الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
يستمر المناوئون لابن تيمية رحمه الله في كيل الدعاوى عليه بدون نقد ولا تمحيص، فيقوّلونه ما لم يقل، ويبحثون عن الأدلة الصحيحة فيصرفون دلالتها عن ما هي عليه، ويستدلون بالأحاديث الضعيفة، والقصص، والحكايات المكذوبة، نصرة للبدعة، وحرباً للسنة وأهلها.
وقد ظن المناوئون لابن تيمية رحمه الله حين يزعمون أنه أول من منع التوسل بالنبي بعد وفاته أنهم قد قدحوا فيه، ورموه بالعظائم، ولم يعلموا أن هذه شهادة له بحسن المعتقد، وقوة البصيرة في الدين، وإن كان هناك قدح فهو في القرون السبعة السابقة التي رميت وافتري عليها بأنها تقول بجواز التوسل بالنبي بعد موته، وهي لم تقل.
ولهذا يعجب ابن تيمية رحمه الله حين يناظره مخالفوه، ويعرضون عليه مسائل عدة، يرون أنه خالف الإجماع فيها فيقول:(أن لفظ (كم) يقتضي التكثير، وهذا يوجب كثرة المسائل، التي خرق المجيب فيها الإجماع) (1) .
ثم يبين عدم خرقه الإجماع بقوله: (والذين هم أعلم من هذا المعترض، وأكثر اطلاعاً اجتهدوا في ذلك غاية الاجتهاد، فلم يظفروا بمسألة واحدة خرق فيها الإجماع، بل غايتهم أن يظنوا في المسألة أنه خرق فيها الإجماع، كما ظنه بعضهم في مسألة الحلف بالطلاق، وكان فيها من النزاع نقلا، ومن الاستدلال فقهاً وحديثاً ما لم يطلع عليه)(2) .
(1) الرد على الأخنائي ص195.
(2)
الرد على الأخنائي ص195.
ثم ذكر: (أن المجيب - ولله الحمد - لم يقل قط في مسألة إلا بقول سبقه إليه العلماء)(1) .
وأما التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم قبل خلقه فهذا من عجائب المبتدعة التي يقذفون بها على العامة، فيصدقهم من يصدقهم، ويعصم الله أهل السنة فيبعدهم عنها، ويكشف لهم كذبها وزيفها، وهذا من حفظه لهم سبحانه وتعالى.
وعمدة القائلين بالتوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم قبل وجوده على أحاديث، وقصص وحكايات عن الأنبياء السابقين، وأنهم يتوسلون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهي كلها كذب، لا يصح منها شيء ألبتة، يقول ابن تيمية رحمه الله:
(وهذه القصص التي يذكر فيها التوسل عن الأنبياء بنبينا ليست في شيء من كتب الحديث المعتمدة، ولا لها إسناد معروف عن أحد من الصحابة، وإنما تذكر مرسلة، كما تذكر الإسرائيليات التي تروى عمن لا يعرف)(2) .
وأما توسل آدم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل خلقه: فهو حديث ضعيف سنداً ومتناً.
أما السند ففيه: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ وهذا مجمع على ضعفه:
قال يحيى بن معين (ت - 233هـ) : بنو زيد بن أسلم ليسوا بشيء (3) .
وقال أبو زرعة (ت - 264هـ) : ضعيف الحديث (4) .
وقال النسائي (ت - 303هـ) : ضعيف (5) .
(1) الرد على الأخنائي ص195.
(2)
الرد على البكري ص65، وانظر في مناقشة المناوئين في استدلالهم ببعض الأحاديث على التوسل البدعي: البروق النجدية للقصيمي، التوسل الممنوع لعبد الباسط حسين.
(3)
انظر: الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 4/1581، ميزان الاعتدال للذهبي 2/264.
(4)
انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 5/234.
(5)
انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 2/264.
وضعفه على بن المديني (1) جداً (2) .
وقال ابن حبان (ت - 354هـ) : (كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته.. فاستحق الترك)(3) .
وقال البيهقي (ت - 358هـ) : (تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه عنه وهو ضعيف)(4) .
وقال الذهبي (ت - 748هـ) : ضعفوه (5) .
وقال ابن حجر (ت - 852هـ) : ضعيف (6) .
وأما عن إخراج الحاكم (7) لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وتصحيحه الإسناد (8)، فهذا له وقفات:
1 -
أن تصحيح الحاكم (ت - 405هـ) ، وتفرده به لا يعتد به، قال فيه ابن تيمية في نقده إخراجه هذا الحديث في مستدركه:(وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله، فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث، وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث، وهي موضوعه مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث)(9) .
(1) علي بن المديني: علي بن عبد الله بن جعفر بن المديني، أحد الأعلام الأثبات، الحافظ، له نحو مائتي مصنف، من أعلام العلماء بالعلل والرجال، ت سنة 234هـ.
انظر في ترجمته: طبقات الحنابلة لأبي يعلى 1/225، طبقات الشافعية للسبكي 2/145.
(2)
انظر: التاريخ الكبير للبخاري 5/284 - 285، تهذيب التهذيب لابن حجر 6/178.
(3)
المجروحين 2/57 - 59.
(4)
دلائل النبوة 5/489.
(5)
الكاشف 2/164.
(6)
تقريب التهذيب 1/480.
(7)
الحاكم: محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله، يعرف بابن البيّع، من أكابر حفاظ الحديث والمصنفين فيه، له كتب كثيرة أشهرها: المستدرك على الصحيحين، ت سنة 405 هـ.
انظر في ترجمته: لسان الميزان لابن حجر 5/232 - 233، الرسالة المستطرفة للكناني ص17.
(8)
المستدرك، كتاب التاريخ 2/615.
(9)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص169.
وذكر أمثلة لتصحيحه بعض الأحاديث وهي غير صحيحة ثم قال: (ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم، وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح، لكن هو في المصححين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه، وإن كان الصواب أغلب عليه، وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه)(1) .
2 -
أخرج الحاكم (ت - 405هـ) في مستدركه حديثاً لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ولم يصحح إسناده، وإنما قال:(الشيخان رضي الله عنهما لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم)(2) ، وهذا تناقض.
3 -
أن الإمام الذهبي (ت - 748هـ) رحمه الله لم يوافق الحاكم (ت - 405هـ) في تصحيحه هذا الإسناد، وإنما قال في تلخيص المستدرك:(بل موضوع، وعبد الرحمن واه)(3) .
وهناك علة ثانية في السند: وهي الجهالة، فالسند فيهم من لم يعرف، كما قال الهيثمي (4) :(فيه من لم أعرفهم)(5) .
وفي السند: عبد الله بن مسلم الفهري: فقد ذكر الذهبي (ت - 748هـ) في ترجمته هذا الحديث ووصفه بأنه: (خبر باطل)(6) ، ووافقه ابن حجر (ت - 852هـ)(7) .
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص170.
(2)
المستدرك، كتاب معرفة الصحابة 3/332.
(3)
انظر: تلخيص المستدرك ضمن المستدرك 2/615.
(4)
الهيثمي: علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي، أبو الحسن، المصري القاهري، حافظ له كتب وتخاريج في الحديث منها مجمع الزوائد، وترتيب الثقات لابن حبان، وزوائد ابن ماجه على الكتب الخمسة، ت سنة 807هـ.
انظر في ترجمته: شذرات الذهب لابن العماد 7/70، الضوء اللامع للسخاوي 5/200.
(5)
مجمع الزوائد 8/253 وانظر: التوسل للألباني ص124.
(6)
ميزان الاعتدال 2/504.
(7)
لسان الميزان 3/359 - 360.
وهناك - أيضاً - علة ثالثة في السند: وهي اضطراب عبد الرحمن، ومن دونه في إسناده، فتارة يروونه مرفوعاً، وتارة موقوفاً على عمر (ت - 23هـ) عن عبد الله بن إسماعيل بن أبي مريم، وعبد الله هذا لا يعرف (1) .
وأما المتن: فعليه ملحوظتان:
الأولى: أن ظاهر الحديث ينص على أن مغفرة الخطيئة كانت بسبب توسل آدم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مخالف لنص القرآن الكريم، إذ المغفرة كانت بسبب الكلمات التي تلقاها آدم من ربه، قال عز وجل:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]، وقيل: إن الكلمات هي ما ذكر في قوله تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] .
قال ابن تيمية رحمه الله: (أخبر أنه تاب عليه بالكلمات التي تلقاها منه، وقد قال تعالى: { {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] الآية)(2) .
الثانية: أن الحديث فيه زيادة: (ولولا محمد ما خلقتك) وهذه الزيادة تخالف القرآن الكريم، حيث نص على أن الحكمة من خلق الجن الإنس هي عبادة الله وحده، كما قال سبحانه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
وبعد هذا: فإن توسل آدم بمحمد - عليهما الصلاة والسلام - ليس بصحيح، والحديث مكذوب، لا يصح الاحتجاج به، كما قال ذلك ابن تيمية رحمه الله (3) .
وأما الحال الثاني: وهو التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته: فالمراد به
(1) انظر: التوسل أنواعه وأحكامه للألباني ص124، وانظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية ص175.
(2)
الرد على البكري ص10.
(3)
انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص166 - 170، الرد على البكري ص10، وقد حكم عليه الألباني بالوضع في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/38.
التوسل بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لا بذاته، وكان هذا هو المفهوم الصحيح لكلام الصحابة - رضوان الله عليهم - في معنى التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم: أنه توسل بدعائه لا بذاته، كما قال ابن تيمية رحمه الله:(وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته)(1) .
والسبب في خلط بعض المتأخرين، وعدم معرفتهم مقاصد ألفاظ الصحابة: أن لفظ التوسل دخل فيه من تغيير لغة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ما أوجب غلط من غلط عليهم في دينهم ولغتهم.
والعلم يحتاج إلى نقل مصدّق، ونظر محقق، والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة بثبوت لفظه، ومعرفة دلالته، كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم (2) .
وقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو للمسلمين إذا نزل بهم بلاء عام، أو فاقة، كطلبهم منه صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لهم، ولذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله:(وكانوا في حياته إذا أجدبوا توسلوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم، توسلوا بدعائه، وطلبوا منه أن يستسقي لهم)(3) .
ثم ذكر حديث ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما وهو قوله: (ربما ذكرت قول الشاعر وأنا انظر إلى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى، عصمة للأرامل
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي على المنبر، فما نزل حتى يجيش له ميزاب) (4) .
(1) قاعدة جليلة ص80.
(2)
انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية ص158 - 159.
(3)
قاعدة عظيمة ص75.
(4)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجمعة، رقم 1009.
وأما البيت فهو لأبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، انظر: فتح الباري لابن حجر 2/496، السيرة النبوية لابن هشام 1/277.
وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/768.
وأما المنع من التوسل بالذات فسببه: أن الذات ليست سبباً ولا وسيلة لإجابة الدعاء، فتوسلنا بها لا ينفع؛ لأنها ليست وسيلة مشروعة لإجابته، يقول ابن تيمية رحمه الله:(وأما إذا لم نتوسل إليه - سبحانه - بدعائهم ولا بأعمالنا، ولكن توسلنا بنفس ذواتهم: لم تكن ذواتهم سبباً يقتضي إجابة دعائنا، فكنا متوسلين بغير وسيلة، ولهذا لم يكن هذا منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً صحيحاً، ولا مشهوراً عن السلف)(1) .
وأما حديث الضرير: فهو حديث صحيح (2)، لكن النقاش في دلالة الحديث: فليس فيه ما يريدون تقريره من جواز التوسل بجاه الموتى وذواتهم، وذلك يتضح بأمور منها:
1 -
أن الحديث فيه التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ذلك أن الأعمى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب منه الدعاء بقوله:(ادع الله أن يعافيني) ، فطلب الأعمى هو دعاء الرسول له؛ لأنه يعلم أن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم أرجى للقبول.
2 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من الأعمى أنه يطلب الدعاء، ولذا خيره بين أن يدعو له، أو أن يصبر، فاختار الدعاء، خلافاً للمرأة التي بها مس، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يدعو لها، أو أن تصبر: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت لك.
فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله لي أن لا أتكشف) (3) .
3 -
أن الأعمى أصر على طلبه وقال: (بل ادع) وهذا ما يؤكد أنه توسل بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته.
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص275، وانظر ص131، الفتاوى الكبرى 4/365.
(2)
انظر: الرد على البكري ص130، وصححه الألباني في التوسل ص75 - 76.
(3)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المرض، حديث 5652 واللفظ له، ومسلم في صحيحه 2/637 كتاب الجنائز، باب الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى.
4 -
أنه لو كان توسل الأعمى بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، أو بذاته، لما احتاج أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلب منه الدعاء، بل كان يكفيه أن يبقى في بيته، ويتوسل إلى الله بذات النبي وجاهه، لكنه لم يفعل، فدل على أنه طلب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
5 -
أن قوله: (فشفعه فيّ) معناه: اقبل دعاءه في، ولا يصح أن يحمل على التوسل بالذات، أو الجاه، أو الحق.
قال ابن تيمية رحمه الله: (وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (اللهم شفعه فيّ) ، ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
6 -
أن معنى قوله: (وشفعني فيه) : أي أقبل شفاعتي ودعائي، وهذه الجملة من الحديث لا يستطيع المبتدعة أن يجيبوا عنها، مع أنها ثابتة صحيحة كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله (2) .
7 -
أن هذا الحديث آية من آيات النبي ومعجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم، ولذا رواه البيهقي (ت - 458هـ) في دلائل النبوة (3)، كما قال ابن تيمية رحمه الله:(هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب، وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق، والإبراء من العاهات، فإنه صلى الله عليه وسلم ببركة دعائه لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره)(4) .
8 -
أنه لو كان توسل الأعمى بذات الرسول صلى الله عليه وسلم وجاهه، وحقه، لا بدعائه،
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص115.
(2)
انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص198.
(3)
6/166 - 168، باب تعليم الضرير ما كان فيه شفاؤه فيه، ولم يصبر، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
(4)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص185 - 186.
لكان كل أعمى من الصحابة، ومن بعدهم، إلى هذا الزمان، يتوسل إلى الله بذات النبي صلى الله عليه وسلم، وجاهه، وحقه عند الله، ولن يبقى بعد ذلك أعمى.
كما قال ابن تيمية رحمه الله: (لو كان أعمى (1) توسل به، ولم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى، لكان عميان الصحابة، أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى) (2) .
وقال: (ولو أن كل أعمى دعا بدعاء ذلك الأعمى، وفعل كما فعل من الوضوء والصلاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وإلى زماننا هذا لم يوجد على وجه الأرض أعمى)(3) .
وفي الجملة: فإن الذي يرى أن توسل الأعمى بالرسول المقصود به دعاء الرسول فهو الموافق لمعنى الحديث، وهو العامل به على الحقيقة، كما يقول ابن تيمية رحمه الله:(فإنا بالحديث عاملون، وله موافقون، وبه عالمون، والحديث ليس فيه إلا أنه طلب حاجته من الله عز وجل، ولم يطلبها من مخلوق، ونحن إلى الله - تعالى - نرغب، وإياه نسأل، فهو المدعو المسؤول، كما أنه المعبود المستعان لا نشرك به شيئاً (4)، وقد قال - تعالى -:{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15] .
وأما الحال الثالث: وهو التوسل به صلى الله عليه وسلم وهو في قبره في الحياة البرزخية، - أي بعد مماته - فلم يكن أحد من الصحابة يتوسل به بعد موته صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل هذا عن أحد من الأئمة نقلاً صحيحاً، كما صرح بهذا ابن تيمية رحمه الله مراراً (5) .
(1) في الرد على البكري ص130 لو كان كل أعمى، وزيادة لفظة كل تستقيم بها الجملة.
(2)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص260.
(3)
الرد على البكري ص130.
(4)
الرد على البكري ص130 - 131.
(5)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 1/139 الفتاوى الكبرى 1/349، 4/365، الرد على البكري ص349، 341، قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص27، 210، 245، 260.
وأما قصة أم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهي ضعيفة، وعلتها: روح بن صلاح، وفيه ضعف.
قال ابن عدي (ت - 365هـ) : (في بعض حديثه نكرة)(1) .
وقال الدارقطني (ت - 385هـ) : (ضعيف الحديث)(2) .
وقال ابن ماكولا (3) :
(ضعفوه)(4) .
وذكر الذهبي (ت - 648هـ) أن ابن عدي (ت - 365هـ) ضعفه (5) .
وقال أبو نعيم (6) : (لم نكتبه إلا من حديث روح بن صلاح تفرد به)(7) .
وقال الهيثمي (ت - 807هـ) : (فيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح)(8) .
وأما توثيق ابن حبان (ت - 354هـ) ، والحاكم (ت - 405هـ) له، وانفرادهما بهذا التوثيق فليس بحجة، وقد بينت سابقاً موقف أهل العلم من تفرد الحاكم (ت - 405هـ) بالتوثيق، وأما ابن حبان (ت - 354هـ) فهو متساهل أيضاً في التوثيق، فتراه
(1) الكامل في ضعفاء الرجال 3/1005 - 1006.
(2)
انظر: لسان الميزان لابن حجر 2/446.
(3)
ابن ماكولا: علي بن هبة الله بن علي بن جعفر البغدادي العجلي، يعرف بابن ماكولا، أبو النصر، أمير مؤرخ، من العلماء الحفاظ الأدباء، سافر إلى الشام ومصر وما وراء النهر، وقتله مماليكه طمعاً في ماله سنة 486 هـ وقيل غير ذلك.
انظر في ترجمته: وفيات الأعيان لابن خلكان 2/466، فوات الوفيات للكتبي 3/110.
(4)
انظر: لسان الميزان لابن حجر 2/446.
(5)
انظر: ميزان الاعتدال 2/58.
(6)
أبو نعيم: أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، أبو نعيم، حافظ مؤرخ من الثقات في الحفظ والرواية، ولد ومات بأصبهان، من مؤلفاته: حلية الأولياء، ومعرفة الصحابة، ت سنة 430 هـ.
انظر في ترجمته: وفيات الأعيان لابن خلكان 1/75، طبقات الشافعية للسبكي 4/18.
(7)
حلية الأولياء 3/121، ترجمة عاصم بن سليمان الأحول.
(8)
مجمع الزوائد 9/257.
يوثق المجاهيل، حتى الذين يصرح هو نفسه أنه لا يدري من هو ولا من أبوه؟ (1) .
ولذا فإن تفردهما بالتوثيق لا يقبل أمام جرح غيرهما، حتى وإن كان جرح غيرهما مبهماً (2)
وأما حديث عائشة بنت الصديق (ت - 58هـ) رضي الله عنها وعن أبيها - فهو ضعيف لا يحتج به (3)، لأمور منها:
أ - ضعف السند ففيه سعيد بن زيد، وهو لا يحتج به، فكان يحيى بن سعيد (4) يضعف حديث سعيد جداً (5) .
وقال النسائي (ت - 303هـ) وغيره: ليس بالقوي (6) .
وقال ابن حبان (ت - 354هـ) : (كان صدوقاً حافظاً، ممن كان يخطىء في الأخبار، ويهم في الآثار حتى لا يحتج به إذا انفرد)(7) .
وقال ابن حجر (ت - 852هـ) : (صدوق له أوهام)(8) .
وفيه محمد بن الفضل أبو النعمان، ويقال له عارم، وهذا صدوق اختلط في آخر عمره، وتغير فلا يدري ما يحدث به، فوقعت المناكير الكثيرة في روايته، وإذا لم يعلم التمييز بين سماع المتقدمين والمتأخرين منه: يترك الكل، ولا يحتج بشيء منه (9) .
(1) انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني ص1/32.
(2)
انظر: التوسل أنواعه وأحكامه للألباني ص112.
(3)
انظر: الرد على البكري ص67.
(4)
القطان: يحيى بن سعيد بن فروخ القطان التميمي، أبو سعيد، من حفاظ الحديث، ثقة حجة، من أقران مالك وشعبة، بصري، ت سنة 198هـ.
انظر في ترجمته: تاريخ بغداد للخطيب 14/135، الجواهر المضية للقرشي 3/587.
(5)
انظر: الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 3/1213.
(6)
انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 2/138.
(7)
المجروحين 1/320.
(8)
تقريب التهذيب 1/296.
(9)
انظر: المجروحين لابن حبان 2/294، وإن كان الذهبي في ميزان الاعتدال 4/8، بعد نقله توثيق الدارقطني لمحمد بن الفضل وجزم بأنه لم يحدث بعد تغيره، قد نقل كلام ابن حبان، ورد عليه بكلام الدارقطني، ووصف الذهبي ابن حبان بأنه (الخسّاف المتهور) ، فغفر الله لهم جميعاً، وفي الجملة: فإن الحديث ضعيف حتى مع توثيق محمد بن الفضل والله أعلم.
قال ابن حجر (ت - 852هـ) : (ثقة ثبت تغير في آخر عمره)(1) .
ب - أن هذا الحديث موقوف، وليس بمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى فرض صحته فإنه رأي اجتهادي من عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها قد خالف السنة، وخالف أقوال الصحابة، وقد بين ابن تيمية رحمه الله الموقف من اجتهادات الصحابة إذا لم يخالف الصحابي غيره، أو إذا لم يشتهر، أو لم يعرف هل خالفه غيره أم لا؟ ثم قال:(ومتى كانت السنة تدل على خلافه كانت الحجة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فيما يخالفها بلا ريب عند أهل العلم)(2) .
جـ - أن هذا الحديث فيه مغالطة علمية وفيه مخالفة للواقع المحسوس: فليس في حجرة عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها في حياتها كوة، بل كان بعضه باقياً، كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعضه مسقوف، وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه، ولم توضع الكوة في حجرتها إلا بعد أن أدخلت الحجر في المسجد زمن الوليد بن عبد الملك (ت - 96هـ) ، لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك؛ لأجل تنظيف وغيره (3) .
وأما قصة الأعرابي الذي جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم: فهذه إسنادها مظلم، وبعضهم يرويها بسند، وبعضهم بغير سند، وإسنادها فيه: الحسن بن محمد.
قال ابن حبان (ت - 354هـ) : (لا يجوز الاحتجاج به، ولا الرواية عنه بحال)(4) .
قال عنه ابن عدي (ت - 365هـ) : (كل أحاديثه مناكير)(5) .
(1) تقريب التهذيب 2/200.
(2)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة 209 - 210.
(3)
انظر: الرد على البكري ص27 - 29، 67 - 68.
(4)
المجروحين 1/238.
(5)
الكامل في ضعفاء الرجال 2/734 - 735.
وقال ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) عن إسناد هذه القصة: (ليست هذه الحكاية المنكورة عن الأعرابي مما يقوم به حجة، وإسنادها مظلم مختلف، ولفظها مختلف أيضاً)(1) ، ففي سندها ومتنها اضطراب.
ولو كان عمل هذا الأعرابي عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم مشروعاً لسبقه إليه من كان إلى الخير أسبق، وإلى السنة أوفق من الصحابة والتابعين، لكنهم لم يعملوا هذا العمل، ولم يدلهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فدل على أن هذا العمل باطل لا تقوم به حجة، ولا يعمل مثل هذا العمل المبتدع إلا من ضعف إيمانه أو من جهل قدر الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره (2) .
وأما الحال الرابع: وهو التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم في عرصات القيامة ليشفع للناس: فإن أريد بالتوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم طلب الشفاعة منه يوم المحشر الشفاعة العظمى (3) ، فهذا مما أجمع عليه المسلمون، كما قال ابن تيمية رحمه الله:(أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة، بعد أن يسأله الناس ذلك وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة)(4)، كما قال تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال:{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] .
وقال رحمه الله: (من شك في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فهو مبتدع ضال)(5) .
وأما إلزام من لم ير التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بأنه لا يرى أنه رسول الآن، وأنه ليس له جاه، فهذا إلزام باطل، وتصوره كافٍ في الرد عليه؛ لأنه قام على أساس باطل وهو مشروعية التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، والمشروعية حكم شرعي يحتاج إلى دليل، والدليل يدل على خلاف ذلك، إذ
(1) الصارم المنكي ص253.
(2)
انظر: قاعدة في المحبة لابن تيمية (ضمن جامع الرسائل 2/377 - 378) .
(3)
وهذا هو الذي يقصده المبتدعة؛ لأن كثيراً من الناس يطلقون لفظ الشفاعة ويريدون بها التوسل كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص151.
(4)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص244.
(5)
الرد على البكري ص131.
أنه يدل على أن التوسل بالنبي بدعة غير مشروعة، وبهذا يبطل الإلزام.
ثم إن الدليل والميزان على قبول رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كما هو الحال في حياته يكون باتباعه وطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، فهو صلى الله عليه وسلم رسول، وإثبات رسالته يكون بهذه الأمور، لا بالأمور المبتدعة، وهو الدليل على محبة الله - تعالى - كما قال - تعالى - {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31] .
وأما مسألة جاه الرسول صلى الله عليه وسلم: فهو وجيه عند الله وهو أفضل الخلق، وجاهه ثابت لا يتغير بإحداث عبادة لا يرضاها الله ورسوله أو تركها، فهو - بأبي وأمي - أفضل الخلق على الإطلاق، ولا يؤثر في جاهه صلى الله عليه وسلم عند ربه فعل ما يغضبه ولم يأمر به من التوسل به بعد موته، ولا يزيد جاهه عند الله بطاعة الطائعين، ولا ينقص بمعصية العاصين، فربط عمل البدعة المحدثة بتقدير الرسول صلى الله عليه وسلم ومعرفة جاهه، وربط ترك البدعة - اتباعاً للسنة - بتنقيص الرسول صلى الله عليه وسلم، وجحده حقه وجاهه: ربطٌ لا أساس له من شرع صحيح، ولا عقل صريح والله المستعان.
وأما من زعم بأن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته بدعة حسنة؛ فقد ضل الطريق، ولم يهتد إليه سبيلاً، فليس هناك بدعة في الدين حسنة، بل البدع كلها ضلال كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:«كل بدعة ضلالة» (1) .
قال ابن تيمية رحمه الله: (من قال في بعض البدع إنها بدعة حسنة، فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي على أنها مستحبة.
أما ما ليس بمستحب ولا واجب فلا يقول أحد من المسلمين: إنها من الحسنات التي يتقرب بها إلى الله، ومن تقرب إلى الله بما ليس من الحسنات المأمور بها أمر إيجاب ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان، وسبيله من سبل الشيطان) (2) .
(1) سبق تخريجه ص148.
(2)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص28،