المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالثشرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه - دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية - عرض ونقد

[عبد الله بن صالح الغصن]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أسباب اختيار البحث:

- ‌خطة البحث:

- ‌ منهج في كتابة البحث

- ‌[شكر وتقدير]

- ‌[التمهيد]

- ‌ترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

- ‌1 - اسمه ونسبه:

- ‌2 - مولده ونشأته:

- ‌3 - عصره:

- ‌أولاً: الناحية السياسية:

- ‌ثانياً: الناحية الاجتماعية:

- ‌ثالثاً: الناحية العلمية:

- ‌4 - محن الشيخ:

- ‌5 - وفاته رحمه الله:

- ‌6 - مؤلفاته:

- ‌7 - بعض ثناء الناس عليه:

- ‌منهج شيخ الإسلام في تقرير العقيدة والاستدلال عليها:

- ‌الفصل الأول: المناوئون لشيخ الإسلام، ودعاواهم حول منهجه

- ‌المبحث الأول: المناوئون لشيخ الإسلام

- ‌المطلب الأول: أقسام المناوئين

- ‌المطلب الثانيالمنهج العام للمناوئين

- ‌المطلب الثالثاعتراف خصومه بقدره

- ‌المبحث الثانيدعاوى المناوئين حول منهج شيخ الإسلام ابن تيمية ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعاوى المناوئين حول منهج شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌المطلب الثانيمناقشة دعاوى المناوئين حول منهج ابن تيمية

- ‌الفصل الثانيدعوى التجسيم والتشبيه

- ‌المبحث الأول:قول أهل السنة في مسألة التجسيم والتشبيه

- ‌المطلب الأول: التعريف بالمشبهة

- ‌المطلب الثانياعتقاد السلف نفي التمثيل والتشبيه

- ‌المطلب الثالثرد السلف دعوى أن الإثبات يستلزم التشبيه

- ‌المبحث الثانيدعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى قوله بالجهة والتحيز ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى قوله بالجهة والتحيز

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الثالث: دعوى القول بقدم العالم

- ‌المبحث الأولمعتقد أهل السنة في إمكان حوادث لا أول لها

- ‌المطلب الأولالتسلسل: تعريفه، أقسامه، حكم كل قسم

- ‌المطلب الثانيالصفات الاختيارية

- ‌المطلب الثالثشرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه

- ‌المبحث الثانيدعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لهايستلزم القول بقدم العالم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لها يستلزم القول بقدم العالم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الرابعدعوى نهي ابن تيمية عن زيارة القبور

- ‌المبحث الأولعقيدة أهل السنة في زيارة القبور وشد الرحل إليها

- ‌المبحث الثانيالزعم أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور ومناقشته

- ‌المطلب الأولالزعم بأن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور

- ‌المطلب الثانيمناقشة دعوى أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقشتها

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الخامسدعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياءوقبور غيرهم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياءوقبور غيرهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الخامسمسألة التوسل

- ‌المبحث الأول: عقيدة أهل السنة والجماعة في التوسل

- ‌المبحث الثانيدعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين،وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين،وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدمجواز التوسل بالنبي، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدم جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين،وإهانته لهم، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين، وإهانته لهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل السادسموقف شيخ الإسلام من الصحابة

- ‌المبحث الأولعقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة

- ‌المبحث الثانيدعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهمالأئمة الخلفاء الأربعة، ومناقشتها

- ‌المطلب الأول دعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهم الأئمة الخلفاء الأربعة

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت،وتعمية مناقبهم، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت، وتعمية مناقبهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى رد الأحاديث الصحيحة في مقام المبالغةفي توهين كلام الشيعة ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى رد الأحاديث الصحيحةفي مقام المبالغة في توهين كلام الشيعة

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل السابعمسألة دوام النار

- ‌المبحث الأولدلالة نصوص الكتاب والسنة على خلود النار

- ‌المبحث الثانيدعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌المطلب الثالثشرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه

‌المطلب الثالث

شرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه

حدّث عمران بن حصين (1)

رضي الله عنه قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناسٌ من بني تميم، فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا (مرتين)، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر، فقال: كان الله ولم يكن شيء قبله، وفي لفظ (غيره) وفي لفظ (معه) وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض، وفي لفظ: ثم خلق السماوات والأرض، فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا ابن حصين، فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب، فوالله لوددت أني كنت تركتها) (2) .

قوله عليه الصلاة والسلام: اقبلوا البشرى: المراد بهذه البشارة أن من أسلم نجا من الخلود في النار، فبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يقتضي دخول الجنة.

(1) عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي الكعبي، أبو نجيد، أسلم عام خيبر، من فضلاء الصحابة وفقهائهم، سكن البصرة ومات بها في خلافة معاوية سنة 52هـ.

انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 3/22، الإصابة لابن حجر 3/26.

(2)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه كتاب بدء الخلق حديث 2953، انظر: فتح الباري لابن حجر 6/286، وفي كتاب التوحيد باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم حديث 7418، انظر: فتح الباري لابن حجر 13/403، وأحمد في مسنده 4/431 - 432 من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، والبيهقي في السنن الكبرى 9/2 - 3، وفي الأسماء والصفات 2/151، والدارمي في رده على الجهمية (ضمن عقائد السلف جمع النشار وطالبي ص265) ، وفي رده على بشر المريسي ص86 - 87، والآجري في الشريعة 176 - 177، وغيرهم، وانظر رسالة: شرح الصدر في السؤال عن أول هذا الأمر لمنصور السماري فقد توسع في تخريجه.

ص: 261

قالوا: بشرتنا فأعطنا في هذا دليل إسلامهم حيث بشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنهم طلبوا العاجل من أمر الدنيا على التفقه في الدين وطلب الآخرة، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله في الفتح سبب غضب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:(سبب غضبه صلى الله عليه وسلم استشعاره بقلة علمهم لكونهم علقوا آمالهم بعاجل الدنيا الفانية، وقدموا ذلك على التفقه في الدين الذي يحصل لهم ثواب الآخرة الباقية)(1) ولذلك كان هذا الإقبال على الدنيا بمنزلة عدم قبول البشرى حيث قال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: إذ لم يقبلها بنو تميم.

ويؤخذ من هذا أنه يجب قبول ما جاء عن الله عز وجل أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدون توقف أو استفسار أو طلب للعلة، بيان ذلك من الحديث أن قول بني تميم: قد بشرتنا فأعطنا لا يدل ظاهره على أنهم لم يقبلوها، ومع ذلك جعل طلبهم للعاجل بمنزلة عدم قبول البشرى (2) .

قولهم: نسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ المراد بالأمر هنا: الشيء المشاهد الموجود وهو خلق السماوات والأرض وما بينهما على الصحيح، فالسؤال عن بدء الخلق المشاهد المعهود بـ (أل) العهدية (الأمر) .

والأمر يطلق ويراد به المأمور المفعول، ويراد به المصدر والشأن والحكم، والمراد بالأمر في هذا الحديث المعنى الأول (3) .

قوله: كان الله ولم يكن شيء قبله وفي رواية (غيره) وفي رواية (معه) :

الحديث روي بهذه الألفاظ الثلاثة فلفظ قبله ولفظ غيره وردا في البخاري، وأما لفظة (معه) فقد بين شيخ الإسلام أن هذه اللفظة ثابتة في

(1) فتح الباري 13/409.

(2)

انظر: شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان 1/376 - 377.

(3)

انظر: فتح الباري لابن حجر 6/288 - 289، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/215.

ص: 262

الصحيح لكنها ليست في صحيح البخاري (1) ولما كانت الألفاظ المروية ثلاثة، وكانت القصة متحدة بمجلس واحد، وسؤالهم وجوابه كان في المجلس نفسه دل على أن لفظة واحدة هي التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن لفظتين وقعتا بالمعنى. والراجح أن لفظة (قبله) هي التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم لأمور:

الأول: أن أكثر أهل الحديث يروون هذا الحديث بلفظة قبله فيروونه: كان الله ولم يكن شيء قبله. وكثرة رواية الحفاظ والأئمة لهذه اللفظة مرجح لها على غيرها.

الثاني: أن لفظ (القبل) هو الموافق للنصوص الأخرى مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)(2) .

قوله: كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء: هذه الجمل الثلاث ورد الوصل بينها بالواو، ثم جاءت الجملة الرابعة موصولة بما قبلها بثم وهي (ثم خلق السماوات والأرض) ، وهذا يدل على أن الحديث ليس مقصوده بيان أول المخلوقات؛ لأن الواو لا تفيد الترتيب على الصحيح. لكن المقصود هو إجابة أهل اليمن عن أول خلق السماوات والأرض، فجاء بثم التي تفيد الترتيب والتراخي ليبين أن خلق

(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/551، لكنه رحمه الله وهم وعزاها إلى البخاري في موضعين: الأول في مجموع الفتاوى 18/216، والثاني في الصفدية 2/224، ولذلك تعقبه من تعقبه مثل محقق شرح العقيدة الطحاوية شعيب الأرناؤوط 1/114، ومحمد رشاد سالم في تحقيق الصفدية لشيخ الإسلام 1/15 - 16، وذكر ابن حجر في فتح الباري 6/289 أن لفظة (معه) ليست في البخاري، وقد بحث هذه المسألة وبين المواضع الثلاثة د. عبد الرحمن المحمود في موقف ابن تيمية من الأشاعرة 3/1009.

(2)

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 4/2084 كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، والبيهقي في الأسماء والصفات 1/36. باب ذكر الأسماء التي تتبع إثبات الباري جل ثناؤه.

ص: 263

السماوات والأرض لم يكن هو أول مخلوقات الله، فقد سبقه مخلوقات لله سبحانه وتعالى والله أعلم (1) .

وقوله: كان الله: أي فيما مضى من الزمان وهي تنبئ - هنا - عن الأزلية، والأزل ليس وقتاً بعينه مثل قوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: 40] .

وقوله: وكان عرشه على الماء معناه: أنه خلق الماء سابقاً ثم خلق العرش على الماء، فوقت خلق السماوات والأرض كان عرشه على الماء، وتبين الأحاديث الأخرى أن القلم خلق بعد العرش، ثم خلق السماوات والأرض وما فيهن (2)، ومطلق قوله:(وكان عرشه على الماء) يقيد بقوله: (ولم يكن شيء قبله) والمراد بكان في الأول: الأزلية، وفي الثاني: الحدوث بعد العدم (3) .

قوله: كتب في الذكر: يعني اللوح المحفوظ كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 105] أي من بعد اللوح المحفوظ (4) .

وأضيفت الكتابة إلى الله تعالى، ولا يلزم أنه - سبحانه - هو الذي يباشر الكتابة بنفسه بل يجوز أن يأمر بذلك ما يشاء، ودليل ذلك حديث عبادة بن الصامت (ت - 34هـ) رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» (5) فالمأمور بالكتابة في هذا الحديث هو القلم وهو من مخلوقات الله.

(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/217.

(2)

انظر: في ذكر الخلاف: أيهما خلقه أولاً: العرش أم القلم؟: الصفدية لابن تيمية 2/79، بغية المرتاد له ص276، منهاج السنة له 1/361، فتح الباري لابن حجر 6/289.

(3)

انظر: فتح الباري لابن حجر 6/289.

(4)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/211.

(5)

الحديث أخرجه الترمذي في سننه 4/457 كتاب القدر باب 17، وأبو داود في سننه 5/76 كتاب السنة، باب في القدر، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/228 - 229، 3/123.

ص: 264

ولفظة (كل شيء) أي: من الكائنات، وهي تعم كل موضع بحسب ما سيقت له، كما في قوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25]، وقوله:{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] .

قوله: فإذا هي يُقطع دونها السراب: أي يحول بيني وبينها السراب، والسراب هو: ما يُرى نهاراً في الفلاة كأنه ماء (1) ، وهذا كناية عن بُعدها.

قوله: فوالله لوددت أني كنت تركتها: وفي رواية (لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم) . قال ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله (الود المذكور تسلط على مجموع ذهابها وعدم قيامه لا على أحدهما فقط؛ لأن ذهابها كان قد تحقق بانفلاتها، والمراد بالذهاب: الفقد الكلي)(2) .

فكانت رغبته في بقائه في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلم العلم والإيمان، ولا يفوته آخر الحديث، فهو تأسف على أنه قد فاته آخر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا بيان حرص الصحابة - رضوان الله عليهم - على تحصيل العلم، والبحث عن الخير.

وقد بحث ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله عن تتمة الحديث التي تأسف عليها عمران بن حصين (ت - 52هـ) رضي الله عنه فقال: (وقد كنت كثير التطلب لتحصيل ما ظن عمران أنه فاته من هذه القصة إلى أن وقفت على قصة نافع بن زيد الحميري (3) فقوي في ظني أنه لم يفته شيء من هذه القصة بخصوصها، لخلو قصة نافع بن

(1) انظر: لسان العرب لابن منظور 1/465 مادة (سرب) ، وفتح الباري لابن حجر 6/290.

(2)

فتح الباري 13/410.

(3)

نافع بن زيد الحميري، صحابي جليل، قدم وافداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من حمير، وسألوه عن أول هذا الأمر، فقال عليه الصلاة والسلام: كان الله ولم يكن شيء قبله.

انظر في ترجمته: الإصابة لابن حجر 3/544.

ص: 265

زيد رضي الله عنه عن قدر زائد على حديث عمران) (1) وقد نبه ابن تيمية رحمه الله إلى أن بعض الناس يزيد في آخر الحديث قوله: (وهو الآن على ما عليه كان) وينسبون هذه الجملة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن هذا كذب مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن هذه الزيادة كذب موضوع مختلق، وليس هو في شيء من دواوين الحديث، لا كبارها ولا صغارها، ولا رواه أحد من أهل العلم بإسناد لا صحيح ولا ضعيف، ولا بإسناد مجهول، وإنما تكلم بهذه الكلمة بعض متأخري الجهمية، فتلقاها منهم أهل وحدة الوجود الذين يقولون: وجوده عين وجود المخلوقات (2) .

وصلة حديث عمران بن حصين (ت - 52هـ) رضي الله عنه بموضوع إمكان حوادث لا أول لها: أن المتكلمين الذين يرون امتناع دوام الحوادث في الماضي استدلوا بهذا الحديث ظناً منهم أن سؤال أهل اليمن وجواب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم إنما كان عن بدء المخلوقات كلها، لا عن بدء خلق السماوات والأرض، فمقصود الحديث عندهم هو إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله كان موجوداً وحده، معطلاً عن الفعل، غير قادر عليه، ثم إنه ابتدأ إحداث جميع أنواع الحوادث، وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان بلا سبب، وصار قادراً بعد أن لم يكن بلا سبب (3) .

والذي عليه سلف الأمة ومن وافقهم أن مراد الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإخبار عن خلق الله لهذا العالم المشهود الذي خلقه في ستة أيام ثم استوى على العرش، كما قال عز وجل:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3] .

(1) فتح الباري 6/290.

(2)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 2/272، 18/221، وانظر: فتح الباري لابن حجر 6/289.

(3)

انظر: الإنصاف للباقلاني ص43، وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/211، 242.

ص: 266

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص (ت - 65هـ) رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء» (1) ، فأخبر عن تقدير خلق هذا العالم، وأنه قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء.

وقد ناقش ابن تيمية رحمه الله المخالفين الذين يرون أن المقصود في حديث عمران رضي الله عنه (ت - 52هـ) هو الإخبار عن أول المخلوقات مطلقاً بأجوبة عديدة منها:

1 -

أن قول أهل اليمن: (جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر) إما أن يكون الأمر المشار إليه هذا العالم، أو جنس المخلوقات.

فإن كان المراد: خلق العالم المشاهد فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أجابهم؛ لأنه أخبرهم عن أول خلق هذا العالم.

وإن كان المراد بالأمر جنس المخلوقات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبهم في الحديث؛ ذلك أنه لم يذكر أول الخلق مطلقاً. بل قال:(كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض) فلم يذكر إلا خلق السماوات والأرض، وإذا كان قد أجابهم عن خلق السماوات والأرض ولم يجبهم عن أول الخلق مطلقاً علم أنهم سألوه عما أجابهم. والرسول صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يجيبهم عما لم يسألوه، ويترك إجابة ما سألوه عنه.

2 -

أن قولهم: (هذا الأمر) الإشارة إلى الحاضر المشهود، ولو سألوه عن أول الخلق مطلقاً لما أشاروا إليه بهذا، فإن ذاك لم يشهدوه، فلا يشيرون إليه بهذا، بل لم يعلموه أيضاً، فإن ذاك لا يعلم إلا بخبر الأنبياء، والرسول صلى الله عليه وسلم

(1) سبق تخريجه ص228.

ص: 267

لم يخبرهم بذلك، فلو كان أخبرهم به لما سألوه عنه، فعلم أن سؤالهم كان عن أول هذا العالم المشهود.

3 -

أن الثابت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله) - كما سبق بيانه - وإذا كان إنما قال هذا اللفظ: فلم يكن فيه تعرض لابتداء الحوادث، ولا لأول مخلوق.

4 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض» . فلم يذكر في الجمل الثلاث الأول ترتيباً، لكنه رتب الجملة الرابعة بـ (ثم) التي تفيد الترتيب والتراخي على ما قبلها من الجمل.

وعليه: فلا يفيد الحديث بيان أول المخلوقات مطلقاً، بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش والماء، وإن كان ذلك كله مخلوقاً، لكن القصد هو إخبار أهل اليمن عن بدء خلق السماوات والأرض وما بينهما، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام، لا ابتداء ما خلقه الله قبل ذلك.

5 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين أخبر عن العرش والماء والكتابة: أخبر عن كونها ووجودها، ولم يتعرض لابتداء خلقها، ولما ذكر السماوات والأرض أخبر بما يدل على خلقها، وسواء أكان قول الرسول صلى الله عليه وسلم:(وخلق السماوات والأرض) أم (ثم خلق السماوات والأرض) فعلى التقديرين يكون قد أخبر بخلقهما، فلم يكن المقصود الإخبار بخلق العرش ولا الماء، فضلاً عن أن يقصد أن خلق ذلك كان مقارناً لخلق السماوات والأرض.

6 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان قال: (ولم يكن شيء معه) فليس فيه ما يدل على ذكر أول المخلوقات وترتيبها، بل المقصود: أنه لا شيء معه من هذا الأمر المسؤول عنه، وهم سألوه عن أول الأمر، وسياق الحديث يدل على أنه أخبرهم بأول هذا العالم الذي خلق في ستة أيام، ولم يخبرهم بما قبل ذلك (1) .

(1) انظر: الصفدية لابن تيمية 2/224 - 225، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/219.

ص: 268

7 -

أن كثيراً من الناس يجعلون هذا الحديث عمدتهم من جهة السمع في أن الحوادث لها ابتداء وأن جنس الحوادث مسبوق بالعدم، إذ لم يجدوا في الكتاب والسنة ما ينطق به، وجعلوا هذا معنى حدوث العالم الذي هو أول مسائل أصول الدين عندهم، فيبقى أصل الدين الذي هو دين الرسل عندهم، ليس عندهم ما يعلمون به أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، ولا في العقل ما يدل عليه، بل العقل والسمع يدل على خلافه.

ومن كان أصل دينه الذي هو عنده دين الله ورسوله لا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به كان من أضل الناس في دينه.

8 -

أن المتكلمين لما اعتقدوا أن هذا هو دين الإسلام أخذوا يحتجون عليه بالحجج العقلية المعروفة لهم.

وعمدتهم التي هي أعظم الحجج مبناها على امتناع حوادث لا أول لها، وبها أثبتوا حدوث كل موصوف بصفة، وسموا ذلك إثباتاً لحدوث الأجسام. فلزمهم على ذلك نفي صفات الرب عز وجل وأن الله لا يرى في الآخرة، وأنه ليس فوق العرش، وكان حقيقة قولهم تكذيباً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسلط أهل العقول من الفلاسفة وغيرهم على تلك الحجج التي لهم فبينوا فسادها.

9 -

أن الغلط في فهم معنى هذا الحديث سببه عدم المعرفة بنصوص الكتاب والسنة، بل والمعقول الصريح، فإنه أوقع كثيراً من المتكلمين وأتباعهم في الحيرة والضلال، فإنهم لم يعرفوا إلا قولين: قول الدهرية (1) القائلين بالقدم، وقول الجهمية القائلين بأنه: لم يزل معطلاً عن أن يفعل أو يتكلم

(1) الدهرية: هم الذين ينكرون الربوبية، ويعدون الأمر والنهي والرسالة من الله تعالى مستحيلاً في العقول، ويقولون بقدم العالم، وينكرون الثواب والعقاب، وينسبون النفع والضرر إلى الدهر.

انظر: الملل والنحل للشهرستاني تحقيق بدران 2/244 - 245، البرهان للسكسكي ص88، المقالات والفرق للأشعري القمي ص194 - 195.

ص: 269

بقدرته ومشيئته، ورأوا لوازم كل قول تقتضي فساده وتناقضه، فبقوا حائرين مرتابين جاهلين، وهذه حال من لا يحصى منهم، نسأل الله السلامة.

10 -

أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لدعوة الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له، وذلك يتضمن معرفته لما أبدعه من مخلوقاته، وهي المخلوقات المشهورة الموجودة من السماوات والأرض وما بينهما، فأخبر في الكتاب الذي لم يأت من عنده كتاب أهدى منه بأنه خلق أصول هذه المخلوقات الموجودة المشهودة في ستة أيام ثم استوى على العرش، فهذا إخبار عن العالم الموجود وابتداء خلقه، وأما ما خلقه قبل ذلك شيئاً بعد شيء فهذا بمنزلة ما سيخلقه بعد قيام القيامة، ودخول أهل الجنة وأهل النار منازلهما، وهذا مما لا سبيل للعباد إلى معرفته تفصيلاً.

11 -

أن الإقرار بأن الله لم يزل يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء هو وصف الكمال الذي يليق به - سبحانه - وما سوى ذلك نقص يجب أن ينزه عنه، فإن كونه لم يكن قادراً ثم صار قادراً على الفعل فإنه يقتضي أنه كان ناقصاً فاقداً صفة القدرة التي هي من لوازم ذاته وهذا ممتنع: فإنه إذا لم يكن قادراً ثم صار قادراً فلا بد من أمر جعله قادراً بعد أن لم يكن، فإذا لم يكن هناك إلا العدم المحض امتنع أن يصير قادراً بعد أن لم يكن، وكذلك يمتنع أن يصير عالماً بعد أن لم يكن قبل هذا.

بخلاف الإنسان فإنه كان غير عالم وغير قادر ثم صار عالماً قادراً (1) .

وقد ناقش الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله الجهمية بقوله:

(ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم، حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق الله لهم كلاماً، وقد جمعتم بين كفر وتشبيه، وتعالى الله عن هذه الصفة.

(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/237.

ص: 270

بل نقول: إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، ولا نقول: إنه كان ولا يتكلم حتى خلق الكلام ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم، حتى خلق علماً فعلم، ولا نقول: إنه كان ولا قدرة له، حتى خلق لنفسه القدرة، ولا نقول: إنه كان ولا نور له، حتى خلق لنفسه نوراً، ولا نقول: إنه كان ولا عظمة له، حتى خلق لنفسه عظمة.

فقالت الجهمية - لما وصفنا الله بهذه الصفات -: إن زعمتم أن الله ونوره، والله وقدرته، والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى، حين زعموا أن الله لم يزل ونوره، ولم يزل وقدرته.

قلنا: لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته، ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته، ونوره، لا متى قدر ولا كيف.

فقالوا: لا تكونوا موحدين أبداً حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء.

فقلنا: نحن نقول: قد كان الله ولا شيء، ولكنا إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلهاً واحداً بجميع صفاته؟) (1) .

ثم ضرب للجهمية مثلاً بالنخلة لها جذع، وكرب، وليف، وسعف، وخوص، وجمّار، واسمها اسم شيء واحد، سميت نخلة بجميع صفاتها، فكذلك الله - وله المثل الأعلى بجميع صفاته - إله واحد.

وقال الإمام الدارمي (ت - 280هـ) رحمه الله:

(والله - تعالى وتقدس اسمه - كل أسمائه سواء. لم يزل كذلك، ولا يزال، لم تحدث له صفة، ولا اسم لم يكن كذلك، كان خالقاً قبل المخلوقين، ورازقاً قبل المرزوقين، وعالماً قبل المعلومين، وسميعاً قبل أن يسمع أصوات المخلوقين، وبصيراً قبل أن يرى أعيانهم مخلوقة)(2) .

(1) الرد على الجهمية والزنادقة (ضمن عقائد السلف جمع النشار وطالبي ص90 - 92) .

(2)

رد الإمام الدارمي على بشر المريسي ص9.

ص: 271

والنفاة يزعمون أن الفعل ممتنع في الأزل، والأزل ليس شيئاً محدوداً يقف عنده العقل، بل ما من غاية ينتهي إليها تقدير الفعل إلا والأزل قبل ذلك بلا غاية محدودة.

ويضرب ابن تيمية رحمه الله مثلاً لذلك بأنه لو فرض وجود مدائن أضعاف مدائن الأرض، في كل مدينة من الخردل ما يملؤها، وقدر أنه كلما مضت ألف ألف سنة فنيت خردلة: فني الخردل كله، والأزل لم ينته (1) .

فما من وقت يقدر إلا والأزل قبل ذلك؛ لأن الأزل يعني عدم الأولية، فهو ليس شيئاً محدوداً (2) .

وما من وقت صدر فيه الفعل بالنسبة إلى الله عز وجل إلا وقد كان قبل ذلك ممكناً وإذا كان ممكناً فما الموجب لتخصيص حال الفعل بالخلق دون ما قبل ذلك فيما لا يتناهى؟ (3) .

وبهذا يتضح أن المراد في حديث عمران (ت - 52هـ) رضي الله عنه هو الإخبار عن حدوث العالم المشهود الموجود؛ ولذا فإن أهل السنة يجعلون هذا الحديث من أدلتهم على حدوث العالم، ولهم أدلة أخرى نقلية، وعقلية متعددة:

أما الأدلة النقلية فمنها:

قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] .

وقال - سبحانه -: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 11، 12] .

(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/238، وانظر: مثالاً قريباً منه في شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان 1/384.

(2)

انظر: الصفدية لابن تيمية 1/71، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/239.

(3)

انظر: هذه الردود بتفصيل في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/213 - 243.

ص: 272

والذي عليه سلف الأمة وأئمتها مع أهل الكتاب أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله وهي الدخان والبخار، وقد كان قبل خلق السماوات مخلوقات كالعرش والماء.

وقال الله -سبحانه-: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:33] .

وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33] .

وقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} [يس: 81] .

وأما الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته عام حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» (1) .

وثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص (ت - 65هـ) رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» (2) .

إضافة إلى حديث عمران بن حصين (ت - 52هـ) رضي الله عنه وحديث القلم الذي مر ذكرهما قبل قليل.

(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 13/424 كتاب التوحيد باب وجوه يومئذ ناضرة، ومسلم في صحيحه 3/1305 كتاب القسامة باب تغليظ تحريم الدماء، وأبو داود في سننه 2/483 - 485 كتاب المناسك، باب الأشهر الحرم، قال الخطابي في معالم السنن 2/484:(إنما أضاف الشهر إلى مضر؛ لأنها كانت تشدد في تحريم رجب، وتحافظ على ذلك أشد من محافظة سائر القبائل، فأضيف الشهر إليهم لهذا المعنى) .

(2)

تقدم تخريجه ص228.

ص: 273

وأما الأدلة العقلية لإثبات حدوث العالم عند أهل السنة فيمكن أن نذكر بعضاً منها:

1 -

أن يقال: إن كان حدوث الحوادث بلا سبب حادث جائزاً: أمكن حدوث العالم، وبطل القول بوجوب قدمه.

وإن كان ممتنعاً بطل القول بقدمه لامتناع حدوث الحوادث عن الموجب الأزلي، وبعبارة أخرى: إن كان تسلسل الحوادث ممتنعاً لزم حدوث العالم، وإن كان ممكناً أمكن حدوث كل شيء منه بحادث قبله (1) .

2 -

أن يقال: إن العالم لو كان قديماً: لكان إما واجباً بنفسه وهذا باطل، فكل جزء من أجزاء العالم مفتقر إلى غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بنفسه.

وإما واجباً بغيره: فيكون المقتضي له موجباً بذاته، بمعنى: أنه مستلزم لمقتضاه، سواء كان شاعراً مريداً أم لم يكن، فإن القديم الأزلي إذا قُدِّر أنه معلول مفعول فلا بد له من علة تامة مقتضية له في الأزل، وهذا هو الموجب بذاته.

ولو كان مبدعه موجباً بذاته علة تامة لم يتأخر عنه شيء من معلوله ومقتضاه. والحوادث مشهودة في العالم: فعلم أن فاعله ليس علة تامة، وإذا لم يكن علة تامة لم يكن قديماً. (2)

3 -

أن العالم ممكن الوجود، والممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثاً، وأما القديم الذي يمتنع عدمه فلا يقبل العدم (3) .

4 -

أن العالم إذا كان تحله الحوادث من غيره دل على أن غيره متصرف فيه قاهر له تحدث فيه الحوادث ولا يمكنه دفعها عن نفسه.

(1) انظر: الصفدية لابن تيمية 1/81.

(2)

انظر: منهاج السنة لابن تيمية 2/273 - 280.

(3)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/331.

ص: 274

وما كان مقهوراً مع غيره لم يكن موجوداً بنفسه، ولا مستغنياً بنفسه، ولا عزيزاً ولا مستقلاً بنفسه، وما كان كذلك لم يكن إلا مصنوعاً مربوباً فيكون محدثاً (1) .

وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله إجماع أهل الملل والأديان على أن كل ما سوى الله فهو مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن (2) .

وذكر أنه قد استقر في فطر الناس أن السماوات مخلوقة مفعولة، وقد أحدثها خالقها بعد أن لم تكن، ولم يخطر بالفطر السليمة أن السماوات والأرض قد خلقتا مع الله أزلاً (3) .

وأما المتكلمون فلهم طرق متعددة في إثبات حدوث العالم (4) . إلا أن أقواها عندهم هو دليل حدوث الأجسام، وهو ما سأذكره وأناقشه بشيء من الاختصار - بعد قليل -؛ ذلك أن الأدلة الأخرى قد زيفها أكثر متأخريهم وعقلائهم.

ومما له صلة بحدوث العالم عند المتكلمين مسألة (الجوهر الفرد) التي خاضوا فيها كثيراً في كتبهم المتقدمة، وفي دراساتهم المتأخرة؛ ذلك أن إثبات الجوهر الفرد مرتبط بالقول بتناهي الأجسام، فهو يؤيد قولهم بحدوث العالم حين يردون على الفلاسفة، إذ هذا المصطلح مقابل مصطلح الهيولي والصورة (5) عند الفلاسفة.

(1) انظر: الأدلة العقلية لأهل السنة. مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/331، الصفدية له 1/74، 81، منهاج السنة النبوية 2/273.

(2)

انظر: الصفدية لابن تيمية 1/10، 130.

(3)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/226.

(4)

انظر: من كتب المتكلمين: الإنصاف للباقلاني ص27، نهاية الإقدام للشهرستاني ص11 - 53، التوحيد لأبي منصور الماتريدي ص12، الأربعين في أصول الدين للرازي 1/29، الإرشاد للجويني ص39 - 42، وانظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 2/344 إلى نهاية الجزء، 3/3 - 23، 448 - 449.

(5)

الهيولى: كلمة يونانية الأصل، ويراد بها المادة الأولى، وهو كل ما يقبل الصورة، أي هو جوهر وجوده بالفعل إنما يحصل بقبول الصورة الجسمانية كقوة قابلة للصور، وليس لها وجود بالفعل بنفسها دون الصورة.

انظر: مقاصد الفلاسفة للغزالي 2/19، معيار العلم له ص287 - 288، المعجم الفلسفي لجميل صليبا 2/536 - 537، المعجم الفلسفي لمجمع اللغة ص208، فكرة الجوهر للطف 143 - 181.

ص: 275

وتأتي فكرة الجوهر الفرد في مقابل ما ذهب إليه النظام (1) من القول بإمكان تجزؤ الأجسام إلى ما لا نهاية، مما يؤدي إلى تقرير القول بقدم العالم (2) .

فعلى مذهب المتكلمين أن الله أزلي قديم، وأن العالم مكون من جواهر وأعراض حادثة، وكل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، ولا بد لهذه الجواهر والأعراض من محدث، وهو الله، والله يخلق هذه الأجزاء، ثم تفنى، ويعيد خلقها

(3) .

والجوهر الفرد هو المتحيز الذي لا ينقسم، والجزء الذي لا يتجزأ (4) .

(1) النظام: إبراهيم بن سيار بن هاني البصري، أبو إسحاق النظام، من أئمة المعتزلة، وانفرد بآراء خاصة تبعه فيها جماعة أطلق عليهم (النظامية) ، ت سنة 231هـ.

انظر في ترجمته: لسان الميزان لابن حجر 1/67، الفهرست لابن النديم الملحق ص2، المنية والأمل للقاضي عبد الجبار ص59.

(2)

انظر: قراءة في علم الكلام للجزيري ص36 - 41.

(3)

انظر: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام للنشار 1/476.

(4)

انظر: في تعريف الجوهر الفرد: المعجم الفلسفي إعداد مجمع اللغة ص88 مادة (ذرة) ، المعجم الفلسفي لجميل صليبا 1/400 مادة (جزء) ، 1/424 - 427 مادة (الجوهر) ، 1/588 مادة (الذرة) .

وأما تعريف الجوهر المقابل للعرض عند المتكلمين والتفصيل فيه، فهذا كثير عند المتكلمين، وفي كتب التعريفات المنطقية، انظر على سبيل المثال: إثبات الجوهر الفرد للشهرستاني ملحق نهاية الإقدام ص505 - 514، الأربعين في أصول الدين للرازي 2/3 - 18، والمباحث المشرقية له 1/240 - 251، المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدي (ضمن الفيلسوف الآمدي دراسة وتحقيق للأعسم ص109 - 111)، وانظر: حاشية تحقيق (المباحث المشرقية للرازي) للبغدادي 1/240- 242، فقد= = فصل وذكر مراجع كثيرة، وانظر: فكرة الجوهر في الفكر الفلسفي الإسلامي لسامي لطف، التصور الذري في الفكر الفلسفي الإسلامي لمنى أبو زيد.

ص: 276

والجوهر الفرد أصوله يونانية، وأول من قال به من الإسلاميين أبو الهذيل العلاف (ت - 235هـ) من المعتزلة.

والكلام في الجوهر الفرد مقدماته طويلة، وهي من الكلام المذموم شرعاً، حتى حذّاق النظار، وأذكياء الطوائف حار كثير منهم في مسألة الجوهر الفرد، فتوقفوا فيها تارة، وجزموا أخرى (1) .

وإثبات حدوث العالم عن طريق الجوهر الفرد لا حاجة لنا به، ويتضح ذلك من أمور:

1 -

أن العلم بحدوث ما يحدث، والاستدلال على ثبوت الصانع ليس مفتقراً إلى أن يُعلم: هل في النطفة جواهر منفردة أو مادة؟ وهل ذلك قديم أو حادث؟. بل مجرد حدوث ما شُهد حدوثه يدل على أن له مُحدثاً، كما يدل حدوث سائر الحوادث على أن لها محدثاً.

2 -

أن الشك في حدوث الحيوان والنبات - عندهم - مبني على كونها من الجواهر المفردة أو المادة والصورة، وإمكان قدم الجواهر المفردة أو المادة. ومعلوم أن هذا لو كان صحيحاً، لكان من الدقيق الذي يحتاج إلى بيان، وهم لم يثبتوا ذلك، فذلك موضع اضطراب بين المتكلمين والفلاسفة.

3 -

أن حدوث ما يشهد حدوثه من الثمار والزروع والحيوان وغير ذلك أمر مشهود، فإن الإنسان إذا تأمل في خلق الله، وما يخرجه الله من الأرض من الزروع، وما يخرجه من الحيوان من النطفة والبيض أيقن بحدوث هذه الأعيان (2) .

(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/158، 7/125 - 126، منهاج السنة النبوية له 2/141.

(2)

انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 8/318 - 322.

ص: 277

ويبين شيخ الإسلام رحمه الله أن القول بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة قول لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين، لا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من بعدهم من الأئمة المعروفين (1) .

وذكر مضمون كلام القائلين بالجوهر الفرد وهو: (أن الله لم يخلق منذ خلق الجواهر المفردة شيئاً قائماً بنفسه، لا سماءً، ولا أرضاً، ولا حيواناً، ولا نباتاً، بل إنما يحدث تركيب تلك الجواهر القديمة فيجمعها ويفرقها، والحوادث المتتابعة أعراض قائمة بتلك الجواهر، لا أعيان قائمة بنفسها)(2)، وقال بعد ذلك: إن (هذا خلاف ما دل عليه السمع والعقل والعيان، ووجود جواهر لا تقبل القسمة منفردة عن الأجسام مما يعلم بطلانه بالعقل والحس، فضلاً عن أن يكون الله تعالى لم يخلق عيناً قائمة بنفسها إلا ذلك)(3) .

وذكر رحمه الله جانباً آخر من جوانب إثبات المتكلمين للجوهر الفرد وهو أن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض، بل الجواهر التي كانت مثلاً في الأول، هي بعينها باقية في الثاني، وإنما تغيرت أعراضها، وقال بعد ذلك:(هذا خلاف ما أجمع عليه العلماء - أئمة الدين وغيرهم من العقلاء - من استحالة بعض الأجسام إلى بعض، كاستحالة الإنسان وغيره من الحيوان بالموت تراباً، واستحالة الدم والميتة والخنزير وغيرها من الأجسام النجسة ملحاً أو رماداً، واستحالة العذرات تراباً، واستحالة العصير خمراً، ثم استحالة الخمر خلاً، واستحالة ما يأكله الإنسان ويشربه بولاً ودماً وغائطاً ونحو ذلك)(4) .

إن الأجسام إذا صغرت أجزاؤها فإنها تستحيل كما هو موجود في أجزاء الماء إذا تصغّر فإنه يستحيل هواء، فلا يبقى موجود ممتنع من القسمة، بل يقبل

(1) انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 2/139.

(2)

منهاج السنة النبوية لابن تيمية 2/139.

(3)

منهاج السنة النبوية لابن تيمية 2/139.

(4)

منهاج السنة النبوية 2/140.

ص: 278

القسمة إلى حد ثم يستحيل إذا كان صغيراً، وليس استحالة الأجسام في صغرها محدوداً بحد واحد، بل قد يستحيل الصغير، وله قدر يقبل نوعاً من القسمة، وغيره لا يستحيل حتى يكون أصغر منه (1) .

ودليل حدوث الأجسام عند المتكلمين يقوم على أربع دعاوى:

أ - إثبات الأعراض.

ب - إثبات حدوث الأعراض.

ج - استحالة تعري الأجسام عن الأعراض.

د - ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، لاستحالة حوادث لا أول لها، أو: كل ما لا يخلو من الحوادث وهو لا يسبقها فهو إذاً حادث (2) .

ويمكن أن يجاب عن دليل حدوث الأجسام عند المتكلمين بأجوبة عديدة منها:

1 -

أن الاستدلال بحدوث الأعراض ليس من أصول الدين، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى الالتزام بها؛ لذا ذم سلف الأمة وأئمتهم الاستدلال به وبغيره مما لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أعرضوا عنه لطول مقدماته، وللخوف على سالكيه من الشك والارتياب (3) .

2 -

أن العقل يعلم بطلان هذا الدليل: يقول ابن تيمية رحمه الله: (انظر في هذا الأصل الذي اتبع فيه متأخروهم لمتقدميهم من إثباتهم حدوث العالم

(1) انظر: في مناقشة فكرة الجوهر الفرد عند ابن تيمية: بيان تلبيس الجهمية 1/285، شرح حديث النزول ص244 - 252، الصفدية 2/229، وانظر: في مناقشة القائلين بأن الجزء يتجزأ إلى ما لا نهاية: الصفدية 1/118، بيان تلبيس الجهمية 1/285.

(2)

انظر: الإنصاف للباقلاني 27 - 28، نهاية الإقدام للشهرستاني 27 - 28، المواقف للإيجي 244 - 248، الأربعين في أصول الدين للرازي 1/32 - 81، التوحيد للماتريدي 11 - 17، شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار 113 - 115، وانظر: مذاهب الإسلاميين لبدوي 1/174.

(3)

انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/39، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/239، منهاج السنة النبوية له 1/303.

ص: 279

والأجسام بهذه الطريق: هل هي طريقة صحيحة في العقل أم لا؟ وهل هي موافقة للشرع أم لا؟ فاعرضها على الكتاب والميزان، فإن الله تعالى يقول:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] ، فأعرض عما يذكرونه (1) بما ثبت من كتاب الله وسنة رسوله، وما ثبت عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين.

وزنه أيضاً بالميزان الصحيحة العادلة العقلية، واستعن على ذلك بما يذكره كل من النظار في هذه الطريقة وأمثالها، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، ولا تتبع الظن فإنه لا يغني من الحق شيئاً) (2) .

3 -

أنه يلزم من هذا الدليل لوازم فاسدة كنفي الصفات عن الله عز وجل مطلقاً، أو نفي بعضها، والقول بخلق القرآن، وإنكار العلو، ونفي القدرة على الفعل قبل بدء الخلق - على مذهبهم - والترجيح بلا مرجح وغيرها، وكل هذا خلاف الكتاب والسنة (3) .

4 -

أن إثبات المتكلمين حدوث العالم من طريق حدوث الأجسام هو سبب تسلط الفلاسفة عليهم، فحين استدل المتكلمون بالأدلة السمعية والعقلية استدلالاً خاطئاً، تسلط عليهم الفلاسفة لما ظن الفلاسفة أنه ليس في إثبات حدوث العالم أو قدمه إلا قولان: قول المتكلمين، وقولهم، وقد رأوا أن قول المتكلمين باطل، فجعلوا ذلك حجة في تصحيح قولهم، وظنوا أنهم إذا قدحوا في أدلة المتكلمين يكونون قد قدحوا في أدلة الشرع، فالمتكلمون - كما يقول شيخ الإسلام عنهم -: لا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا، بل سلطوا الفلاسفة عليهم، وعلى الإسلام (4) .

(1) في نسخة: فاعرض ما يذكرونه، ولعل هذا هو الأصوب.

(2)

درء تعارض العقل والنقل 8/276.

(3)

انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/39 - 40، شرح حديث النزول ص416 - 418.

(4)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/240، 18/224 - 225.

ص: 280

5 -

أن المتكلمين المقرين بهذا الدليل قد اختلفوا في كثير من جزئياته وتفاصيله، فالبعض يقر ببعض المقدمات، والبعض يرد على هذه المقدمات التي يترتب بعضها على بعض. (1)

وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن طريقة إثبات الصانع التي لا تكون إلا بإثبات حدوث العالم، ولا يكون إثبات حدوث العالم إلا بإثبات حدوث الأجسام هي أساس الكلام الذي اشتهر ذم السلف والأئمة له.

والذامون لهذه الطريقة نوعان:

منهم من يذمها؛ لأنها بدعة في الإسلام، فإنا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس بها ولا الصحابة؛ لأنها طويلة مخطرة كثيرة الممانعات والمعارضات، فصار السالك فيها كراكب البحر عند هيجانه، وهذه طريقة الأشعري (ت - 324هـ) في ذمه لها، فبعد أن بين أن طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم أوضح من طريقة المتكلمين، بيّن رحمه الله بعض أوجه القصور في دليل المتكلمين إذ يقول عن طريقة المتكلمين إنه: (لا يصح الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها، ويدق الكلام عليها، فمنها ما يحتاج إليه في الاستدلال على وجودها، والمعرفة بفساد شبه المنكرين لها

وليس يحتاج - أرشدكم الله - في الاستدلال بخبر الرسول عليه الصلاة والسلام على ما ذكرناه من المعرفة بالأمر الغائب عن حواسنا إلى مثل ذلك؛ لأن آياته، والأدلة على صدقه محسوسة مشاهدة، قد أزعجت القلوب، وبعثت الخواطر على النظر في صحة ما يدعو إليه) (2) .

وإن كان الأشعري (ت - 324هـ) والخطابي (3) ،

(1) انظر: بيان ذلك في عرض أدلة حدوث العالم عند المتكلمين على سبيل المثال: درء تعارض العقل والنقل 2/344، 3/3 - 18، 350، 448، الأربعين في أصول الدين للرازي 1/29 - 81، انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود 3/986 - 990.

(2)

رسالة الثغر ص53 - 54.

(3)

الخطابي: حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي، أبو سليمان الخطابي، إمام علامة حافظ لغوي، له مصنفات كثيرة، ت سنة 388هـ.

انظر في ترجمته: طبقات الشافعية للسبكي 3/282، بغية الوعاة للسيوطي 1/546.

ص: 281

والغزالي (1) وغيرهم لا يفصحون ببطلانها.

ومنهم من ذمها؛ لأنها مشتملة على مقدمات باطلة لا تحصل المقصود بل تناقضه (2) .

(1) الغزالي: محمد بن محمد بن محمد الغزالي، أبو حامد، أصولي فيلسوف أشعري متصوف، أكثر من التصنيف، رحل لطلب العلم، واعتزل الناس مدة، وقد تاب في آخر عمره، ت سنة 505هـ.

انظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء للذهبي 19/322، شذرات الذهب لابن العماد 4/10.

(2)

انظر: الصفدية لابن تيمية 1/275، وقد فصل شيخ الإسلام رحمه الله في الرد على دليل حدوث الأجسام في كثير من كتبه، وفي مواضع متعددة من الكتاب الواحد، وناقش هذا الدليل من جوانب متعددة، انظر على سبيل المثال من كتبه: الصفدية 1/33، 275، 2/12، 114 - 117، درء تعارض العقل والنقل 1/39 - 45، 2/99 - 188، 3/31 - 67، 448، 8/325، 336، منهاج السنة النبوية 1/300 - 304، بيان تلبيس الجهمية 1/117، 176 - 182، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/303 - 304، 5/543 - 544، وغيرها.

ص: 282