المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى - دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية - عرض ونقد

[عبد الله بن صالح الغصن]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أسباب اختيار البحث:

- ‌خطة البحث:

- ‌ منهج في كتابة البحث

- ‌[شكر وتقدير]

- ‌[التمهيد]

- ‌ترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

- ‌1 - اسمه ونسبه:

- ‌2 - مولده ونشأته:

- ‌3 - عصره:

- ‌أولاً: الناحية السياسية:

- ‌ثانياً: الناحية الاجتماعية:

- ‌ثالثاً: الناحية العلمية:

- ‌4 - محن الشيخ:

- ‌5 - وفاته رحمه الله:

- ‌6 - مؤلفاته:

- ‌7 - بعض ثناء الناس عليه:

- ‌منهج شيخ الإسلام في تقرير العقيدة والاستدلال عليها:

- ‌الفصل الأول: المناوئون لشيخ الإسلام، ودعاواهم حول منهجه

- ‌المبحث الأول: المناوئون لشيخ الإسلام

- ‌المطلب الأول: أقسام المناوئين

- ‌المطلب الثانيالمنهج العام للمناوئين

- ‌المطلب الثالثاعتراف خصومه بقدره

- ‌المبحث الثانيدعاوى المناوئين حول منهج شيخ الإسلام ابن تيمية ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعاوى المناوئين حول منهج شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌المطلب الثانيمناقشة دعاوى المناوئين حول منهج ابن تيمية

- ‌الفصل الثانيدعوى التجسيم والتشبيه

- ‌المبحث الأول:قول أهل السنة في مسألة التجسيم والتشبيه

- ‌المطلب الأول: التعريف بالمشبهة

- ‌المطلب الثانياعتقاد السلف نفي التمثيل والتشبيه

- ‌المطلب الثالثرد السلف دعوى أن الإثبات يستلزم التشبيه

- ‌المبحث الثانيدعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى قوله بالجهة والتحيز ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى قوله بالجهة والتحيز

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الثالث: دعوى القول بقدم العالم

- ‌المبحث الأولمعتقد أهل السنة في إمكان حوادث لا أول لها

- ‌المطلب الأولالتسلسل: تعريفه، أقسامه، حكم كل قسم

- ‌المطلب الثانيالصفات الاختيارية

- ‌المطلب الثالثشرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه

- ‌المبحث الثانيدعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لهايستلزم القول بقدم العالم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لها يستلزم القول بقدم العالم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الرابعدعوى نهي ابن تيمية عن زيارة القبور

- ‌المبحث الأولعقيدة أهل السنة في زيارة القبور وشد الرحل إليها

- ‌المبحث الثانيالزعم أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور ومناقشته

- ‌المطلب الأولالزعم بأن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور

- ‌المطلب الثانيمناقشة دعوى أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقشتها

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الخامسدعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياءوقبور غيرهم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياءوقبور غيرهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الخامسمسألة التوسل

- ‌المبحث الأول: عقيدة أهل السنة والجماعة في التوسل

- ‌المبحث الثانيدعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين،وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين،وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدمجواز التوسل بالنبي، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدم جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين،وإهانته لهم، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين، وإهانته لهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل السادسموقف شيخ الإسلام من الصحابة

- ‌المبحث الأولعقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة

- ‌المبحث الثانيدعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهمالأئمة الخلفاء الأربعة، ومناقشتها

- ‌المطلب الأول دعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهم الأئمة الخلفاء الأربعة

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت،وتعمية مناقبهم، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت، وتعمية مناقبهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى رد الأحاديث الصحيحة في مقام المبالغةفي توهين كلام الشيعة ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى رد الأحاديث الصحيحةفي مقام المبالغة في توهين كلام الشيعة

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل السابعمسألة دوام النار

- ‌المبحث الأولدلالة نصوص الكتاب والسنة على خلود النار

- ‌المبحث الثانيدعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

‌المطلب الثاني

مناقشة الدعوى

يحذر ابن تيمية رحمه الله من اتباع الهوى، ويعتقد أن مبدأ أنواع الضلالات هو تقديم الهوى على الشرع، وأن أهل الأهواء أهون شيء عليهم هو الكذب المختلق، يقول رحمه الله:(فالحذر الحذر أيها الرجل من أن تكره شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ترده لأجل هواك، أو انتصاراً لمذهبك، أو لشيخك..)(1) .

ويقول: (وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه)(2) .

وقال: (ومبدأ هذا من أقوال الذين يعارضون النصوص بآرائهم)(3) ، ثم نقل عن الشهرستاني (4) أن مبدأ أنواع كل الضلالات هو تقديم الرأي على النص، واختيار الهوى على الشرع (5) .

وذكر عن أهل الأهواء أنهم يعتمدون على نصوص غير موثوقة وغير

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 16/528.

(2)

منهاج السنة النبوية 5/256.

(3)

درء تعارض العقل والنقل 5/7.

(4)

الشهر ستاني: محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني الشافعي، أبو الفتح، ولد بشهرستان، رحل إلى بغداد وأقام بها، درس المناظرة والأصول وغيرها، ومن مصنفاته: نهاية الإقدام، والملل والنحل، ت سنة 548هـ.

انظر في ترجمته: شذرات الذهب لابن العماد 4/149، منهج الشهرستاني في كتابه الملل والنحل للسجستاني ص16 - 56.

(5)

الملل والنحل للشهرستاني 1/7.

ص: 561

معتمدة، ولا يعرف لها قائل، وأن أهون شيء عندهم الكذب المختلق (1) .

ويضرب مثالاً على هذه القاعدة بالرافضة وأنهم وضعوا في فضائل علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه مالا يكاد يحصى مع أن في فضائله الصحيحة ما يغني عن هذا الباطل الذي يذكرونه، يقول رحمه الله:(والمقصود هنا أنه قد كذب على علي بن أبي طالب من أنواع الكذب الذي لا يجوز نسبته إلى أقل المؤمنين)(2) .

ويذكر أن الذي ينكر فضائل أهل البيت ويعاديهم هم الرافضة فيقول: (الرافضة من أعظم الناس قدحاً وطعناً في أهل البيت، وأنهم الذين عادوا أهل البيت في نفس الأمر، ونسبوهم إلى أعظم المنكرات، التي من فعلها كان من الكفار، وليس هذا ببدع من جهل الرافضة وحماقاتهم)(3) .

وفي مقابل اتهام ابن تيمية رحمه الله بأنه يخالف الأحاديث الصحيحة: ينبه إلى أن الحق دائماً مع الأحاديث والآثار الصحيحة، إلا أن بعض المصنفات تجمع بين الصحيح والضعيف بل والموضوع بدون تمييز أو تمحيص، ولذا يجب التنبيه على ما فيها من أحاديث غير صحيحة، يقول رحمه الله:(وبالجملة فما اختص به كل إمام من المحاسن والفضائل كثير ليس هذا موضع استقصائه، فإن المقصود أن الحق دائماً مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره الصحيحة)(4) .

وفي مقابل اتهام ابن تيمية رحمه الله برد الأحاديث الصحيحة؛ لأجل هوى في نفسه؛ أو لأجل المبالغة في توهين كلام الشيعة. ينبه رحمه الله على أن الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم (5) .

وأما القول بأن ابن تيمية رحمه الله يرى أنه لا يصح في فضل علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه

(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 27/479.

(2)

مجموع فتاوى ابن تيمية 35/186، وانظر: درء تعارض العقل والنقل 7/93.

(3)

منهاج السنة النبوية 7/408.

(4)

منهاج السنة النبوية 5/182، وانظر: 7/332.

(5)

انظر: منهاج السنة النبوية 4/337.

ص: 562

- حديث أصلاً - فهذا غير صحيح بنص كلام ابن تيمية رحمه الله إذ يقول: (مجموع ما في الصحيح لعلي نحو عشرة أحاديث)(1) .

ومما ورد في فضله من الأحاديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» ، قال: فبات الناس يدوكون (2) ليلتهم أيهم يعطاها قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال:«أين علي بن أبي طالب؟» ، فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال:«فأرسلوا إليه» ، فأُتي به فبصق رسول الله في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال:«انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» (3)

ومن فضائله: جعل محبته من علامات الإيمان لقوله رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليّ أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق)(4) .

وفي بيان علو منزلة علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه عند النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى بيت فاطمة، فلم يجد علياً في البيت فقال:«أين ابن عمك؟» قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان:«انظر أين هو؟» فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد، فجاء

(1) منهاج السنة النبوية 8/421، وانظر: ص540.

(2)

الدوك: الخوض والاختلاف: انظر: لسان العرب لابن منظور 10/430 مادة (دوك) ، القاموس المحيط للفيروزآبادي 3/313 مادة (داكه) .

(3)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/70 كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب.

(4)

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 1/86، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعل رضي الله عنهم من الإيمان.

ص: 563

رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع، وقد سقط رداؤه عن شقه، وأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول:« (قم أبا تراب، قم أبا تراب» (1) .

وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة رضي الله عنهما وقد طلبت منه فاطمة خادماً لها فقال: «ألا أعلمكما خيراً مما سألتماني: إذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أربعاً وثلاثين وتسبحا ثلاثاً وثلاثين، وتحمدا ثلاثاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم» (2) ، وغيرها من الأحاديث الصحيحة الدالة على فضله (3) .

يقول ابن تيمية رحمه الله عن حديث الراية: (هو أصح حديث يروى في فضله)(4) .

إن ابن تيمية رحمه الله من الأئمة في الحديث دراية ورواية، وهو ناقد لمتون الأحاديث الضعيفة والموضوعة، كما هو ناقد للأسانيد وبارع في معرفتها، وتمييز الضعيف منها عن الصحيح، ولما كان الروافض من أجهل الناس في العقليات، وأكذبهم في النقليات (5) ، ولما كانت كتبهم مليئة بالأحاديث الموضوعة التي لا إسناد لها، أو الضعاف الواهيات: لم يركز ابن تيمية رحمه الله نقده على السند، لوضوح وضعه أو ضعفه عند المشتغلين بالفن، وركز على نقد المتن، ومخالفته للنصوص الأخرى الواردة في المسألة.

وقد وافق الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله ابن تيمية رحمه الله في أن معظم الأحاديث التي نقد ابن تيمية رحمه الله الرافضة فيها هي من قبيل الأحاديث

(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/70 كتاب فضائل الصحابة، باب فضل علي بن أبي طالب.

(2)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/71 كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب.

(3)

انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام لناصر الشيخ (1/275 - 286) .

(4)

مجموع فتاوى ابن تيمية 4/416، وانظر: منهاج السنة النبوية 5/44.

(5)

انظر: من ذلك منهاج السنة 1/58، 66، 68، 2/167، 468، 3/418، 7/151، 284، 302، 364، 375، 7/151، 173، 190، 205، 341، 442، 465.

ص: 564

الموضوعات والواهيات (1) .

إن شيخ الإسلام رحمه الله كان يكتب كثيراً من مؤلفاته من حفظه، فقد لا تكون مراجعه قريبة منه إما لسفر، أو سجن أو غيره (2) ، وقد اعتذر الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله عنه لابن تيمية رحمه الله في أخطائه على أنه يكتب من حفظه، والإنسان بشر طبيعته النسيان بقوله:(لكنه رد في رده كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التصنيف مظانها؛ لأنه كان لاتساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره، والإنسان عامد للنسيان)(3) .

إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مع إجماع أهل العلم على إمامته في كثير من العلوم والفنون، وتمكنه منها، لم يسلم من بعض الأوهام والأخطاء - كغيره من أهل العلم - وهذه الأوهام اليسيرة، والأخطاء القليلة لا تلغي إمامته، ولا تبعد به عن مصاف كبار العلماء المحدثين ونقاد الحديث، ولكنه نقص البشر الذي لا يسلم منه أحد. وقد نقل ابن ناصر الدين (ت - 842هـ) رحمه الله عن أحد تلامذة الشيخ قوله:(وحسب شيخنا مع اتساعه في كل العلوم إلى الغاية والنهاية، سمعاً وعقلاً، ونقلاً وبحثاً، أن يكون نادر الغلط)(4) .

وأما الأحاديث المنتقدة على ابن تيمية رحمه الله التي مر ذكرها في المطلب الأول من هذا المبحث، فيحسن بي أن أبين رأي شيخ الإسلام فيها، وهل ادعاء المناوئين عليه صحيح أم هو جناية عليه؟، وذلك يتضح أثناء عرض موقف ابن تيمية رحمه الله من هذه الأحاديث.

(1) انظر: لسان الميزان 6/319.

(2)

انظر: على سبيل المثال على أنه يكتب من حفظه: الفرقان بين الحق والباطل ص101، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 5/184، وانظر: بعض الأمثلة في أوهامه رحمه الله في الحديث: شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه للفريوائي 1/69 - 70.

(3)

لسان الميزان 6/319، وانظر: منهج ابن تيمية في نقد الحديث للفريوائي (ضمن بحوث الندوة العالمية عن حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ص294) .

(4)

الرد الوافر ص96.

ص: 565

الحديث الأول: أما حديث تحريم فاطمة (ت - 11هـ) رضي الله عنها وذريتها على النار، فيقول ابن تيمية رحمه الله عنه:(الحديث الذي ذكره (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم عن فاطمة هو كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ويظهر كذبه لغير أهل الحديث - أيضاً - فإن قوله: إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار، يقتضي أن إحصان فرجها هو السبب لتحريم ذريتها على النار، وهذا باطل قطعاً) (2) .

ويذكر مثالاً لذلك بـ سارَّة، فإنها أحصنت فرجها، ولم يحرم الله جميع ذريتها على النار، ودليل ذلك قوله - سبحانه -:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ {112} وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 112، 113] .

وقال عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 26] .

ثم قال: (وفي الجملة فاللواتي أحصن فروجهن لا يحصى عددهن إلا الله عز وجل ومن ذريتهن البر والفاجر، والمؤمن والكافر)(3) .

وينقد ابن تيمية رحمه الله المتن من جهة أخرى وهو أن إحصان فاطمة فرجها، ليس هو المزية والمنقبة لفاطمة التي فاقت فيها جمهور نساء المسلمين؛ لأن هذه الصفة يشترك معها جمع كبير من نساء المؤمنين فيقول:(وأيضاً: ففضيلة فاطمة ومزيتها ليست بمجرد إحصان فرجها، فإن هذا يشارك فيه فاطمة جمهور نساء المؤمنين، وفاطمة لم تكن سيدة نساء العالمين بهذا الوصف، بل بما هو أخص منه.. وأيضاً: فليست ذرية فاطمة كلهم محرّمين على النار، بل فيهم البر والفاجر)(4) .

وأما الحديث الثاني: وهو حديث دوران الحق مع علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه فقد قال ابن تيمية رحمه الله: (هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد

(1) أي ابن المطهر الحلي في منهاج الكرامة.

(2)

منهاج السنة النبوية 4/62.

(3)

منهاج السنة النبوية 2/63.

(4)

منهاج السنة النبوية 2/63 - 64.

ص: 566

صحيح، ولا ضعيف) (1) .

وقال: (وأما الحق الذي يدور مع شخص ويدور الشخص معه، فهو صفة لذلك الشخص لا يتعداه، ومعنى ذلك أن قوله صدق وعمله صالح، ليس المراد به أن غيره لا يكون معه شيء من الحق)(2) .

وقال: (وأيضاً فالحق لا يدور مع شخص غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولو دار الحق مع علي حيثما دار لوجب أن يكون معصوماً كالنبي صلى الله عليه وسلم

) (3) .

وأما الحديث الثالث: وهو سد الأبواب إلا باب علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه فقد قال ابن تيمية رحمه الله: (هذا مما وضعته الشيعة على طريق المقابلة، فإن الذي في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرضه الذي مات فيه: «إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لا تخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر» (4)(5) .

وقال رحمه الله حين ذكر الحديث الصحيح السابق: (وأراد بعض الكذابين أن يروي لعلي مثل ذلك، والصحيح لا يعارضه الموضوع)(6) .

وأما الحديث الرابع وهو حديث: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى)، فقد قال عنه ابن تيمية رحمه الله:(الحديث ثبت في الصحيحين بلا ريب، وغيرهما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذلك في غزوة تبوك)(7) .

وقال رحمه الله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا استخلف رجلاً من أمته، وكان بالمدينة رجال من المؤمنين القادرين، وفي غزوة تبوك لم يأذن لأحد فلم يتخلف أحد إلا لعذر أو عاصي، فكان ذلك الاستخلاف ضعيفاً، فطعن به

(1) منهاج السنة النبوية 4/238.

(2)

منهاج السنة النبوية 4/240 - 241.

(3)

منهاج السنة النبوية 4/241.

(4)

سبق تخريجه ص491.

(5)

منهاج السنة النبوية 5/35.

(6)

مجموع فتاوى ابن تيمية 4/415.

(7)

منهاج السنة النبوية 7/326.

ص: 567

المنافقون بهذا السبب، فبين له أني لم أستخلفك لنقص عندي، فإن موسى استخلف هارون، وهو شريكه في الرسالة، أفما ترضى بذلك؟) (1) .

وكان هذا الحديث كأنه تسلية لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه حين توهم أن الاستخلاف نقص بقوله: أتخلفني مع النساء والصبيان؟، وأما من استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة غيره لما لم يتوهموا أن في الاستخلاف نقصاً لم يحتج أن يخبرهم بمثل هذا الكلام، وليس في الحديث دلالة على أن غيره لم يكن منه بمنزلة هارون من موسى (2) .

وإن قيل: إن استخلافه صلى الله عليه وسلم لأحد يدل على أنه أفضل الصحابة بإطلاق، فيلزم من ذلك أن يكون علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه مفضولاً في عامة الغزوات، وفي عمرته وحجته، لا سيما وكل مرة كان يكون الاستخلاف على رجال المؤمنين، وأما عام تبوك، فلم يكن الاستخلاف إلا على النساء والصبيان، ومن عذر الله، أو من هو متهم بنفاق (3) .

يقول ابن تيمية رضي الله عنه: (فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستخلاف ليس نقصاً، ولا غضاضة، فإن موسى استخلف هارون على قومه لأمانته عنده، وكذلك أنت استخلفتك لأمانتك عندي، لكن موسى استخلف نبياً، وأنا لا نبي بعدي، وهذا تشبيه في أصل الاستخلاف..)(4) .

وأما الحديث الخامس وهو حديث المؤاخاة: فيرى أنه باطل موضوع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري، قال رحمه الله: (أما حديث المؤاخاة فباطل موضوع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ أحداً، ولا آخى بين

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 4/416، وانظر: منهاج السنة النبوية 7/328.

(2)

انظر: منهاج السنة النبوية 5/43، وانظر: 7/332.

(3)

انظر: منهاج السنة النبوية 5/34 - 35.

(4)

منهاج السنة النبوية 5/43، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 4/404، وانظر: ص416، منهاج السنة النبوية 7/328 - 340.

ص: 568

المهاجرين بعضهم مع بعض، ولا بين الأنصار بعضهم مع بعض) (1) .

وقال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ علياً ولا غيره، وحديث المؤاخاة لعلي، ومؤاخاة أبي بكر لعمر من الأكاذيب، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار، ولم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري)(2) . وقال: (أحاديث المؤاخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض، والأنصار بعضهم مع بعض كلها كذب، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ علياً، ولا آخى بين أبي بكر وعمر، ولا بين مهاجري ومهاجري)(3) .

وأما الحديث السادس، وهو قوله:(أنت مني وأنا منك) ، فيرى أن هذا الحديث صحيح، لكنه ليس خاصاً بعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه. وإنما شاركه في هذه المنقبة غيره، فأثبت صحة الحديث في مواضع متعددة (4) . وأما استدلاله على أن هذه المنقبة ليست من خصائص علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه فقد ذكر حديث الأشعريين (إن الأشعريين إذا أرملوا (5) في الغزو أو نفدت نفقة عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد، ثم قسموه في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم) (6) .

وقال صلى الله عليه وسلم لجليبيب (7) : «هذا مني وأنا منه» (8) وكل مؤمن هو من النبي صلى الله عليه وسلم،

(1) منهاج السنة النبوية 4/32 - 33.

(2)

منهاج السنة النبوية 5/71.

(3)

منهاج السنة النبوية 7/279، وانظر: ص360 - 361، 6/172، وقد تعقب الحافظ ابن حجر في فتح الباري 7/271 ابن تيمية رحمه الله في هذا، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين بعض المهاجرين، ولكن هذا قليل، والغالب هو المؤاخاة بين مهاجريٍّ وأنصاري.

(4)

انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 4/104، 11/73، 15/84، السياسة الشرعية ص144، منهاج السنة النبوية 4/34 - 35، 5/29 - 30، 7/392.

(5)

أرمل القوم أي: نفد زادهم، انظر: لسان العرب لابن منظور 11/296 - 297 مادة (رمل) ، القاموس المحيط للفيروزآبادي 3/398 مادة (الرمل) .

(6)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 5/128 - 129، كتاب الشركة، باب الشركة في الطعام، ومسلم في صحيحه 4/1944 - 1945 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأشعريين.

(7)

جليبيب: غير منسوب، وهو تصغير جلباب، نزل في قصته (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) .

انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 1/256، والإصابة لابن حجر 1/242.

(8)

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 4/1918 - 1919 كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل جليبيب رضي الله عنه.

ص: 569

كما قال الخليل: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36]، وقال سبحانه:{وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] .

وأما الحديث السابع: أنا مدينة العلم وعلي بابها فيرى ابن تيمية رحمه الله أنه في عداد الأحاديث الموضوعة، فيقول عنه:(وأما حديث أنا مدينة العلم فأضعف وأوهى، ولهذا إنما يعد في الموضوعات المكذوبات، وإن كان الترمذي قد رواه، ولهذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وبين أنه موضوع من سائر طرقه)(1) وينقد المتن فيقول: (والكذب يعرف من نفس متنه، لا يحتاج إلى النظر في إسناده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم لم يكن لهذه المدينة إلا باب واحد، ولا يجوز أن يكون المبلغ عنه واحداً، بل يجب أن يكون المبلغ عنه أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب.. وهذا الحديث إنما افتراه زنديق أو جاهل: ظنه مدحاً)(2) .

وقال: (ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر: فإن جميع مدائن المسلمين بلغهم العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير طريق علي رضي الله عنه

) (3) .

وأما الحديث الثامن: أنت ولي كل مؤمن بعدي، فقد قال ابن تيمية رحمه الله عن هذا الحديث: (كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو في حياته وبعد مماته ولي كل مؤمن، وكل مؤمن وليه في المحيا والممات، فالولاية التي هي ضد العداوة لا تختص بزمان

فقول القائل: علي ولي كل مؤمن بعدي: كلام يمتنع نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه إن أراد الموالاة لم يحتج أن يقول: بعدي، وإن أراد الإمارة كان ينبغي أن يقول: والٍ على كل مؤمن) (4) .

وأما الحديث التاسع: وهو رد الشمس لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه فقد أطال ابن

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 4/410

(2)

مجموع فتاوى ابن تيمية 4/410.

(3)

مجموع فتاوى ابن تيمية 4/411، وانظر: منهاج السنة النبوية 7/515.

(4)

منهاج السنة النبوية 7/391 - 392، وقد تعقب الألباني - حفظه الله - شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وبين صحة الحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/261 - 264.

ص: 570

تيمية رحمه الله في بيان ضعف الحديث بل وضعه (1)، فقال عنه:(وليس هذا الحديث في شيء من كتب المسلمين التي يعتمدون على ما فيها من المنقولات لا الصحاح ولا المساند، ولا المغازي ولا السير، ولا غير ذلك، بل بين أهل العلم بالحديث أن هذا كذب، وليس له إسناد واحد صحيح متصل، بل غايته: أن يروى عمن لا يعرف صدقه، ولم يروه إلا هو، مع توفر الهمم والدواعي على نقله..)(2) .

وقد أطال رحمه الله في نقد أسانيد الحديث، وبين أن كل أسانيد هذا الحديث لا تخلو من ضعف شديد: ذاكراً أحوال الرجال في كل سند من أسانيده (3) ومعقباً ذلك بذكر الاضطراب الحاصل بين الروايات المختلفة (4) .

وفي نقده متن الحديث قال: (لا يعرف قط أن الشمس رجعت بعد غروبها

وإن كانت الشمس احتجبت بغيم، ثم ارتفع سحابها، فهذا من الأمور المعتادة، ولعلهم ظنوا أنها غربت، ثم كشف الغمام عنها) (5) .

وقال: (النبي صلى الله عليه وسلم فاتته العصر يوم الخندق حتى غربت الشمس، ثم صلاها، ولم ترد عليه الشمس، وكذلك لم ترد لسليمان لما توارت بالحجاب، وقد نام النبي صلى الله عليه وسلم ومعه علي وسائر الصحابة عن الفجر حتى طلعت الشمس، ولم ترجع لهم إلى المشرق.

وإن كان التفويت محرماً، فتفويت العصر من الكبائر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:

(1) لكنه رحمه الله مال إلى تضعيفه - فقط - في مجموع فتاواه 11/316.

(2)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 6/342 - 343، وانظر: منهاج السنة النبوية 8/177.

(3)

انظر: منهاج السنة النبوية 8/166 - 168، 172 - 175، 177 - 197.

(4)

انظر: منهاج السنة النبوية 8/175، 184، 189.

(5)

منهاج السنة النبوية 8/172.

ص: 571

«الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» (1) ، وعلي كان يعلم أنها الوسطى وهي صلاة العصر، وهو قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين لما قال:«شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، حتى غربت الشمس، ملأ الله أجوافهم وبيوتهم ناراً» (2) ، وهذا كان في الخندق، وخيبر بعد الخندق

) (3) .

وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة يريد أن يبني بها ولما يبن، ولا آخر قد بنى بنياناً ولما يرفع سقفه، ولا آخر اشترى غنماً وهو ينتظر ولادها، قال: فغزوا، فدنا من القرية، حتى صلى العصر قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئاً، فحُبست عليه حتى فتح الله عليه» (4) .

ويفرق ابن تيمية رحمه الله بين هذا الحديث، وحديث رد الشمس لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه بعدة فروق منها:

أن يوشع لم تُرد له الشمس، ولكن تأخر غروبها: طُوِّل له النهار، وهذا قد لا يظهر للناس، فإن طول النهار وقصره لا يدرك، ونحن إنما علمنا وقوفها ليوشع بخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً: لا مانع من طول النهار، لو شاء الله لفعل ذلك، ويوشع كان

(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 2/30 كتاب مواقيت الصلاة، باب إثم من فاتته صلاة العصر، ومسلم في صحيحه 1/435 كتاب المساجد، باب التغليظ على تفويت صلاة العصر.

(2)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 6/105 كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة، ومسلم في صحيحه 1/436 - 437 كتاب المساجد، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر، واللفظ له.

(3)

منهاج السنة النبوية 8/175 - 176.

(4)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 9/223 كتاب النكاح، باب من أحب البناء قبل الغزو، ومسلم في صحيحه 3/1366 - 1367 كتاب الجهاد والسير، باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة.

ص: 572

محتاجاً إلى ذلك؛ لأن القتال كان محرماً عليه بعد غروب الشمس؛ لأجل ما حرم الله عليهم من العمل ليلة السبت ويوم السبت، وأما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلا حاجة لهم إلى ذلك، ولا منفعة لهم فيه (1) .

وأما الحديث العاشر: من كنت مولاه فعلي مولاه، فيرى شيخ الإسلام رحمه الله أن هذه اللفظة ليست في الصحاح، لكن هي مما رواه العلماء، وقد تنازع الناس في صحتها (2) .

وأما زيادة (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) ، فيرى أنها كذب بلا ريب (3) ، وقد وافق في ذلك ابن حزم (ت - 456هـ) رحمه الله في تضعيفه هذا الحديث (4) .

والواقع يدل على خلاف الحديث؛ فقوله: (اللهم انصر من نصره

) يدل الواقع على خلافه، فقد قاتل معه أقوام يوم صفين فما انتصروا، وأقوام لم يقاتلوا فما خذلوا كسعد (ت - 55هـ) رضي الله عنه الذي فتح العراق، ولم يقاتل معه، ومن جهة أخرى: أصحاب معاوية (ت - 60هـ) رضي الله عنه وبنو أمية الذين قاتلوه: فتحوا كثيراً من بلاد الكفار ونصرهم الله.

وأما قوله: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه: فهو مخالف لأصل الإسلام، فإن القرآن قد بين أن المؤمنين إخوة مع قتالهم، وبغي بعضهم على بعض (5) .

(1) انظر: منهاج السنة النبوية 8/169.

(2)

انظر: منهاج السنة النبوية 7/319.

(3)

انظر: منهاج السنة النبوية 7/319.

(4)

انظر: منهاج السنة النبوية 7/320 - 321.

(5)

انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 4/418، منهاج السنة النبوية 7/323 - 325، وقد تعقب الألباني - حفظه الله - ابن تيمية رحمه الله في هذا الحديث، وأطال في ذكر طرقه على غير العادة؛ لأن ابن تيمية لم يصححه بل كذبه، وذكر الألباني أن جملة (من كنت مولاه فعلي مولاه) متواترة، وجملة (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) صحيحة، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/330 - 344. قلت: ولكن شيخ الإسلام رحمه الله بين أن هذه الجملة مخالفة لأصل الإسلام فتكون شاذة والشاذ ضعيف؛ لأنه يختل بذلك أحد شروط الصحيح، حتى ولو استقام سنده، وعدلت رواته؛ لأن من شروط الصحيح أن لا يكون شاذاً ولا معللاً، والله أعلم.

ص: 573

وأما الحديث الحادي عشر: وهو تصدق علي بخاتمه في الصلاة: فقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أنه حديث موضوع مكذوب على رسول الله، فقال:(وحديث التصدق بالخاتم بالصلاة كذب باتفاق أهل المعرفة)(1)، وقال رحمه الله:(وقد وضع بعض الكذابين حديثاً مفترى أن هذه الآية (2) نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة، وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل) (3) .

ثم نقد المتن من وجوه كثيرة منها:

1 -

أن قوله: (الذين) في الآية صيغة جمع، وعلي واحد.

2 -

أن المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب، وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجباً ولا مستحباً باتفاق علماء الملة، فإن في الصلاة شغلاً.

3 -

لو كان إيتاء الزكاة في الصلاة حسناً لم يكن فرق بين حال الركوع، وغير حال الركوع، بل إيتاؤها في القيام والقعود أمكن.

4 -

أن عليّاً (ت - 40هـ) رضي الله عنه لم يكن عليه زكاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

5 -

أن عليّاً (ت - 40هـ) رضي الله عنه لم يكن له خاتم، ولا كان الصحابة يلبسون الخواتم.

6 -

أن الحديث فيه أنه أعطى الخاتم للسائل، والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء، ويخرجها على الفور، لا ينتظر أن يسأله سائل (4) .

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 4/418.

(2)

وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55] .

(3)

منهاج السنة النبوية 2/30.

(4)

انظر: منهاج السنة النبوية 2/30 - 32، 7/7 - 31.

ص: 574

وفي الجملة فإن الأحاديث التي يدعي المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه ضعفها تنقسم إلى أقسام: إما أحاديث صحيحة تثبت منقبة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه، منهم من يرى أنها خاصة به، وابن تيمية يرى أنه يشركه في هذه الصفة غيره، وإما أحاديث واهية موضوعة أو ضعيفة، أو ضعفها ابن تيمية رحمه الله وهم يرون تصحيحها وإما أحاديث صحيحة وهم ابن تيمية رحمه الله في تضعيفها بسبب اعتماده في تأليفه على الحفظ - وهي قليلة جدّاً - (1) .

(1) وقد ناقش ابن تيمية رحمه الله أحاديث كثيرة من فضائل علي رضي الله عنه التي يذكرها الرافضة، مثل: قتال علي الجن ناقشه في مجموع فتاواه 4/492، 494، شرب علي من غسل النبي فأورثه علم الأولين والآخرين، ناقشه في مجموع فتاواه 4/412، ومقولة علي رضي الله عنه: سلوني قبل أن تفقدوني ناقشها في منهاج السنة النبوية 8/56، وتأجير علي نفسه لينفق على الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الشعب ناقشها في منهاج السنة النبوية 7/499، وفي الجملة فإن المجلد السابع من منهاج السنة النبوية أغلبه مناقشات علمية للآيات والأحاديث التي يستدل بها الرافضة على فضل علي رضي الله عنه.

ص: 575