الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
مناقشة دعوى أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور
تتميز هذه الدعوى (مسألة شد الرحل) بالذات، والدعوى التي تليها (مسألة التوسل) ، عن غيرها من المسائل المنتقدة على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأمر مما يجعلها أكثر إثارة، وأوسع نقاشاً مع الخصم، ألا وهو: أن بداية الانتقاد على ابن تيمية رحمه الله من قبل مناوئيه كان في حياته، فعُقدت جلسات، وقامت مناظرات بينه وبين خصومه، بل وأُلفت الكتب في الرد على ابن تيمية رحمه الله في حياته، مما جعله يؤلف ردوداً عليها تبين وجه الحق في المسألة، والمسائل الملتبسة على الخصم وعلى العامة حتى يتضح الحق ويحيا من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، فألف (الرد على الأخنائي) وألف (الرد على البكري) ، إضافة إلى كتب ورسائل أخرى تبين قوله في الموضوع.
وقد بين رحمه الله أن لفظ (الزيارة) لفظ مجمل يدخل فيها الزيارة الشرعية والزيارة البدعية التي هي من جنس الشرك، بل صار في عرف كثير من الناس إذا أطلق لفظ زيارة قبور الأنبياء والصالحين إنما يفهم منه الزيارة البدعية.
وإذا كان اللفظ مجملاً يحتمل الحق والباطل عدل عنه إلى لفظ لا لبس فيه كلفظ السلام عليه. (1)
وقد ذكر رحمه الله الخلاف الدائر بين السلف في شرعية زيارة القبور.
فقال طائفة من السلف: إن زيارة القبور محرمة مطلقاً، وأن النهي عن الزيارة لم ينسخ، فإن أحاديث النسخ لم يروها البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله ولم
(1) انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص140 - 141، قاعدة عظيمة ص93.
تشتهر، ولما ذكر البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله زيارة القبور احتج بحديث المرأة التي بكت عند القبر.
ومنهم من لا يستحبها، ومنهم من يكرهها مطلقاً، كما نقل عن النخعي (1) ،
والشعبي (ت - 104هـ) وابن سيرين (2) ، وهؤلاء من أجلة التابعين.
ونقل ابن بطال (3) عن الشعبي (ت - 104هـ) أنه قال: (لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابني)(4) .
وقال النخعي (ت - 96هـ) رحمه الله (كانوا يكرهون زيارة القبور)(5) .
ولا خلاف بين المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن زيارة القبور، وقيل في سبب ذلك: لأن ذلك يفضي إلى الشرك، وقيل: لأجل النياحة عندها، وقيل: لأنهم كانوا يتفاخرون بها، كما ذكر طائفة من العلماء في قول الله عز وجل:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1 - 2] أنهم كانوا يتكاثرون بقبور الموتى (6) .
(1) النخعي: إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، أبو عمران، من مذحج، من أكابر التابعين صلاحاً، وصدق رواية، وحفظاً للحديث، فقيه العراق، كان إماماً مجتهداً، ت سنة 96هـ.
انظر في ترجمته: التاريخ الكبير للبخاري 1/333، الطبقات الكبرى لابن سعد 6/279.
(2)
ابن سيرين: محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء، أبو بكر، إمام وقته في علوم الشريعة، تابعي جليل، في أذنه صمم، اشتهر بالورع وبتأويل الرؤيا، ت سنة 110هـ.
انظر في ترجمته: حلية الأولياء لأبي نعيم 2/263، وفيات الأعيان لابن خلكان 3/321.
(3)
ابن بطال: علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال البكري القرطبي، أبو الحسن، عالم بالحديث، من أهل قرطبة، له شرح صحيح البخاري، ويعرف بابن اللحام، الإمام الحافظ المحدث، ت سنة 449هـ.
انظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء للذهبي 18/47، شجرة النور الزكية لمخلوف ص115.
(4)
رواه ابن أبي شيبة في مصنفه 4/345 كتاب الجنائز، وفيه (لزرت قبر ابنتي) .
(5)
رواه ابن أبي شيبة في مصنفه 4/345 كتاب الجنائز.
(6)
انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 20/168 - 169، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 7/360.
لكن اختلف العلماء بعد ذلك: هل نسخ هذا التحريم أم لا؟
فقيل لم ينسخ - كما سبق -، وقال آخرون: بل نسخ ذلك، واختلف هؤلاء هل نسخ إلى الندب أم إلى الإباحة؟
فقال قوم: إنما نسخ إلى الإباحة، وقال قوم: نسخ إلى الاستحباب (1) .
وبين أن الأقوال الثلاثة صحيحة باعتبار:
فالزيارة إذا تضمنت أمراً محرماً من شرك أو كذب أو ندب أو نياحة: فهذه زيارة محرمة.
وأما إن كانت الزيارة لمجرد الحزن على الميت، لقرابته أو صداقته: فهي مباحة، وهذا كزيارة قبر الكافر فرخص فيها؛ لأجل تذكر الآخرة، لا للدعاء له والاستغفار له.
قال الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال: «استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» (2) .
وأما إن كانت الزيارة لقبور المؤمنين للدعاء للموتى كالصلاة على الجنازة: فهذا مستحب قد دلت السنة عليه (3) .
ويقسم ابن تيمية رحمه الله الزيارة - في مواضع أخرى - إلى قسمين؛ زيارة شرعية، وزيارة بدعية، ومرد هذا الاختلاف إنما هو التنوع في التقسيم
(1) انظر: الجواب الباهر ص44، قاعدة عظيمة ص63.
(2)
سبق تخريجه ص306 من هذا البحث.
(3)
انظر: الجواب الباهر ص45 - 46، قاعدة عظيمة ص63، 66، الرد على الأخنائي ص83.
والعرض، حسب حاجة المخاطب (1) .
وبهذا يتبين أن ابن تيمية رحمه الله لم يحرم زيارة القبور مطلقاً، بل فرق بين الزيارة المحرمة، والزيارة المباحة، والزيارة المستحبة.
وأما زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية فهي ما يفعله علماء المسلمين (يصلون في مسجده صلى الله عليه وسلم، ويسلمون عليه في الدخول للمسجد، وفي الصلاة، وهذا مشروع باتفاق المسلمين)(2) .
وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليست واجبة باتفاق المسلمين، ولم يرد في الكتاب والسنة أمر بزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص، وإنما الأمر الموجود في الكتاب والسنة: الصلاة والتسليم عليه، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً (3) ، فزيارة قبره مستحبة كزيارة قبور غيره.
وقد اتفق العلماء على أن أهل المدينة لا يزورون القبر النبوي كلما دخلوا المسجد أو خرجوا منه، لا للدعاء ولا لغيره، بل كانوا يأتون المسجد، وهم في كل صلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في مسجد غيره يقولون: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ويصلون عليه ويسألون الله له الوسيلة إذا سمعوا الأذان.
وأما حكم إتيان أهل المدينة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قدموا من سفر، أو غير أهل المدينة إذا قدموا من سفر، فهذا فيه قولان:
القول الأول: الجواز لفعل ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما فتابعه جماعة، وإن لم يكن هذا من السنن المشهورة، إذ لم يأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، كما أمرهم أن يسلموا عليه في الصلاة.
(1) انظر: قاعدة جليلة ص32، الجواب الباهر 47، مجموع فتاوى ابن تيمية 24/326، 334، 343، 26/148، 27/70، 119، وغيرها.
(2)
الجواب الباهر ص22.
(3)
انظر: الفتاوى الكبرى 2/5، مجموع فتاوى ابن تيمية 27/26.
والقول الثاني: المنع من إتيان القبر، والاكتفاء بالصلاة والسلام عليه في المسجد (1) .
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله الخلاف بين أهل العلم حين السلام على الرسول صلى الله عليه وسلم عند القبر، وعلى صاحبيه، هل يستقبل القبر، أم يستقبل القبلة؟
فقال الأئمة الثلاثة مالك (ت - 179هـ) ، والشافعي (ت - 204هـ) ، وأحمد (ت - 241هـ) ، رحمهم الله إنه يستقبل القبر، ويستدبر القبلة، فيسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم من تلقاء وجهه، ثم ينحرف قليلاً فيسلم على أبي بكر (ت - 13هـ) ثم ينحرف قليلاً ويسلم على عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنهما، وهذا فعل أكثر الصحابة.
وأما مذهب أبي حنيفة (ت - 150هـ) رحمه الله فإن المسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم يستدبر الحجرة، وقيل يجعلها عن يساره (2) .
وأما وقت الدعاء فإنه يستقبل القبلة اتفاقاً، وكان مالك (ت - 179هـ) رحمه الله من أعظم الأئمة كراهية لذلك.
وأما الحكاية التي تذكر عنه أنه قال للمنصور (3) لما سأله عن استقبال الحجرة بالدعاء فأمره بذلك، وقال:(هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم) ، فهذه كما يذكر ابن تيمية رحمه الله كذب على مالك ليس لها إسناد معروف، وهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه (4) .
وأما قصد القبر ليدعو الزائر لنفسه، فهذا بدعة، لم يكن أحد من الصحابة يقف عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ليدعو لنفسه.
(1) انظر: قاعدة عظيمة 58، 88، الرد على الأخنائي ص17.
(2)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 26/146 - 147، قاعدة جليلة ص293، قاعدة عظيمة ص61، 89، الرد على الأخنائي 190.
(3)
المنصور: عبد الله بن محمد بن علي الهاشمي، أبو جعفر المنصور، الخليفة العباسي، ذو هيبة وشجاعة ودهاء، له مشاركة حسنة في الفقه والعلم، ت سنة 158هـ.
انظر في ترجمته: فوات الوفيات للكتبي 2/216، الكامل لابن الأثير 5/172.
(4)
انظر: قاعدة جليلة ص294، مجموع فتاوى ابن تيمية 26/147، 27/118، وانظر: الحكاية في الشفاء للقاضي عياض ضمن شرحيه 3/397 - 398.
قال ابن تيمية رحمه الله (لم يكن أحد من الصحابة يقصد شيئاً من القبور، لا قبور الأنبياء ولا غيرهم، لا يصلي عنده، ويدعو عنده، ولا يقصده لأجل الدعاء عنده، ولا يقولون إن الدعاء عنده أفضل، ولا الدعاء عند شيء من القبور مستجاب)(1) .
ويتعجب رحمه الله من كثير من الناس وقد نهي عن الصلاة عندها وإليها، كما قال صلى الله عليه وسلم:«لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها» (2) ، ثم هو يقصد الدعاء عندها، فهل يقول مسلم عاقل: إن مكاناً نهينا أن نعبد الله فيه بالصلاة لله يكون الدعاء فيه مستجاباً (3) .
وهل يجوز التمسح بالقبر وتقبيله وتمريغ الخد عليه؟
أجاب رحمه الله بأن هذا منهي عنه باتفاق المسلمين، وليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها. إلا الحجر الأسود، لما ثبت في الصحيحين أن عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه قال:(والله إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك)(4) .
وأما الاستلام فلا يستلم إلا الركنان اليمانيان، فمن زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يستلمه، ولا يقبله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.
وكل هذا لأجل المحافظة على التوحيد، وحماية جنابه؛ لأن من أصول الشرك اتخاذ القبور مساجد، كما قال تعالى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح: 23] .
وبهذا يتبين أن شيخ الإسلام رحمه الله لم ينه عن الزيارة الشرعية للقبور
(1) قاعدة عظيمة ص57.
(2)
سبق تخريجه ص308.
(3)
انظر: قاعدة عظيمة ص57.
(4)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 3/462 كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود، ومسلم في صحيحه 2/925 كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف، واللفظ له.
مطلقاً، أو قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما نهى عن الزيارة غير الشرعية وهي ما ينهى عنه الإسلام، وقد أنصفه ابن عابدين (1)
في قوله: (وما نسب إلى الحافظ ابن تيمية الحنبلي من أنه يقول بالنهي عنها - أي زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال بعض العلماء: إنه لا أصل له، وإنما يقول بالنهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاث (2) ، أما نفس الزيارة فلا يخالف فيه لزيارة سائر القبور) (3) .
وأما احتجاج مثبتة الزيارة البدعية بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} [النساء: 64] ، وأن ذلك يدل عليها، فقد رد ابن تيمية رحمه الله عليهم مبيناً المعنى الصحيح للآية بقوله:
(دعاهم - سبحانه - بعدما فعلوه من النفاق إلى التوبة وهذا من كمال رحمته بعباده، يأمرهم قبل المعصية بالطاعة، وبعد المعصية بالاستغفار، وهو رحيم بهم في كلا الأمرين.. وقوله (جاءوك) : المجيء إليه في حضوره معلوم كالدعاء إليه.
وأما في مغيبه ومماته فالمجيء إليه كالدعاء إليه، والرد إليه، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} [النساء: 61]، وقوله تعالى:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ، وهو الرد والمجيء إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة.
وكذلك المجيء إليه لمن ظلم نفسه هو الرجوع إلى ما أمره به
…
وأما مجيء الإنسان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عند قبره، وقوله: استغفر لي، أوسل لي ربك
…
فهذا لا أصل له، ولم يأمر الله بذلك، ولا فعله واحد من
(1) ابن عابدين: محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن عابدين الدمشقي، فقيه الديار الشامية، وإمام الحنفية في عصره، ولد وتوفي في دمشق، ت سنة 1252هـ.
انظر في ترجمته: الأعلام للزركلي 6/267.
(2)
الصواب أن يقال: (الثلاثة) .
(3)
حاشية رد المحتار 2/626.
سلف الأمة المعروفين في القرون الثلاثة، ولا كان ذلك معروفاً بينهم
…
) (1) ، فليس في الآية أمر بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم ولا شد الرحل إليه.
وأما الأحاديث التي تحث على زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم بخصوصه، فليس فيها حديث واحد صحيح، بل هي إما من الموضوع، أو من الحديث الضعيف الذي لا يصح الاحتجاج به، ولا العمل به.
فأما الحديث الأول الذي ذكروه في فضل الزيارة وهو: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» ، فهذا رواه الدارقطني (2) رحمه الله في سننه (3) ، من طريق موسى بن هلال العبدي، عن عبد الله بن عمر العمري.
وموسى بن هلال: قال عنه أبو حاتم (ت - 277) رحمه الله: مجهول (4) .
وقال العقيلي (5) : لا يتابع على حديثه (6) .
وقال ابن عدي (7) : أرجو أنه لا بأس به (8) .
(1) قاعدة في المحبة (ضمن جامع الرسائل 2/375 - 376) .
(2)
الدارقطني: علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الدارقطني الشافعي، أبو الحسن، إمام عصره في الحديث، ولد بدار القطن من أحياء بغداد، ورحل إلى مصر، وعاد إلى بغداد، وتوفي بها سنة 385هـ.
انظر في ترجمته: تاريخ بغداد للخطيب 12/34، وفيات الأعيان لابن خلكان 2/459.
(3)
سنن الدارقطني (ضمن التعليق المغني على سنن الدارقطني 2/288 كتاب الحج حديث 194) .
(4)
انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 4/226.
(5)
العقيلي: محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي، صاحب الجرح والتعديل والضعفاء، ثقة جليل القدر، عالم بالحديث، مقدم في الحفظ، ت سنة 322هـ.
انظر في ترجمته: شذرات الذهب لابن العماد 2/295، الرسالة المستطرفة للكتاني ص108.
(6)
انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 4/226.
(7)
ابن عدي: عبد الله بن عدي بن عبد الله بن محمد الجرجاني، أبو أحمد، نشأ بجرجان، قال السهمي: لم يكن في زمانه مثله، صاحب كتاب الكامل في ضعفاء الرجال، ت سنة 365هـ.
انظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء للذهبي 16/154، طبقات الشافعية للسبكي 3/315.
(8)
الكامل لابن عدي 6/2350.
وقال الذهبي (ت - 748هـ) : صالح الحديث (1) ، لكن الذهبي (ت - 748هـ) رحمه الله أنكر عليه هذا الحديث (2) .
ورواه موسى بن هلال عن عبد الله بن عمر العمري، خلافاً لمن قال إنه: عبيد الله بن عمر العمري، فالمكبر ضعيف، وأما أخوه عبيد الله المصغر فثقة ثبت.
وقد أجاب الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله على من قال بأن الحديث من رواية عبيد الله الكبير المصغر الثقة، لا من رواية عبد الله الصغير المكبر المضعف، بأن أحد الأسانيد فيه التصريح بالكنية بأبي عبد الرحمن، وهي كنية الصغير المكبر المضعف فقال:
(فذكره هذا - أي الكنية بأبي عبد الرحمن - قاطع للنزاع من أنه عن المكبر لا عن المصغر، فإن المكبر هو الذي يكنى بأبي عبد الرحمن)(3) .
وبهذا يتبين أن الحديث ضعيف كما قال ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) رحمه الله:
(وهو مع هذا حديث غير صحيح ولا ثابت، بل هو حديث منكر عند أئمة هذا الشأن، ضعيف الإسناد عندهم لا يقوم بمثله حجة، ولا يعتمد على مثله عند الاحتجاج إلا الضعفاء في هذا العلم)(4) .
وأما الحديث الثاني وهو: (من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي) .
فهذا رواه البيهقي (5)
في سننه (6)، والدارقطني (ت - 385هـ) في سننه (7) ومدار الحديث على حفص بن سليمان:
(1) وفي نسخة: صويلح الحديث، انظر: الحاشية من ميزان الاعتدال 4/226.
(2)
ميزان الاعتدال 4/225 - 226.
(3)
لسان الميزان 6/135.
(4)
الصارم المنكي ص21، ونقل الشوكاني في الفوائد المجموعة ص117 عن السخاوي في المقاصد الحسنة: أن ابن خزيمة أشار إلى تضعيفه.
(5)
البيهقي: أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، أبو بكر، الحافظ العلامة الفقيه، صاحب التصانيف الكثيرة المشهورة، منها: السنن الكبرى، ودلائل النبوة، ت سنة 458هـ.
انظر في ترجمته: وفيات الأعيان لابن خلكان 1/57، النجوم الزاهرة للأتابكي 5/77.
(6)
السنن الكبرى كتاب الحج، باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم 5/246.
(7)
سنن الدارقطني (ضمن التعليق المغني على سنن الدارقطني كتاب الحج حديث 192 2/278) .
وهذا قال عنه البخاري (ت - 256هـ) : تركوه (1) .
وقال ابن حبان (2) في المجروحين: (كان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، وكان يأخذ كتب الناس فينسخها، ويرويها من غير سماع، وقال ابن معين رحمه الله ليس بثقة)(3) .
وقال ابن أبي حاتم (ت - 327هـ) رحمه الله: (ضعيف الحديث)(4) .
وقال ابن عدي (ت - 365هـ) رحمه الله: (وعامة حديثه عن من روى عنهم غير محفوظة)(5) .
والخلاصة قول ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله (متروك الحديث مع إمامته في القراءة)(6) .
وفي سنده - أيضاً -: ليث بن أبي سليم: وهو ضعيف متروك الحديث - أيضاً - كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله في تقريب التهذيب (7) .
قال ابن تيمية رحمه الله (وقد اتفق أهل العلم بالحديث على الطعن في حديث حفص هذا، دون قراءته)(8) .
وأما الحديث الثالث وهو: (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني) .
(1) التاريخ الكبير له 2/363.
(2)
ابن حبان: محمد بن حبان بن أحمد بن حبان التميمي البستي، أبو حاتم، القاضي، شيخ خراسان، أحد الأئمة، رحالة مصنف، دامت رحلته ما يزيد على ثلاثين عاماً، من أوعية العلم، ومن عقلاء الرجال، ت سنة 354هـ.
انظر في ترجمته: لسان الميزان لابن حجر 5/112، الرسالة المستطرفة للكتاني ص165.
(3)
المجروحين لابن حبان 1/255.
(4)
الجرح والتعديل 3/173 - 174.
(5)
الكامل في ضعفاء الرجال 2/791.
(6)
تقريب التهذيب 1/186.
(7)
انظر: تقريب التهذيب 2/138.
(8)
انظر: الرد على الأخنائي ص28، مجموع فتاوى ابن تيمية 27/217، وانظر: 24/357، 26/149، اقتضاء الصراط المستقيم 2/772، قاعدة جليلة ص134، قاعدة عظيمة ص86.
فهذا ذكره ابن عدي (ت - 365هـ) في ترجمة النعمان بن شبل (1) .
قال عنه ابن حبان (ت - 354هـ) : بعد أن ذكر أنه يروي عن مالك: (يأتي عن الثقات بالطامات، وعن الأثبات بالمقلوبات)(2) .
وقال الذهبي (ت - 748هـ) عن هذا الحديث: إنه (موضوع)(3) .
وعده جماعة من أهل العلم في عداد الموضوعات (4) .
قال ابن تيمية رحمه الله عن هذا الحديث: (لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، بل هو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه مخالف الإجماع، فإن جفاه (5) الرسول صلى الله عليه وسلم من الكبائر، بل هو كفر ونفاق
…
وأما زيارته فليست واجبة باتفاق المسلمين) . (6)
وأما حديث (من زار قبري أو من زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً) .
فهذا رواه البيهقي (ت - 458هـ) في سننه (7)، وقال بعد ذكر الحديث:
(هذا إسناد مجهول)(8) ؛ لأن في سنده رجلاً من آل عمر.
وأما سوار بن ميمون راوي الحديث عن (رجل من آل عمر) فقال عنه ابن عبد الهادي (ت - 744هـ)(شيخ مجهول الحال قليل الرواية، بل لا يعرف له رواية إلا هذا الحديث الضعيف المضطرب)(9) .
ثم ذكر اختلاف الرواة في اسمه هل هو سوار أو ميمون ثم قال:
(1) الكامل في ضعفاء الرجال 7/2480.
(2)
المجروحين 3/73.
(3)
ميزان الاعتدال 4/265.
(4)
انظر: تذكرة الموضوعات لابن طاهر الهندي ص76، تنزيه الشريعة المرفوعة للكتاني 2/172، الفوائد المجموعة للشوكاني ص118.
(5)
الصواب: جفاء.
(6)
الفتاوى الكبرى 2/5، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 18/342، 27/29، 35، اقتضاء الصراط المستقيم 2/772، الرد على الأخنائي ص27.
(7)
السنن الكبرى كتاب الحج، باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم 5/245.
(8)
السنن الكبرى 5/245.
(9)
الصارم المنكي ص101.
(والله أعلم هل كان اسمه سواراً أو ميموناً، فكيف يحسن الاحتجاج بخبر منقطع مضطرب نقلته غير معروفين، ورواته في عداد المجهولين)(1) .
وفي أحد أسانيد الحديث: هارون بن قزعة.
قال عنه الذهبي (ت - 748هـ)(هارون بن قزعة المدني عن رجل في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. قال البخاري: لا يتابع عليه)(2) .
وذكر ابن عدي (ت - 365هـ) كلام البخاري (ت - 256هـ) عنه السابق ولم يعلق عليه (3) ، مما يفيد أنه ارتضى هذا الحكم.
وقال الأزدي (4) : متروك.
وقد ذكر الذهبي (ت - 748هـ) كلام الأزدي (ت - 409هـ) هذا في ترجمة هارون بن قزعة، بعد قول الذهبي (ت - 748هـ) عنه (لا يعرف)(5) .
لكن الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) تعقب الإمام الذهبي في إيراده كلام الأزدي (ت - 409هـ) في الذي لا يعرف وقال: (والذي أراد الأزدي هو الأول)(6) أي هارون بن قزعة، وقد بين ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) رحمه الله ضعف الحديث، وأن سبب هذا الضعف أمور متعددة وهي:(الاضطراب والاختلاف والانقطاع والجهالة والإبهام)(7) .
وعلى كل حال: فليس في أحاديث فضل الزيارة حديث واحد صحيح، بل كلها إما ضعيفة، وإما موضوعة، كما قال ابن تيمية رحمه الله:
(1) الصارم المنكي ص101.
(2)
ميزان الاعتدال للذهبي 4/285.
(3)
انظر: الكامل في ضعفاء الرجال 7/2588.
(4)
الأزدي: عبد الغني بن سعيد بن علي الأزدي المصري، أبو محمد، محدث الديار المصرية، صاحب كتاب المؤتلف والمختلف، إمام زمانه في الحديث، كان ثقة، ت سنة 409هـ.
انظر في ترجمته: وفيات الأعيان لابن خلكان 2/390، سير أعلام النبلاء للذهبي 17/268.
(5)
ميزان الاعتدال 4/288.
(6)
لسان الميزان 6/181، 183.
(7)
الصارم المنكي ص102.
وليس في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث حسن، ولا صحيح، ولا روى أهل السنن المعروفة، كسنن أبي داود، والنسائي (1) وابن ماجه (2) ، والترمذي (3) ، ولا أهل المسانيد المعروفة كمسند أحمد ونحوه، ولا أهل المصنفات كموطأ مالك وغيره في ذلك شيئاً، بل عامة ما يروى في ذلك أحاديث مكذوبة موضوعة) (4) .
وأما حكاية الإجماع على استحباب الزيارة، وأن شيخ الإسلام لا يراها.
فقد أجاب شيخ الإسلام رحمه الله بأكثر من أربعين وجهاً على هذه الحكاية للإجماع، وعلى زعمهم أنه يخالف الإجماع فيها: فذكر أنه لم يقل بخلاف الإجماع مطلقاً، وإنما مقصود المخالفين بلفظ (الزيارة) : الزيارة التي تستلزم السفر وشد الرحل، فهناك فرق بين زيارة القبور، وبين السفر لزيارة القبور، أما الأول فهو مستحب على قول الجمهور، وأما الثاني فلم يقل به الأئمة المجتهدون.
(1) النسائي: أحمد بن علي بن شعيب بن علي النسائي، أبو عبد الرحمن، صاحب السنن، القاضي الحافظ، من نسا بخراسان، جال البلاد واستوطن مصر، وثار عليه الحساد، فخرج إلى الرملة، ت سنة 303هـ.
انظر في ترجمته: شذرات الذهب لابن العماد 2/239، الرسالة المستطرفة ص9 - 10.
(2)
ابن ماجه: محمد بن زيد الربعي القزويني، أبو عبد الله، ابن ماجه، صاحب السنن، أحد الأئمة في الحديث، رحل إلى البصرة وبغداد والشام والحجاز، ت سنة 273هـ.
انظر في ترجمته: تهذيب التهذيب لابن حجر 9/530، شذرات الذهب لابن العماد 2/164.
(3)
الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة السلمي الترمذي، أبو عيسى، صاحب السنن، تتلمذ على البخاري، وشاركه في بعض شيوخه، ومن أئمة المحدثين، رحل إلى بلاد كثيرة، وعمي في آخر عمره، مات بترمذ سنة 279هـ.
انظر في ترجمته: وفيات الأعيان لابن خلكان 3/407، ميزان الاعتدال للذهبي 3/678، تهذيب التهذيب لابن حجر 9/387.
(4)
مجموع فتاوى ابن تيمية 24/356 - 357، وانظر: 27/25، 29، 35، 185، 216، قاعدة عظيمة ص85.
وانظر: في مناقشة أحاديث الزيارة والرد عليها: الصارم المنكي لابن عبد الهادي ص20 - 187، أوضح الإشارة للنجمي ص133 - 171.
وأما جعل جنس الزيارة مستحباً بالإجماع فهذا باطل؛ لأنهم لم يفرقوا ويفصلوا بين المشروع والمحرم، فالزيارة بعضها مشروع، وبعضها محرم بالإجماع، والمخالفون لابن تيمية رحمه الله أنكروا هذا التفصيل، وهذا مخالف للإجماع، والحكم به باطل بالإجماع.
وأما حكاية الإجماع على جواز السفر لزيارة القبر فهذا ليس بصحيح، بل فيه نزاع مشهور، ودعوى الإجماع باطلة ما لم تثبت بنقل صحيح، وبتتبع واستقراء لأقوال العلماء المجتهدين.
وإذا كان هذا الأمر لا إجماع فيه فهو مما تنازع فيه العلماء، وما تنازع فيه العلماء يجب رده إلى الله والرسول إجماعاً، قال تعالى:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] .
وأيضاً: فإن الأمور المتنازع فيها بين العلماء المجتهدين لا يصح لأحد من القضاة أن يفصل النزاع فيها بحكم، وقوله كقول آحاد العلماء إن كان عالماً، وأما إن كان مقلداً كان بمنزلة العامة المقلدين (1) .
وأما الاحتجاج بالقياس على جواز زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم بجواز زيارة قبر غيره، فهذا لا ينكره أحد، حتى ابن تيمية رحمه الله لم يحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لمن كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن نقل عنه خلاف ذلك فهو باطل، والحكم المرتب على النقل الباطل باطل بالإجماع (2) .
وأما تخريجات المناوئين لابن تيمية كراهة الإمام مالك (ت - 179هـ) لفظة (الزيارة) في قول الناس: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر ابن تيمية تخريجات الناس لهذه الكراهة (3) .
ورجح ثلاثة احتمالات:
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 27/296.
(2)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 27/293.
(3)
انظر: قاعدة عظيمة لابن تيمية ص61، 71.
الأول: أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد في فضل زيارته أحاديث مخصوصة، أو سنة متبعة (1) .
الثاني: أن لفظ (الزيارة) صار في عرف الناس يحتمل الزيارة الشرعية، والزيارة المحرمة، فلا يصح الإطلاق لهذا اللفظ، وهذا محتمل لمعنى حق وآخر باطل (2) .
الثالث: أن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ليست في مقدور أحد، فهو داخل الحجرة، وإن ما يفعله الناس هو السلام عليه، فما بقي أحد يمكنه أن يزور قبره كما تزار سائر القبور، وإنما يمكن دخول مسجده، وهذا هو الذي يعنيه الناس بزيارة قبره، وهي تسمية غير متطابقة.
وقال ابن تيمية رحمه الله عن هذا التخريج: (وهذا من أحسن ما يعلل به كراهة من كره أن يقال زرت قبره)(3) .
وأما إذا أتى بلفظ (السلام) على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يكره بالاتفاق (4)
وأما حديث شد الرحل: فقد توقف عنده ابن تيمية رحمه الله طويلاً مبيناً الكثير من جزئياته، حتى لا يلتبس كلامه، ولا يفهمه المخالف على غير ما أراده رحمه الله.
فبين أن السفر إلى المساجد الثلاثة مشروع بنص هذا الحديث، قال رحمه الله:
(وقد اتفق أئمة الدين على أنه يشرع السفر إلى المساجد الثلاثة: المسجد
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 18/42، 26/149، 27/166، قاعدة جليلة له 296، الجواب الباهر له ص50.
(2)
انظر: منهاج السنة النبوية 2/444، قاعدة جليلة ص296، مجموع فتاوى ابن تيمية 27/30.
(3)
قاعدة عظيمة ص70، وانظر: ص61.
(4)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 18/342.
الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى) (1) ، وذكر أن هذا هو فعل الصحابة - رضوان الله عليهم - (2) .
ومشروعية السفر إلى المساجد الثلاثة ليست للوجوب إنما هي للندب والاستحباب، فلم يقل أحد: إن السفر إلى المسجد النبوي أو المسجد الأقصى واجب، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شرع السفر إليهما (3) .
والمساجد جميعها تشترك في العبادات، فكل ما يفعل في مسجد يفعل في سائر المساجد، إلا ما خص به المسجد الحرام كالصلاة إليه دون غيره، والطواف ونحوه، وأما المسجد النبوي، والمسجد الأقصى، فكل ما يشرع فيهما من العبادات فإنه يشرع في سائر المساجد: كالصلاة والدعاء والذكر، ولا يشرع فيهما جنس لا يشرع في غيرهما، لكنهما أفضل من غيرهما، فالصلاة فيهما تضاعف على الصلاة في غيرهما (4) .
وفضيلة المسجد النبوي ليس لأجل مجاورته القبر، بل هي ثابتة له في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يدفن في حجرة عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها وكذلك هي ثابتة بعد موته، كما أن المسجد الحرام مفضل لا لأجل قبره وكذلك المسجد الأقصى، فكيف لا يكون مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم مفضلاً لا لأجل القبر.
قال رحمه الله: (فمن ظن أن فضيلته لأجل القبر، أو أنه إنما يستحب السفر إليه؛ لأجل القبر فهو جاهل مفرط في الجهل، مخالف لإجماع المسلمين، ولما علم من سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وهذا تنقص بالرسول وبقوله ودينه، مكذب له فيما قاله، مبطل لما شرعه وإن ظن أنه يعظمه)(5) .
وأما السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة فغير مشروع اتفاقاً، وحرمه الجمهور، مع أن المساجد أحب البقاع إلى الله، كما ثبت في الحديث
(1) الجواب الباهر ص43.
(2)
انظر: قاعدة عظيمة ص48.
(3)
انظر: الرد على الأخنائي ص41.
(4)
انظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/825.
(5)
الرد على الأخنائي ص17.
الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحب البلاد إلى الله مساجدها» (1) .
وقد ذكر رحمه الله الخلاف في حكم السفر إلى زيارة القبر، وأن للعلماء فيه قولين مع أن النزاع مرجوح ضعيف في هذه المسألة، فمن قائل: إنه معصية وهو قول الجمهور، ومن قائل: إنه ليس بمحرم، لكن لا فضيلة فيه، وليس بمستحب، فهو مباح، ولم يقل أحد باستحباب السفر إلى زيارة القبر، ومن قال به فهو مخالف للإجماع (2) .
وهذا يجعلنا نفهم مراد العلماء الذين استحبوا السفر إلى زيارة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن مرادهم بالسفر إلى زيارته هو السفر إلى مسجده، وليس إلى قبره؛ لأن السفر إلى مسجده هو المشروع باتفاق المسلمين سلفهم وخلفهم، أما السفر إلى قبره - فكما ذكر آنفاً - أنه لم يقل أحد باستحبابه (3) .
وأما أصل زيارة القبور فلم يحرم ابن تيمية زيارتها، بل يرى الاستحباب - كما هو قول الجمهور - ومع ذلك فقد قال بعدم نسخ المنع من زيارة القبور بعض أئمة التابعين كالنخعي (ت - 96هـ) ، والشعبي (ت - 104هـ) وابن سيرين (ت - 110هـ) رحمهم الله جميعاً - (4) .
ولذا فإن ابن تيمية رحمه الله يفرق بين الزيارة الشرعية المستحبة، وبين السفر لزيارة القبر، فالأول مشروع اتفاقاً، وأما الثاني فغير مشروع (5) ، فلم يكن أحد
(1) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 1/464 كتاب المساجد، باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح، وابن خزيمة في صحيحه 2/268 جماع أبواب فضائل المساجد، باب فضل المساجد، والبيهقي في سننه 3/65كتاب الصلاة، باب فضل المساجد، والبغوي في شرح السنة 2/346كتاب الصلاة، باب فضل المساجد، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/50.
(2)
انظر: الرد على الأخنائي ص13، 15، الفتاوى الكبرى 2/6، اقتضاء الصراط المستقيم 2/670، 811.
(3)
انظر: الرد على الأخنائي ص135.
(4)
انظر: فتح الباري لابن حجر 3/148، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 27/197، الرد على الأخنائي ص38، 42، 161.
(5)
انظر: الرد على الأخنائي ص13، 23، 25، 48.
من الصحابة والتابعين يسافر إلى قبر، لا قبر نبي ولا غيره، بل كان عامتهم يأتون المدينة النبوية، ويصلون في مسجده صلى الله عليه وسلم، ويسلمون عليه في الصلاة، ويرون ذلك هو غاية المطلوب (1) وأما حديث (لا تشد الرحال) ، فهل المقصود به النهي، أو النفي فقط؟
فقد ذكر رحمه الله أنه لم يعرف نزاع بين السلف من الصحابة، والتابعين والأئمة أن مراد هذا الحديث هو النهي عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة.
وقد جاء الحديث بصيغة النهي كما ورد عن أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشدوا الرحال» (2) .
وقد أجاب رحمه الله على من قال بأن النفي في الحديث محمول على نفي الاستحباب بثلاثة أوجه:
الأول: أن هذا التخريج تسليم من قائله أن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة، ولا هو من الحسنات، ومن سافر لاعتقاده أن هذا السفر طاعة فإن ذلك محرم بإجماع المسلمين، فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحداً لا يسافر إليها إلا لذلك.
وأما إذا قدر شد الرحل إليها لغرض مباح فهذا جائز من هذا الباب.
الثاني: أن النفي يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم.
الثالث: يكدر على تخريجهم النفي في الحديث على نفي الاستحباب، ما رواه أبو سعيد (ت - 74هـ) - في الحديث السابق - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:«لا تشدوا الرحال» (3) .
وهو نهي صريح منه صلى الله عليه وسلم لأمته عن شد الرحل لغير المساجد الثلاثة (4) .
(1) انظر: قاعدة عظيمة 57، 58، الرد على الأخنائي ص111، 138.
(2)
سبق تخريجه ص317.
(3)
سبق تخريجه ص317.
(4)
انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية 1/142 - 143، الرد على الأخنائي له ص15، 30، 41.
ويرجح رحمه الله في تقدير الاستثناء المفرغ في الحديث لفظ (مكان) فيكون معنى الحديث:
لا تشد الرحال إلى مكان إلا إلى ثلاثة مساجد، ومن ظن أن هذا التخريج يلزم منه النهي عن السفر لطلب علم أو تجارة أو غير ذلك، فهو ظن خاطئ، ولا يلزم من ذلك التقدير هذا اللازم، قال رحمه الله:
(أما السفر لتجارة، أو جهاد، أو طلب علم، أو زيارة أخ في الله، أو صلة رحم، أو نحو ذلك، فإنها لم تدخل في الحديث؛ لأن تلك لا يقصد فيها مكان معين، بل المقصود ذلك المطلوب حيث كان صاحبه، ولهذا لم يفهم أحد من هذا هذه الأمور)(1) .
وأجاب رحمه الله عن الشبهة القائلة بأن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً، كزيارته في حياته، وقد استدل أصحابها بحديث الذي سافر لزيارة أخ له في الله وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«إن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها (2) ، قال: لا غير أني أحببته في الله عز وجل، فقال: فإني رسول الله إليك، فإن الله أحبك كما أحببته فيه» (3) .
وبين رحمه الله أن زيارة الأخ في الله الحي - كما في الحديث - نظير زيارة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وذلك بزيارة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له حال حياته.
وأما قياس زيارة القبر كزيارته حياً فهذا لم يقل به أحد من علماء المسلمين، وهذا من أفسد القياس، فمن المعلوم أن من زار الحي حصل له بمشاهدته، وسماع كلامه، ومخاطبته، وسؤاله، وجوابه وغير ذلك ما لا يحصل لمن لم يشاهده ولم يسمع كلامه.
(1) قاعدة عظيمة ص100.
(2)
أي تحفظها وتراعيها وتربيها انظر: لسان العرب لابن منظور 1/411 مادة (ربب) .
(3)
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 4/1988 كتاب البر والصلة، باب فضل الحب في الله، وأحمد في مسنده 2/462 من حديث أبي هريرة.
وليس رؤية القبر أو ظاهر جدار الحجرة بمنزلة رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ومشاهدته ومجالسته وسماع كلامه، ولو كان هذا مثل هذا لكان كل من زار قبره مثل واحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم، وهذا من أبطل الباطل.
وأما السفر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فهو:
إما أن يكون لما كانت الهجرة إليه واجبة كالسفر قبل الفتح، فيكون المسافر إليه مسافر للمقام عنده بالمدينة، وهذا السفر انقطع بفتح مكة لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» (1) .
وإما أن يكون المسافر إليه وافداً إليه ليسلم عليه، ويتعلم منه ما يبلغه قومه كالوفود الذين كانوا يفدون إليه صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة، وقد أوصى صلى الله عليه وسلم في مرضه قبل أن يموت بثلاث فقال:«أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم» (2) ، وكان السفر إليه في حياته لتعلم الدين، ولمشاهدته وسماع كلامه صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لو كان حياً في المسجد لكان قصده في المسجد من أفضل العبادات، وأما قصد القبر بالسفر: فليس عند قبره صلى الله عليه وسلم مصلحة من مصالح الدين، وقربة إلى رب العالمين إلا وهي مشروعة في جميع البقاع، فلا ينبغي أن يكون المسافر للزيارة غير معظم للرسول صلى الله عليه وسلم التعظيم التام، والمحبة التامة إلا عند قبره، بل هو مأمور بهذا في كل مكان، فكانت زيارته في حياته مصلحة راجحة لا مفسدة فيها، والسفر إلى القبر لمجرده مفسدة راجحة لا
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 6/3 كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، ومسلم في صحيحه 3/1487 - 1488، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة واللفظ له، والترمذي في سننه 4/148، كتاب السير، باب ما جاء في الهجرة.
(2)
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 3/1388 كتاب الجهاد، والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، والترمذي في سننه 4/156، كتاب السير، باب ما جاء في إخراج اليهود والنصارى، وأبو داود في سننه 3/424 كتاب الخراج، باب في إخراج اليهود من جزيرة العرب.
مصلحة فيها بخلاف السفر إلى مسجده فإنه مصلحة راجحة، ومن شبه من زار قبر شخص بمن كان يزوره في حياته فهو مصاب في عقله ودينه (1) .
وأما دعوى أن الزيارة إذا كانت جائزة أو قربة، فالوسيلة إليها جائزة أو قربة، فهذه دعوى باطلة، فليس كل ما كان جائزاً، أو مستحباً، أو واجباً جاز التوسل إليه بكل طريق، بل هذا الطريق يكون في المحرم المنهي عنه فقط، فكل ما كان منهياً عنه كان التوسل إليه محرماً.
وأما ما كان مأموراً به فلا بد أن يكون له طريق، لكن لا يجوز أن يتوسل إليه بكل طريق، بل لو توسل الإنسان إلى الطاعة بما حرمه الله - مثل الفواحش والبغي والشرك به والقول عليه بغير علم - لم يجز ذلك.
وإتيان المساجد للجمعة والجماعة من أفضل القربات، وقد قال عليه الصلاة والسلام:«صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمساً وعشرين درجة» (2) .
ولو أراد مع هذا أن يسافر إلى غير المساجد الثلاثة ليصلي هناك جمعة أو جماعة لم يكن هذا مشروعاً، بل هو محرم عند جمهور العلماء.
وكون الرحلة إلى القربة معصية كثير في الشريعة كالرحلة للصلاة والاعتكاف في غير المساجد الثلاثة، وكما لو رحلت المرأة إلى أمر غير واجب بدون إذن الزوج كحج التطوع، وكذلك لو رحل العبد إلى الحج بدون إذن سيده، وكذلك لو رحلت المرأة بغير زوج ولا ذي محرم لأمر مشروع غير واجب، وكذا لو أراد أن يسافر إلى الحج لكن الطريق يحصل فيه ضرر في دينه أو عرضه أو ماله.
وكذلك من طولب بقضاء دين لزمه قضاؤه لم يكن له أن يسافر بالمال
(1) انظر: الرد على الأخنائي 141 - 150.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 2/131، كتاب الصلاة باب فضل صلاة الجماعة، ومسلم في صحيحه 1/449 كتاب المساجد باب فضل الجماعة.
الذي يجب صرفه في قضاء دينه، وهذا كثير في الشريعة أن يكون العمل في أصله مشروعاً، لكن الطريق إليه والوسيلة غير مشروعة (1) .
وبعد هذا تبين لنا أن شيخ الإسلام رحمه الله متابع لمن قبله من السلف والأئمة، يجيز زيارة القبور الزيارة الشرعية - بما فيها قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وينهى عن الزيارة غير الشرعية، ويرى حرمة شد الرحل إلى غير المساجد الثلاثة، وأنه لا صحة لما لفّقه أعداؤه عليه، وما لبسوا فيه من الحق بالباطل على عامة الناس، ولهذا قيل في الرد عليهم:
وما نسبتم إليه عند ذكركم
…
ترك الزيارة أمرٌ لا يقول به
فقد أجابكم عن ذا بأجوبة
…
أزال فيها صدى الإشكال والشبه
وقد تبين هذا في مناسكه
…
لكل ذي فطنة في القول معربه
رميتموه ببهتان يشان به
…
فالله ينصفه ممن رماه به
وفي الجواب أمور من تدبرها
…
سقى الأنام بها من صفو مشربه
ولم يكن مانعاً نفس الزيارة بل
…
شد الرحال إليها فادر وانتبه
تمسكاً بصحيح النقل متبعاً
…
خير القرون أولي التحقيق والنَّبه
مع الأئمة أهل الحق كلهم
…
قالوا كما قال قولاً غير مشتبه
وقد علمت يقيناً حين وافقه
…
أهل العراق على فتياه فافت به (2)
(1) انظر: الرد على الأخنائي ص177 - 181.
(2)
القائل أبو عبد الله محمد بن يوسف الشافعي اليمني، وانظرها: محققة مع نظيرتها الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية تحقيق صلاح الدين مقبول أحمد ص122 - 124، وقد ذكر في البيت الأخير موافقة أهل العراق أي علماء بغداد شيخ الإسلام في فتواه التي تمنع شد الرحل إلى غير المساجد الثلاثة، انظرها: مسطورة في مجموع فتاوى ابن تيمية 27/194 - 213، وفي العقود الدرية لابن عبد الهادي ص342 - 360.