المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى - دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية - عرض ونقد

[عبد الله بن صالح الغصن]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أسباب اختيار البحث:

- ‌خطة البحث:

- ‌ منهج في كتابة البحث

- ‌[شكر وتقدير]

- ‌[التمهيد]

- ‌ترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

- ‌1 - اسمه ونسبه:

- ‌2 - مولده ونشأته:

- ‌3 - عصره:

- ‌أولاً: الناحية السياسية:

- ‌ثانياً: الناحية الاجتماعية:

- ‌ثالثاً: الناحية العلمية:

- ‌4 - محن الشيخ:

- ‌5 - وفاته رحمه الله:

- ‌6 - مؤلفاته:

- ‌7 - بعض ثناء الناس عليه:

- ‌منهج شيخ الإسلام في تقرير العقيدة والاستدلال عليها:

- ‌الفصل الأول: المناوئون لشيخ الإسلام، ودعاواهم حول منهجه

- ‌المبحث الأول: المناوئون لشيخ الإسلام

- ‌المطلب الأول: أقسام المناوئين

- ‌المطلب الثانيالمنهج العام للمناوئين

- ‌المطلب الثالثاعتراف خصومه بقدره

- ‌المبحث الثانيدعاوى المناوئين حول منهج شيخ الإسلام ابن تيمية ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعاوى المناوئين حول منهج شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌المطلب الثانيمناقشة دعاوى المناوئين حول منهج ابن تيمية

- ‌الفصل الثانيدعوى التجسيم والتشبيه

- ‌المبحث الأول:قول أهل السنة في مسألة التجسيم والتشبيه

- ‌المطلب الأول: التعريف بالمشبهة

- ‌المطلب الثانياعتقاد السلف نفي التمثيل والتشبيه

- ‌المطلب الثالثرد السلف دعوى أن الإثبات يستلزم التشبيه

- ‌المبحث الثانيدعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى قوله بالجهة والتحيز ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى قوله بالجهة والتحيز

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الثالث: دعوى القول بقدم العالم

- ‌المبحث الأولمعتقد أهل السنة في إمكان حوادث لا أول لها

- ‌المطلب الأولالتسلسل: تعريفه، أقسامه، حكم كل قسم

- ‌المطلب الثانيالصفات الاختيارية

- ‌المطلب الثالثشرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه

- ‌المبحث الثانيدعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لهايستلزم القول بقدم العالم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لها يستلزم القول بقدم العالم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الرابعدعوى نهي ابن تيمية عن زيارة القبور

- ‌المبحث الأولعقيدة أهل السنة في زيارة القبور وشد الرحل إليها

- ‌المبحث الثانيالزعم أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور ومناقشته

- ‌المطلب الأولالزعم بأن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور

- ‌المطلب الثانيمناقشة دعوى أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقشتها

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الخامسدعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياءوقبور غيرهم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياءوقبور غيرهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الخامسمسألة التوسل

- ‌المبحث الأول: عقيدة أهل السنة والجماعة في التوسل

- ‌المبحث الثانيدعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين،وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين،وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدمجواز التوسل بالنبي، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدم جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين،وإهانته لهم، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين، وإهانته لهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل السادسموقف شيخ الإسلام من الصحابة

- ‌المبحث الأولعقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة

- ‌المبحث الثانيدعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهمالأئمة الخلفاء الأربعة، ومناقشتها

- ‌المطلب الأول دعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهم الأئمة الخلفاء الأربعة

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت،وتعمية مناقبهم، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت، وتعمية مناقبهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى رد الأحاديث الصحيحة في مقام المبالغةفي توهين كلام الشيعة ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى رد الأحاديث الصحيحةفي مقام المبالغة في توهين كلام الشيعة

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل السابعمسألة دوام النار

- ‌المبحث الأولدلالة نصوص الكتاب والسنة على خلود النار

- ‌المبحث الثانيدعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

‌المطلب الثاني

مناقشة الدعوى

الدعاوى الباطلة التي تثار إما أن تكون كذباً من أصلها، بحيث لا يكون في كلام المدعى عليه شيء منها أصلاً، فالإجابة عن هذا سهلة، وهي بأن يقال له:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] .

وإما أن يكون في كلام المدعى عليه شيء من الدعوى، وأصل لها، لكن يدخل في ذلك:

إما اختلاف المعتقد بين صاحب الدعوى، وبين المدعى عليه، وإما سوء القصد من صاحب الدعوى، وإما سوء الفهم والجهل بقضية الدعوى، وقد تأتي إحدى هذه الاحتمالات منفردة، وقد تكون مجتمعة - أحياناً - وقد وقعت هذه الاحتمالات في هذه الدعوى على ابن تيمية رحمه الله.

فأما استشناع المخالفين لابن تيمية رحمه الله قول ابن تيمية بإمكان حوادث لا أول لها فإنما هو استشناع مذهب السلف الذي أقروا به وقرروه في كتبهم، وهذا ما قرره البحث في هذا الفصل بكل تفاصيله وتشعباته، فلسنا في حاجة إلى إعادة الكلام عنها، إذ بيّن البحث قول السلف في التسلسل وأنه يجوز في الماضي والمستقبل، وأن الله يفعل ما يشاء كما اتضح من كلام الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله، والإمام الدارمي (ت - 280هـ) رحمه الله، وإنما كان بسط شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسائل أكثر ممن قبله؛ لكثرة المخالفة، ولاشتباه الحق بالباطل عند كثير من الناس (1) .

(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 2/206، 3/158.

ص: 286

ويمكن بيان ما قرره ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة إجمالاً بأنه يرى جواز وإمكان حوادث لا أول لها - وليس بوجوب حوادث لا أول لها - فإن الواجب هو فعل الرب الذي هو صفته، فلم يزل - سبحانه - فعالاً، فالله - سبحانه - لا يزال يفعل - متى شاء كيف شاء، لم يكن الفعل ممتنعاً عليه فعله حتى فعله، بل كان ولا زال قادراً على الفعل، وأنه لا دليل للمتكلمين على التفريق بين جواز دوام الحوادث في المستقبل، وفي الماضي، وأن الله قد أخبرنا عن بعض المخلوقات الموجودة قبل خلق السماوات والأرض وما بينهما، لكنه لم يخبرنا عن وقت خلقها، ولم يخبرنا هل هي أول المخلوقات أم لا؟، لأن ما خلقه الله قبل خلق السماوات والأرض شيئاً بعد شيء إنما هو بمنزلة ما سيخلق بعد قيام القيامة، ودخول أهل الجنة، وأهل النار منازلهما وهذا مما لا سبيل للعباد إلى معرفته تفصيلاً.

وأما استشناع ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فلأنه رحمه الله لم يكن متخصصاً في دقائق المسائل العقدية، فقد كان جل اشتغاله بعلم الحديث وعلم الرجال، وإلا فإن هذا هو مذهب أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية من أهل البدع القائلين بامتناع حوادث لا أول لها والله أعلم (1) .

وأما قصيدة السبكي (ت - 756هـ) التي نقم فيها على ابن تيمية رحمه الله أنه يرى جواز حوادث لا أول لها، فقد عارضه يوسف السرمري (2) بقصيدة طويلة ذكر

(1) انظر: شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان 1/382، دفع الشبه الغوية لمراد شكري ص56 - 58، دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية لصلاح مقبول 2/412 - 413.

(2)

السرمري: يوسف بن محمد بن سعود العبادي الدمشقي الحنبلي، أبو المظفر، الإمام العلامة الحافظ، كان كثير الرحلة في طلب العلم، مكثر من التصنيف وزادت مصنفاته عن مائة مصنف، ت سنة 776هـ.

انظر في ترجمته: الدرر الكامنة لابن حجر 5/249، شذرات الذهب لابن العماد 6/249، بغية الوعاة للسيوطي 2/360.

ص: 287

فيها مؤاخذات السبكي على ابن تيمية في قصيدته، ورد عليها واحدة واحدة، فكان رده على مسألة إمكان حوادث لا أول لها قوله:

أما حوادث لا مبدا لأولها

فذاك من أغرب المحكي وأعجبه

قصّرت في الفهم فاقصر في الكلام فما

ذا عشك ادرج فما صقر كعنظبه (1)

لو قلت قال كذا ثم الجواب كذا

لبان مخطئ قول من مصوِّبه (2)

أجملت قولاً فأجملت الجواب ولو

فصلتَ فصلتُ تبياناً لأغربه

إن قلت كان ولا علم لديه ولا

كلام لا قدرة أصلاً كفرت به

أو قلت أحدثها بعد استحالتها

في حقه سَمْتُ نقصٍ ما احتججتَ به

وكيف يوجدها بعد استحالتها

فيه أيقدر ميت رفع منكبه

أو قلت فعل اختيار منه ممتنع

ضاهيت قول امرئ مغوِ بأنصبه (3)

ولم يزل بصفات الفعل متصفا

وبالكلام بعيداً في تقربه

سبحانه لم يزل ما شاء يفعله

في كل ما زمن مامن معقبه

نوع الكلام كذا نوع الفعال قديـ

ـم لا المعيّن منه في ترتبه

وليس يفهم ذو عقل مقارنة الـ

ـمفعول مع فاعل في نفس منصبه

يحب يبغض يرضى ثم يغضب ذا

من وصفه، أرضِهِ بُعداً لمغضبه

والخلق ليس هو المخلوق تحسبه

بل مصدر قائم بالنفس فادر به

وقول كن ليس بالشيء المكوَّن والصـ

ـغير يعرف هذا مع تلعبه

فالمصطفى قال كان الله قبل ولا

شيء سواه تعالى في تحجبه (4)

(1) العنظب: هو الذكر من الجراد، انظر لسان العرب لابن منظور 1/631 مادة (عنظب) .

(2)

يبين رحمه الله منهج المناوئين وهو الإجمال وعدم استطاعة التفصيل في عرض الدعاوى.

(3)

النصب: هو ما عبد من دون الله من الأحجار، وقد كانت حجارة تنصب حول الكعبة فيهل عليها، ويذبح لها من دون الله تعالى.

انظر: لسان العرب لابن منظور 1/759 مادة (نصب) .

القاموس المحيط للفيروزآبادي 1/137 مادة (نصب) .

(4)

انظر: الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية للسرمري تحقيق صلاح الدين مقبول ص68 - 75.

ص: 288

وقد عارضت قصيدة السبكي (ت - 756هـ) قصيدة أخرى (1) جاء فيها:

وخالق قبل مخلوق يكوّنه

وقاهر قبل مقهور يكون به

وراحم قبل مرحوم فيرحمه

ورازق قبل مرزوق بأضربه

عن أمره صدر المخلوق أجمعه

والأمر ويحك لا شك يقوم به

وقد تكلم رب العرش بالكتب الـ

ـمنزلات كلاماً لا شبيه به

ولم يزل فاعلاً أو قائلاً أزلاً

إذا يشاء هذا الحق فارض به

هذي حوادث لا مبدا لأولها

بالنص فافهمه يا نومان وانتبه

إذ هي صفات لموصوف تقوم به

قديمة مثله من غير ما شُبه

ومذهب القوم مروها كما وردت

من غير شائبة التكييف والشبه (2)

وأما دعوى قول شيخ الإسلام بقدم النوع، وأن هذا يستلزم القول بقدم العالم، فيحتاج المجيب عن هذه الدعوى إلى بسط قول شيخ الإسلام حول هذه المسألة، ليُعرف هل قوله يستلزم ما ألزموه أم لا؟

إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أهمية مسألة التفريق بين دوام النوع، وحدوث الأفراد والأعيان، وبيّن أن من اهتدى إلى الفرق بين النوع والعين تبين له فصل الخطأ من الصواب في مسألة الأفعال، ومسألة الكلام والخطاب، وكشف له الحجاب عن الصواب في هذا الباب، الذي اضطرب فيه أولوا الألباب، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (3) .

وبين رحمه الله أن التفريق بين النوع والعين هو الذي نطق به الكتاب والسنة والآثار، وأن الرب أوجد كل حادث بعد أن لم يكن موجداً له، وأن كل ما

(1) قائلها: أبو عبد الله محمد بن يوسف الشافعي اليمني، لم يعثر له على ترجمة انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية مقدمة التحقيق 1/109، وتحقيق القصيدة لصلاح الدين مقبول ص99.

(2)

انظر: تحقيق القصيدة مع تحقيق قصيدة الحمية الإسلامية لصلاح الدين مقبول ص115 - 116.

(3)

انظر: الصفدية 1/65، 2/140.

ص: 289

سواه فهو حادث بعد أن لم يكن حادثاً، ولا يلزم أن يكون نفس كماله الذي يستحق متجدداً، بل لم يزل عالماً قادراً مالكاً غفوراً متكلماً كما شاء، كما نطق بهذه الألفاظ ونحوها الإمام أحمد (ت - 241هـ) وغيره من أئمة السلف (1) . وذكر أن أكثر أهل الحديث ومن وافقهم لا يجعلون النوع حادثاً، بل قديماً، ويفرقون بين حدوث النوع، وحدوث الفرد من أفراده، كما يفرق جمهور العقلاء بين دوام النوع ودوام الواحد من أعيانه، فإن نعيم أهل الجنة يدوم نوعه، ولا يدوم كل واحد من الأعيان الفانية.

ومن الأعيان الحادثة ما لا يفنى بعد حدوثه كأرواح الآدميين، فإنها مبدعة، كانت بعد أن لم تكن، ومع هذا فهي باقية دائمة (2) .

والقول بقدم النوع لا ينفيه شرع ولا عقل، بل هو من لوازم كماله، كما قال - سبحانه - {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] . والخلق لا يزالون معه، وليس في كونهم لا يزالون معه في المستقبل ما ينافي كماله، والعقل يفرق بين كون الفاعل يفعل شيئاً بعد شيء دائماً، وبين آحاد الفعل والكلام، فيقول: كل واحد من أفعاله لا بد أن يكون مسبوقاً بالفاعل وأن يكون مسبوقاً بالعدم، ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلاً وأبداً.

وأما كون الفاعل لم يزل يفعل فعلاً بعد فعل فهذا من كمال الفاعل (3) ، والحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً، فلا بد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، فما من وقت يُقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فليس لإمكان الفعل وجواز ذلك وصحته مبدأ ينتهي إليه، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً صحيحاً، فيلزم أنه لم يزل الرب قادراً عليه، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها (4) . ولا يلزم من دوام النوع دوام كل واحد من أعيانه

(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/240، الصفدية له 1/65.

(2)

انظر: درء تعارض العقل والنقل 2/148.

(3)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/227، 239.

(4)

انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/159.

ص: 290

وأشخاصه، ولذلك يفرق ابن تيمية رحمه الله بين فعل الحوادث في الأزل، وبين كونه لا يزال يفعل الحوادث.

فإن الأول يقتضي أن فعلاً قديماً معه فعل به الحوادث من غير تجدد شيء.

والثاني يقتضي أنه لم يزل يفعلها شيئاً بعد شيء: فهذا يقتضي قدم نوع الفعل ودوامه، وذاك يقتضي قدم فعل معين (1) .

إن قول ابن تيمية رحمه الله بقدم النوع، لا يعني مشاركة الخالق - سبحانه - في القدم، بل كل فعل فهو مسبوق بالعدم، وهو مسبوق بفاعله - أيضاً - كما قال رحمه الله:

(قولكم: الحادث - من حيث هو - يقتضي أنه مسبوق بغيره، أو الحركة من حيث هي، تقتضي أن تكون مسبوقة بالغير.

يقال لكم: الحادث المطلق لا وجود له إلا في الذهن لا في الخارج (2) ، وإنما في الخارج موجودات متعاقبة، ليست مجتمعة في وقت واحد، كما تجتمع الممكنات والمحدثات المحدودة، والموجودات والمعدومات، فليس في الخارج إلا حادث بعد حادث، فالحكم: إما على كل فرد فرد، وإما على جملة محصورة، وإما على الجنس الدائم المتعاقب.

فيقال لكم: أتريدون بذلك أن كل حادث فلا بد أن يكون مسبوقاً بغيره، أو أن الحوادث المحدودة لا بد أن تكون مسبوقة، أو أن الجنس لا بد أن يكون مسبوقاً؟

أما الأول والثاني فلا نزاع فيهما، وأما الثالث فيقال: أتريدون به أن الجنس مسبوق بعدم، أم مسبوق بفاعله، بمعنى أن لا بد له من محدث؟

(1) انظر: الصفدية 2/49.

(2)

ذكر ابن تيمية رحمه الله أن لفظ (الحادث) لفظ مجمل: يراد به النوع، ويراد به الشخص، انظر: درء تعارض العقل والنقل له 4/160.

ص: 291

الثاني: مسلّم، والأول محل النزاع) (1) .

فقوله رحمه الله الثاني مسلّم: أي جنس الحوادث مسبوق بفاعله.

وقال رحمه الله: (كل واحد من أفعاله لا بد أن يكون مسبوقاً بالفاعل، وأن يكون مسبوقاً بالعدم، ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلاً وأبداً

فالفاعل يتقدم على كل فعل من أفعاله، وذلك يوجب أن كل ما سواه محدث مخلوق) (2) .

وحين يناقش المتكلمين الذين يفرقون بين الماضي والمستقبل، يبين رحمه الله أن لا فرق بينهما، فالحوادث الماضية عدمت بعد وجودها، فهي الآن معدومة، كما أن الحوادث المستقبلة الآن معدومة، فلا هذا موجود، ولا هذا موجود الآن، فكلاهما له وجود في غير هذا الوقت، ذاك في الماضي وهذا في المستقبل، وكون الشيء ماضياً أو مستقبلاً أمر نسبي (3) ، وناقشهم في رأيهم بأن إمكان جنس الحوادث له بداية، بأنهم إذا أقروا بأن جنس الحوادث ممكن بعد أن لم يكن ممكناً، فهذا دليل على ضعف حجتهم؛ لأن الإمكان ليس له وقت معين، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم دوام الإمكان، وإلا لزم انقلاب الجنس من الإمكان إلى الامتناع من غير حدوث شيء، ولا تجدد شيء، وهذا ممتنع في صريح العقل (4) .

وأما اشتراطهم على دوام إمكان جنس الفعل والحوادث بكونها مسبوقة بالعدم، فهذا يتضمن الجمع بين النقيضين؛ لأن كون هذا لم يزل، يقتضي أنه لا بداية لإمكانه، وأن إمكانه قديم أزلي. وكونه مسبوقاً بالعدم يقتضي أن له بداية، وأنه ليس بقديم أزلي، فصار مضمون كلامهم: أن ماله بداية ليس له

(1) درء تعارض العقل والنقل 9/153.

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/227 - 228.

(3)

انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 3/51 - 52.

(4)

انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/159 - 160.

ص: 292

بداية، فإن المشروط بسبق العدم له بداية، وإن قدر أنه لا بداية له كان جمعاً بين النقيضين (1) .

وفي مقابل رأي المتكلمين الذين يرون حدوث النوع وحدوث الأفراد، فقد ناقش ابن تيمية رحمه الله رأي الفلاسفة الذين يرون قدم النوع وقدم الأعيان والأفراد: فذكر أولاً سبب قولهم وهو: أنهم لما اعتقدوا أن الفاعل يمتنع أن يصير فاعلاً بعد أن لم يكن، ويمتنع أن يحدث حادثاً لا في وقت، وأن الوقت يمتنع في العدم المحض ظنوا أنه يلزم قدم عين المفعول، فالتزموا مفعولاً قديماً أزلياً لفاعل، وذكر أن هذا القول باطل (2) ، فليس شيء من أعيان الآثار قديماً، لا الفلك، ولا غيره، ولا ما يسمى عقولاً ولا نفوساً ولا غير ذلك، كما أنه ليس هو في وقت بعينه مؤثراً في مجموع الحوادث. بل التأثير الدائم الذي يكون شيئاً بعد شيء، وهذا من لوازم ذاته، فيكون مؤثراً في حادث بعد حادث، وفي وقت بعد وقت (3) .

وبعد مناقشاته رحمه الله المتكلمين والفلاسفة بيّن منشأ غلط الطائفتين، في عدم تفريقها بين قدم النوع، وحدوث الأفراد، وأن هذا راجع إلى غلطهم في الحركة والحدوث ومسمى ذلك فقال:

(ومما يعرف به منشأ غلط هاتين الطائفتين غلطهم في الحركة والحدوث ومسمى ذلك. فطائفة - كأرسطو وأتباعه - قالت: لا يعقل أن يكون جنس الحركة والزمان والحوادث حادثاً، وأن يكون مبدأ كل حركة وحادث صار فاعلاً لذلك بعد أن لم يكن، وأن يكون الزمان حادثاً بعد أن لم يكن حادثاً

فضلوا ضلالاً مبيناً مخالفاً لصريح المنقول المتواتر عن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، مع مخالفته لصريح المعقول.

(1) انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/160 - 161، الصفدية له 1/65.

(2)

انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/208.

(3)

انظر: الصفدية لاين تيمية 2/47.

ص: 293

وطائفة ظنوا أنه لا يمكن أن يكون جنس الحركة والحوادث والفعل إلا بعد أن لم يكن شيء من ذلك، أو أنه يجب أن يكون لا على الجميع لم يزل معطلاً، ثم حدثت الحوادث بلا سبب أصلاً) (1) .

وذكر أن القول الأخير لم ينقل عن الأنبياء ولا عن أصحابهم، وهو - أيضاً - يخالف صريح العقل (2) .

وبعد هذا: تبين واتضح أن شيخ الإسلام لا يقول بقدم العالم ولا بقدم شيء منه، وأن كل فعل فهو مسبوق بفاعله.

ومن ظن أن القول بقدم النوع يستلزم القول بقدم العالم، فإن هذا الظن راجع إلى أن هذا لم يعلم في المسألة إلا قولين: قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم إما صورته وإما مادته.. وقول من رد على هؤلاء من أهل الكلام.. الذين يقولون: إن الرب لم يزل لا يفعل شيئاً ثم أحدث الفعل بلا سبب أصلاً (3) .

فالقول بقدم النوع لا يستلزم القول بقدم العالم (4)، ولذلك فإن شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله يقرر حدوث العالم في مواضع متعددة:

فقال رحمه الله: (وأما أهل الملل وأئمة الفلاسفة وجماهيرهم فيقولون: إن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وأن ما قامت به الحوادث من

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 18/241 - 242.

(2)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/242 - 243، وانظر: في مناقشات الفلاسفة والمتكلمين حول الزمان والحدوث، والطروء والتغير: مجموع فتاوى ابن تيمية 18/235، 242، منهاج السنة له 1/154، 172، تهافت الفلاسفة للغزالي ص107 - 116، 125، شرح المقاصد للتفتازاني 2/184، قراءة في علم الكلام للجزيري ص47 - 65.

(3)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/222، منهاج السنة النبوية له 2/138.

(4)

انظر: الصفدية لابن تيمية 2/50 - 51، مجموع فتاوى ابن تيمية 18/239.

ص: 294

الممكنات فهو مخلوق محدث) (1)

وقال: (كل ما سوى الرب حادث كائن بعد أن لم يكن، وهو - سبحانه - المختص بالقدم والأزلية، فليس في مفعولاته قديم، وإن قدر أنه لم يزل فاعلاً، وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ليس في المفعولات قديم ألبته، بل لا قديم إلا هو - سبحانه - وهو وحده الخالق لكل ما سواه، وكل ما سواه مخلوق كما قال - سبحانه - {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] )(2) .

وقال رحمه الله (اتفق سلف الأمة وأئمتها مع أئمة أهل الكتاب: أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله

كل ما سوى الله مخلوق، حادث، كائن بعد أن لم يكن، وأن الله وحده هو القديم الأزلي، ليس معه شيء قديم تقدمه، بل كل ما سواه كائن بعد أن لم يكن، فهو المختص بالقدم، كما اختص بالخلق والإبداع والإلهية والربوبية، وكل ما سواه محدث مخلوق مربوب عبد له) (3) .

وبهذا يتبين أن شيخ الإسلام يقرر حدوث العالم، وأن قدم النوع لا يستلزم قدم العالم، ما دام الفعل مسبوقاً بفاعله، كما عليه السلف والأئمة.

ويتبع القول بقدم النوع: ما افتراه المناوئون لابن تيمية أن يقول بقدم جنس العرش، وأنه لا زال يخلق عرشاً ويفني آخر، وهذا ادعاء لا أساس له من كلام شيخ الإسلام رحمه الله (4) .

(1) الصفدية 1/130.

(2)

درء تعارض العقل والنقل 8/272.

(3)

درء تعارض العقل والنقل 1/123 - 125، وانظر: في إثبات حدوث العالم عند ابن تيمية: الصفدية 1/74، 81، درء تعارض العقل والنقل 1/343، 348، 8/287، 290، منهاج السنة النبوية 1/360 - 364، 2/272 - 273.

(4)

لم يذكر المناوئون نصاً عن ابن تيمية، وغاية ما هنالك أن جلال الدين الدواني ذكر في شرح العضدية أنه وقف على كلام لابن تيمية يقول فيه بقدم جنس العرش، ولم ينقله وهذا غير كاف، وانظر: المقالات السنية للحبشي ص67، ابن تيمية ليس سلفياً لعويس ص242.

ص: 295

بل المنقول عنه أن كل ما في العالم فهو محدث مخلوق، وليس مع الله قديم من مخلوقاته - كما تقدم بيانه قريباً -.

ولا يزال ابن تيمية رحمه الله يقرر هذه المسألة بعد أخرى، حتى لا يفهم منه أنه يقول بقدم شيء من العالم لا العرش ولا غيره.

وتحدث عن العرش - في مواضع متعددة - مبيناً أنه مخلوق بعد أن لم يكن، وأنه ليس بقديم، ومن هذا قوله رحمه الله:

(في الآثار المنقولة عن الأنبياء أنه كان موجوداً قبل خلق هذا العالم أرض وماء وهواء، وتلك الأجسام خلقها الله من أجسام أخر، فإن العرش - أيضاً - مخلوق، كما أخبرتنا بذلك النصوص، واتفق على ذلك المسلمون) .

ففي هذا النص يصرح ابن تيمية رحمه الله أن العرش مخلوق محدث بعد أن لم يكن، ويقرر أن هذا هو ما أخبرت به النصوص، واتفق عليه المسلمون (1) .

وقال في شرح حديث عمران بن حصين (ت - 52هـ) رضي الله عنه عن الحديث إنه: (لم يذكر خلق العرش، مع أن العرش مخلوق أيضاً، فإنه يقول: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] ، وهو خالق كل شيء: العرش وغيره، ورب كل شيء: العرش وغيره)(2) .

وقال عن الحديث - أيضاً -: (ليس في هذا ذكر أول المخلوقات مطلقاً، بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش والماء، وإن كان ذلك كله مخلوقاً كما أخبر به في مواضع أخر)(3) .

وعلى هذا (فليس مع الله شيء من مفعولاته قديم معه، لا بل هو خالق

(1) درء تعارض العقل والنقل 8/289 - 290.

(2)

مجموع فتاوى ابن تيمية 18/214.

(3)

مجموع فتاوى ابن تيمية 18/217، 232.

ص: 296

كل شيء، وكل ما سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن) (1) .

وأما القول بأن ابن تيمية يرى أن العرش أول المخلوقات فهذا غير صحيح، فترجيح ابن تيمية رحمه الله كون العرش خلق قبل القلم، لا يعني أنه أول المخلوقات، ولم يتعرض لذلك ابن تيمية رحمه الله لا من قريب ولا من بعيد، بل كان كثيراً ما ينبه إلى أن النصوص لم تصرح ولم تدل على إثبات أول المخلوقات، فقال رحمه الله:(وأما في حديث عمران فلم يخبر بخلقه - أي العرش -، بل أخبر بخلق السماوات والأرض، فعلم أنه أخبرنا بأول خلق هذا العالم، لا بأول الخلق مطلقاً)(2) .

وقال: (وإذا كان إنما قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله) لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث، ولا لأول مخلوق) (3) .

وقال عن حديث عمران (ت - 52هـ) : (وليس في هذا ذكر أول المخلوقات مطلقاً)(4) .

وقال عن الحديث السابق: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد الإخبار بوجود الله وحده قبل كل شيء، وبابتداء المخلوقات بعد ذلك)(5) .

وأما الزعم بأن مذهب ابن تيمية رحمه الله في قدم النوع موافق لرأي الفلاسفة، فهذا غير صحيح من وجهين:

الوجه الأول: أن شيخ الإسلام رحمه الله وافق السلف في إثبات الصفات، وأن الله يفعل ما يشاء متى شاء، وكيف شاء سبحانه وتعالى.

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 18/228.

(2)

مجموع فتاوى ابن تيمية 18/214.

(3)

مجموع فتاوى ابن تيمية 18/216.

(4)

مجموع فتاوى ابن تيمية 18/217.

(5)

مجموع فتاوى ابن تيمية 18/220، وبهذا يتبين خلط الشيخ الألباني رحمه الله حين ذكر الخلاف في خلق العرش والقلم أيهما أولاً؟ ورجح أن القلم خلق أولاً، وظن أن القول بأن العرش خلق أولاً معناه أن العرش أول المخلوقات، واتضح خلطه رحمه الله حين قال بأن ابن تيمية يرى أن العرش أول المخلوقات، ثم قال في الصفحة التي تليها بأن ابن تيمية يرى حوادث لا أول لها، فكيف يكون هذا؟

ص: 297

وأما الفلاسفة فهم وإن أثبتوا دوام الفاعلية للرب لا عن اختيار ومشيئة، وأثبتوا وجود الله، فهم في الحقيقة معطلة لا يؤمنون بصفات الله عز وجل ولا بأسمائه، وقالوا: إن المخلوقات لازمة لله أزلاً وأبداً.

الوجه الثاني: أن لازم مذهب الفلاسفة في قدم النوع، وقدم العين والفرد، هو التعطيل عن الفعل، إذ على قولهم: لم يزل الفلك مقارناً له أزلاً وأبداً فيمتنع أن يكون شيء مفعولاً له؛ لأن الفاعل لا بد أن يتقدم على فعله.

فهم عطلوا الرب عن الفاعلية التي هي أظهر صفات الرب - تعالى - ولهذا وقع الإخبار بها في أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم: {قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1- 5] فالخلق يتضمن فعل الله، وخلق الإنسان يعني خلق الله الأشياء شيئاً بعد شيء.

والتعليم يتضمن قول الله وتعليم الإنسان يعني دوام هذه الصفة وتكرارها شيئاً بعد شيء، كما قال تعالى:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113]، وقال:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61]، وقال:{وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114]، وقال:{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 1 - 5] .

وترتب على هذا قول الفلاسفة بعدم علم الله بالجزئيات، وعلم الله إنما هو بالكليات، والكليات أمر ذهني لا وجود له في الخارج، وإذا لم يعلم شيئاً من الجزئيات لم يعلم شيئاً من الموجودات، فامتنع أن يعلّم غيره شيئاً من العلم بالموجودات المعينة؛ لأن من لا يعلم شيئاً يمتنع أن يعلم غيره (1) .

ويرى ابن تيمية أن قول الفلاسفة أردأ الأقوال في المسألة، ويفضل قول

(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/229 - 230.

ص: 298

المتكلمين على قول الفلاسفة، فالمتكلمون أقرب إلى الإسلام والسنة من الفلاسفة، وإن كانوا ضالين فيما خالفوا به السنة، وذلك من وجوه:

أحدها: أن يقول المتكلمون للمتفلسفة: أنتم ادعيتم قدم العالم، بناء على قدم الزمان - عندكم -، ووجوب دوام فاعلية الرب، ونحو ذلك، مما غايتكم فيه إثبات دوام الحوادث، إذ ليس في حججكم هذه وأمثالها ما يدل على قدم شيء من العالم لا السماوات التي أخبرنا الله أنه خلقها والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا غير ذلك.

الثاني: أن يقال: دوام فاعلية الرب - تعالى - ودوام الحوادث، يمكن معه أن تدوم الأفعال التي تقوم بالرب بمشيئته وقدرته، وتحدث شيئاً بعد شيء، وأن تحدث حوادث منفصلة شيئاً بعد شيء، وعلى كل من التقديرين فلا يكون شيء من العالم قديماً.

الثالث: أن يقال للفلاسفة: ما ذكرتموه من الأدلة العقلية الموجبة لدوام فاعلية الرب ودوام الحوادث يدل على نقيض قولكم لا على وفقه، فإن هذا يقتضي أن واجب الوجود لم يزل يفعل ويحدث الحوادث، وأنتم على قولكم يلزم ألا يكون أحدث شيئاً من الحوادث (1) .

وقد رد شيخ الإسلام رحمه الله على القائلين بقدم العالم، وأطال النفس في ذلك. وبين أن جماهير العقلاء، وأهل الملل كلهم، وجمهور من سواهم من المجوس (2) ، وأصناف المشركين، وجماهير أساطين الفلاسفة لا يقولون بقدم العالم، وهم معترفون بأن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن، وأن هذا

(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل 9/211 - 214، مجموع فتاوى ابن تيمية 18/234.

(2)

المجوس: هم الذين أثبتوا أصلين للعالم، جعلوهما خالقين معبودين: هما النور والظلمة، يعبدون النار ويستحلون نكاح الأمهات والبنات والأخوات، وهم لهم شبهة كتاب.

انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص120 - 121، البرهان للسكسكي ص90 - 91، رسالة في الرد على الرافضة للمقدسي ص134.

ص: 299

العالم كله مخلوق والله خالقه وربه (1) .

وذكر أن الفلاسفة الأوائل كانوا مقرين بحدوث العالم، وأن أول من اشتهر عنه القول بقدم العالم هو أرسطو (ت - 322ق. م)(2) .

وليس مع الفلاسفة دليل على قدم العالم، أو قدم شيء منه، وعامة حججهم إنما تدل على قدم نوع الفعل، وليس في شيء من أدلتهم ما يدل على قدم الفلك، أو شيء من حركاته، ولا قدم الزمان الذي هو مقدار حركة الفلك (3) .

وكل ما يحتج به الفلاسفة في إثبات قدم العالم فإنه يلزم من القول به من المحذور أعظم مما فرّ منه، ويدل على نقيض ما يقصد، حتى يؤول الأمر إلى أن يعترف المبطل ببطلان قوله، وبطلان كل ما يدل على قوله، أو ينكر الوجود بالكلية. وقد قال الله تعالى:{وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33](4) .

ولازم القول بقدم العالم هو التسلسل في المؤثرات وهذا مما اتفق على بطلانه حتى الفلاسفة أنفسهم، ويلزم أيضاً من القول بقدم العالم أن يكون الفاعل مستلزماً لمفعوله، لا يجوز أن يتراخى عنه مفعوله. فإن الفاعل لا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن يجب اقتران مفعوله به.

وإما أن يجب تأخر مفعوله عنه.

وإما أن يجوز فيه الأمران.

فلو كان العالم قديماً لم يجز أن يكون فاعله ممن يجب أن يتراخى عنه مفعوله؛ لأن ذلك جمع بين النقيضين: كيف يكون مفعوله قديماً أزلياً، ويكون متأخراً عنه حادثاً بعد أن لم يكن؟

(1) انظر: شرح حديث النزول ص444 - 445.

(2)

انظر: الصفدية 1/130، 236، درء تعارض العقل والنقل 2/167.

(3)

انظر: الصفدية 1/59، 131، مجموع فتاوى ابن تيمية 18/234 - 235.

(4)

انظر: بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية 1/148.

ص: 300

وأما الاحتمال الثالث وهو جواز الأمرين فهو باطل؛ لأنه يجعل وجود المفعول ممكنا، والممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح، والقول في المرجح كالقول في غيره إذ لا يخلو من الأقسام الثلاثة المذكورة.

فتبين أن العالم لو كان قديماً للزم أن يكون مبدعه مستلزماً له، ووجود المؤثر التام في الأزل ممتنع، ذلك أن أثره إن كان خالياً من الحوادث لزم أن لا يكون في العالم شيء من الحوادث، وهذا خلاف الحس.

وأما إن كان أثره متضمناً للحوادث، فهذا ممتنع؛ لأنه يلزم منه صدور ما فيه الحوادث عما لا حوادث فيه، فالحوادث هي - أيضاً - من الصادر عنه.

وفي الجملة: فقدم العالم لا يكون إلا مع كون المبدع واجباً بذاته (1) ، وصدور الحوادث عن الموجب بذاته ممتنع، فصدور العالم عن الموجب بذاته ممتنع، فقدم العالم ممتنع (2)

وقول الفلاسفة في قدم العالم باطل من وجوه كثيرة منها:

1 -

أن عمدة رأي الفلاسفة في قدم العالم هو امتناع حدوث الحوادث بلا سبب حادث، فيمتنع تقدير ذات معطلة عن الفعل لم تفعل، ثم فعلت من غير حدوث سبب. وهذا لا يدل على قدم العالم ولا قدم شيء منه، وإنما يدل على قدم نوع الفعل، وأن الله لا زال فعالاً (3) .

2 -

أن يقال: دوام الحوادث في الماضي: إما أن يكون ممتنعاً، وإما أن يكون ممكناً، فلو كان ممتنعاً بطل قولهم، وعلم أن الحوادث لها ابتداء.

وإن كان ممكناً: أمكن أن تكون هذه الأفلاك حادثة مسبوقة بحوادث

(1) الموجب بذاته: هو الذي يكون وجوده من ذاته، لا يحتاج إلى شيء أصلاً، وهو الموجود الذي يمتنع عدمه امتناعاً تاماً، وليس الوجود له من غيره، بل من ذاته.

انظر: المعجم الفلسفي لجميل صليبا 2/541 - 542.

(2)

انظر: الصفدية لابن تيمية 1/27، 75 - 77.

(3)

انظر: منهاج السنة لابن تيمية 1/148 - 149، الصفدية له 1/132.

ص: 301

قبلها، كما قال الله عز وجل:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7] ، وعلى التقديرين فلا يلزم قدم العالم (1) .

3 -

أن القول بقدم العالم يتضمن وجود حوادث لا تتناهى في آنٍ واحد، وهذا محال باتفاقهم مع جماهير العقلاء، بل يتضمن وجود تمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد، ووجود ممكنات لا تتناهى في آن واحد، وهذا مما يصرحون بامتناعه، مع قيام الدليل على امتناعه، ويتضمن امتناع وجود حادث، ويتضمن وجود الحوادث بلا مؤثر تام، وكل هذا ممتنع.

4 -

أن وجود حوادث لا أول لها إنما يمكن في القديم الواحد، فإذا قدّر قديمان: كل منهما تقوم به حوادث لا تتناهى، كما يقولونه في الأفلاك، فهذا ممتنع؛ لأن كلاً منهما لا بداية لحركاته ولا نهاية، مع أن أحدهما أكثر من الآخر، وما كان أكثر من غيره كان ما دونه أقل منه، فيلزم أن يكون ما لا أول له ولا آخر يقبل أن يُزاد عليه ويكون شيء آخر أكثر منه، وهذا ممتنع (2) .

وبهذا يتضح أن ابن تيمية رحمه الله لم يكن يقول بقول الفلاسفة، ولم يكن يرتضيه، بل كان رده عليهم كثيراً وصريحاً في بيان خطئهم.

(1) انظر: الصفدية 1/131.

(2)

انظر: درء تعارض العقل والنقل 8/161 - 163، وقد فصل شيخ الإسلام الرد على الفلاسفة في قولهم بقدم العالم في كثير من كتبه، إلا أن حديثه عن هذه المسألة تركز في ثلاثة من كتبه تقريباً وهي: الصفدية، ودرء تعارض العقل والنقل وخاصة الجزء الثامن، ومنهاج السنة النبوية الجزء الأول والثاني، وانظر على سبيل المثال: الصفدية 1/20، 27، 41، 59، 75، 128، 130 - 134، 236، 242، 243، 2/174، منهاج السنة النبوية 1/148 - 213، درء تعارض العقل والنقل 2/167، 282، 8/161، 293، مجموع فتاوى ابن تيمية 18/234.

وانظر بعد ذلك: تهافت الفلاسفة للغزالي ص89، لباب العقول للمكلاتي ص154، الذخيرة للطوسي ص13 - 71.

ص: 302