وقد كان منهج ابن تيمية رحمه الله واضحاً في مسألة تكفير المعين، فلا يحكم على الأعيان إلا بعد قيام الحجة، وانتفاء الموانع والعوارض كالجهل، أو التأويل، أو الشبهة، وقد ذكر ذلك رحمه الله بقوله:(ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية (2)، والنفاة الذين نفوا أن الله - تعالى - فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال
…
) (3) .
وقد قال رحمه الله هذا القول تجاه الجهمية الذين كفرهم جمهور أئمة أهل السنة والجماعة، والحال فيمن دونهم أولى (4) .
وقال رحمه الله عنهم أيضاً: (وإذا عرف هذا، فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم - بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار - لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر)(5) .
وبهذا يتضح أن ابن تيمية رحمه الله كغيره من أئمة السلف، وأهل السنة
(1) الرد على البكري ص256 - 258.
(2)
الحلولية: هم الذين يزعمون أن الله عز وجل يحل بذاته في أجسام المخلوقات، وقد يكون الحلول جزئياً أو كلياً، وهو مذهب قديم موجود في معظم الديانات السابقة، وقال به بعض الشيعة والصوفية ممن ينتسب إلى الإسلام.
انظر: التنبيه والرد للملطي ص34، مقالات الإسلاميين للأشعري 1/81 - 82، الغلو والفرق الغالية للسامرائي ص126، معجم الفرق الإسلامية لعارف تامر ص59.
(3)
الرد على البكري ص259.
(4)
انظر الكيلانية (ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية 12/485) ، الكافية الشاقية لابن القيم مع شرحها للهراس 1/126 - 127.
(5)
الكيلانية (ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية 12/500) .
والجماعة، إذ منهجه في التكفير وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين: فلا هو يحكم بكفر أحد بالظن، وبغير علم، أو على أية معصية، أو خطأ يرتكبه صاحبه، ولا هو - أيضاً - يلغي جانب البراءة من الكافرين، ومجاهدتهم، واتخاذهم ظهرياً، فلا يكفر الكفار، أو يشك في كفرهم، أو يصحح مذهبهم، كلا فهو رحمه الله يقول بكفر الكافر الأصلي، ومن قامت عليه الحجة، ولم يكن هناك تأويل، أو جهل، أو شبهة (1) .
(1) مسألة التكفير مسألة حساسة ومتشعبة، وأنصح لمن أراد الاستزادة في هذا الموضوع بالكتب التالية:
نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز العبد اللطيف (في الأصل رسالة دكتوراه) ، نواقض الإيمان الاعتقادية للوهيبي (في الأصل رسالة دكتوراه) ، ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة للقرني (في الأصل رسالة ماجستير) ، الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لمعاش (في الأصل رسالة ماجستير) ، أهل الفترة ومن في حكمهم لشكري (في الأصل رسالة ماجستير) ، وانظر - أيضاً - براءة أهل السنة من تكفير عصاة الأمة للجنيدي، العذر بالجهل عقيدة السلف لهزاع، قواعد وضوابط التكفير لخالد عبد الحميد، وغيرها كثير من الكتب والرسائل.