المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى - دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية - عرض ونقد

[عبد الله بن صالح الغصن]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أسباب اختيار البحث:

- ‌خطة البحث:

- ‌ منهج في كتابة البحث

- ‌[شكر وتقدير]

- ‌[التمهيد]

- ‌ترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

- ‌1 - اسمه ونسبه:

- ‌2 - مولده ونشأته:

- ‌3 - عصره:

- ‌أولاً: الناحية السياسية:

- ‌ثانياً: الناحية الاجتماعية:

- ‌ثالثاً: الناحية العلمية:

- ‌4 - محن الشيخ:

- ‌5 - وفاته رحمه الله:

- ‌6 - مؤلفاته:

- ‌7 - بعض ثناء الناس عليه:

- ‌منهج شيخ الإسلام في تقرير العقيدة والاستدلال عليها:

- ‌الفصل الأول: المناوئون لشيخ الإسلام، ودعاواهم حول منهجه

- ‌المبحث الأول: المناوئون لشيخ الإسلام

- ‌المطلب الأول: أقسام المناوئين

- ‌المطلب الثانيالمنهج العام للمناوئين

- ‌المطلب الثالثاعتراف خصومه بقدره

- ‌المبحث الثانيدعاوى المناوئين حول منهج شيخ الإسلام ابن تيمية ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعاوى المناوئين حول منهج شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌المطلب الثانيمناقشة دعاوى المناوئين حول منهج ابن تيمية

- ‌الفصل الثانيدعوى التجسيم والتشبيه

- ‌المبحث الأول:قول أهل السنة في مسألة التجسيم والتشبيه

- ‌المطلب الأول: التعريف بالمشبهة

- ‌المطلب الثانياعتقاد السلف نفي التمثيل والتشبيه

- ‌المطلب الثالثرد السلف دعوى أن الإثبات يستلزم التشبيه

- ‌المبحث الثانيدعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى قوله بالجهة والتحيز ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى قوله بالجهة والتحيز

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الثالث: دعوى القول بقدم العالم

- ‌المبحث الأولمعتقد أهل السنة في إمكان حوادث لا أول لها

- ‌المطلب الأولالتسلسل: تعريفه، أقسامه، حكم كل قسم

- ‌المطلب الثانيالصفات الاختيارية

- ‌المطلب الثالثشرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه

- ‌المبحث الثانيدعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لهايستلزم القول بقدم العالم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لها يستلزم القول بقدم العالم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الرابعدعوى نهي ابن تيمية عن زيارة القبور

- ‌المبحث الأولعقيدة أهل السنة في زيارة القبور وشد الرحل إليها

- ‌المبحث الثانيالزعم أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور ومناقشته

- ‌المطلب الأولالزعم بأن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور

- ‌المطلب الثانيمناقشة دعوى أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقشتها

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الخامسدعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياءوقبور غيرهم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياءوقبور غيرهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الخامسمسألة التوسل

- ‌المبحث الأول: عقيدة أهل السنة والجماعة في التوسل

- ‌المبحث الثانيدعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين،وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين،وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدمجواز التوسل بالنبي، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدم جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين،وإهانته لهم، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين، وإهانته لهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل السادسموقف شيخ الإسلام من الصحابة

- ‌المبحث الأولعقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة

- ‌المبحث الثانيدعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهمالأئمة الخلفاء الأربعة، ومناقشتها

- ‌المطلب الأول دعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهم الأئمة الخلفاء الأربعة

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت،وتعمية مناقبهم، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت، وتعمية مناقبهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى رد الأحاديث الصحيحة في مقام المبالغةفي توهين كلام الشيعة ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى رد الأحاديث الصحيحةفي مقام المبالغة في توهين كلام الشيعة

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل السابعمسألة دوام النار

- ‌المبحث الأولدلالة نصوص الكتاب والسنة على خلود النار

- ‌المبحث الثانيدعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

‌المطلب الثاني

مناقشة الدعوى

لا يزال المناوئون يفترون على ابن تيمية الكذب، ويلصقون به أشد التهم ظلماً وعدواناً، وقد تحدثت مراراً عن تعظيم ابن تيمية رحمه الله للأنبياء، ومحبته لهم في مواضع متعددة، وها هو رحمه الله ينقل - مرتضياً - عن القاضي عياض (ت - 544هـ) عن مالك (ت - 179هـ) رحمه الله أنه كان لا يحدث بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو على وضوء إجلالاً له.

وقد سئل مالك (ت - 179هـ) رحمه الله عن أيوب السختياني (1) فقال: (حج حجتين فكنت أرمقه، ولا أسمع منه، غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت كتبت عنه) .

وقال مالك (ت - 179هـ) - أيضاً -: (كنت أرى جعفر بن محمد (2)

وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، قال: ولقد رأيت عبد الرحمن بن القاسم (3) ،

(1) أيوب السختياني: أيوب بن أبي تميمة بن كيسان السختياني، أبو بكر البصري، كان سيد الفقهاء، ثقة ثبت، من العلماء العباد، ت سنة 131هـ.

انظر في ترجمته: تهذيب التهذيب لابن حجر 1/397.

(2)

جعفر الصادق: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين الهاشمي القرشي، أبو عبد الله، من أجلاء التابعين، له منزلة رفيعة في العلم، ينسب إليه الشيعة أموراً ليست صحيحة، ت سنة 148هـ.

انظر في ترجمته: حلية الأولياء لأبي نعيم 3/192، تقريب التهذيب لابن حجر 1/132.

(3)

عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي القرشي، أبو محمد، من سادات أهل المدينة فقهاً وعلماً وديانة، وحفظاً للحديث، ت سنة 126هـ.

انظر في ترجمته: تهذيب التهذيب لابن حجر 6/254، شذرات الذهب لابن العماد 1/171.

ص: 466

يذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبة منه لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال: ولقد رأيت الزهري (1) وكان من أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك، ولا عرفته (2) .

وأما موقف ابن تيمية رحمه الله من الصحابة فهو موقف التعظيم والتقدير، فيعتقد أن محبتهم من الإيمان، ويعتقد أنهم خيار المؤمنين فقال:(وأصحاب رسول صلى الله عليه وسلم خيار المؤمنين، كما ثبت عنه أنه قال: «خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (3) ، وكل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً به فله من الصحبة بقدر ذلك) (4) .

ويعتقد أنهم أكمل الناس عقلاً، وأصحهم معرفة وعلما، فقال:(فهل سُمع في الأولين والآخرين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوم كانوا أتم عقولاً، وأكمل أذهاناً، وأصح معرفة، وأحسن علماً من هؤلاء؟ - أي الصحابة -)(5) ، وسأتحدث عن موقفه من الصحابة بشيء من التفصيل في الفصل القادم - إن شاء الله -.

ومن جهة أخرى: فقد حذر القرآن عن اتخاذ أولياء من دون الله بإعطائهم منزلة مثل منزلة الباري عز وجل في صرف بعض أنواع العبادة لهم كالاستغاثة، والدعاء وغيرهما، فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ

(1) الزهري: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري القرشي، أبو بكر، تابعي جليل، أحد أكابر الحفاظ والفقهاء. نزل الشام واستقر بها، ت سنة 124هـ.

انظر في ترجمته: حلية الأولياء لأبي نعيم 3/360، تهذيب التهذيب لابن حجر 9/445.

(2)

انظر: الشفا للقاضي عياض (ضمن شرحيه 3/1399 - 401، 404) وانظر: نقل شيخ الإسلام عنه في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص120 - 121.

(3)

سبق تخريجه ص105.

(4)

مجموع فتاوى ابن تيمية 35/59.

(5)

درء تعارض العقل والنقل 5/96، وانظر ص72.

ص: 467

أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41]، وقال عز وجل:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]، وقال سبحانه:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14] .

وأما دعوى المناوئين أن الاستشفاع بالموتى، أو التبرك بآثارهم، أو الاستغاثة بهم دليلٌ على محبتهم، وأن من لم يفعل ذلك فليس محباً لهم: فهذه الدعوى باطلة والتلازم باطل، فلم يأمر الله عز وجل به، ولا أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا فعله الصحابة الكرام، وإنما ضابط المحبة هو الاتباع والتأسي، كما قال الله عز وجل:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] وقال - سبحانه -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21] .

وأما الاستشفاع: وهو طلب الشفاعة: فهذا له أحوال:

الحال الأولى: طلب الشفاعة من الشخص، وهو حي قادر، فهذه شفاعة جائزة، والشافع يشفع بحكم جاهه ومنزلته عند المشفِّع، كما قال الله عز وجل:{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء: 85] ، والشافع سائل لا تجب طاعته، وإن كان عظيماً كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل بريرة (1) أن تمسك زوجها، ولا تفارقه لما أعتقت، وخيرها النبي صلى الله عليه وسلم فاختارت فراقه، وكان زوجها يحبها، فجعل يبكي، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم أن تمسكه، فقالت: أتأمرني؟، قال:«لا إنما أنا شافع» (2) ، فدل على جوازها، ولو لم تكن جائزة لم يعملها النبي صلى الله عليه وسلم.

(1) بريرة مولاة عائشة، قيل: كانت مولاة لقوم من الأنصار، فاشترتها عائشة وأعتقتها، وكانت تخدم عائشة قبل أن تشتريها، واختلف في زوجها هل كان عبداً أو حراً؟ والصواب أنه عبد.

انظر في ترجمتها: الاستيعاب لابن عبد البر 4/249، الإصابة لابن حجر 4/251.

(2)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 9/40 كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي، وأبو داود في سننه 2/670 - 671، كتاب الطلاق، وابن ماجه في سننه 1/670 - 671 كتاب الطلاق، باب خيار المرأة.

ص: 468

وحقيقة الاستشفاع بالشخص: الاستشفاع بدعائه، كما في حديث الأعمى حين علمه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول:(اللهم فشفعه فيّ) أي اقبل دعاءه.

قال ابن تيمية رحمه الله (معنى الاستشفاع بالشخص - في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - هو استشفاع بدعائه، وشفاعته ليس هو السؤال بذاته، فإنه لو كان هذا السؤال بذاته لكان سؤال الخلق بالله تعالى أولى من سؤال الله بالخلق)(1) .

أما طلب الشفاعة من غير القادر فهذا عبث، وأما طلبها من الحي الغائب فهذا مرتبط بالحال الثانية وهي طلبها من الميت.

الحال الثانية: طلب الشفاعة من الميت: فهذه محرمة باطلة، ولا يوجد نص عن أي نبي من الأنبياء أنه أمر بالاستشفاع به بعد موته (2) .

ومخاطبة الميت - أيا كان نبياً أو ولياً - وطلب الشفاعة منه لا تجوز، قال ابن تيمية رحمه الله:(إن دعاءهم - أي الأنبياء والصالحين -، وطلب الشفاعة منهم في هذه الحال - أي بعد موتهم - يفضي إلى الشرك بهم، ففيه هذه المفسدة، فلو قدر أن فيه مصلحة لكانت هذه المفسدة راجحة، فكيف ولا مصلحة فيه)(3) .

وطلب الدعاء والشفاعة من الموتى، والغائبين هو أصل الشرك، وهذه هي صورة اتخاذ المشركين شفعاء من دون الله، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94]، وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ

(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص248.

(2)

انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 5/74.

(3)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص51.

ص: 469

دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 51]، وقال:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18] .

وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 22 - 23] .

ومن المعلوم في بداهة العقل أن الاستشفاع بأحد يلزم منه علم الشافع بهذه الشفاعة، والميت إذا استشفع به فإنه لا يعلم بهذه الشفاعة بحكم موته، وعليه فإن الشفاعة باطلة من أساسها، يقول ابن تيمية رحمه الله: (يقولون لمن توسل في دعائه بنبي أو غيره: قد تشفع به، من غير أن يكون المستشفع به شفع له ولا دعا له، بل وقد يكون غائباً لم يسمع كلامه، ولا شفع له

وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل، ولا طلب له حاجة، بل وقد لا يعلم بسؤاله، فليس هذا استشفاعاً لا في اللغة، ولا في كلام من يدري ما يقول) (1) .

الحال الثالثة: طلب الشفاعة يوم القيامة: وهذه جائزة إذا توافرت فيها شروط قبول الشفاعة وهي:

1 -

إذن الله للشافع أن يشفع، كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] .

2 -

رضى الله عن المشفوع له، كما قال تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقد جمع الله هذين الشرطين في قوله - تعالى -:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] .

(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص152، وانظر ص242.

ص: 470

3 -

إسلام المشفوع له، كما قال تعالى:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ} [غافر: 18](1) .

4 -

قدرة الشافع على الشفاعة، كما قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]، وقال:{وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] .

هذه هي شروط الشفاعة المثبتة، وأما الشفاعة المنفية فهي التي يتخلف عنها أحد شروط الشفاعة المثبتة، أو كل شروطها، فعلى سبيل المثال: لو توافرت جميع شروط الشفاعة إلا إذن الله للشافع أن يشفع لما صحت الشفاعة، ولما قبلت، فلا تكون شفاعة الشافعين مقبولة إلا إذا كانت بإذن الله عز وجل، وما وقع بغير إذنه لم يقبل، ولم ينفع، وإن كان الشفيع عظيماً (2) .

وفي حديث الشفاعة العظمى الطويل ما يدل على شرط الإذن لقبول الشفاعة وفيه: «فانطلق، فاستأذن على ربي، فيؤذن لي، فأقوم بين يديه، فأحمده بمحامد لا أقدر عليها الآن يلهمنيها الله، ثم أخر ساجداً، فيقول: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع» (3) .

ومثال ذلك أيضاً: وجوب إسلام المشفوع له، فلا تنفع الشفاعة الكفار

(1) يستثنى من ذلك شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب، فهذه خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم من حيث الشافع، خاصة بأبي طالب من حيث المشفوع له، ثم إن هذه الشفاعة لم تنفع أبا طالب في الخروج من النار، إنما تنفعه في تخفيف العذاب عنه.

(2)

انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية ص249، الرد على الأخنائي ص218، قاعدة عظيمة له ص130، الرد على البكري ص59 - 62.

(3)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 8/395 - 396 كتاب التفسير باب ذرية من حملنا مع نوح، ومسلم في صحيحه 1/184 كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة.

ص: 471

كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، وقد حذر الله عز وجل من الاستغفار للمشركين والشفاعة لهم بقوله:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] .

وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي» (1) .

لكن هذه الشفاعة تنفع المؤمنين، والعصاة ممن كان معه أصل الإيمان، كما قال ابن تيمية رحمه الله:(وأما شفاعته لأهل الذنوب من أمته فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين بإحسان، وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم)(2) .

ودليل ذلك حديث أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله: أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه» (3) .

وقال عليه الصلاة والسلام: «لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة يوم القيامة، فهي نائلة - إن شاء الله تعالى - من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً» (4) .

قال ابن تيمية رحمه الله: (مذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، وسائر أهل السنة والجماعة أنه صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الكبائر، وأنه لا يخلد في النار من أهل الإيمان أحد، بل يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال ذرة من إيمان)(5) .

(1) سبق تخريجه ص306.

(2)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص12.

(3)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 1/193 كتاب العلم، باب الحرص على الحديث.

(4)

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 1/189 كتاب الإيمان، باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته.

(5)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص251.

ص: 472

وأما التبرك بالصالحين فهو لفظ مجمل لا يتضح الحكم فيه إلا إذا أُزيل الاشتباه والإجمال:

فإن أريد بالتبرك بالصالحين: التبرك بمجالستهم كالانتفاع بعلمهم، أو بدعائهم، أو نصيحتهم، فهذا تبرك مشروع (1) .

كما قد بين ابن تيمية رحمه الله أن لفظ التبرك بالصالحين مجمل، ثم بين المعنى الصحيح للتبرك بقول: (أما الصحيح

فببركة اتباعه صلى الله عليه وسلم وطاعته حصل لنا من الخير ما حصل، فهذا كلام صحيح

وأيضاً: إذا أريد بذلك أنه ببركة دعائه وصلاحه دفع الله الشر، وحصل لنا رزق ونصر فهذا حق) (2) .

إلى أن قال: (فبركات أولياء الله الصالحين باعتبار نفعهم للخلق بدعائهم إلى طاعة الله، وبدعائهم للخلق، وبما ينزل الله من الرحمة، ويدفع من العذاب بسببهم حق موجود، فمن أراد بالبركة هذا، وكان صادقاً، فقوله حق)(3) .

وأما إذا أريد بالتبرك بالصالحين: التبرك بآثارهم من بعد موتهم، فهذا باطل، فلم يأمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه، ولا التابعون ومن بعدهم من سلف الأمة، والمؤمن مأمور بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل أمر ونهي، بطاعته في فعل الأوامر على الوجه الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به، وكذلك في باب النهي ينتهي عما انتهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ونهى عنه.

وقد فرق أهل العلم في الأمكنة التي تعبّد بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو نبينا صلى الله عليه وسلم المعصوم الذي أمرنا بالاقتداء به، هل تعبده فيها قاصداً لهذه البقعة، أم تعبده فيها كان اتفاقاً. فإذا كان تعبده فيها قاصداً لها فنحن مأمورون بالاقتداء.

وأما إذا كان اتفاقاً لا قصداً: فجمهور الصحابة أنه لا يُتحرى هذا المكان بالعبادة. ويقال هذا في عمل النبي صلى الله عليه وسلم الذي بركته ذاتية، وله من

(1) انظر: التبرك أنواعه وأحكامه للجديع ص269.

(2)

مجموع فتاوى ابن تيمية 11/113.

(3)

مجموع فتاوى ابن تيمية 11/114.

ص: 473

الخصائص من التبرك في حياته ما ليس لغيره، فيكون الصالحون من باب أولى أن لا يتبرك بآثارهم، ولا مواضع عبادتهم وجلوسهم (1) ، وللشاطبي (2)

رحمه الله كلام نفيس في هذا حيث يقول: (الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه الصلاة والسلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهو كان خليفته، ولم يُفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنه وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم كذلك علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركاً تبرك به على أحد تلك الوجوه - أي الثياب والشعر وفضل الوضوء - أو نحوها، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء)(3) .

وأما إذا أريد بالتبرك بالصالحين: التبرك بذواتهم في حياتهم، أو بعد مماتهم بقبورهم، أما في حياتهم فكالتمسح بهم، أو تقبيلهم تبركاً، وأما بعد مماتهم فكالتمسح بقبورهم، وتقبيلها تبركاً، أو مجاورة القبر رجاء البركة، أو الدعاء عند القبر رجاء بركته، فكل هذا باطل لم تأت به شريعة إلهية، وقد قال الله عز وجل:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، وقال صلى الله عليه وسلم:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (4) .

(1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/750، 753.

(2)

الشاطبي: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، أبو إسحاق، من أهل غرناطة، أصولي، فقيه مجتهد، محارب للبدع، من كتبه: الموافقات، والاعتصام، ت سنة 790هـ.

انظر في ترجمته: شجرة النور الزكية لمخلوف ص231.

(3)

الاعتصام 2/8 - 9.

(4)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 5/301 كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ومسلم في صحيحه 3/1343 كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.

ص: 474

يقول ابن تيمية رحمه الله عن التبرك الباطل المذموم: (وأما المعنى الباطل فمثل أن يريد الإشراك بالخلق مثل أن يكون رجل مقبور بمكان، فيظن أن الله يتولاهم لأجله، وإن لم يقوموا بطاعة الله ورسوله، فهذا جهل.. فمن ظن أن الميت يدفع عن الحي مع كون الحي عاملاً بمعصية الله فهو غالط، وكذلك إذا ظن أن بركة الشخص تعود على من أشرك به، وخرج عن طاعة الله ورسوله مثل أن يظن أن بركة السجود لغيره، وتقبيل الأرض عنده، ونحو ذلك يحصل له السعادة.. فهذه الأمور ونحوها مما فيه مخالفة الكتاب والسنة، فهو من أحوال المشركين، وأهل البدع، باطل لا يجوز اعتقاده، ولا اعتماده)(1) .

وسبب النهي عن التبرك بذوات الصالحين أمور منها:

أ - عدم تحقق الصلاح، فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب، وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص كالصحابة الذين أثنى الله عليهم ورسوله، أما غيرهم فغاية الأمر أن نظن صلاحهم فنرجو لهم.

ب - أن الناس لو ظنوا صلاح شخص، فلا يؤمن من أن يختم له بخاتمة السوء، والأعمال بالخواتيم، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها» (2) .

جـ - أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع بعضهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.

د - أن التبرك بذوات الصالحين لا تؤمن معه الفتنة بالمتبرك به، فتعجبه نفسه، ويورثه الرياء والكبر.

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 11/114 - 115.

(2)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 13/440 كتاب التوحيد باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} ، ومسلم في صحيحه 4/2036 كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي، واللفظ له.

ص: 475

هـ - أنه فتنة للمتبرك أيضاً؛ لأنه جعل سببا ما ليس بسبب، وهذا يوقعه في التعلق بغير الله، فجعل في المتبرك به ما ليس فيه.

وأن التبرك بالذوات من وسائل الشرك، فيمنع سداً لذريعة الشرك (1) .

وأما الاستغاثة: فهي طلب الغوث، ويقول الواقع في بلية: أغثني أي فرج عني، وغوَّث الرجل واستغاث: صاح واغوثاه، والغياث: ما أغاثك الله به (2) .

والاستغاثة: طلب الإغاثة، والتخليص من الكربة والشدة (3) .

والاستغاثة في الأصل تكون بالله عز وجل وحده لما قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] .

وقال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29]، وقال - سبحانه -:{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف: 17] .

وأما الاستغاثة بالمخلوق فلا تصح إلا بثلاثة شروط: وهي: أن يكون المستغاث به حياً، حاضراً، أما إن كان المستغاث به ميتاً، أو غائباً، أو أن الأمر المستغاث لأجله مما لا يقدر عليه إلا الله فهذا شرك بالله عز وجل (4) .

(1) انظر: الاعتصام للشاطبي 2/8 - 9، الحكم الجديرة بالإذاعة لابن رجب ص55، تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص186، فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 1/104، أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية لمحمد الأشقر ص277.

(2)

انظر: لسان العرب لابن منظور 2/174 - 175 مادة (غوث) ، القاموس المحيط للفيروزآبادي 1/177 مادة (الغوث) .

(3)

انظر: الرد على البكري لابن تيمية ص88، 249، مجموع فتاوى ابن تيمية 1/103.

(4)

انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين 1/261، حكم الله الواحد الصمد للمعصومي ص40.

ص: 476

يقول ابن تيمية رحمه الله: (واستغاثة الصحابة به صلى الله عليه وسلم في القحط؛ إنما استغاثوا به ليدعو لهم كما يستغيث الناس به يوم القيامة ليشفع لهم، والاستغاثة بالمخلوق ليدعو للعبد أو ليعينه بما يقدر عليه ليس بممنوع منها)(1) .

ويقول رحمه الله: (ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب ويستغيث به عند المصائب يقول: يا سيدي فلان، كأنه يطلب منه إزالة ضره، أو جلب نفعه)(2) .

وينبه ابن تيمية رحمه الله على تقرير هذه الحقيقة، وهي أن الاستغاثة بالمخلوق إذا لم تتوافر شروطها فهي شرك فيقول:(ولا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني وانصرني وادفع عني، أو أنا في حسبك ونحو ذلك، بل كل هذا من الشرك الذي حرم الله ورسوله، وتحريمه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام)(3) .

وأما دعوى أنه إذا جاز التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم فقد جازت الاستغاثة به، فهذه غير صحيحة؛ لأنه لا يجوز لنا أن نتوسل بذات الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس لنا أن نتوسل بدعائه بعد موته، فالمقدمة باطلة، وأما إن أريد بجواز التوسل به: أي في حياته بدعائه، فنقول: وأيضاً يجوز الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم في حياته، وحضرته، فيما يقدر عليه.

وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فعلينا الإيمان به، وطاعته، وتصديق خبره، ونشهد له أنه قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

وأما التعليل بجوازها بعد موته صلى الله عليه وسلم بأنه في مزيد دائم، ولا ينقص جاهه،

(1) الرد على البكري ص67، وانظر ص36، 88، 89.

(2)

مجموع فتاوى ابن تيمية 27/82، وانظر ص145، وانظر: الرد على البكري له ص29، 36.

(3)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص300.

ص: 477

فهذا تعليل - في حد ذاته - صحيح، ومقبول، إلا أنه لا يصح أن يُربط بجواز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، ثم إن هذه مسألة شرعية تؤخذ من الأدلة:

فإن الدليل على أن الطلب منه صلى الله عليه وسلم ميتاً كالطلب منه حياً، وعلو درجته بعد الموت لا يقتضي أن يُسأل كما لا يقتضي أن يستفتى (1) .

وسبب غلو المخالفين في رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خوفهم من نقص حقه بعد وفاته وإيفائه إياه كاملاً، فوقعوا في شر مما فروا منه، فلو فرض ذنبان: أحدهما: الشرك والغلو في المخلوق، والثاني: نقص رسولٍ من بعض حقه، كان خطأ الثاني دون خطأ من غلا فيه، وأشرك به، يقول ابن تيمية رحمه الله:(فالشرك عند الله أعظم إثماً، وصاحبه أعظم عقوبة، وأبعد عن المغفرة من المنتقص لهم عن كمال رتبتهم..)(2) .

وقال: (وهؤلاء الجهال المضاهون للنصارى غلوا في التخلص من النقص حتى وقعوا في الشرك والغلو وتكذيب الرسول الذي هو أعظم إثماً كما أصاب النصارى.

فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، وكان ما فروا إليه من الشرك والغلو وتكذيب الرسل وتنقصهم أعظم إثماً وعقاباً مما فروا منه مما ظنوه تنقصاً..) (3) .

وأما الاستدلال على جواز الاستغاثة الشركية بقول الله عز وجل: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] ، فهذا ليس فيه ما يؤيد جواز الاستغاثة الشركية، فهي استغاثة حي بحي حاضر، على أمر يقدر عليه موسى عليه الصلاة والسلام (4) .

(1) انظر: الرد على البكري ص88، 90، 249، 250، 262.

(2)

الرد على الأخنائي ص201.

(3)

الرد على الأخنائي ص201.

(4)

انظر: البروق النجدية للقصيمي ص35 - 36، القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين 1/279.

ص: 478

وأما دعوى أن الاسغاثة الشركية بالموتى لا تكون عبادة لهم إذا صاحبها إيمان بالله، فيجاب عنها بأن من صرف شيئاً مما هو لله لغيره فهو مشرك بالله، وإن لم يسجد ويركع لذلك الغير، ولذا فقد ذم الله أهل الكتاب الذين أطاعوا علماءهم في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، فقال عز وجل:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] ، وبين ابن تيمية رحمه الله معنى اتخاذهم أرباباً في تحليل الحرام، وتحريم الحلال بأنه يكون على وجهين:

أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل وهذا كفر.

الآخر: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب (1) .

وقد أطلق صلى الله عليه وسلم لفظ العبودية على من تعلق قلبه بالدنيا، وإن لم يسجد لها أو يركع، كما قال عليه الصلاة والسلام:«تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس» (2) .

وعلى هذا فلا يلزم من العبادة أن تكون بركوع وسجود، وكذلك من استغاث بميت فهو مشرك بالله عز وجل، وقد يكون قد صرف شيئاً من العبادة لغير الله، ولو لم يصلّ إليه، أو يسجد إليه.

وأما نظم القصائد في المديح، والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد بين ابن تيمية رحمه الله أن هذا العمل ليس بمشروع، ولا واجب، ولا مستحب بإتفاق أئمة المسلمين (3) .

(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 7/70.

(2)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 6/81 كتاب الجهاد، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله.

(3)

انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص26، تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص221.

ص: 479

وقد أنكر ابن تيمية رحمه الله على الشيخ يحيى الصرصري (1) ما يقوله في قصائده في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم من الاستغاثة به، مثل قوله: بل استغيث واستعين واستنجد، وأنكر على غيره - أيضاً - (2) .

أما قصائد البوصيري (ت - 696هـ) التي فيها استغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم استغاثة شركية، فقد نقد ابن تيمية أبياتاً منها، هي أخف من الأبيات المشهورة عنه، والتي ذكرتها في المطلب الأول من هذا المبحث.

فقال في مقام بيان غلو المادحين لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومنهم من يقول أسقط الربوبية، وقل في الرسول ما شئت.

دع ما ادعته النصارى في نبيهم

واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم

فإن فضل رسول الله ليس له

حد فيعرب عنه ناطق بفم

وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف

وانسب إلى قدره ما شئت من عظم (3)

لو ناسبت قدره آياته عظما

أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم (4)(5)

وأبيات البوصيري الأولى التي فيها استغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإعطائه منزلة فوق منزلته - بأبي هو وأمي - قد ناقشها المناوئون - أنفسهم - في ثنايا كلامهم، وبينوا ما فيها من المبالغات التي لا دليل عليها، وإن كانوا لم يجرؤوا على القول بأنها شرك، فقال أحدهم عن هذه الأبيات:(في هذا مبالغة لا دليل عليها)(6) ، ثم ذكر بعض القصص والأحاديث الموضوعة في بيان منزلة النبي صلى الله عليه وسلم

(1) يحيى الصرصري: يحيى بن يوسف بن يحيى الأنصاري، أبو زكريا، شاعر من أهل صرصر، سكن بغداد، وكان ضريراً، ت سنة 656هـ.

انظر في ترجمته: البداية والنهاية لابن كثير 13/211، النجوم الزاهرة للأتابكي 7/66.

(2)

انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 1/70 - 71، الرد على البكري له ص219.

(3)

هذا البيت ذكره ابن تيمية رحمه الله ثالث الأبيات، وموضعه الصحيح هو أن يكون ثانيها، والثاني يكون الثالث كما في ديوان البوصيري ص241.

(4)

انظر: ديوان البوصيري ص241.

(5)

الرد على البكري ص219.

(6)

قصيدة البردة لعبد الله الغماري (مقال ضمن البوصيري مادح الرسول الأعظم لعبد العال الحمامصي ص74) .

ص: 480

ثم قال: (وكتب الموالد ملأى بهذه الموضوعات وأصبحت عقيدة راسخة في أذهان العامة)(1)، وقال: (لا يفيد ما ادعاه الناظم من أن علم اللوح والقلم بعض علوم النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الدعوى مبالغة ليس عليها دليل.. والمقصود أن الغلو في المدح مذموم لقوله تعالى:{لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] .

وأيضاً: فإن مادح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر لم يثبت عنه يكون كاذباً عليه، فيدخل في وعيد «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» (2) ، وليست الفضائل النبوية مما يتساهل فيها برواية الضعيف ونحوه.. وعلى هذا فما يوجد في كتب المولد النبوي، وقصة المعراج من مبالغات وغلو لا أساس له من الواقع: يجب أن تحرق، لئلا يحرق أصحابها وقارئوها في نار جهنم، نسأل الله السلامة والعافية) (3) .

وقد عدّل بعض الأبيات - وليست كلها - التي فيها غلو وشرك، وإن كان تعديله - أيضاً - لا يخلو من ملحوظات (4) ، ولذا فإن نقلي عن هذا الكاتب الشاعر المحدِّث ليس من باب الاطمئنان إليه لاعتقاده معتقد السلف، بل في ثنايا كلامه في مقاله السابق، وفي بعض كتبه وفتاويه كلام كثير حول نصرة التوسل البدعي، وشد الرحل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم (5) ، إنما كان نقلي عنه من باب

(1) قصيدة البردة لعبد الله الغماري (مقال ضمن البوصيري مادح الرسول الأعظم لعبد العال الحمامصي ص75) .

(2)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 1/202 كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم في صحيحه 4/2298 - 2299، كتاب الزهد، باب التثبت في الحديث.

(3)

قصيدة البردة لعبد الله الغماري (ضمن البوصيري مادح الرسول الأعظم لعبد العال الحمامصي ص76 - 77) .

(4)

انظر: قصيدة البردة لعبد الله الغماري (ضمن البوصيري مادح الرسول الأعظم لعبد العال الحمامصي ص74، 76) .

(5)

انظر على سبيل المثال كتابه: الرد المحكم المتين على كتاب القول المبين كله، الحاوي في فتاوى الحافظ أبي الفضل عبد الله الصديق الغماري ص9 - 10، 14 - 15، 23.

ص: 481

قول الله عز وجل: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26](1) ، إذ بين أن كثيراً من المدائح النبوية التي تقال في الموالد فيها غلو وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وفيها تلبيس على أذهان العامة، حتى صارت عقائد راسخة لهم لا يبدلونها، نسأل الله أن يحفظنا بحفظه، وأن يجنبنا الفتن، وأن يهدينا صراطه المستقيم.

(1) انظر: الموقف الشرعي من مدائح الموالد في المدائح النبوية بين المعتدلين والغلاة لابن حسين ص143 - 150.

ص: 482