الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
مناقشة الدعوى
يربط المناوئون لابن تيمية رحمه الله، بل وأعداء عقيدة السلف - غالباً - بين محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين الزيارة غير الشرعية المتضمنة للمحرمات أو البدع أو الشركيات، ويرون أن من لم يوافقهم على هذه المخالفات الشرعية في الزيارة وغيرها مما يتعلق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم فهو منتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، محتقر له، لا يوقره حق توقيره، وقد قالوا مثل هذا في شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وسأستعرض عرضاً سريعاً موقف ابن تيمية رحمه الله من النبي صلى الله عليه وسلم، محبة، وتعظيماً، واتباعاً، ليتبين موقفه الواضح من هذه القضية.
وبادئ الأمر يحسن ذكر مقولة أحد تلاميذه المقربين منه ليعطينا صورة سريعة عن محبة ابن تيمية رحمه الله للرسول صلى الله عليه وسلم، ألا وهو الحافظ البزار (ت - 749هـ) رحمه الله فيقول عنه:(وكان لا يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إلا ويصلي ويسلم، ولا والله ما رأيت أحداً أشد تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحرص على اتباعه ونصر ما جاء به منه، حتى إذا كان أورد شيئاً من حديثه في مسألة، ويرى أنه لم ينسخه شيء غيره من حديثه يعمل به ويقضي ويفتي بمقتضاه، ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائناً من كان، وقال رضي الله عنه: كل قائل إنما يحتج لقوله لا به إلا الله ورسوله)(1) .
وتظهر محبة ابن تيمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة منها:
أولاً: عرضه سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبيانه صفات الرسول صلى الله عليه وسلم الخلقية
(1) الأعلام العلية ص29.
والخُلقية فمما قاله في ذلك: (
…
كان من أكمل الناس تربية ونشأة، لم يزل معروفاً بالصدق والبر والعدل، ومكارم الأخلاق، وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم، مشهوداً له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة، وممن آمن به، وممن كفر بعد النبوة، لا يعرف له شيء يعاب به، لا في أقواله، ولا في أفعاله، ولا في أخلاقه، ولا جرب عليه كذبة قط، ولا ظلم، ولا فاحشة.
وكان خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها، وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله، وكان أمياً من قوم أميين لا يعرف لا هو ولا هم، ما يعرفه أهل الكتاب: التوراة والإنجيل، ولم يقرأ شيئاً عن علوم الناس، ولا جالس أهلها.
ولم يدّع نبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة، فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها، وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره، وأخبرنا بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثله) (1) .
ثم قال: (وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم، فتجتمع في الموسم قبائل العرب، فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة، ويدعوهم إلى الله صابراً على ما يلقاه من تكذيب المكذب، وجفاء الجافي، وإعراض المعرض، إلى أن اجتمع بأهل يثرب، وكانوا جيران اليهود، قد سمعوا أخباره منهم، وعرفوه، فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الذي تخبرهم به اليهود)(2) .
ثم تحدث عن الهجرة وما بعدها قائلاً: (فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة، وبها المهاجرون والأنصار، ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية ولا برهبة، إلا قليلاً من الأنصار أسلموا في الظاهر، ثم حسن إسلام بعضهم، ثم أذن له في الجهاد، ثم أمر به، ولم يزل قائماً بأمر الله على أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء، لا يحفظ له كذبة واحدة، ولا ظلمٌ لأحد، ولا غدرٌ بأحد، بل كان أصدق الناس، وأعدلهم، وأوفاهم بالعهد، مع اختلاف
(1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 5/438.
(2)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 5/439.
الأحوال عليه: من حرب وسلم، وأمن وخوف، وغنى وفقر، وقلةٍ وكثرة، وظهوره على العدو تارة، وظهور العدو عليه تارة، وهو على ذلك لازم لأكمل الطرق وأتمها
…
وهو صلى الله عليه وسلم مع ظهور أمره، وطاعة الخلق له، وتقديمهم له على النفس والأموال مات صلى الله عليه وسلم ولم يخلف درهماً ولا ديناراً، ولا شاة ولا بعيراً له إلا بغلته وسلاحه..) (1) .
ثانياً: أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر فإنه يجب قتله، وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسألة في أغلب مباحث كتابه (الصارم المسلول)(2) .
ثالثاً: أن من آذى الرسول صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله، وهو محاد لله عز وجل ومن شاق الرسول فقد شاق الله، ومن عصى الرسول فقد عصى الله، قال الله عز وجل:{يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 62 - 63]، فأذى النبي صلى الله عليه وسلم محادة لله؛ لأنه ذكر هذه الآية بعد قوله عز وجل:{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61]، وبين الله عز وجل أن من حاد الله ورسوله فهو أذل في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة: 20] ، والأذل أبلغ من الذليل.
وبين عز وجل أن المحادين لله ورسوله كبتوا كمن كان قبلهم بقوله: {ِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5]، والكبت: الإذلال والخزي والصرع (3) .
وجعل الله عز وجل مشاقته ومشاقة رسوله ومحادته ومحادة رسوله، وأذاه وأذى رسوله، ومعصيته ومعصية رسوله بمنزلة واحدة، فقال:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 20] ،
(1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 5/439 - 440.
(2)
انظر: الصارم المسلول ص3 - 543.
(3)
انظر: الصارم المسلول ص21 - 22.
وقال: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 63]، وقال:{وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 14] .
وقذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أذاه في عرضه، فمن قذفهن فقد آذى الرسول صلى الله عليه وسلم في عرضه، وقال الله عز وجل فيهن:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] .
ومما يدل على أن قذفهن أذى للنبي صلى الله عليه وسلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك: «يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي (1) ، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً» (2) .
قال ابن تيمية رحمه الله (فقوله: (من يعذرني) : أي من ينصفني ويقيم عذري إذا انتصفت منه لما بلغني من أذاه في أهل بيتي والله لهم، فثبت أنه صلى الله عليه وسلم قد تأذى بذلك تأذياً استعذر منه) (3) .
رابعاً: أن الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم والاستخفاف به كفر مخرج من الملة، لقوله عز وجل:{قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66](4) .
خامساً: وجوب التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والتسليم لحكمه ظاهراً وباطناً لقوله عز وجل:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء: 65] .
وجعل من رفض التحاكم إليه منافقاً بقوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى
(1) يعني عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 8/452 - 454 كتاب التفسير، باب لولا إذ سمعتموه، ومسلم في صحيحه 4/2129 - 2137 كتاب التوبة، باب في حديث الإفك، وعبد الرزاق في مصنفه 5/410 - 419 حديث الإفك.
(3)
الصارم المسلول ص48، وانظر: ص565 - 567.
(4)
انظر: الرد على البكري لابن تيمية 2/344 - 345.
الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} [النساء: 60 - 61] .
وبين - سبحانه - حال المنافقين ثم حال المؤمنين وموقفهم من التحاكم إلى الله ورسوله بقوله: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 47 - 51] .
وبهذا يتبين وجوب التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن أقرب الطرق إلى مرضاته هو اتباع شرعه (1)، وأقرب الطرق إلى محبة الله اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال - سبحانه -:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31] .
وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
سادساً: ذَكر بعض حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم على أمته ومنها:
1 -
أن الله أخبر أنه صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم بقوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} ، فمن حقه أنه يجب أن يؤثره العطشان بالماء، والجائع بالطعام، وأنه يجب أن يوقّى بالأنفس والأموال كما قال سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن
(1) انظر: الصارم المسلول ص37 - 38، الجواب الباهر ص81 - 82، الرد على الأخنائي ص67.
نَّفْسِهِ} [التوبة: 120](1) .
2 -
أن الله عز وجل خصه بالمخاطبة بما يليق، فلا ينادى أو يخاطب كغيره من المخاطبين باسمه المجرد أو بكنيته، قال عز وجل:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً} [النور: 63] .
3 -
أن الله حرم على الأمة أن يؤذوه بما هو مباح أن يعامل به بعضهم بعضاً، تمييزاً له، مثل نكاح أزواجه من بعده فقال تعالى:{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} [الأحزاب: 53] .
وأوجب الله احترام أزواجه وجعلهن أمهات المؤمنين فقال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] .
4 -
أن الله أمر بتعزيره وتوقيره فقال: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9](2) ، ونصر الرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيره واجب.
وبين ابن تيمية رحمه الله معنى التعزير والتوقير بقوله: (والتعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه.
والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار) (3) .
ومن توقيره صلى الله عليه وسلم أن الله حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، وحرم رفع الصوت فوق صوته، وأن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل، وأخبر أن ذلك سبب حبوط العمل، فهذا يدل على أنه يقتضي الكفر؛ لأن العمل لا يحبط إلا به قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا
(1) انظر: الصارم المسلول ص421.
(2)
انظر: الصارم المسلول لابن تيمية ص299 - 300.
(3)
الصارم المسلول ص422.
تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] .
قال ابن تيمية رحمه الله معلقاً على هذه الآية:
(فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي والجهر له بالقول يُخاف منه أن يكفر صاحبه وهو لا يشعر، ويحبط عمله بذلك، وأنه مظنة لذلك وسبب فيه، فمن المعلوم أن ذلك لما ينبغي له من التعزير، والتوقير، والتشريف، والتعظيم والإكرام، والإجلال)(1) .
وبين رحمه الله أن قيام المدحة للرسول صلى الله عليه وسلم، والثناء عليه، والتعظيم، والتوقير له: قيامُ الدين كله، وسقوط ذلك سقوط الدين كله (2) .
5 -
أن الله عز وجل أمرنا بمحبته صلى الله عليه وسلم أكثر من محاب الدنيا جميعاً، ومنها محبوبات الدنيا الثمانية التي ذكرها الله عز وجل بقوله:{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] .
وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان - وذكر منها - أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» (3) .
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (4) .
(1) الصارم المسلول ص55، وانظر: ص423.
(2)
انظر: الصارم المسلول ص211.
(3)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 1/60 كتاب الإيمان باب حلاوة الإيمان، ومسلم في صحيحه 1/66 كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، والطيالسي في مسنده ص264 من حديث أنس بن مالك.
(4)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 1/58 كتاب الإيمان، باب حب الرسول من الإيمان، ومسلم في صحيحه 1/67 كتاب الإيمان، باب وجوب محبة الرسول.
وتصديق هذا في القرآن قول الله عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] .
قال ابن تيمية رحمه الله: (والنبي صلى الله عليه وسلم يجب علينا أن نحبه حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا وآبائنا وأهلنا وأموالنا، ونعظمه ونوقره، ونطيعه ظاهراً وباطناً، ونوالي من يواليه، ونعادي من يعاديه، ونعلم أنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته صلى الله عليه وسلم (1) .
6 -
أن الله أمرنا بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما ذكر أنه وملائكته يصلون عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] .
وقال عليه الصلاة والسلام: «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً» (2) .
وقد أُمر بها مع الأمر بطلب الوسيلة له صلى الله عليه وسلم، كما قال عليه الصلاة والسلام:«إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة» (3) .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي
(1) الجواب الباهر ص6، وانظر: الرد على الأخنائي له ص147، الصارم المسلول له ص421، مجموع فتاوى ابن تيمية 3/276.
(2)
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 1/306 كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي، وأبو داود في سننه 2/184 كتاب الوتر، باب الاستغفار.
(3)
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 1/288 كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل ما يقول المؤذن، والنسائي في سننه 1/510 كتاب الأذان، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان.
وعدته: حلت له شفاعتي» (1) ، وهذا يبين الحث على سؤال الله الوسيلة لرسوله صلى الله عليه وسلم (2) .
وبعد: فهذه ملامح ووقفات يسيرة تبين لنا تعظيم ابن تيمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق التعظيم، الذي هو مضبوط بالاتباع.
أما التعظيم الذي يصل إلى درجة الغلو فيه فهذا منهي عنه في الإسلام من أوجه منها:
1 -
النهي عن الغلو - عموماً - لقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلَاّ الْحَقِّ} [النساء: 171]، وقوله - سبحانه - {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} [المائدة: 77] .
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (3) .
2 -
النهي عن الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإني أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله» (4) .
ولما قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، عقب عليه وقال:«أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده» (5) .
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 2/94 كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء.
(2)
انظر: الجواب الباهر ص7، 86، مجموع فتاوى ابن تيمية 22/468، الصارم المسلول ص420.
(3)
الحديث أخرجه النسائي في سننه 2/435 كتاب الحج، أبواب الرمي، وابن ماجه في سننه 2/1008 كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، قال ابن تيمية في الاقتضاء 1/293: إسناده صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/278.
(4)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 6/478 كتاب أحاديث الأنبياء، باب واذكر في الكتاب مريم.
(5)
الحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص116، باب قول الرجل ما شاء وشئت، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص545، باب النهي أن يقال ما شاء وشاء فلان، وأحمد في مسنده 1/214 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وابن أبي شيبة في المصنف 10/346 كتاب الدعاء، باب ما نهي عن أن يدعو به الرجل أو يقوله، وابن أبي الدنيا في الصمت ص187، وابن السني في عمل اليوم والليلة ص314 باب كيف الاستثناء في المخاطبة، وحسنه الألباني كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/56 - 57.
والذي عليه عامة المسلمين أن لا يُحلف بالنبي لقوله عليه الصلاة والسلام: «من حلف بغير الله فقد أشرك» (1) .
3 -
التأكيد على عدم معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، فقد ذكر الله عز وجل أن علم الغيب إنما هو من خصائص الربوبية:{قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقال:{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ} [الأنعام: 59]، وقال عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]، وقد أمر الله نبيه أن يعلن للناس عدم علمه بالغيب بقوله:{ُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50] .
وأما الأحاديث التي تبين عدم علم الرسول صلى الله عليه وسلم الغيب فكثيرة منها:
أنه عليه الصلاة والسلام سمع جلبة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: «ألا إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها» (2) .
(1) الحديث أخرجه أبو داود في سننه 3/570 كتاب الأيمان والنذور، باب كراهة الحلف بالآباء، واللفظ له، والترمذي في سننه 4/110 كتاب النذور والأيمان وقال: حديث حسن، والحاكم في المستدرك 1/18 كتاب الإيمان، وصححه وأقره الذهبي، وانظر في حكم الحلف بالنبي: الجواب الباهر لابن تيمية ص26، 27.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 5/288 كتاب الشهادات، باب من أقام البينة بعد اليمين، ومسلم في صحيحه 3/1337 كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، واللفظ له.
وقد نهى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الجارية التي قالت: وفينا نبي يعلم ما في غد فقال: «دعي هذا وقولي بالذي كنت تقولين» (1) .
وأما الدليل على أن الله يطلع الرسول صلى الله عليه وسلم على شيء من الغيب فهو قوله سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26 - 27]، وقوله:{تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] .
4 -
التصريح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه، ولا لغيره ضراً ولا نفعاً، لقوله عز وجل:{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً * قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً} [الجن: 20 - 21]، وقوله - سبحانه -:{قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً إِلَاّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188]، وقوله - سبحانه - عن رسوله صلى الله عليه وسلم:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6]، وقال تعالى:{قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلَا نَفْعاً إِلَاّ مَا شَاء اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49] .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء على رقبته فرس له حمحمة يقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، وعلى رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً
…
» (2) .
وقد صرح عليه الصلاة والسلام على الملأ أنه لا يملك لأقرب قريب نفعاً ولا ضراً لقوله: «يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم من الله
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 9/202 كتاب النكاح، باب ضرب الدف في النكاح والوليمة واللفظ له، وأبو داود في سننه 5/220 - 221 كتاب الأدب، باب في النهي عن الغناء.
(2)
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 3/1461 كتاب الإمارة، غلظ تحريم الغلول.
لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً ويا فاطمة (1) بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً» (2) .
ومحبة ابن تيمية رحمه الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقرونة بالاتباع كغيره من أهل السنة وأئمتهم وعلمائهم، أي هي المحبة التي يريدها الرسول صلى الله عليه وسلم من المؤمنين به، والتي أمرهم بها، أما دعوى التعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم مع الغلو فيه، ودعوى أن المسلم كلما زاد في التعظيم كلما كانت محبته لرسول الله أكثر فهذا فهم خاطئ للمعنى الشرعي لمفهوم التعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بين ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) رحمه الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم برئ ممن عصاه بالغلو فيه، وإن كان قصده تعظيمه، قال ذلك راداً على السبكي (ت - 756هـ) الذي رد على ابن تيمية في هذه المسألة (3) .
وحين يقول شيخ الإسلام رحمه الله بحرمة شد الرحل إلى غير المساجد الثلاثة موافقاً بذلك نهي الرسول صلى الله عليه وسلم، متبعاً له في قوله، فلا يكون هذا بغضاً وجفاءً له، بل هو عين المتابعة والمحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى أنه قول جمهور العلماء كما تقدم.
وأما رد السبكي (ت - 756هـ) على ابن تيمية رحمه الله إنكاره شد الرحل وجعل إنكار شد الرحل من لوازم انتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن شد الرحل للزيارة فهو
(1) فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وأحبهن إليه، تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، سيدة نساء أهل الجنة، عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر ت سنة 11هـ.
انظر في ترجمتها: الاستيعاب لابن عبد البر 4/373، الإصابة لابن حجر 4/377، ذخائر العقبى للطبري 64.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 8/50 كتاب التفسير، باب سورة الشعراء، ومسلم في صحيحه 1/192، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} .
وانظر الجواب الباهر لابن تيمية ص26 - 27، الرد على الأخنائي ص143.
(3)
انظر: الصارم المنكي ص84.
المعظم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أنكرها فهو المنتقص للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد رد عليه ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) هذا التلازم مبيناً أن هذا لو كان تعظيماً له صلى الله عليه وسلم لكان مما لا يتم الإيمان إلا به، ولكان فرضاً معيناً على كل من استطاع إليه سبيلاً، من قرب ومن بعد، ولما أضاع السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان هذا الفرض والواجب (1) .
وبين رحمه الله أن التعظيم نوعان:
أحدهما: ما يحبه المعظَّم ويرضاه ويأمر به ويثني على فاعله فهذا هو التعظيم في الحقيقة، وهو موافقته على محبة ما يحب، وكراهة ما يكره، والرضا بما يرضى به، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والمبادرة إلى ما رغب فيه، والبعد عما حذر منه، وأن لا يتقدم بين يديه ولا يقدم على قوله قول أحد سواه.
والثاني: ما يكرهه المعظَّم ويبغضه ويذم فاعله، وهذا ليس بتعظيم، بل هو غلو مناف للتعظيم، وهذا هو ما يفعله أهل الغلو في القبور وعبادها من التعظيم الذي لأجله حرم الرسول صلى الله عليه وسلم اتخاذ القبور مساجد، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:«اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (2) .
والتعظيم يكون باللسان، ويكون بالجوارح: فأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه، وأثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير.
وأما التعظيم بالجوارح فهو: العمل بطاعته، والسعي في إظهار دينه،
(1) انظر: الصارم المنكي ص332.
(2)
الحديث أخرجه مالك في الموطأ 1/172 كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة، واللفظ له.
وأحمد في مسنده 2/246، قال الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه المسند 13/86 - 88 إسناده صحيح.
وإعلاء كلمته، ونصر ما جاء به، وجهاد ما خالفه (1) .
وأما مسألة التمسح بالقبر وتقبيله، فقد بين شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا باطل، وقد اتفق المسلمون على النهي عنه، سواء أكان القبر لنبي أم لغيره، ولم يفعله أحد من سلف الأمة وأئمتها المشهود لهم بالعلم والتقوى، بل هذا من الشرك (2) .
وأما الدعاء عند القبر فهو ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم الاتفاق، لا لقصد الدعاء فيها، كمن يدعو الله في طريقه، ويتفق أن يمر بالقبور، أو من يزور القبور ويدعو بالدعاء الوارد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا لا بأس به.
الثاني: أن يتحرى الدعاء عند هذه القبور، بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوبُ منه في غيره، فهذا منهي عنه: إما نهي تحريم، وإما نهي تنزيه، وهو إلى التحريم أقرب (3) .
إن قصد القبور للدعاء عندها، ورجاء الإجابة بالدعاء هناك، رجاءً أكثر من رجائها بالدعاء في غير ذلك الموطن: أمر لم يشرعه الله ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا ذكره أحد من العلماء، بل أكثر ما ينقل من ذلك عن بعض المتأخرين بعد المائة الثانية.
وقصد القبور بالدعاء لا يخلو: إما أن يكون الدعاء عندها أفضل منه في غير تلك البقعة أو لا يكون.
فإن كان أفضل لم يجز أن يخفى علم هذا عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فتكون القرون الثلاثة الأولى الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم،
(1) انظر: الصارم المنكي ص288، 332 - 340.
(2)
انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 24/321، 26/97. 27/91.
(3)
انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/682 - 683.
ويعلمه من بعدهم، ولم يجز أن يعلموا ما فيه من الفضل العظيم ثم يزهدوا فيه، مع حرصهم على كل خير، لاسيما الدعاء.
وإن لم يكن الدعاء عندها أفضل: كان قصد الدعاء عندها ضلالة ومعصية وكان القول باستحبابه أو وجوبه تشريعاً من الدين ما لم يأذن به الله، وقد قال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] .
وهذه العبادة عند المقابر - أي الدعاء عندها - نوع من أن يشرك بالله ما لم ينزل به سلطاناً، ومن جعل هذا من دين الله فقد قال على الله ما لا يعلم، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] .
ويستحسن ابن تيمية رحمه الله الاستدلال بقوله تعالى: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [الأعراف: 33] ، لئلا يحتج المبتدعة بالمقاييس والحكايات (1) .
وأما التبرك (2) بالرسول صلى الله عليه وسلم وآثاره المكانية فهي نوعان: معنوية، وحسية.
أما البركة المعنوية، فهي بركة العمل والاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه تحصل لمن اتبعه بسبب متابعته للرسول صلى الله عليه وسلم وتحصل البركة للناس بحسب اتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم قوة وضعفاً، قال عليه الصلاة والسلام في النخلة:«إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم» (3) .
(1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/688.
(2)
البركة من الله، وحقيقتها: كثرة الخير ودوامه، ولا أحد أحق بذلك وصفاً وفعلاً منه تبارك وتعالى، والتبرك: طلب البركة من الزيادة في الخير والأجر، وكل ما يحتاجه العبد في دينه ودنياه، بسبب ذات مباركة، أو زمان مبارك، وتكون هذه البركة قد ثبتت لذلك السبب ثبوتاً شرعياً، وثبتت الكيفية التي تنال بها البركة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، انظر بدائع الفوائد لابن القيم 2/185 - 187، التبرك المشروع والتبرك الممنوع للعلياني ص15، 21، 22.
(3)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 9/569 كتاب الأطعمة، باب أكل الجمار.
وأما البركة الحسية فهي متعلقة بالرسول صلى الله عليه وسلم وهذه تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: البركة في أفعاله مما أكرمه الله فيه من خوارق العادات مثال ذلك ما رواه أنس بن مالك (ت - 93هـ) رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأُتي رسول الله بوضوء، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضؤا منه، قال: فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم» (1) .
القسم الثاني: البركة في ذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم، وبآثاره الحسية المنفصلة منه صلى الله عليه وسلم، والدليل على تبرك الصحابة بذات الرسول صلى الله عليه وسلم أي بأعضاء جسده، ما روته عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها» (2) .
وأما دليل تبرك الصحابة - رضوان الله عليهم - بما انفصل منه صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل بيت أم سليم (3) ، فينام على فراشها وليست فيه، قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأُتيت فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم نام في بيتك
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 1/271 كتاب الوضوء، باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة، ومسلم في صحيحه 4/1783 كتاب الفضائل، باب معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، ومالك في الموطأ 1/32 باب جامع الوضوء، واللفظ له.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 10/195 كتاب الطب باب الرقى بالقرآن، ومسلم في صحيحه 4/1723 كتاب السلام، باب رقية المريض، واللفظ له.
(3)
أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد الأنصارية، أم أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار، وعرضت الإسلام على زوجها فغضب عليها وخرج إلى الشام فهلك هناك، ثم خلف الله عليها بعده أبا طلحة الأنصاري، كانت من عقلاء النساء.
انظر في ترجمتها: الاستيعاب لابن عبد البر 4/455 الإصابة لابن حجر 4/461.
على فراشك، قال: فجاءت وقد عرق، واستنقع (1) عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها (2) ، فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصر في قواريرها، ففزع النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وما تصنعين يا أم سليم؟» فقالت يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا، قال:«أصبت» (3) ، وهذا خاص به صلى الله عليه وسلم في حياته، فلا يقاس عليه غيره.
والتبرك بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مشروع فيما بقي من آثاره، إلا أن آثاره صلى الله عليه وسلم قد انتهت بعد انتهاء جيل الصحابة على الصحيح.
وأما قصد الآثار المكانية كقبر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ما مسته يد الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأجل التبرك فهذا محذور من أوجه عدة منها:
1 -
أن هذا النوع من التبرك لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل فيه شيء نقلاً مصدقاً، لا بإسناد صحيح ولا حسن ولا ضعيف، وإذا لم ينقل مع توافر الدواعي على نقله علم أنه لم يكن في زمانه صلى الله عليه وسلم.
2 -
أن بركة ذوات الأنبياء لا تتعدى إلى الأمكنة الأرضية، وإلا لزم أن تكون كل أرض وطئها، أو جلس عليها، أو طريق مر بها، تطلب بركتها، ويتبرك بها، وهذا لازم باطل قطعاً، فانتفى الملزوم.
3 -
أن الأمكنة الأرضية لا تكون مباركة إلا بدوام الطاعة فيها، وهي سبب إعطاء الله البركة، حتى المساجد فإنها مباركة لذلك، إلا أن بركتها لا تدوم مع زوال الطاعات عنها.
4 -
أن التبرك بالآثار المكانية وسيلة إلى ما هو أعظم من تقديسها، والاعتقاد فيها وهذا محذور.
(1) استنقع: أي اجتمع وثبت. انظر لسان العرب لابن منظور 8/359 مادة (نقع) .
(2)
العتيدة: وعاء الطيب. انظر لسان العرب لابن منظور 3/279 مادة (عتد) .
(3)
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 4/1816 كتاب الفضائل، باب طيب عرق النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر النووي رحمه الله في شرح مسلم 15/87 أن أم سليم كانت محرماً للرسول صلى الله عليه وسلم.
5 -
أن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، والتماس بركته وتحريها يكون بما بقي لنا اليوم من نوعي البركة (1)، وهي: بركة الاتباع، والعمل بسنته (2) .
(1) المراد بالنوعين: البركة الحسية والبركة المعنوية - كما سبق - والحسية قد انتهت، والمعنوية هي المستمرة.
(2)
انظر: في مسألة التبرك بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبآثاره المكانية: اقتضاء الصراط المستقيم 2/680 - 681، مجموع فتاوى ابن تيمية 11/113 - 115، التبرك أنواعه وأحكامه للجديع ص55 - 69، 243 - 260، التبرك المشروع والتبرك الممنوع للعلياني ص66، هذه مفاهيمنا لصالح آل الشيخ ص201 - 214.