الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
يعتقد ابن تيمية رحمه الله في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عقيدة أهل السنة والجماعة فيهم، ولا عجب في ذلك؛ إذ هو أحد أبرز شُرّاح معتقد السلف فيعتقد رحمه الله وجوب الثناء على الصحابة - رضوان الله عليهم - بثناء القرآن الكريم والسنة النبوية عليهم، كما قال الله تعالى:{ُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]، وقال تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 18] .
وقال عز وجل {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10]، وقال سبحانه:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] .
وأما الأحاديث فيذكر ابن تيمية رحمه الله أنها مستفيضة بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم، وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون (1) كحديث:«لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ، وحديث: «لا تسبوا
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 4/430.
أصحابي
…
» (1) ، فالقدح فيهم قدح في القرآن والسنة (2) .
وحين ذكر ابن تيمية رحمه الله قول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 62 - 63] . قال: (وإنما أيده في حياته بالصحابة)(3) .
وحين ذكر قول الله عز وجل: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33 - 35] . قال: (والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن القرآن حق: هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به بعد الأنبياء)(4) .
وحين ذكر قول الله عز وجل: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] . قال: (محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم المصطفون من المصطفين من عباد الله)(5) .
ويعتقد ابن تيمية رحمه الله محبة الصحابة، وتوليهم، كما قال في لاميته:
حب الصحابة كلهم لي مذهب
…
ومودة القربى بها أتوسل (6)
وقال: (أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الأديان يتولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، ويعرفون حقوق الصحابة، وحقوق القرابة كما أمر الله بذلك ورسوله)(7) .
(1) سبق تخريجه ص501.
(2)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 4/430.
(3)
منهاج السنة 2/33.
(4)
منهاج السنة 2/33.
(5)
منهاج السنة 2/35.
(6)
لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (ضمن شرحها اللآلي البهية للمرداوي ص13) .
(7)
سؤال في يزيد بن معاوية ص19.
وقد حكى رحمه الله اتفاق أهل السنة والجماعة على رعاية حقوق الصحابة والقرابة (1) .
وقد أثنى رحمه الله على السابقين الأولين الذين منهم الخلفاء الأربعة، وبين أن الله أخبر أنه رضي عنهم، وأنه علم ما في قلوبهم، وأنه أثابهم فتحاً قريباً لقول الله عز وجل:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح: 18 - 19] .
وبين رحمه الله منزلة السابقين الأولين بقوله: (لم يكن في المسلمين من يتقدم عليهم بل كان المسلمون كلهم يعرفون فضلهم عليهم، لأن الله تعالى بيّن فضلهم في القرآن بقوله: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] ، ففضل المنفقين المقاتلين قبل الفتح)(2) .
وذكر أن قول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] ، نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين المقاتلين بعده (3) .
وقال بعد ذلك: (ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله - تعالى -: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة: 100] ، وهم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم)(4) .
وأما موقف ابن تيمية رحمه الله من سب الصحابة فيعتقد أنه حرام بالكتاب والسنة:
فمن الكتاب قول الله عز وجل: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} [الحجرات: 12] ،
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 28/492.
(2)
منهاج السنة النبوية 2/25، وانظر: 7/155.
(3)
انظر: منهاج السنة النبوية 2/26.
(4)
منهاج السنة: 2/26.
وأدنى أحوال الساب أن يكون مغتاباً، وقال عز وجل:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [الأحزاب: 58] ، والصحابة خيار المؤمنين، ولم يكتسبوا ما يوجب أذاهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى رضي عنهم - رضىً مطلقاً، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً، وكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة، وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح، فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له، فلو علم أنه يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك (1)، كما في قوله تعالى:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30] .
واستدل رحمه الله من السنة بأحاديث منها: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» (2) .
وحديث: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار» (3) ، وغيرها من الأحاديث (4) .
ويقسم ابن تيمية رحمه الله أنواع سب الصحابة وأحكامه تقسيماً جيداً: فمن اقترن بسبه دعوى أن عليا إله، أو أنه كان هو النبي فهذا لا شك في كفره.
ومن سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم فهذا يستحق التأديب والتعزير، ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك.
وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً فهذا لا ريب في كفره.
وأما من لعن وقبّح مطلقاً فهذا محل الخلاف فيهم، لتردد الأمر بين لعن
(1) انظر: الصارم المسلول لابن تيمية ص571 - 573.
(2)
سبق تخريجه ص501.
(3)
سبق تخريجه ص498.
(4)
انظر: الصارم المسلول لابن تيمية 575 - 586.
الغيظ ولعن الاعتقاد (1)، واللعن أشد من السب وقارنه النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل كما قال:«لعن المؤمن كقتله» (2) .
وأما موقف ابن تيمية رحمه الله مما ورد في مساوئ الصحابة ومثالبهم فيمكن أن يفهم من مجموع كلامه أنه وضع قواعد ثابتة وسار عليها، ومن هذه القواعد:
القاعدة الأولى: أن ما يُذكر من المطاعن والمثالب على الصحابة نوعان:
الأول: منها ما هو كذب: إما كذب كله، وإما محرَّف قد دخله من الزيادة والنقصان والتغيير ما يخرجه إلى الذم والطعن، وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذابون المعروفون بالكذب مثل أبي مخنف لوط بن يحيى (3) ،
وهشام بن محمد بن السائب الكلبي (4) ، وأمثالهما من الكذابين.
الثاني: ومنها ما هو صدق، وهذا قليل، ولهم معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوباً، وتجعلها من موارد الاجتهاد، التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من
(1) انظر: الصارم المسلول لابن تيمية ص586، مجموع فتاوى ابن تيمية 35/58 - 59، منهاج السنة النبوية له 4/468، 5/126 - 147، وانظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 7/1246 - 1271.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 11/537 كتاب الأيمان، باب من حلف بملة سوى ملة الإسلام، ومسلم في صحيحه كتاب الإيمان رقم (110) .
(3)
أبو مخنف: لوط بن يحيى، أبو مخنف، شيعي محترق، وإخباري تالف، سئل عنه أبو حاتم فنفض يده وقال: أحد يسأل عن هذا؟.
انظر في ترجمته: الكامل لابن عدي 6/2110، ميزان الاعتدال للذهبي 3/420، لسان الميزان لابن حجر 4/492.
(4)
هشام الكلبي: هشام بن محمد بن السائب الكلبي، أبو المنذر، الإخباري النساب، له تصانيف جمة، كذاب متشيع، ت سنة 204هـ وقيل غير ذلك.
انظر في ترجمته: الفهرست لابن النديم ص140، وفيات الأعيان لابن خلكان 5/131، شذرات الذهب لابن العماد 2/13، نزهة الألباء للأنباري ص75.
هذا الباب، وقد أجاد شيخ الإسلام رحمه الله في بيان الاعتذار لهم بكلام نفيس أجتزئ منه قوله عنهم: (لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم
…
ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه.. ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر، مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة والنصرة، والعلم النافع والعمل الصالح..) (1) .
القاعدة الثانية: أن الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، والكلام في الصحابة من باب أولى، فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقا، لا يباح قط بحال، قال تعالى:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ} [المائدة: 8] .
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق من عدل عليهم في القول والعمل، والعدل مما اتفق أهل الأرض على محبته ومدحه، والله أرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط كما في قوله:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] .
وقال: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17]، وقال:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] .
(1) العقيدة الواسطية (ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية 3/155 - 156) وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 4/431، وانظر: منهاج السنة النبوية له 4/310، 5/81.
يقول ابن تيمية رحمه الله: (والمقصود هنا أنه إذا وجب فيما شجر بين عموم المؤمنين أن لا يتكلم إلا بعلم وعدل، ويرد ذلك إلى الله والرسول، فذاك في أمر الصحابة أظهر)(1) .
القاعدة الثالثة: الإمساك عما شجر بين الصحابة، وعدم الخوض فيه، وهذا هو منهج السلف - رضوان الله عليهم - كما تقدم بيانه. ولابن تيمية رحمه الله كلام نفيس في توضيح هذه القاعدة، وبيان لوازم الخوض فيما شجر بين الصحابة فهو يوقع في قلوب الخائضين ومن تلقى عنهم ذلك بغض الصحابة الكرام، ويتضمن أذية هؤلاء المتشاجرين، فيقول مبتدئاً توضيح المسألة بكلام عام:(إذا تشاجر مسلمان في قضية، ومضت، ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلاماً بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة)(2) .
ثم قال: (لكن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - أعظم حرمة، وأجل قدرا، وأنزه أعراضا، وقد ثبت في فضائلهم خصوصاً وعموماً ما لم يثبت لغيرهم، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثماً من الكلام في غيرهم)(3) .
وقال: (المختار الإمساك عما شجر بين الصحابة، والاستغفار للطائفتين جميعاً وموالاتهم)(4) .
وقال رحمه الله بعد ذكره أقوال الناس فيما حصل بين الصحابة: (
…
الرابع: الإمساك عما شجر بينهم مطلقاً.. وهو مذهب أهل السنة والجماعة) (5) .
(1) منهاج السنة النبوية 5/133.
(2)
منهاج السنة النبوية 5/146 - 147.
(3)
منهاج السنة النبوية 5/147.
(4)
مجموع فتاوى ابن تيمية 4/434، وانظر: ص469، 473.
(5)
مجموع فتاوى ابن تيمية 35/51.
وقال رحمه الله: (ولهذا كان من مذاهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم، وما وقع: منه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان، ومنه ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفوراً، فالخوض فيما شجر يوقع في نفوس كثير من الناس بغضاً وذمّا، ويكون هو في ذلك مخطئاً بل عاصياً، فيضر نفسه، ومن خاض معه في ذلك.. ولهذا كان الإمساك طريقة أفاضل السلف)(1) .
وبهذا بتبين موقفه رحمه الله من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرام، فيعتقد محبتهم، وعدم سبهم، وعدم الخوض فيما شجر بينهم، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة؛ وسط بين طرفين. وهدى بين ضلالتين، فهم وسط في باب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الغلو في محبتهم أو بعضهم، وبين التفريط في بغضهم أو بعضهم.
يقول رحمه الله في تقرير وسطية أهل السنة: (هم وسط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الغالي في بعضهم الذي يقول بإلهيةٍ، أو نبوةٍ، أو عصمةٍ، والجافي فيهم: الذي يكفر بعضهم، أو يفسقه، وهم خيار الأمة)(2) .
وأما عن ادعاء المناوئين لابن تيمية رحمه الله أنه يبغض الشيخين، وأنه ينتقص من منزلة الخلفاء الأربعة فهذا غير صحيح، بل لا يوجد له نص واحد ينتقص فيه الصحابة - رضوان الله عليهم - فضلاً عن الخلفاء الأربعة، الذين يعتقد أنهم خيار الأمة، فبعد أن ذكر أن أفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن أفضل الأمة: القرن الأول، وأن أفضل القرن الأول: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، قال:(وأفضل السابقين الأولين: الخلفاء الأربعة، وأفضلهم أبو بكر، ثم عمر، وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الأمة، وجماهيرها)(3) .
(1) منهاج السنة النبوية 4/448 - 449، وانظر: ص465.
(2)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/75.
(3)
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص189.
ويبين أن مرتبتهم في الفضل كمرتبتهم في الخلافة، فقال ابن تيمية رحمه الله في عرضه معتقد أهل السنة:(وأن الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأن مرتبتهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة)(1) .
وقال رحمه الله: (أما تفضيل أبي بكر ثم عمر على عثمان وعلي فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم..)(2) .
وسأستعرض بعض جوانب موقف ابن تيمية رحمه الله من الخلفاء الأربعة - كل على حده - مبتدئاً بأفضلهم، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ومؤخراً موقفه من الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه إلى المبحث الذي يليه؛ لأنه به ألصق حين الحديث عن آل البيت، وموقف ابن تيمية رحمه الله منهم.
أما أبو بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه الذي يزعم المناوئون أن ابن تيمية يرمز إلى تكفيره، فقد كان له نصيب كبير في كتب ابن تيمية رحمه الله من الثناء عليه، والاعتراف بفضله، وذكر النصوص الدالة على تقديمه على جميع الصحابة - رضوان الله عليهم -، موافقاً بذلك اعتقاد أهل السنة والجماعة.
وهو كثيراً ما يذكر رحمه الله أن أكثر فضائل أبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه تعد من خصائصه التي لا يشركه أحد غيره، فيقول: (
…
ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره) (3) .
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 3/162.
(2)
الفتاوى الكبرى 1/475،، وانظر للاستزادة في مواقف أهل العلم من تفضيل الأربعة على بعض: منهاج السنة النبوية 2/73، مجموع فتاوى ابن تيمية 4/421، 425، 479، وفي أن السلف متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر على غيرهما: منهاج السنة 6/135، 7/369، 373، مجموع فتاوى ابن تيمية 4/407، وفي تفاضل الصحابة: منهاج السنة النبوية 6/247، 254، 255.
(3)
منهاج السنة 8/417 وانظر: ص421، 540، مجموع فتاوى ابن تيمية 4/414، 415، 422.
ويمكن أن أجمع موقفه من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرتبه في النقاط التالية:
1 -
أنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذاً لا تخذت أبا بكر خليلاً، إن صاحبكم خليل الله» (1) .
وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» ، قيل: من الرجال؟ قال: «أبوها» (2) .
وثبت عن عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه أنه قال عنه: (أنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) .
يقول رحمه الله (إن أبا بكر كان أحب الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأفضل عنده من عمر وعثمان وعلي وغيرهم، وكل من كان بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله أعلم كان بهذا أعرف، وإنما يستريب فيه من لا يعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، فإما أن يصدق الكل، أو يتوقف في الكل)(4) .
2 -
أنه أفضل الأمة على الإطلاق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك قول عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه:(وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وأنه كان خيرنا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) .
3 -
أن مصاحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أكمل من مصاحبة غيره، فهو أول
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/12 كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر، ومسلم في صحيحه 4/1854 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر، واللفظ له.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/18 كتاب فضائل أصحاب النبي، باب قول النبي: لو كنت متخذاً خليلاً، ومسلم في صحيحه 4/1856 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر، واللفظ له.
(3)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/230 كتاب فضائل أصحاب النبي، باب لو كنت متخذاً خليلاً.
(4)
منهاج السنة النبوية 7/285، وانظر: 4/366.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه 12/145، كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت.
من أسلم من الرجال، واستمر مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل وقته لا يفارقه في حضر ولا سفر، وكان يستشيره النبي صلى الله عليه وسلم في أحايين كثيرة، ويصحبه معه في المواقف الصعبة كصحبته في الهجرة، كما في حديث الغار المتقدم، وقد خصه النبي صلى الله عليه وسلم بالصحبة بقوله:«هل أنتم تاركون لي صاحبي، هل أنتم تاركون لي صاحبي، إني قلت: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت» (1) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (الصديق في ذروة سنام الصحبة، وأعلى مراتبها، فإنه صحبه من حين بعثه الله إلى أن مات)(2) .
ثم بيّن رحمه الله أنه لا نزاع بين أهل العلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن مصاحبة أبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه له كانت أكمل من مصاحبة سائر الصحابة، وذكر من سبب ذلك أنه كان أدوم اجتماعاً به ليلاً ونهاراً، وسفراً وحضراً (3) .
كما ثبت عن عائشة (ت - 57هـ) رضي الله عنها أنها قالت: (لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا فيه طرفي النهار)(4) .
4 -
تبشير النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة في خصالٍ اجتمعت فيه، ولم تجتمع في أحد من الصحابة؛ وهذه منقبة عظيمة لأبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه، فقد ثبت عن المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه:«من أصبح منكم اليوم صائماً؟» ، فقال أبو بكر: أنا. قال: «فمن تبع منكم جنازة؟» . قال أبو بكر: أنا. قال: «هل فيكم من عاد مريضاً؟» قال أبو بكر: أنا. قال: «هل فيكم من تصدق
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/18 كتاب فضائل أصحاب النبي، باب لو كنت متخذاً خليلاً.
(2)
منهاج السنة النبوية 8/389.
(3)
انظر: منهاج السنة النبوية 8/390، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 35/61.
(4)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/230 كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي إلى المدينة.
بصدقة؟» . فقال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» (1) .
5 -
أنه أعلم الصحابة - رضوان الله عليهم -، وهذا بإجماع الصحابة، ومن بعدهم، كما ثبت في الصحيح أن أبا سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه قال:(وكان أبو بكر أعلمنا)(2) .
وقد نقل ابن تيمية رحمه الله الإجماع على أن أبا بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه أعلم الصحابة، وأن أبا بكر كان يفتي ويقضي في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساكت يقره على ذلك، ويرضى بما يقول، ولم تكن هذه المرتبة لغيره (3)، ويقول:(أما الصديق فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنها غيره حتى بينها لهم لم يحفظ له قول مخالف نصاً، وهذا يدل على غاية البراعة)(4) .
6 -
أنه أشجع الناس وأصبرهم حين تضعف عزائم الأقوياء، وحين يأتي وقت الشجاعة فأبو بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه أشجع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لليقين والإيمان اللذين وقرا في قلبه. ففي الصحيح أن عقبة بن معيط (5) جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر فدفعه عنه، وقال:( {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} [غافر: 28] )(6) .
(1) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 2/713 كتاب الزكاة باب من جمع الصدقة وأعمال البر.
(2)
سبق تخريجه ص392.
(3)
انظر: منهاج السنة 7/502، 510، الفتاوى الكبرى له 1/465، مجموع فتاوى ابن تيمية 398 - 410.
(4)
الفتاوى الكبرى 1/468.
(5)
عقبة بن معيط: عقبة بن أبان بن ذكوان، أبو الوليد، من مقدمي قريش في الجاهلية، كان شديد الأذى على المسلمين، قتل يوم بدر وصلب سنة 2هـ.
انظر في ترجمته: الكامل لابن الأثير 2/27، الروض الأنف للسهيلي 5/184.
(6)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/22 كتاب فضائل أصحاب النبي، باب لو كنت متخذاً خليلاً، وانظر: ذخائر المواريث للنابلسي 2/174.
وتتضح شجاعته رضي الله عنه أيضاً في حادثة فزع الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وثباته، بل وتثبيته الصحابة، وفي إنفاذه جيش أسامه (1) ، وقتال المرتدين، وغيرها.
يقول ابن تيمية رحمه الله: (والمقصود هنا أن أبا بكر كان أشجع الناس، ولم يكن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أشجع منه)(2) .
وقال - أيضاً - (وكان لأبي بكر مع الشجاعة الطبيعية شجاعة دينية، وهي قوة يقينية بالله عز وجل، وثقة بأن الله ينصره والمؤمنين، وهذه الشجاعة لا تحصل لكل من كان قوي القلب، لكن هذه تزيد بزيادة الإيمان واليقين، وتنقص بنقص ذلك)(3) .
7 -
كثرة إنفاقه في سبيل الله وخاصة في بداية ظهور الإسلام في مكة، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر» (4)، وقال صلى الله عليه وسلم:«ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر» (5) .
وقال عليه الصلاة والسلام: «من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، قال أبو بكر: هل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم وأرجو أن تكون
(1) أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، أبو محمد، حب رسول الله وابن حبه، ولد في الإسلام، وقد أمّره الرسول صلى الله عليه وسلم على جيش عظيم فمات عليه الصلاة والسلام قبل أن يتوجه، فأنفذه أبو بكر، اعتزل الفتن، ت سنة 54هـ.
انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 1/57، الإصابة لابن حجر 1/31.
(2)
منهاج السنة النبوية 8/82 - 83.
(3)
منهاج السنة النبوية 8/84 - 85.
(4)
سبق تخريجه ص941.
(5)
الحديث أخرجه ابن ماجه في سننه 1/36 المقدمة، باب من فضل أبي بكر الصديق وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/23، صحيح الجامع 2/1011.
منهم» (1) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (والمقصود هنا أن الصديق كان أمن الناس في صحبته وذات يده لأفضل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونه كان ينفق ماله في سبيل الله كاشترائه المعذبين، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً في خاصة نفسه لا إلى أبي بكر، ولا غيره، بل لما قال له في سفر الهجرة: إن عندي راحلتين فخذ إحداهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بالثمن» (2) .
فهو أفضل صديق لأفضل نبي، وكان من كماله أنه لا يعمل ما يعمله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، لا يطلب جزاء من أحد من الخلق) (3) .
8 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخصه بأمور هي دلائل على أنه يتبوأ منزلة خاصة، فهم منها كثير من أهل العلم أحقيته بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها:
أ - طلب الكتابة بالعهد إليه بعده: فقد قال عليه الصلاة والسلام لعائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها: «ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً..» ثم قال: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» (4) .
ب - الإرشاد لمن طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحدد له رجلاً يأتيه إن لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يأتي أبا بكر، ومن ذلك: أن أمرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ - كأنها تريد
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/19 كتاب فضائل الصحابة، باب لو كنت متخذاً خليلاً، ومسلم في صحيحه 2/711 كتاب الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/230 - 231 كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي.
(3)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص63.
(4)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 10/123 كتاب المرض، باب قول المريض إني وجع، ومسلم في صحيحه 4/1857 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر.
الموت -، قال:«إن لم تجديني فأتي أبا بكر» (1) .
جـ - استخلافه بالصلاة عنه في حياته، كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض واشتد مرضه قال:«مروا أبا بكر فليصل بالناس» فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق، متى يقم مقامك لا يستطيع أن يصلي بالناس، فقال:«مري أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف» (2) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (بيّن صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يكتب كتاباً خوفاً، ثم علم أن الأمر واضح ظاهر ليس مما يقبل النزاع فيه، والأمة حديثة عهد بنبيها، وهم خير أمة أخرجت للناس، وأفضل قرون هذه الأمة، فلا يتنازعون في هذا الأمر الواضح الجلي، فإن النزاع إنما يكون لخفاء العلم، أو لسوء القصد، وكلا الأمرين منتف، فإن العلم بفضيلة أبي بكر جلي، وسوء القصد لا يقع من جمهور الأمة الذين هم أفضل القرون، ولهذا قال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) ، فترك ذلك لعلمه بأن ظهور فضيلة أبي بكر الصديق واستحقاقه لهذا الأمر يغني عن العهد فلا يحتاج إليه، فتركه لعدم الحاجة، وظهور فضيلة الصديق واستحقاقه، وهذا أبلغ من العهد) (3) .
وأما فضائل عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه فكثيرة، فمنها ما هو مشترك مع غيره من الصحابة ككونه من السابقين الأولين، وكونه من العشرة المبشرين بالجنة، وغيرها.
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/17 كتاب فضائل أصحاب النبي، باب لو كنت متخذاً خليلاً، ومسلم في صحيحه 4/1856 - 1857 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 2/64 كتاب الأذان، باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة، ومسلم في صحيحه 1/313 كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر.
(3)
منهاج السنة النبوية 1/525 - 526، وانظر في فضائل أبي بكر رضي الله عنه: أبو بكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلافة للقاسم.
ومنها ما هو مشترك مع أبي بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنهما مثل: الأمر بالاقتداء بهما لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (1) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا» (2) .
ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم لهما، فقد كان الصحابة كثيراً ما يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر» (3) .
وقرن الرسول صلى الله عليه وسلم إيمانه بإيمان أبي بكر (ت - 13هـ) ، وعمر (ت - 23هـ) رضي الله عنهما في بعض المواضع، فقال عليه الصلاة والسلام:«بينما راع يرعى في غنمه إذ عدا الذئب فأخذ منها شاة، فطلبها حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب، وقال: من لها يوم السَّبُع يوم لا راع لها غيري» ، فقال الناس: سبحان الله! ذئب يتكلم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «فإني أؤمن به وأبو بكر وعمر» (4) .
وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا رجل يسوق بقرة، قد حمَّل عليها، التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا! ولكني إنما خلقت للحرث» .
فقال الناس: سبحان الله! تعجباً وفزعاً - أبقرة تتكلم؟.
فقال: «فإني أومن بهذا وأبو بكر وعمر» (5) .
(1) سبق تخريجه ص438.
(2)
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 1/472 - 474 كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة.
(3)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/41 - 42 كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب.
(4)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه كتاب أحاديث الأنبياء، حديث (3471) واللفظ له، ومسلم في صحيحه 4/1857 - 1858 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر.
(5)
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 4/1857 - 1858 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر.
ومن فضائله: ما أفردت بحديث مستقل: فهو أفضل الأمة بعد أبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه للنصوص المذكورة قبل قليل، ولغيرها.
وهو مُحدَّث ملهم لقوله صلى الله عليه وسلم: «قد كان في الأمم مُحدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» (1) .
وقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم رؤى في عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه أوّلهَا عليه الصلاة والسلام بالعلم، وبالدين، فقد قال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم:«بينا أنا نائم إذ رأيت قدحاً أُتيت به فيه لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الرّي يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي يعني عمر بن الخطاب» ، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: «العلم» (2) .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليّ وعليهم قُمُص، منها ما يبلغ الثُّدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك» ، ومرّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: «الدين» (3) .
وقد جعل الله الحق على لسان عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه ووافق التنزيل مراراً، كما قال عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه عنه -: (وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، قال: فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) سبق تخريجه ص492.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 12/417 كتاب التعبير، باب إذا أعطى فضله غيره في النوم، ومسلم في صحيحه 4/1859 كتاب فضل الصحابة، باب من فضائل عمر.
(3)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/43 كتاب فضائل أصحاب النبي، باب من فضائل عمر، ومسلم في صحيحه 4/1859 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر.
نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية) (1) .
وقد فرح الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته معه بإسلام عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه حين أسلم، واعتز الإسلام بإسلامه، كما قال ابن مسعود (ت - 32هـ) رضي الله عنه:(ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر)(2) .
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله بعض صفات الفاروق - من غير ما ذُكر -، فمنها:
خوفه من الله عز وجل وذكر أحاديث في ذلك (3) ، منها ما وراه المسور بن مخرمة (4)
رضي الله عنه قال: لما طعن عمر جعل يألم، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذلك: لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون، فقال: أمّا ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه، فإنما ذاك مَنُّ منَّ به عليّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه، فإنما ذاك مَنٌ من الله مَنَّ به عليّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 1/504 كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة، قال ابن حجر في فتح الباري 1/505:(والمعنى: وافقني ربي فأنزل القرآن على وفق ما رأيت، لكن رعاية للأدب أسند الموافقة إلى نفسه..) .
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/41 كتاب فضائل أصحاب النبي، باب فضائل عمر.
(3)
انظر: منهاج السنة النبوية 6/9 - 15.
(4)
المسور بن مخرمة بن نوفل القرشي الزهري، أبو عبد الرحمن، صحابي جليل، قدم المدينة في ذي الحجة بعد الفتح سنة ثمان، كان من أهل الفضل والدين، ت سنة 64هـ.
انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 3/416، الإصابة لابن حجر 3/419.
أصحابك، والله لو أن لي طِلاع (1) الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه) (2) .
ومنها: أنه وقّاف عند حدود الله عز وجل ودليل ذلك: أن رجلاً دخل عليه وقال: هيه يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ أن يوقع به، فقال له الحر (3) :
يا أمير المؤمنين؛ إن الله - تعالى - قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] ، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله) (4) .
ومنها: عدله رضي الله عنه يقول ابن تيمية رحمه الله عن ذلك: (وبعدل عمر يضرب المثل)(5)، ويقول:(ومعلوم أن رعية عمر انتشرت شرقاً وغرباً.. ومع هذا فكلهم يصفون عدله، وزهده، وسياسته، ويعظمونه، والأمة قرناً بعد قرن تصف عدله وزهده وسياسته، ولا يُعرف أن أحداً طعن في ذلك)(6) .
وهذه الصفات وغيرها نماذج من سيرة ثاني الخلفاء الراشدين التي يقول عنها ابن تيمية رحمه الله (لا يُعرف في سير الناس كسيرته)(7) ، ومناقبه كثيرة، أطال
(1) الطِلاع: طلاع الشيء: ملؤه حتى يطالع أعلاه أعلاه فيساويه، انظر: لسان العرب لابن منظور 8/235 مادة (طلع) ، القاموس المحيط للفيروزآبادي 3/61 مادة (طلع) .
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/43 كتاب فضائل أصحاب النبي، باب من فضائل عمر.
(3)
الحرّ بن قيس بن حصن الفزاري، ابن أخي عيينة بن حصن، كان أحد الوفد الذين قدموا على رسول الله من فزارة مرجعه من تبوك.
انظر في ترجمته: الطبقات الكبرى لابن سعد 1/226، الاستيعاب لابن عبد البر 1/388 الإصابة لابن حجر 1/324.
(4)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 8/304 - 305 كتاب التفسير، باب سورة الأعراف {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
…
} .
(5)
منهاج السنة النبوية 6/16.
(6)
منهاج السنة النبوية 6/17.
(7)
منهاج السنة النبوية 6/54.
في ذكرها ابن تيمية رحمه الله موثقاً ذلك بالآثار الثابتة الصحيحة التي يقول عنها: (وهذه الآثار وأضعافها مذكورة بالأسانيد الثابتة في الكتب المصنفة في هذا الباب، ليست من أحاديث الكذابين، والكتب الموجودة فيها هذه الآثار المذكورة بالأسانيد الثابتة كثيرة جداً)(1) .
وأما فضائل عثمان بن عفان (ت - 35هـ) رضي الله عنه فكثيرة أيضاً، وموقف ابن تيمية رحمه الله منها موقف المؤيد، بل والمقرر لها، والموضح، والشارح: فمن فضائله الواردة في النصوص: ما هو مشترك يدخل فيها معه غيره من الصحابة، سواء أكانوا قلة أم كثرة: كتبشيره بالجنة، وكونه من السابقين الأولين للإسلام، ومن النصوص ما يدل على أنه أفضل الأمة بعد الشيخين، وذلك لحديث ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما قال:(كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم)(2) .
قال ابن عبد البر (ت - 463هـ) رحمه الله: (لم يكن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض أفضل من أبي بكر، ولم يكن بعده أفضل من عمر، ولم يكن بعده أفضل من عثمان، ولم يكن بعد عثمان على الأرض خير ولا أفضل من علي)(3) .
ومن فضائل عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه ابنتيه، ولذلك أطلق عليه لقب (ذو النورين)(4) .
ومن فضائله - أيضاً - مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم عنه يوم بيعة الرضوان، فقد أراد رجل أن يطعن في عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه على أنه لم يحضر بيعة الرضوان، فأجابه ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما بأن بيعة الرضوان إنما كانت بسبب عثمان، فإن
(1) منهاج السنة النبوية 6/59.
(2)
سبق تخريجه ص492.
(3)
جامع بيان العلم وفضله 2/226.
(4)
انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 4/146، 8/235.
النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى مكة، وبايع عنه بيدِه، ويد النبي صلى الله عليه وسلم خير من يد عثمان (1) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (فقد أجاب ابن عمر بأن ما يجعلونه عيباً ما كان منه عيباً فقد عفا الله عنه، والباقي ليس بعيب، بل هو من الحسنات، وهكذا عامة ما يعاب به على سائر الصحابة، هو إما حسنة، وإما معفو عنه)(2) .
ومنها: كثرة إنفاقه في سبيل الله، ويظهر ذلك جلياً حين جهز جيش العسرة، حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من الأسباب الماحية للذنوب، الموجبة لدخول الجنة، وحين حوصر عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه أشرف على من حاصره وقال لهم:(أنشدكم الله، ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حفر رومة فله الجنة» فحفرتها، ألستم تعلمون أنه قال: «من جهز جيش العسرة فله الجنة» فجهزته، قال: «فصدقوه بما قال» (3) .
ومنها: حياؤه رضي الله عنه، فقد استأذن رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع على فراش عائشة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح عليه ثيابه، وقال لعائشة:«اجمعي عليك ثيابك» فأذن له، فقضى إليه حاجته، ثم انصرف، فقال عليه الصلاة والسلام:«يا عائشة إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلى حاجته» (4) .
ومنها: صبره حين الفتن، وكفه عمّن قاتله، كل هذا مع اتفاق الصحابة -
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/54، كتاب فضائل أصحاب النبي، باب من فضائل عثمان، والترمذي في سننه 5/626 - 627 كتاب المناقب، باب في مناقب عثمان رضي الله عنه.
(2)
منهاج السنة النبوية 6/239، وانظر: ص268.
(3)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 5/406 - 407 كتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضاً أو بئراً، وأحمد في مسنده 1/59 من حديث عثمان بن عفان، والدارقطني في سننه 4/198 كتاب الأحباش، باب وقف المساجد والسقايات، ورومة: بئر بالمدينة حفرها عثمان.
(4)
أخرج الحديث مسلم في صحيحه 4/1866 - 1867، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان رضي الله عنه.
رضوان الله عليهم - على بيعته، فلم يكن هناك اختلاف في توليته، بل ولاه المسلمون بعد المشورة ثلاثة أيام، وهم مؤتلفون، متفقون، متحابون، متوادون، ولم يعدلوا بعثمان غيره، يقول الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله:(ما كان في القوم أوكد بيعة من عثمان كانت بإجماعهم)(1) ، ومع ذلك ابتلي رضي الله عنه بعد توليته كثيراً فصبر، وهذا من دلائل نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم حين أخبر أنه من أهل الجنة على بلوى تصيبه، يقول ابن تيمية رحمه الله:(ومن المعلوم المتواتر أن عثمان كان أكف الناس عن الدماء، وأصبر الناس على من نال من عرضه، وعلى من سعى في دمه فحاصروه، وسعوا في قتله، وقد عَرف إرادتهم لقتله، وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه، ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال، ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم.. فكان صبر عثمان حتى قُتل من أعظم فضائله عند المسلمين)(2) .
وفي الجملة: فإن فضائل عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه كثيرة، قد أقرّ بها ابن تيمية رحمه الله ويذكرها وقت الحاجة إلى ذكرها، سواء أكانت مفرقة أم مجتمعة، فيقول في كلام عام عن فضائل عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه:(والمعلوم من فضائل عثمان، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له، وثنائه عليه، وتخصيصه بابنتيه، وشهادته له بالجنة، وإرساله إلى مكة، ومبايعته له عنه لما أرسله إلى مكة، وتقديم الصحابة له باختيارهم في الخلافة، وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض، وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه)(3) .
وأما موقفه من ابن عباس (ت - 68هـ) رضي الله عنهما فهو: الثناء عليه؛ للثناء العام
(1) انظر: السنة للخلال 3/320، قال المحقق: إسناده صحيح.
(2)
منهاج السنة النبوية 6/286.
(3)
منهاج السنة النبوية 6/268، وانظر: موقف ابن تيمية من الرافضة للشمسان ص313 - 367.
على الصحابة - جميعاً -، ولثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، ودعائه له بالفقه في الدين، ومعرفة التأويل، يقول ابن تيمية رحمه الله:(ابن عباس هو حبر الأمة، وأعلم الصحابة في زمانه..، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل» (1)(2) .
وبعد هذا تبين لنا موقف ابن تيمية رحمه الله من الصحابة - جميعاً - وعقيدته فيهم، فهو يعتقد وجوب الثناء على الصحابة - جميعاً -، وأنهم أفضل الأمة، وقد حكى اتفاق أهل السنة على رعاية حقوق الصحابة، ويعتقد تحريم سب الصحابة، ووجوب الكف عن الخوض في مساوئ الصحابة، وفيما شجر بينهم.
ثم تبين لنا أن ابن تيمية يعتقد أن أفضل الأمة: الخلفاء الأربعة، وأن ترتيبهم في الفضل هو ترتيبهم في الخلافة، ويعتقد أن لكلٍ فضلاً ومناقب، وإذا تبين ذلك عنه: فلا يجوز لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتهم ابن تيمية رحمه الله بأنه ببغض الصحابة أو أحدهم، فضلاً عن تكفير الصحابة، أو أحدهم، أو أفضلهم.
وقبل ختام هذا المبحث: يحسن بي أن أتوقف قليلاً لأبين ما يعتقده ابن تيمية رحمه الله باختصار في معاوية بن أبي سفيان (ت - 60هـ) رضي الله عنهما خاصة، ذلك أن بعض الطوائف والأشخاص يكفرونه، وبعضهم يبغضه ويلعنه (3) .
وابن تيمية يعتقد فيه أنه صحابي، أسلم عام الفتح، وإيمانه ثابت بالنقل المتواتر، وإسلامه يجب ما قبله من الذنوب، وأن سيرته خير وعدل، وأنه
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 1/244 كتاب الوضوء، باب وضع الماء عند الخلاء، ومسلم في صحيحه 4/1927 كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل ابن عباس.
(2)
منهاج السنة النبوية 7/503، وانظر: ص100.
(3)
انظر: نشأة الفكر الفلسفي للنشار 2/19، 46، 3/302، وانظر: رسالة تشتمل على ما ذكره ابن تيمية في منهاجه للحسن بن إسحاق فهو لا يمر بمعاوية رضي الله عنه إلا ويلعنه.
أفضل ملوك المسلمين - فرضي الله عنه وأرضاه -، يقول ابن تيمية رحمه الله:(إيمان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ثابت بالنقل المتواتر، وإجماع أهل العلم على ذلك، كإيمان أمثاله ممن آمن عام فتح مكة)(1) .
وينقل ابن تيمية رحمه الله ثناء ابن عباس (ت - 68هـ) رضي الله عنهما عليه، والشهادة له بالفقه، فقد سأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ إنه أوتر بركعة؟ قال: (أصاب إنه فقيه)(2) .
يقول ابن تيمية بعد ذلك: (فهذه شهادة الصحابة بفقهه، ودينه، والشاهد بالفقه ابن عباس)(3) .
ويذكر رحمه الله أنه خير ملوك المسلمين، وأن سيرته في رعيته من خيار سير الولاة بقوله:(فلم يكن من ملوك المسلمين ملك خير من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيراً منهم في زمن معاوية، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده)(4) ، وحكى اتفاق العلماء على أنه أفضل ملوك هذه الأمة (5) .
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 4/453، وانظر: ص466، منهاج السنة النبوية له 4/513، وانظر: خلافة معاوية بن أبي سفيان للعقيلي ص14.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 7/103 كتاب فضائل أصحاب النبي، باب ذكر معاوية رضي الله عنه.
(3)
منهاج السنة النبوية 6/235.
(4)
منهاج السنة النبوية 6/232، وانظر: ص247.
(5)
مجموع فتاوى ابن تيمية 4/478.