الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
مسألة التوسل
المبحث الأول: عقيدة أهل السنة والجماعة في التوسل
.
المبحث الثاني: دعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين، وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك، ومناقشتها.
المبحث الثالث: دعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدم جواز التوسل بالنبي، ومناقشتها.
المبحث الرابع: دعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين وإهانته لهم، ومناقشتها.
المبحث الأول
عقيدة أهل السنة والجماعة في التوسل
الوسيلة لغة: القربة، والمنزلة والدرجة، وهي فعيلة من توسلت إليه أي تقربت، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] .
وقال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57] .
وقال عنترة (1) :
إن الرجال لهم إليك وسيلة
…
أن يأخذوك تكحلي وتخضبي (2)
والواسل هو الراغب بالقرب من المتوسل إليه، كما قال لبيد (3) :
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم
…
بلى كل ذي دين إلى الله واسل (4)
فالتوسل بمعنى التقرب والتوصل إلى الشيء برغبة (5) .
(1) عنترة بن شداد بن قراد بن مخزوم العبسي، الفارس المشهور، من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية، وصف بالحلم على شدة بطشه، وفي شعره رقة وعذوبة توفي سنة 22 قبل الهجرة.
انظر في ترجمته: الشعر والشعراء لابن قتيبة ص42، المؤتلف والمختلف للآمدي ص151.
(2)
ديوان عنترة ص33.
(3)
لبيد بن ربيعة العامري الشاعر صحابي جليل، كان شريفاً في الجاهلية والإسلام، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد قومه وحسن إسلامه توفي سنة 41هـ.
انظر: في ترجمته: المؤتلف والمختلف للآمدي 174، طبقات فحول الشعراء للجمحي 1/135.
(4)
ديوان لبيد بن ربيعة ص132.
(5)
انظر: لسان العرب لابن منظور 11/724، 725 مادة (وسل) ، والقاموس المحيط للفيروزآبادي 4/65 مادة الوسيلة.
ومصطلح التوسل فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه، ويعطى كل ذي حق حقه، فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة، وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه.
ثم يعرف ما أحدثه المحدثون.
فالتوسل المشروع هو الذي أمر الله بابتغائه من الواجبات والمستحبات قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] .
وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل فيه سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً، وجماع الوسيلة الشرعية هو: التوسل باتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم (1) .
وأنواعه ثلاثة (2) :
الأول: التوسل إلى الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وذلك بأن يقدم شيئاً من الثناء على الله - عز جل - قبل مطلوبه في الدعاء فيكون من علامات قبول واستجابة الدعاء، قال الباري عز وجل:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] .
وما ذكره الله من توسل إبراهيم عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء: 78 - 85] .
ومن الأدلة قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في صلاته: «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك
(1) انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية ص79 - 80، 159.
(2)
ذكر الأنواع الثلاثة هو الغالب على من عدّ التوسل، وإلا فهناك من جعلها أكثر من ذلك فقد جعلها مبارك الميلي في رسالة الشرك ومظاهره ص188 - 191 خمسة أنواع.
على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي» (1) .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، اسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجاً» (2) .
وكان من استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني» (3) .
الثاني: التوسل إلى الله عز وجل بعمل صالح في قضاء الحوائج كتفريج الكربات ومغفرة الذنوب وغيرها، كما قال سبحانه:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193] .
وقال عز وجل: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53] .
وقال - سبحانه -: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 16] .
(1) أخرج الحديث النسائي في سننه 3/54 كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر، وأحمد في مسنده 4/264 من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه واللفظ له.
(2)
أخرج الحديث أحمد في مسنده 1/391 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، والحاكم في مستدركه، كتاب الدعاء 1/509، وابن حبان في صحيحه، حديث 2372 موارد كتاب الأذكار، باب ما يقول إذا أصابه هم أو حزن، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 1/336 حديث 199.
(3)
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 4/2586 كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل.
وقوله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 109] .
وقال عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] .
وعن بريدة بن الحصيب (ت - 63هـ) رضي الله عنه أنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«قد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب» (1) .
وما رواه البراء بن عازب (2)
رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على جنبك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت) فإن مت مت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول» (3) .
(1) الحديث أخرجه الترمذي في سننه 5/178، أبواب الدعوات، باب 65، وأبو داود في سننه 2/79، باب الدعاء، وابن ماجه في سننه 2/267 كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/329.
(2)
البراء بن عازب بن الحارث بن عدي الأنصاري الأوسي، أبو عمارة، له ولأبيه صحبة، استصغره النبي يوم بدر فلم يشهدها، وشهد أحداً، وغزا مع النبي أربع عشرة غزوة، فتح الري، وشهد غزو تستر وشهد الجمل وصفين، وقاتل الخوارج مع علي، ت سنة 72هـ.
انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 1/139، الإصابة لابن حجر 1/142.
(3)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 13/462 كتاب التوحيد، باب قوله: أنزله بعلمه، ومسلم في صحيحه، كتاب الأذكار رقم 2710، والترمذي في سننه 5/468 كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه.
وعن ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدّت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما، وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني حتى ألمت بها سَنة (1) من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها، وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره، حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين قال: يا عبد الله أدّ إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزي بي، فقلت: إني لا أستهزيء
(1) السنة: عام الجدب القحط الذي لا تنبت فيه الأرض، انظر: القاموس المحيط للفيروزآبادي 4/287 - 288 مادة السنة) ، لسان العرب لابن منظور 13/501 - 502 مادة (سنه) .
بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئاً، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون» (1) .
وينبه ابن تيمية رحمه الله إلى أن هذا النوع من التوسل المشروع هو أهم أنواعه الذي يوصل إلى سعادة الدنيا والآخرة فيقول: (التوسل بذلك - أي بالإيمان بالرسل وطاعتهم - إلى حصول ثواب الله وجنته ورضوانه فإن الأعمال الصالحة التي أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم هي الوسيلة التامة إلى سعادة الدنيا والآخرة)(2) .
ومما توسل به ابن تيمية رحمه الله من الأعمال الصالحة: محبة الصحابة، وآل البيت فقال في لاميته:
حب الصحابة كلهم لي مذهب
…
ومودة القربى بها أتوسل (3)
الثالث: التوسل إلى الله عز وجل بدعاء الرجل الصالح:
قال أنس بن مالك (ت - 93هـ) رضي الله عنه: (أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً في يوم الجمعة، قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال فادع الله لنا، فرفع يديه يدعو، وما نرى في السماء قزعة (4) ، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر عن لحيته صلى الله عليه وسلم، فمطرنا
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 4/449 كتاب الإجارة، باب من استأجر أجيراً فترك أجره.
ومسلم في صحيحه، كتاب الأذكار رقم 2743.
(2)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص241.
(3)
انظر: لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (ضمن اللآلي البهية في شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية للمرداوي ص13) .
(4)
القَزَعة: القزع: قطع من السحاب رقاق، كأنها ظل إذا مرت من تحت السحابة الكبيرة، وهي قطعة من الغيم.
انظر: لسان العرب لابن منظور 8/271 مادة (قزع) ، القاموس المحيط للفيروزآبادي 3/70 مادة (قزع) .
يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وصارت المدينة مثل الجوبة (1) ، وسال الوادي قناةً شهراً ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود) (2) .
وكان عمر بن الخطاب (ت - 23هـ) رضي الله عنه، إذا قحطوا استستقى بالعباس بن عبد المطلب (3) رضي الله عنه، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون) (4) .
وقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت - 852هـ) رحمه الله أنه كان من دعاء العباس (ت - 32هـ) قوله: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، فأرخت السماء، مثل الجبال حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس)(5) .
والأصل في دعاء الرجل الصالح لأخيه أنه مأمور به مرغب فيه، كما قال ابن تيمية رحمه الله: (دعاء المسلم لأخيه حسن مأمور به، وقد ثبت في الصحيح
(1) الجوبة: الفجوة، وكل منفتق يتسع فهو جوبة، انظر: لسان العرب لابن منظور 1/286 - 287 مادة (الجوب) ، القاموس الميحط للفيروزآبادي 1/51 مادة (الجوب) .
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجمعة رقم 933.
(3)
العباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الفضل، ولد قبل الرسول بسنتين، كانت إليه في الجاهلية السقاية والعمارة، حضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم، شهد بدراً مع المشركين مكرهاً، أسلم وهاجر قبل الفتح وشهده، وثبت يوم حنين، ت سنة 32هـ.
انظر في ترجمته: الطبقات الكبرى لابن سعد 4/3، الإصابة لابن حجر 2/271.
(4)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 2/394 كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا.
(5)
انظر: فتح الباري لابن حجر 2/497.
عن أبي الدرداء (1) ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه بدعوة، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل» (2) ، أي بمثل ما دعوت لأخيك به) (3) .
ولكن هل يطلب المسلم من الرجل الصالح أن يدعو له؟
الصواب: أن هذا العمل في الأصل غير محرم، وغير مأمور به، إلا أن يكون قصد طالب الدعاء من الرجل الصالح أن ينتفع المطلوب منه بالدعاء، وينتفع هو - أيضاً -، أما إذا كان قصده انتفاع نفسه فقط فهذا غير مأمور به.
قال رحمه الله: (وأما سؤال المخلوقِ المخلوقَ أن يقضي حاجة نفسه، أو يدعو له فلم يؤمر به)(4) .
وقال - أيضاً -: (ومن قال لغيره من الناس: ادع لي - أولنا - وقصده أن ينتفع ذلك المأمور بالدعاء، وينتفع هو أيضاً بأمره، ويفعل ذلك المأمور به كما يأمره لسائر فعل الخير، فهو مقتد بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤتم به، ليس هذا من السؤال المرجوح.
وأما إن لم يكن مقصوده إلا طلب حاجته، لم يقصد نفع ذلك، والإحسان إليه، فهذا ليس من المقتدين بالرسول المؤتمين به في ذلك، بل هذا من السؤال المرجوح الذي تركه إلى الرغبة إلى الله وسؤاله أفضل من الرغبة إلى المخلوق وسؤاله، وهذا كله من سؤال الأحياء الجائز المشروع) (5) .
(1) أبو الدرداء: عويمر بن عامر بن مالك الأنصاري الخزرجي، واختلف في نسبه، تأخر إسلامه قليلاً، فكان آخر أهل داره إسلاماً، وحسن إسلامه، كان فقيهاً حكيماً، شهد المشاهد بعد أحد، ت سنة 32هـ. وقيل غير ذلك.
انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 4/59، الإصابة لابن حجر 3/45.
(2)
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 4/2094 كتاب الذكر، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، وابن ماجه في سننه 2/967 كتاب المناسك، باب دعاد الحاج بنحوه.
(3)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص58.
(4)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص58.
(5)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص71.
وأما التوسل الممنوع فهو الذي لم يأمر الله بابتغائه، وهو توسل بغير ما شرعه وأراده الله ورسوله، وهو ثلاثة أنواع:
الأول: التوسل إلى الله عز وجل بذوات المخلوقين، كأن يقول المتوسل: اللهم إني أتوسل إليك بفلان - أي بذاته - أن تقضي حاجتي، في طلب رزق أو علم أو فك كربة أو غيرها.
وهذا النوع من التوسل لم يكن الصحابة يفعلونه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في الاستسقاء، ولا في غيره لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره، ولا عند غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المعروفة المشهورة بينهم، وكل ما نقل في هذا إنما هو أحاديث ضعيفة، أو عمن ليس قوله حجة.
وأما توسل الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم فالمقصود به التوسل بدعائه في حياته، لا بذاته في حياته أو بعد مماته، كما يقول ابن تيمية رحمه الله:(وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته)(1) .
وبيّن رحمه الله التوسل الصحيح بالأنبياء، وأن التوسل بذواتهم لا يجوز، ولا منفعة للعبد حاصلة منه: فقال: (التوسل إلى الله بالنبيين هو التوسل بالإيمان بهم، وبطاعتهم، كالصلاة والسلام عليهم، ومحبتهم، وموالاتهم، أو بدعائهم وشفاعتهم.
وأما نفس ذواتهم فليس فيها ما يقتضي حصول مطلوب العبد، وإن كان لهم عند الله الجاه العظيم، والمنزلة العالية بسبب إكرام الله لهم وإحسانه إليهم، وفضله عليهم) (2) .
وعلى ذلك فالتوسل بالأنبياء لا يكون إلا بأحد سببين:
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص80.
(2)
مجموع فتاوى ابن تيمية 27/133.
إما سبب منه إليهم: كالإيمان بهم، والطاعة لهم.
أو بسبب منهم إليه، كدعائهم له، وشفاعتهم فيه.
وقد نهينا عن التوجه إلى ذات من الذوات إلا إلى الله عز وجل وأمرنا بالإخلاص لله - سبحانه - في دعائنا، وتوجهنا، واعتقادنا، وأعمالنا، وأقوالنا، كما قال - سبحانه -:{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3]، وقال سبحانه:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] .
الثاني: التوسل إلى الله عز وجل بجاه أحد، أو حقه على الله عز وجل أو حرمته، ومنزلته عند ربه سبحانه وتعالى، وهذا - أيضاً - باطل، فليس في النصوص ما يثبت صحة هذا التوسل، وجاه المخلوق إنما استفاده من قربه من شرع الله بكثرة العمل الصالح، وهذه المنزلة مختصة به دون غيره، وليس لها تأثير على بقية المخلوقين من حيث التوسل بها لهم في الدنيا، كما قال تعالى:{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى} [النجم: 39 - 41] .
والسؤال بحق أحد من الخلق مبني على أصلين:
الأصل الأول: هل له حق عند الله؟. الصواب: أنه ليس لأحد من الخلق حق على خالقهم إلا ما أوجبه - سبحانه - على نفسه لخلقه تكرماً منه وتفضلاً، لا إلزاماً من أحد عليه، كما بين - سبحانه - بقوله:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] .
وقال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وقال:{وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6] .
وقد ورد في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا» (1) .
(1) لحديث أخرجه مسلم في صحيحه 4/1994 كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم.
وثبت عن معاذ بن جبل (ت - 17هـ) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معاذ: أتدري ما حق الله على عباده؟» . قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. يا معاذ: أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» . قال: الله ورسوله أعلم. قال: «أن لا يعذبهم» (1) .
الأصل الثاني: هل يُسأل الله عز وجل بذلك الحق؟
والجواب عن هذا أن يقال: إن كان الحق الذي سأل به سبباً لإجابة السؤال حَسُن السؤال به، كالحق الذي يجب لعابديه وسائليه.
وأيضاً: فإن هذا الحق من الله لعباده أن لا يعذبهم، وأن يكرمهم: ليس في استحقاقهم له ما يكون سبباً لمطلوب هذا السائل، فإن هذا الذي استحق ما استحقه إنما هو بسبب ما يسره الله له من الإيمان والطاعة وليس في إكرام الله له ما يقضي بإجابة سؤال المسؤول بحقه.
فإن قيل: القصد هو شفاعة المتوسل به ودعاؤه: فيقال: هذا حق، وتوسل مشروع، كما سبق في التوسل بدعاء الرجل الصالح الحي، فيكون القصد صحيحاً إذا كان حياً قادراً، ويكون الإطلاق واللفظ خاطئاً بدعياً.
وإن قيل: السبب هو محبتي لفلان محبة شرعية؛ لإيمانه بالله، وقربه منه.
فيقال مثل ما يقال في الأول: إن السبب شرعي، وهو داخل في التوسل المشروع لكن الإطلاق واللفظ خاطئ.
ثم يجب أن يفرق بين المحبة لله، والمحبة مع الله، فمن أحب مخلوقاً لطاعته لربه وقربه منه، فهذه محبة لله وفي الله، ومن أحب مخلوقاً كما يحب الخالق فقد جعله نداً من دون الله، وهذه المحبة تضره ولا تنفعه (2) ، كما قال
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 6/58 كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار، ومسلم في صحيحه 1/59 كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، واللفظ له.
(2)
انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية ص101 - 110.
تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة: 165] .
وأما قول القائل: أسألك بالله وبالرحم، أو بحق الرحم، فالجواب عنه من جهتين:
الأولى: أن الرحم لها حق توجبه على صاحبها بنص الكتاب والسنة، كما قال تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «الرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله» (1) .
الثانية: أن الإقسام بها لا يجوز فلا يجوز قسم مخلوق بمخلوق، والرحم مخلوقة.
كما قال صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله الرحم تعلقت بحقو الرحمن، وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قد رضيت» (2)، أما إن كان قصد القائل: أسألك بسبب الرحم فإن هذا حق؛ لأنها توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقاً (3) .
وأما الاستدلال على جواز السؤال بحق أحد على الله بحديث: «من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 10/417 كتاب الأدب، باب من وصل وصله الله، والترمذي في سننه 4/324 كتاب البر، باب ما جاء في رحم المسلمين واللفظ له، قال ابن حجر في فتح الباري 10/418: الشجنة: بكسر المعجمة، وسكون الجيم، بعدها نون، وجاء بضم أوله وفتحه رواية ولغة، وأصل الشجنة: عروق الشجر المشتبكة، وانظر: لسان العرب لابن منظور 13/233 مادة (شجن) .
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 8/579 كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} . وأحمد في مسنده من حديث أبي هريرة، واللفظ له.
(3)
انظر: قاعدة جليلة لابن تيمية ص276 اقتضاء الصراط المستقيم له 2/783، 801.
هذا، فإني لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا رياء، ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أقبل الله عليه بوجهه، واستغفر له سبعون ألف ملك» (1) ، فهو ضعيف جداً؛ ذلك لضعف سنده، ولعدم صحة استدلالهم بالحديث على ما يريدون.
أما سند الحديث: فقد ورد من طريقين:
الطريق الأول: فيه عطية العوفي: وهو ضعيف، لضعف حفظه، ولتدليسه التدليس القبيح.
وقد وصفه الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) بضعف الحفظ (2) .
وأما التدليس، فهو يدلس التدليس القبيح، وهو تدليس الشيوخ، ذلك أنه كان يأتي الكلبي (3) ،
وكنيته: أبو سعيد، فيحدث الناس ويقول: قال أبو سعيد يوهمهم أنه الخدري (4) .
وقد عده ابن حجر (ت - 852هـ)، من الطبقة الرابعة من طبقات المدلسين التي قال عنها: (الرابع: من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما
(1) الحديث أخرجه ابن ماجه في سننه 1/256 كتاب المساجد، باب المشي إلى الصلاة، وأحمد في مسنده 3/21 من حديث أبي سعيد الخدري، وابن السني في عمل اليوم والليلة 41 - 42، وضعفه الألباني كما في ضعيف سنن ابن ماجه ص60 - 61.
(2)
انظر: طبقات المدلسين ص50.
(3)
الكلبي: محمد بن السائب بن بشر بن عمرو الكلبي، أبو النضر، كان عطية العوفي يكنيه بأبي سعيد، شيعي كذاب، قال الذهبي:(لا يحل ذكره في الكتب، فكيف الاحتجاج به) ، ت سنة 140هـ.
انظر في ترجمته: المجروحين لابن حبان 2/253، ميزان الاعتدال للذهبي 3/556، تهذيب التهذيب لابن حجر 7/178.
(4)
انظر في نسبة هذا الأمر إلى عطية: المجروحين لابن حبان 2/176، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 5/2007، ميزان الاعتدال للذهبي 3/79 - 80 ناقلاً عن الإمام أحمد.
صرحوا فيه بالسماع؛ لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل) (1) .
ولذلك ضعف حديثه جمع من أهل العلم؛ فقال ابن حبان (ت - 354هـ) :
(لا يحل الاحتجاج به، ولا كتابة حديثه إلا على جهة التعجب)(2) .
وقال ابن عدي (ت - 365هـ) : (كان سفيان الثوري يضعف حديث عطية)(3) .
وقال عنه الذهبي (ت - 748هـ) : (تابعي شهير ضعيف)(4) .
وقال - أيضاً -: (ضعفوه)(5) .
وفي السند ضعفاء غير عطية العوفي: ففيه فضيل بن مرزوق وهو ضعيف، وإن كان عطية أضعف منه (6) .
وفي السند: الفضل بن موفق، وهو ضعيف - أيضاً - (7) .
وأما الطريق الثاني: ففيه: الوازع بن نافع العقيلي: وهذا متروك الحديث.
فقال ابن معين (ت - 233هـ) : ليس بثقة (8) .
وقال البخاري (ت - 256هـ) : منكر الحديث (9) .
وقال النسائي (ت - 303هـ) : متروك الحديث (10) .
(1) طبقات المدلسين ص14، وانظر: إتحاف ذوي الرسوخ لحماد الأنصاري ص39.
(2)
المجروحين 2/176.
(3)
الكامل في ضعفاء الرجال 5/2007.
(4)
ميزان الاعتدال 3/79.
(5)
الكاشف 2/269.
(6)
انظر: المجروحين لابن حبان 2/209، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 6/2045، ميزان الاعتدال للذهبي 3/362، تقريب التهذيب لابن حجر 2/113.
(7)
انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 3/360، الكاشف له 2/384، تقريب التهذيب لابن حجر 2/112.
(8)
انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 4/327.
(9)
انظر: الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 7/2555 - 2559، ميزان الاعتدال للذهبي 4/327.
(10)
انظر: الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 7/2555 - 2559.
وقال ابن حبان (ت - 354هـ) : (كان ممن يروي الموضوعات عن الثقات على قلة روايته)(1) .
وقد ضعف ابن تيمية رحمه الله هذا الحديث من طريقيه، كما قال:(هذا الحديث هو من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد، وهو ضعيف بإجماع أهل العلم، وقد روي من طريق آخر وهو ضعيف - أيضاً -)(2) .
وأما عن استدلالهم بالحديث: فعلى فرض صحته، فإنه لا يدل على ما يريدون ويقصدون؛ لأن حق السائلين هو ما تكفل الله به، ووعد به، وجعله حقاً عليه تكرماً منه وتفضلاً على عباده ألا وهو إجابة سؤالهم وإعطاؤهم طلبهم، كما قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] .
ومما أوجبه على نفسه ما ذكره سبحانه بقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وقوله:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وقوله:{وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا} [التوبة: 111] .
وإذا كان حق السائلين، والعابدين له هو الإجابة والإثابة بذلك فذاك سؤال لله بأفعاله كالاستعاذة بنحو ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:«أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (3) ، فالاستعاذة بمعافات الله التي هي فعله، كالسؤال
(1) المجروحين 3/83.
(2)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص215، وانظر ص277، والرد على البكري له ص41، واقتضاء الصراط المستقيم له 2/796، وانظر: تضعيف الألباني الحديث في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/34 - 38.
(3)
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 1/352 كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع، والترمذي في سننه 5/524 كتاب الدعوات، باب 76، ومالك في الموطأ 1/214 كتاب القرآن، باب ما جاء في الدعاء.
بإثابته التي هي فعله (1) .
قال ابن تيمية: (حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين أن يثيبهم، وهو حق أحقه الله تعالى على نفسه الكريمة بوعده الصادق باتفاق أهل العلم)(2) .
الثالث: الإقسام على الله بأحد من خلقه: الإقسام على الله: أن تحلف على الله أن يفعل، أو تحلف عليه أن لا يفعل، مثل: والله ليفعلن الله كذا، أو والله لا يفعل الله كذا.
والقسم إما أن يكون قسم بالله، أو قسم على الله.
فأما القسم بالله على أحد فهذا محله كتب الفقه في أبواب (الأيمان والنذور) ، من حيث أنواعه وأحكامه.
وأما القسم على الله فهو أنواع:
أولاً: أن يقسم على الله بما أخبر به الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم في الشريعة، من نفي، أو إثبات، فهذا جائز، بل هو دليل قوة إيمان المقسم، مثل قوله: والله لا يغفر الله لمن أشرك به، أو والله ليدخلن الجنة سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب.
ثانياً: أن يقسم على ربه، لقوة رجائه به، وحسن ظنه بربه، وهؤلاء قليل (3) ، كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في قصة الربيع بنت النضر (4) رضي الله عنها فقال
(1) انظر: قاعدة جليلة لابن تيمية ص277 - 278.
(2)
قاعدة جليلة ص215.
(3)
انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية ص90.
(4)
الربيع بنت النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام الأنصاري، عمة أنس خادم الرسول، ووالدة حارثة بن سراقة، سألت النبي وقالت: أخبرني عن حارثة فإن كان من أهل الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك فترى ما أصنع؟ فقال: يا أم حارثة، إنها جنان كثيرة، وإن حارثة منها في الفردوس الأعلى.
انظر في ترجمتها: الاستيعاب لابن عبد البر 4/308، الإصابة لابن حجر 4/301.
أنس رضي الله عنه: والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«يا أنس، كتاب الله القصاص» ، فرضي القوم وعفوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» (1) .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رب أشعث أغبر ذي طمرين (2) ، مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» (3) .
وأما إذا كان الحامل لهذا القسم: تحجر فضل الله عز وجل والإعجاب بالنفس، وسوء الظن به - سبحانه - فهذا محرم، وذريعة لإحباط عمل المقسم، ودليل ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: «من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرت له، وأحبطت عملك» (4) .
ثالثاً: القسم على الله بأحد من خلقه، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة، ولا التابعين، بل النص على تحريمه، فلا يجوز الحلف بغير الله، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من حلف بغير الله فقد أشرك» (5)، وقال:«من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» (6) .
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 5/306 كتاب الصلح، باب الصلح في الدية، ومسلم في صحيحه 3/1302 كتاب القسامة، باب إثبات القصاص في الأسنان وما معناها.
(2)
الطمر: الثوب الخلق، وخص ابن الأعرابي به الكساء البالي من غير الصوف.
انظر: لسان العرب لابن منظور 4/503 مادة (طمر) ، القاموس المحيط للفيروزآبادي 2/81 مادة (الطمر) .
(3)
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 4/2024 كتاب البر والصلة، باب فضل الضعفاء، والحاكم في مستدركه 4/328 كتاب الرقاق، وصححه، ولم يتعقبه الذهبي، والطحاوي في مشكل الآثار 1/292.
(4)
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 4/2023 كتاب البر والصلة، باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله.
(5)
سبق تخريجه ص361.
(6)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 11/530 كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم كتاب الشهادات، باب كيف يستحلف، ومسلم في صحيحه 3/1266 كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى، والدارمي في سننه 2/185 كتاب الأيمان والنذور، باب النهي عن أن يحلف بغير الله.
فلا يحل لأحد أن يقسم بالمخلوقات ألبته (1) ، وهو حرام إجماعاً، كما حكى ابن حزم (2) الإجماع على ذلك (3) .
وبيّن ابن تيمية رحمه الله حرمة الإقسام على الله بمخلوق بقسمة عقلية جيدة، فذكر أن الإقسام على الله بأحد من المخلوقات: إما أن يكون مأموراً به: إيجاباً أو استحباباً، أو منهياً عنه: نهي تحريم أو كراهة، أو مباحاً لا مأموراً به ولا منهياً عنه.
فإن قيل: إن ذلك مأمور به مباح: فإما أن يفرق بين مخلوق ومخلوق، وإما أن يقال: إن المشروع هو القسم بالمخلوقات المعظمة فقط، أو ببعضها.
فمن قال: إن هذا مأمور به أو مباح في المخلوقات جميعها: لزم أن يسأل الله تعالى بشياطين الإنس والجن، وهذا لا يقوله مسلم.
وإن قيل: يُسأل بالمخلوقات المعظمة فقط كالمخلوقات التي أقسم بها في كتابه؛ لزم من هذا أن يسأل بالليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى، والشمس وضحاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، وسائر ما أقسم الله به في كتابه، فإن الله يقسم بما يقسم به من مخلوقاته؛ لأنها آياته ومخلوقاته فهي دليل على ربوبيته، وألوهيته، ووحدانيته، فهو سبحانه يقسم بها؛ لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه، وأما نحن المخلوقين فليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع.
وهذا القسم بالمخلوقات: شرك، ويلزم منه أن يقسم بكل ذكر وأنثى، وبكل نفس ألهمها الله فجورها وتقواها، وبالرياح، والسحاب، والكواكب.
(1) انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية 4/370 - 371، قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة له ص83 - 85.
(2)
ابن حزم: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي، من أوسع أهل قرطبة معرفة باللسان، كان شافعياً ثم انتقل إلى القول بالظاهر في الفروع، لكنه يؤول الصفات، وهو مضطرب الاعتقاد، ت سنة 456هـ.
انظر في ترجمته: إخبار العلماء للقفطي ص156، لسان، الميزان لابن حجر 4/198.
(3)
انظر: مراتب الإجماع ص158.
ويلزم من ذلك أن يسأل بالمخلوقات التي عبدت من دون الله كالشمس والقمر.
قال ابن تيمية: (الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في دين الإسلام، ومما يظهر قبحه للخاص والعام)(1) .
وأما إن قال قائل: إنه يقسم على الله بمعظم دون معظم من المخلوقات، كالأنبياء دون غيرهم، أو نبي دون غيره.
فيجاب: بأننا وإن أقررنا هذا التفاضل بين بعض المخلوقات، وأن بعضها أفضل من بعض، إلا أنها جميعاً مشتركة في أنه لا يجعل شيء منها نداً لله - تعالى - فلا يُعبد، ولا يتوكل عليه، ولا يخشى، ولا يتقى، ولا يصام له، ولا يسجد له، ولا يرغب إليه ولا يقسم به، وقد سوى الله بين المخلوقات المعظمة وغيرها في ذم الإشراك بها مع الله بقوله:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79 - 80] .
وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 56 - 57] .
وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) } [سبأ: 22] .
قال ابن تيمية رحمه الله: (فقد تبين أن الله سوى بين المخوقات في هذه الأحكام، لم يجعل لأحد من المخلوقين سواء كان نبياً أو ملكاً أن يقسم به، لا يتوكل عليه، ولا يرغب إليه ولا يخشى، ولا يتقى)(2) .
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص217.
(2)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص221، وانظر: القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين 3/261 - 262.