المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأولعقيدة أهل السنة في زيارة القبور وشد الرحل إليها - دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية - عرض ونقد

[عبد الله بن صالح الغصن]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أسباب اختيار البحث:

- ‌خطة البحث:

- ‌ منهج في كتابة البحث

- ‌[شكر وتقدير]

- ‌[التمهيد]

- ‌ترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

- ‌1 - اسمه ونسبه:

- ‌2 - مولده ونشأته:

- ‌3 - عصره:

- ‌أولاً: الناحية السياسية:

- ‌ثانياً: الناحية الاجتماعية:

- ‌ثالثاً: الناحية العلمية:

- ‌4 - محن الشيخ:

- ‌5 - وفاته رحمه الله:

- ‌6 - مؤلفاته:

- ‌7 - بعض ثناء الناس عليه:

- ‌منهج شيخ الإسلام في تقرير العقيدة والاستدلال عليها:

- ‌الفصل الأول: المناوئون لشيخ الإسلام، ودعاواهم حول منهجه

- ‌المبحث الأول: المناوئون لشيخ الإسلام

- ‌المطلب الأول: أقسام المناوئين

- ‌المطلب الثانيالمنهج العام للمناوئين

- ‌المطلب الثالثاعتراف خصومه بقدره

- ‌المبحث الثانيدعاوى المناوئين حول منهج شيخ الإسلام ابن تيمية ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعاوى المناوئين حول منهج شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌المطلب الثانيمناقشة دعاوى المناوئين حول منهج ابن تيمية

- ‌الفصل الثانيدعوى التجسيم والتشبيه

- ‌المبحث الأول:قول أهل السنة في مسألة التجسيم والتشبيه

- ‌المطلب الأول: التعريف بالمشبهة

- ‌المطلب الثانياعتقاد السلف نفي التمثيل والتشبيه

- ‌المطلب الثالثرد السلف دعوى أن الإثبات يستلزم التشبيه

- ‌المبحث الثانيدعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى قوله بالجهة والتحيز ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى قوله بالجهة والتحيز

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الثالث: دعوى القول بقدم العالم

- ‌المبحث الأولمعتقد أهل السنة في إمكان حوادث لا أول لها

- ‌المطلب الأولالتسلسل: تعريفه، أقسامه، حكم كل قسم

- ‌المطلب الثانيالصفات الاختيارية

- ‌المطلب الثالثشرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه

- ‌المبحث الثانيدعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لهايستلزم القول بقدم العالم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لها يستلزم القول بقدم العالم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الرابعدعوى نهي ابن تيمية عن زيارة القبور

- ‌المبحث الأولعقيدة أهل السنة في زيارة القبور وشد الرحل إليها

- ‌المبحث الثانيالزعم أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور ومناقشته

- ‌المطلب الأولالزعم بأن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور

- ‌المطلب الثانيمناقشة دعوى أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقشتها

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الخامسدعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياءوقبور غيرهم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياءوقبور غيرهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الخامسمسألة التوسل

- ‌المبحث الأول: عقيدة أهل السنة والجماعة في التوسل

- ‌المبحث الثانيدعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين،وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين،وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدمجواز التوسل بالنبي، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدم جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين،وإهانته لهم، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين، وإهانته لهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل السادسموقف شيخ الإسلام من الصحابة

- ‌المبحث الأولعقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة

- ‌المبحث الثانيدعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهمالأئمة الخلفاء الأربعة، ومناقشتها

- ‌المطلب الأول دعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهم الأئمة الخلفاء الأربعة

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت،وتعمية مناقبهم، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت، وتعمية مناقبهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى رد الأحاديث الصحيحة في مقام المبالغةفي توهين كلام الشيعة ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى رد الأحاديث الصحيحةفي مقام المبالغة في توهين كلام الشيعة

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل السابعمسألة دوام النار

- ‌المبحث الأولدلالة نصوص الكتاب والسنة على خلود النار

- ‌المبحث الثانيدعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌المبحث الأولعقيدة أهل السنة في زيارة القبور وشد الرحل إليها

‌المبحث الأول

عقيدة أهل السنة في زيارة القبور وشد الرحل إليها

كانت زيارة القبور في بداية الإسلام مباحة على البراءة الأصلية، فكان الناس يزورون المقابر ويذهبون إليها، حتى جاء النهي من الرسول صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور مطلقاً، وذلك خوفاً على أصحابه في بداية إسلامهم أن تتعلق نفوسهم بأهل القبور، حيث لم يمض على إسلامهم شيء كثير، وقد كان لأهل الجاهلية صولات وجولات في الاستنجاد بأهل القبور، والاستغاثة بهم مما يفضي إلى الشرك أو ذرائعه (1) .

ولما استقر التوحيد في نفوس الصحابة، وامتلأت نوراً، جاء نسخ النهي عن زيارة القبور إلى الإذن والترغيب فيها، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)(2) .

وبقيت زيارة القبور مشروعة لعموم الأحاديث، ومنها حديث أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة)(3) .

(1) انظر: الآثار في النهي عن زيارة القبور في المجموع شرح المهذب للنووي 5/281، الصارم المنكي لابن عبد الهادي ص327 - 331، وانظر: المجالس الأربعة للرومي 50 - 51، وفتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 3/236، المشاهدات المعصومية لمحمد المعصومي ص73.

(2)

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 2/672 كتاب الجنائز، باب استئذان النبي ربه في زيارة قبر أمه، والنسائي في سننه 2/653 - 654، كتاب الجنائز وتمني الموت، باب زيارة القبور، ومالك في الموطأ 2/485 كتاب الضحايات، باب ادخار لحوم الأضاحي.

(3)

الحديث أخرجه أحمد في مسنده 3/38 من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وصححه محقق المسند (شعيب الأرناؤوط 17/429) .

ص: 305

ومنها حديث بريدة (1)

رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: (السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية)(2) .

ومنها حديث عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت ليلتي يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)(3) .

وحديث أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال:(استأذنت ربي بأن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت)(4)، ومنها ما روي عن عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أقول يا رسول الله في زيارة القبور؟ قال قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) (5) .

(1) بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة، سكن البصرة لما فتحت، وقد غزا خراسان في زمن عثمان ثم تحول إلى مرو فسكنها إلى أن مات سنة 63هـ.

انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 1/173، الإصابة لابن حجر 1/146.

(2)

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 2/671 كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور.

(3)

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 2/669 كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها واللفظ له، والنسائي في سننه 1/656 كتاب الجنائز، باب الاستغفار للمؤمنين.

(4)

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 2/671 كتاب الجنائز، باب استئذان النبي ربه عز وجل في زيارة قبر أمه.

(5)

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 2/669 - 671 كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور، والنسائي في سننه 1/656 كتاب الجنائز، باب الاستغفار للمؤمنين.

ص: 306

وزيارة القبور تنقسم قسمين: زيارة مشروعة، وزيارة غير مشروعة:

فأما القسم الأول: وهو الزيارة المشروعة: فهي زيارة القبور من أجل تذكر الآخرة، والسلام على أهلها، والدعاء لهم، فهذه مقاصد الزيارة الشرعية يمكن إجمالها فيما يلي:

1 -

تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ، ورقة القلب، كما هو الوارد في الأحاديث النبوية.

2 -

إحسان الزائر إلى الميت بالدعاء له (1) .

3 -

إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة، والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو استحباب الزيارة، وعدم هجر السنة (2) .

4 -

حصول الأجر والثواب المترتب على فعل السنة.

وهذا النوع من الزيارة مستحب.

والقسم الثاني: الزيارة غير الشرعية وهي أقسام:

أ - الزيارة المحرمة: وهي التي تتضمن شيئاً من المناهي الشرعية، ولم تصل إلى درجة البدعة وإن كانت من كبائر الذنوب، كالنياحة والجزع، ولطم الخدود، وكثير من الأفعال التي يفعلها العامة مما يوحي بالتسخط على قدر الله، كما روى أنس (ت - 93هـ) رضي الله عنه قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت إليه صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك؟ فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» (3) .

(1) أما قبور الكفار فلا تزار إلا لتذكر الموت، أما الدعاء لهم وشهود جنائزهم فلا، انظر: شفاء الصدور لمرعي الحنبلي ص103، فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 3/237.

(2)

انظر: غاية الأماني للألوسي 2/7 - 8، المشاهدات المعصومية لمحمد المعصومي ص9 - 10.

(3)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، رقم 1283، واللفظ له، ومسلم في صحيحه 2/637 كتاب الجنائز باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى.

ص: 307

ب - الزيارة البدعية: وهي أن يزور قبراً من أجل أن يصلي عنده، أو يدعو الله عنده، أو يقرأ القرآن عنده.

ج - الزيارة الشركية: وهي التي يدعى فيها المقبور من دون الله، ويطلب منه قضاء الحوائج، ودفع المكروه وتفريج الكرب أو يصلي له أو يذبح له أو ينذر له (1) .

قال ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) رحمه الله في بيان هذا (القسم غير المشروع) : (كل زيارة تتضمن فعل ما نهى عنه، وترك ماأمر به كالتي تتضمن الجزع، وقول الهجر، وترك الصبر، أو تتضمن الشرك أو دعاء غير الله، وترك إخلاص الدين لله، فهي منهي عنها، وهذه الثانية أعظم إثماً من الأولى - أي تضمن الزيارة الشرك أو دعاء غير الله -، ولا يجوز أن يصلي إليها، بل ولا عندها، بل ذلك مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم (2) ، وهذه من وسائل الشرك - كما سبق -.

ثم ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» (3) .

فالفرق بين الزيارة الشرعية وغير الشرعية: أن الزيارة الشرعية تتضمن السلام على أهل القبور، والدعاء لهم، وهو مثل الصلاة على جنائزهم، ومن شرطها ألا تتخذ القبور عيداً.

أما الزيارة غير الشرعية: التي تتضمن تشبيه المخلوق بالخالق: فينذر زوار القبور للمزور أو يسجدون له ويدعونه، بأن يحبوه مثل ما يحبون الخالق فيكونون قد جعلوه لله نداً، وسووه برب العالمين، وهذا منهي عنه في

(1) انظر: الصارم المنكي للسبكي ص47 - 48، أوضح الإشارة للنجمي ص29 - 31، القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين 1/435.

(2)

الصارم المنكي في الرد على السبكي ص325.

(3)

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 2/668 كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه واللفظ له، والترمذي في سننه 3/358 كتاب الجنائز، باب كراهية المشي على القبور، وأبو داود في سننه 3/554 كتاب الجنائز، باب كراهية القعود على القبر.

ص: 308

كتاب الله؛ لأنه من الأعمال الشركية، حيث يقول: عز وجل: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 79 - 80] .

وقال - سبحانه -: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 56 - 57] .

وقال عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23] .

والمقصود بالخطاب في زيارة القبور هم الرجال دون النساء، فالترغيب في زيارة القبور؛ إنما هو خاص بالرجال، وقد أجمع العلماء على أنه يستحب للرجال زيارة القبور، وقد حكى الإجماع على استحباب زيارة القبور للرجال الإمام النووي (1) رحمه الله في المجموع (2) .

وأما زيارة النساء للقبور: فقد اختلف فيها أهل العلم على أقوال:

القول الأول: تحريم زيارة النساء للقبور، وقد استدل القائلون بهذا القول بما قاله أبو هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه:(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور)(3) .

(1) النووي: يحيى بن شرف بن حسن الحازمي الشافعي، أبو زكريا، الإمام الحافظ، كبير الفقهاء في زمانه، برز في علوم كثيرة، وألف تآليف نافعة، كان يقول بتأويل الصفات، كان زاهداً ورعاً، ت سنة 676هـ.

انظر في ترجمته: طبقات الشافعية للسبكي 8/395، شذرات الذهب لابن العماد 5/354.

(2)

انظر: المجموع شرح المهذب 5/281.

(3)

الحديث أخرجه الترمذي في سننه 3/362 كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء، وابن ماجه في سننه 1/502 كتاب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/308، وصحيح سنن ابن ماجه 1/263.

ص: 309

وحديث أم عطية (1)

رضي الله عنها أنها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا)(2) فالنهي يقتضي التحريم.

القول الثاني: الكراهة من غير تحريم: واستدلوا بحديث أم عطية رضي الله عنها السابق، فقولها رضي الله عنها (لم يعزم علينا) دليل على أن النهي ليس نهي تحريم.

القول الثالث: إباحة زيارة النساء للقبور: واستدلوا بحديث المرأة التي كانت تبكي عند قبر، فأوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتقوى والصبر الذي ورد ذكره قبل قليل، ولم ينكر عليها زيارتها للقبر.

وبحديث عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها أنها سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن الذي تقوله للموتى، فقال لها قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وقد ورد ذكره قبل قليل.

القول الرابع: التفصيل وهو: إن كانت زيارتهن لتجديد الحزن والبكاء والنوح على ما جرت به عادتهن حرم، وإن كانت زيارتهن للاعتبار من غير نياحة كره، إلا أن تكون عجوزاً لا تشتهي فلا يكره (3) .

والقول الصحيح - والله أعلم - هو القول بالتحريم؛ وذلك لإمكان الإجابة

(1) أم عطية: نسيبة الأنصارية، غزت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات خلف الرجال في رحالهم، وتضمد جرحاهم، نزلت البصرة، من كبائر نساء الصحابة، شهدت غسل ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم وحكت ذلك فاتقنت، وحديثها أصل في غسل الميت.

انظر في ترجمتها: الاستيعاب لابن عبد البر 4/471، الإصابة لابن حجر 4/476.

(2)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 3/144 كتاب الجنائز، باب اتباع النساء الجنائز، ومسلم في صحيحه 2/646 كتاب الجنائز، باب نهي النساء عن اتباع الجنائز، وابن ماجه في سننه 1/502 كتاب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء للقبور، والبيهقي في سننه 4/77 كتاب الجنائز، باب ما ورد في نهي النساء عن اتباع الجنائز.

(3)

انظر: عرض الأقوال في زيارة النساء للقبور: المغني لابن قدامة 3/523 - 524، المجموع شرح المهذب للنووي 5/281 - 282، حاشية ابن عابدين 2/242، وانظر: جزء في زيارة النساء للقبور لبكر أبو زيد ص11 - 13.

ص: 310

عن أدلة الأقوال الأخرى، وبقاء الأدلة الخاصة التي تنهى النساء عن زيارة القبور.

فحديث أم عطية رضي الله عنها في قولها (لم يعزم علينا) . الجواب عنه من وجهين:

الوجه الأول: أنه قد يكون مرادها لم يؤكد النهي، وهذا يقتضي التحريم، فهي نفت وصف النهي، وهو النهي المؤكد بالعزيمة، وليس ذلك شرطاً في اقتضاء التحريم، بل مجرد النهي كافٍ في ذلك.

الوجه الثاني: أن أم عطية رضي الله عنها ظنت أنه ليس بنهي تحريم فقالت ذلك باجتهادها، والحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا في ظن غيره.

وأما حديث المرأة التي كانت تبكي عند القبر، فليس فيه أي دلالة على جواز زيارة النساء للقبور، حيث أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر، فلم تقبل أمره، فانصرف عنها، ثم إن هذا الحديث لا يُعلم تاريخه هل هو كان قبل أحاديث لعن زائرات القبور أم بعده؟

وعلى كل حال: فهذا الحديث إما أن يكون دالاً على الجواز فلا دلالة على تأخره عن أحاديث المنع.

وإما أن يكون دالاً على المنع؛ لأمرها بتقوى الله فلا دلالة فيه على الجواز.

وعلى كلا التقديرين فلا تعارض هذه الحادثة أحاديث المنع.

ومن الأجوبة على هذا الحديث أن المرأة لم تخرج للزيارة، لكنها أصيبت، ومن عظم المصيبة عليها لم تتمالك نفسها لتبقى في بيتها، ولذلك خرجت، وجعلت تبكي عند قبره، ولهذا أمرها صلى الله عليه وسلم أن تصبر؛ لأنه علم أنها لم تخرج للزيارة، بل خرجت لما في قلبها من عدم تحمل هذه الصدمة الكبيرة، فالحديث ليس صريحاً بأنها خرجت للزيارة، وإذا لم يكن صريحاً فلا يمكن أن

ص: 311

يعارض الشيء الصريح بشيء غير صريح (1) .

وأما حديث عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم إياها دعاء زيارة المقابر، فقد أجاب عنه أهل العلم بأجوبة عدة منها:

1 -

أن يحمل سؤالها للرسول صلى الله عليه وسلم، وتعليمه إياها على ما إذا اجتازت ومرّت على المقابر في طريقها بدون قصد الزيارة، ولفظ الحديث ليس فيه تصريح بالزيارة (2)

2 -

يحتمل أن يكون هذا كان على البراءة الأصلية في صدر الإسلام، قبل أن تحرم زيارة المقابر تحريماً عاماً على الرجال والنساء، ثم نسخ هذا الحكم عن الرجال دون النساء.

3 -

أن هذا الحديث من خصائص عائشة (ت-58هـ) رضي الله عنها لما تحلت به من الآداب اللائقة بزيارة القبور؛ لقوة إيمانها، وعظيم صبرها، وكمال عقلها، ووفور فضلها، وقد قال الله عز وجل عن عموم نساء النبي صلى الله عليه وسلم:{يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء} [الأحزاب: 32] .

وقال عن عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران، وآسية، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» (3) .

4 -

أن يحمل السؤال من عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها وجواب الرسول صلى الله عليه وسلم لها على أنها مبلغة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا كثير في السنة (4)

(1) انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين 1/441، جزء في زيارة النساء للقبور لبكر أبو زيد ص36.

(2)

انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين 1/441.

(3)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/106 كتاب فضائل أصحاب النبي، باب فضل عائشة، ومسلم في صحيحه 4/1895 كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة.

(4)

انظر: جزء في زيارة النساء للقبور لبكر أبو زيد ص41 - 48.

ص: 312

ويبقى القول بالتحريم هو القول الصحيح؛ لأنه الموافق للنصوص الخاصة المانعة من زيارة النساء للقبور، والحكمة - والله أعلم - أن المرأة ضعيفة، ناقصة عقل ودين، وهي قليلة الصبر، كثيرة الجزع فلا تتحمل مشاهدة قبور الموتى وزيارتهم، ثم إن زيارة القبور للنساء يؤدي إلى مخالفات أخرى باطلة كالتبرج والاختلاط، وهذا محذور منهي عنه في الشريعة، وهو من كبائر الذنوب (1) .

ويبقى إشكال في زيارة النساء للقبور، وهو أنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن زوارات القبور، فهل المراد باللعن لمن كررت الزيارة، وأما التي لا تزور إلا نادراً فلا تدخل تحت اللعن والنهي، أم الأمر بخلاف ذلك؟

والجواب عن هذا الإشكال من وجوه:

الأول: أن لفظ (زُوّارات) ، بضم الزاي المعجمة، وجمع هذا اللفظ: زُوار، وهو جمع: زائرة سماعاً.

الثاني: أن لفظ (زوارات) لو كان بالفتح، فتكون الصيغة دالة على النسب فمعنى زوارات القبور أي ذوات زيارة القبور، كما قال تعالى:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] .

الثالث: أن تصحيح حديث لعن زائرات القبور، يؤيد وينصر القول بالتحريم المطلق لزيارة النساء للقبور.

الرابع: سلمنا جدلاً على أن لفظ (زوارات) يدل على التضعيف، لكن هذا التضعيف يحمل على كثرة الفاعلين، لا على كثرة الفعل، فزوارات: يعني النساء إذا كن مائة كان فعلهن كثيراً.

والتضعيف باعتبار الفاعل موجود في اللغة العربية كما قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50] ، فلما كانت الأبواب كثيرة كان فيها التضعيف إذ الباب لا يفتح إلا مرة واحدة (2) .

(1) انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي 1/165 - 166.

(2)

انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين 1/442، جزء في زيارة النساء للقبور لبكر أبو زيد ص24 - 27.

وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 24/343 - 361.

ص: 313

وأما زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لمن هو بالمدينة من الرجال، أو قدم لزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو لحاجة له في المدينة ثم صلى في المسجد -: فهذا كله مشروع لا ينكر أحد مشروعيته، ومشروعيته مستمدة من الحكم العام بالاستحباب لزيارة القبور، وليس هناك حديث واحد صحيح يخصص زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم بخاصية دون غيره من القبور، ومن زار المدينة فيستحب له أن يدخل المسجد ويقدم رجله اليمنى ويقول:«اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك» (1) ، ثم يأتي الروضة الشريفة - إن أمكنه ذلك -، فيصلي ركعتي تحية المسجد في أدب وخشوع، فقد روى عبد الله بن زيد المازني (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة» (3) .

فإذا فرغ من تحية المسجد، اتجه إلى الحجرة الشريفة التي فيها قبره صلى الله عليه وسلم، فيستدبر القبلة، ويستقبل القبر، فيسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويردف ذلك بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وليس هناك صيغة محددة لهذا، فله أن يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وقائد الغر المحجلين، أشهد

(1) الحديث أخرجه ابن ماجه في سننه 1/253 - 254 كتاب المساجد والجماعات، باب الدعاء عند دخول المسجد، وابن السني في عمل اليوم والليلة ص44 - 46.

وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/128 - 129.

(2)

عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب الأنصاري المازني، يعرف بابن أم عمارة، أمه أم عمارة نسيبة بنت كعب، شهد أحداً ولم يشهد بدراً وهو الذي قتل مسيلمة الكذاب، وكان مسيلمة قد قتل أخاه حبيب بن زيد وقطعه عضواً عضواً.

انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 2/312، الإصابة لابن حجر 2/312.

(3)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 3/71، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل ما بين القبر والمنبر، ومسلم في صحيحه 2/1011 كتاب الحج، باب ما بين القبر والمنبر واللفظ له.

ص: 314

أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، وأشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين: فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته.

اللهم آته الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، يغبطه الأولون والآخرون.

اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

اللهم احشرنا في زمرته، وتوفنا على سنته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه مشرباً روياً لا نظمأ بعده أبداً.

ثم يتأخر إلى صوب اليمين قدر ذراع اليد للسلام على أبي بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه، ويسلم عليه بما يحضره من الألفاظ من غير تكلف، ثم يتنحى صوب اليمين قدر ذراع للسلام على الفاروق عمر بن الخطاب (ت - 23هـ) رضي الله عنه، ويسلم عليه بما يحضره من الألفاظ من غير تكلف - أيضاً - وله أن يقول: السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا عمر الفاروق، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعيه ورحمة الله وبركاته، جزاكما الله تعالى عن صحبة نبيكما وعن الإسلام خيراً، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار (1) .

ويسن لمن مكث في المسجد النبوي: أن يكثر من النوافل، وذلك للأجر العظيم المترتب على هذا العمل، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» (2) .

(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 26/146، جلاء العينين لابن الألوسي ص511 - 512.

(2)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 3/63 كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ومسلم في صحيحه 2/1013 كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، واللفظ له.

ص: 315

قال ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله في نونيته بعد أن بين أن شد الرحل لا يكون إلا للمساجد الثلاثة، وهو يبين الآن الزيارة الشرعية:

فإذا أتينا المسجد النبوي

صلينا التحية أولاً ثنتان

بتمام أركان لها وخشوعها

وحضور قلب فعل ذي الإحسان

ثم انثنينا للزيارة نقصد الـ

ـقبر الشريف ولو على الأجفان

فنقوم دون القبر وقفة خاضع

متذلل في السر والإعلان

وتفجرت تلك العيون بمائها

ولطالما غاضت على الأزمان

وأتى المسلم بالسلام بهيبة

ووقار ذي علم وذي إيمان

لم يرفع الأصوات حول ضريحه

كلا ولم يسجد على الأذقان

كلا ولم يُر طائفاً بالقبر أسـ

ـبوعاً كأن القبر بيت ثان

ثم انثنى بدعائه متوجها

لله نحو البيت ذي الأركان

هذي زيارة من غدا متمسكاً

لشريعة الإسلام والإيمان

من أفضل الأعمال هاتيك الزيا

رة وهي يوم الحشر في الميزان

لا تلبسوا الحق الذي جاءت به

سنن الرسول بأعظم البرهان

هذي زيارتنا ولم ننكر سوى الـ

ـبدع المضلة يا أولي العدوان

وحديث شد الرحل نص ثابت

يجب المصير إليه بالبرهان (1)

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً كل سبت فيصلي فيه ركعتين (2) ، ولذلك تسن زيارة مسجد قباء والصلاة فيه لمن جاء المدينة، أو من سكنها.

أما زيارة النساء قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال بعض الحنفية باستحبابها (3) إلا أن الجمهور على المنع منها كالمنع من زيارتهن قبور غيره صلى الله عليه وسلم؛ لعموم الأدلة،

(1) انظر: نونية ابن القيم مع شرحها لهراس 2/215 - 216.

(2)

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 2/1016، كتاب الحج، باب فضل مسجد قباء.

(3)

انظر: حاشية ابن عابدين 2/626.

ص: 316

وعدم وجود مخصص - والله أعلم - (1) .

وأما السفر لأجل زيارة القبور، فالصحيح هو تحريم إنشاء ذلك السفر؛ وذلك استناداً لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم:«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» (2) .

قوله: (لا تشد) بضم أوله على البناء للمفعول بلفظ النفي، والمراد النهي.

(الرحال) : جمع رحل وهو كور البعير وهو للبعير كالسَرج للفرس، وكني بشد الرحال عن السفر؛ لأنه لازمه، وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر، وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير، والمشي في المعنى المذكور.

(إلا إلى ثلاثة مساجد) : الاستثناء مفرّغ، والتقدير: لا تشد الرحال إلى موضع، ولازم هذا التقدير: منع السفر إلى كل موضع غيرها؛ لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام.

(المسجد الحرام) : أي المحرم، وهو كقولهم: الكتاب بمعنى المكتوب، والمسجد بالخفض على البدلية، ويجوز الرفع على الاستئناف.

(ومسجدي هذا) : أي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة.

(ومسجد الأقصى) : أي بيت المقدس، سمي بالأقصى: لبعده عن المسجد الحرام في المكان، وقيل: لأنه لم يكن وراءه حينئذٍ مسجد، وقيل: لبعده عن الأقذار والخبث (3) .

(1) انظر: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 3/239 - 245، 6/129 - 130.

(2)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 3/70 كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة، باب مسجد بيت المقدس، ومسلم في صحيحه 2/1014 كتاب الحج، باب لا تشد الرحال، و2/976، باب سفر المرأة مع محرم، والترمذي في سننه 2/148 كتاب الصلاة، باب ما جاء في أي المساجد أفضل.

(3)

انظر: فتح الباري لابن حجر 3/64، وقد أطال في ذكر أسماء بيت المقدس.

ص: 317

قال النووي (ت - 676هـ) رحمه الله في شرحه الحديث: (فيه بيان عظيم فضيلة هذه المساجد الثلاثة، ومزيتها على غيرها؛ لكونها مساجد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولفضل الصلاة فيها)(1) .

ونقل الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله خلاف العلماء في حكم شد الرحل إلى غير المساجد الثلاثة كزيارة القبور وغيرها، فنقل عن أبي محمد الجويني (2) حرمة شد الرحل إلى غيرها عملاً بظاهر الحديث.

وقال بعض الشافعية بعدم الحرمة، ولم يقل أحد من العلماء المعتبرين بسنية السفر لزيارة القبور. (3)

وذكر الشيخ مرعي الحنبلي (4) رحمه الله منشأ الخلاف بين القولين، وهو من احتمالي صيغة الحديث (لا تشد الرحال)، فهي ذات وجهين: نفي ونهي.

فمن لحظ معنى النفي فقط فقد فهم أن معنى الحديث هو: نفي فضيلة واستحباب السفر إلى غير المساجد الثلاثة، وبنى على ذلك جواز قصر الصلاة إن كان السفر مسافة قصر.

ومن لحظ معنى النهي، فالمعنى حينئذٍ يحتمل التحريم أو الكراهة للسفر إلى غير المساجد الثلاثة، وهذا وجه متمسك من قال بعدم جواز القصر في هذا السفر لكونه منهياً عنه، واحتمال التحريم هو الأصل في النهي (5) .

(1) شرح النووي صحيح مسلم 10/106.

(2)

الجويني: عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه الجويني، أبو محمد، عالم في اللغة والفقه والتفسير، سكن نيسابور، ت سنة 438هـ.

انظر في ترجمته: وفيات الأعيان لابن خلكان 2/250، طبقات الشافعية للسبكي 5/73.

(3)

انظر: فتح الباري لابن حجر 3/65.

(4)

مرعي الحنبلي: مرعي بن يوسف بن أبي بكر أحمد بن أبي بكر الكرمي المقدسي، العالم العلامة المدقق المفسر، أحد أكبر علماء الحنابلة بمصر في وقته، من مصنفاته: دليل الطالب، وغاية المنتهى وغيرهما، ت سنة 1033هـ.

انظر في ترجمته: الأعلام للزركلي 8/88، معجم المؤلفين لكحالة 12/218.

(5)

انظر: شفاء الصدور ص105.

ص: 318

وقد أجاب القائلون بالإباحة عن هذا الحديث بأجوبة منها:

1 -

أن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها فإنه جائز.

2 -

أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة فإنه لا يجب الوفاء به.

3 -

أن المراد حكم المساجد فقط، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قريب أو طلب علم أو تجارة أو نزهة فلا يدخل في النهي، لما روى أحمد (ت - 241هـ) في مسنده من طريق شهر بن حوشب (1) قال سمعت أبا سعيد (ت - 74هـ) وذكرت عنده الصلاة في الطور فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي للمطي أن تُشَد رحاله إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي» (2) ، قال الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) ، (وشهر حسن الحديث وإن كان فيه بعض الضعف)(3) .

وقد أجاب المباركفوري (4) رحمه الله عن هذه الصوارف عن ظاهر الحديث الذي هو التحريم إلى الإباحة بأجوبة:

(1) شهر بن حوشب الأشعري، فقيه مقريء، شامي الأصل، سكن العراق، ولي بيت المال مدة، ت سنة 100هـ.

انظر في ترجمته: تهذيب التهذيب لابن حجر 4/369، شذرات الذهب لابن العماد 1/119.

(2)

أخرج الحديث أحمد في مسنده 3/64 من حديث أبي سعيد، وانظر: مجمع الزوائد للهيثمي 4/3، وقال الألباني في إرواء الغليل 3/230: قوله: (إلى مسجد) زيادة في الحديث لا أصل لها في شيء من طرق الحديث عن أبي سعيد ولا عن غيره فهي منكرة، بل باطلة، وقال الأرناؤوط في تحقيقه المسند 18/153: صحيح، وإن كان السند ضعيفاً، لضعف شهر.

(3)

فتح الباري لابن حجر 3/65.

(4)

المباركفوري: محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، عالم شارك في أنواع من العلوم، ولد في مباركفور من الهند، ونشأ بها وقرأ علوم العربية والفقه وأصوله والمنطق والفلسفة، ت سنة 1353هـ.

انظر في ترجمته: معجم المؤلفين لكحالة 5/166.

ص: 319

1 -

أن قولهم: المراد الفضيلة التامة

إلخ، فإن هذا خلاف ظاهر الحديث ولا دليل عليه، وأما لفظ (لا ينبغي) ؛ في رواية أحمد (ت - 241هـ) فهو خلاف أكثر الروايات، فقد وقع في عامة الروايات (لا تشد) وهو ظاهر في التحريم.

وأما قولهم: إن لفظة (لا ينبغي) ظاهر في غير التحريم فهو ممنوع، كما بين ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله أن المطرد في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم استعمال لفظ (لا ينبغي) في المحظور شرعاً وقدراً، وفي المستحيل الممتنع كقوله تعالى:{وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم: 92]، وقوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [يس: 69]، وقوله سبحانه:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210 - 211]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام» (1) وغيرها من النصوص (2) .

2 -

أن قولهم: إن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه

إلخ، أو من قال: إن المراد قصدها بالاعتكاف، كما حكاه ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله عن الخطابي (ت - 388هـ) رحمه الله (3) فالجواب عنهما: أن ذلك تخصيص بلا دليل.

3 -

أما قولهم: إن المراد من المساجد فقط دون القبور، أو زيارة الصالحين للتبرك بهم

إلخ.

فهذا غير مسلّم، بل ظاهر الحديث العموم، وأن المراد: لا تشد الرحال إلى موضع إلا إلى ثلاثة مساجد، فإن الاستثناء مفرغ، والمستثنى منه في المفرغ يقدر بأعم العام.

(1) سبق تخريجه ص244 - 245.

(2)

انظر: إعلام الموقعين لابن القيم 1/43.

(3)

انظر: فتح الباري لابن حجر 3/65، وقال عن القول الثاني:(لم أر عليه دليلاً) .

ص: 320

وأما تفرد شهر بن حوشب (ت - 100هـ) برواية دون غيره من الحفاظ فلا يعتد بها؛ فهو كثير الأوهام (1) .

وأما السفر إلى موضع للتجارة، أو لطلب العلم، أو لغرض آخر صحيح مما ثبت جوازه بأدلة أخرى فهو مستثنى من حكم هذا الحديث (2) .

ولم ينقل عن أحد من الصحابة ولا التابعين ومن بعدهم من سلف الأمة، ممن شهد له بالعلم وصحة المعتقد أنه تكلم باسم زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيباً في ذلك، ولا غير ترغيب، فلم يكن لمسمى هذا الاسم حقيقة عندهم، ولهذا كره بعض أهل العلم لفظة (زيارة القبر) .

وأما الذين أطلقوا لفظة الزيارة إنما يريدون بها إتيان المسجد، والصلاة فيه، والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، إما قريباً من الحجرة أو بعيداً عنها، إما مستقبلاً القبلة، أو مستقبل القبر (3) .

وعلى هذا فتكون أحوال زيارة القبر والمسجد النبوي كالتالي:

إن كانت الزيارة بدون شد رحل، فهذه جائزة، ومرغب فيها، ضمن الضوابط الشرعية كزيارة القبور الأخرى، ويزاد عليها في قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يتخذ عيداً لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» (4) .

وأما إن كانت الزيارة تحتاج إلى سفر: فينظر في مقصود الزائر: إما أن يريد المسجد فقط، وإما أن يريد القبر فقط، وإما أن يريدهما معاً.

(1) انظر: تقريب التهذيب لابن حجر 1/355.

(2)

انظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري 2/286 - 287.

(3)

انظر: الصارم المنكي في الرد على السبكي لابن عبد الهادي ص59 - 60، 164، فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 6/126.

(4)

الحديث أخرجه أبو داود في سننه 2/534 كتاب المناسك، باب زيارة القبور، وأحمد في مسنده 2/367، وصحح إسناده النووي في الأذكار ص97، وحسنه الألباني في تحذير الساجد ص142.

ص: 321

فإن أراد المسجد فقط فهذا مشروع، لحديث النهي عن شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وحديث تفضيل الصلاة في المسجد النبوي على غيره من المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام.

وإن أراد القبر فقط فهذا غير مشروع، فلا يجوز شد الرحل للقبور.

وإن أرادهما جميعاً فهذا جائز، فالأصل هو المسجد، ويدخل القبر بالتبع. (1)

(1) انظر: الصارم المنكي في الرد على السبكي لابن عبد الهادي ص242، فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 6/126.

ص: 322