الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
الزعم أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور ومناقشته
المطلب الأول
الزعم بأن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور
زعم المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه يمنع من زيارة القبور مطلقاً وأنه يقول بتحريم تلك الزيارة، وأنه يستدل بحديث «لعن الله زوارات القبور» (1) على منع الزيارة مطلقاً.
وقالوا بأنه - أيضاً - ينكر مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً، حتى من كان في المسجد لا يشرع له ذلك.
قال الحصني (ت - 829هـ) عن شيخ الإسلام رحمه الله: (ووجدوا صورة فتوى أخرى يقطع فيها بأن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبور الأنبياء معصية بالإجماع مقطوع بها)(2) .
وزعم بعضهم بأن شيخ الإسلام رحمه الله هو أول من قال بهذا القول (3) .
ويستدلون لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم بأدلة من الكتاب والسنة، وإجماع الأمة والقياس:
(1) تقدم تخريج هذا الحديث ص309.
(2)
دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد ص47، وانظر: البراهين الجلية للموسوي ص71، سعادة الدارين للسمنودي 1/72، السيف الصقيل للسبكي حاشية الكوثري ص158، الإفهام والإفحام لزكريا إبراهيم ص124.
(3)
انظر: سعادة الدارين للسمنودي 1/82.
أما الكتاب فقول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} [النساء: 64] .
قال ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) عن هذه الآية: (دلت على حث الأمة على المجيء إليه صلى الله عليه وسلم، والاستغفار عنده، واستغفاره لهم، وهذا لا ينقطع بموته.
ودلت - أيضاً - على تعليق وجدانهم الله تواباً رحيماً بمجيئهم واستغفارهم واستغفار الرسول لهم) (1) .
وأما من السنة: فيستدلون بأدلة عدة:
منها حديث: (من زار قبري وجبت له شفاعتي) .
وحديث: (من حج فزار قبري بعد وفاتي، فكأنما زارني في حياتي) .
وحديث: (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني) .
وحديث: (من زار قبري، أو من زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً) ، وغيرها من الأحاديث (2) .
ويرى أولئك أن الزيارة: سنة مؤكدة، لكنها مشروطة بالاستطاعة كاستطاعة الحج؛ لأنهم يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حذر أمته من ترك الزيارة أشد التحذير وأرشد إليها بأبلغ بيان، مما يخشى التارك لها على نفسه القطيعة والعواقب، فترك زيارته صلى الله عليه وسلم جفاء، وهو من ترك البر والصلة.
وأما ذكر الحج في الزيارة ليس قيداً فهو لا مفهوم له عندهم، إذن: التارك للزيارة يخشى عليه من العقوبات والقبائح (3) .
(1) الجوهر المنظم ص12.
(2)
انظر: في أحاديث الزيارة: شفاء السقام للسبكي ص5 - 39، الجوهر المنظم للهيتمي ص15، 42 - 46، تحفة الزوار للهيتمي ص29 - 37، دفع شبه من شبه للحصني ص109، السيف الصقيل للسبكي حاشية الكوثري ص158، شفاء الفؤاد للمالكي ص15.
(3)
انظر: الجوهر المنظم للهيتمي ص68.
وأما الإجماع فيقول ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) : (وأما إجماع المسلمين فقد نقل جماعة من الأئمة حملة الشرع الشريف الذين عليهم المدار والمعول في نقل الخلاف والإجماع)(1) .
وأما القياس: فتقاس زيارة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على زيارة قبور غيره، بل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى، وأحق وأعلى (2) .
وأما كراهة الإمام مالك (ت - 179هـ) رحمه الله قول بعض الناس: زرت قبر النبي، فهذا لهم عليه توجيهات:
منها: أن لفظة (الزيارة) تستعمل في زيارة قبر كل ميت، وكراهة الإمام مالك (ت - 179هـ) لهذه اللفظة؛ إنما هو لرفعة مكانة النبي صلى الله عليه وسلم أن يساوى وغيره بعبارة واحدة، فكراهة الإمام مالك (ت - 179هـ) رحمه الله إنما هو لأجل أن كلمة أفضل من كلمة.
ومنها: أنه كره لفظة (الزيارة) ؛ لأن الزيارة تكون لوصل المزور ونفعه، وأما في زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تقال هذه اللفظة لعدم حاجة الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك، وإنما الحاجة للزائر في رغبته الثواب من عند الله عز وجل.
ومنها: أن كراهة الإمام مالك (ت - 179هـ) رحمه الله لفظة الزيارة؛ لإضافتها إلى القبر، وأنه لو قال: زرنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه لقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (3) . وبه قال القاضي عياض رحمه الله (4) .
(1) الجوهر المنظم للهيتمي ص15.
(2)
انظر: شفاء السقام للسبكي ص81 - 83، تحفة الزوار للهيتمي ص51، 63، سعادة الدارين للسمنودي 1/74.
(3)
الحديث أخرجه مالك في الموطأ 1/172 كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة، والحميدي في مسنده 1025، باب الجنائز، وصحح إسناده الألباني في تحذير الساجد ص25.
(4)
القاضي عياض: بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي، أبو الفضل، العلامة الحافظ، عالم المغرب، ت سنة 544هـ.
انظر في ترجمته: النجوم الزاهرة للأتابكي 5/285، شجرة النور الزكية لمخلوف ص140.
وانظر: قول القاضي عياض في هذه المسألة في: الشفا مع شرحيه نسيم الرياض للخفاجي، وشرح الشفا لعلي القاري 3/513.
ومنها: كراهة مالك (ت - 179هـ) رحمه الله لفظة (الزيارة) ؛ لأن الزيارة من شاء فعلها، ومن شاء تركها، وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من السنن الواجبة (1) .
ويدّعي المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه يحرم شد الرحل إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر غيره من الأنبياء والصالحين، وأنه قد بلغ الغلو والشطط في هذا الأمر (2) .
ولذلك يردون عليه، فقد جعل السبكي (ت - 756هـ) من شبه الخصم - ابن تيمية - فهمه الخاطئ لحديث شد الرحل فقال (فتوهم الخصم أن في هذا منع السفر للزيارة، وليس كما توهمه)(3) .
وجعل من شبه الخصم - أيضاً -: كون هذا - أي السفر لزيارة القبر - ليس مشروعاً، وأنه من البدع، التي لم يستحبها أحد من العلماء، لا من الصحابة، ولا من التابعين، ولا من بعدهم (4) .
ويذكر هؤلاء تقدير الاستثناء في حديث شد الرحل وأنه يمكن أن يكون التقدير: لفظ (المكان) ويرون أن هذا باطل - بلا خلاف - ولا قائل به؛ لأنه يلزم على هذا التقدير ألا نسافر إلى تجارة أو علم أو خير، وهذا ضرب من الهوس.
ويمكن أن يكون تقدير الاستثناء في الحديث لفظ (قبر) ، وهذا السياق
(1) انظر: الشفا مع شرحيه 3/512 - 513، شفاء السقام للسبكي ص74 - 78، شفاء الفؤاد للمالكي ص44 - 45.
(2)
انظر: السيف الصقيل للسبكي حاشية الكوثري ص156.
(3)
شفاء السقام ص115، وانظر حقيقة التوسل والوسيلة لموسى علي ص131.
(4)
انظر: شفاء السقام ص126.
ظاهر في عدم انتظام الكلام، وغير لائق بالبلاغة النبوية.
ويمكن أن يكون التقدير لفظ (مسجد) ، وهذا التقدير أقرب الاحتمالات الثلاثة (1) ، ويحث هؤلاء على شد الرحل لزيارة القبر ويندبون إليها حتى للنساء، ويرون أنه لا زيارة إلا بسفر.
قال ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) : (وجه شمول الزيارة للسفر أنها تستدعي الانتقال من مكان الزائر إلى مكان المزور كلفظ المجيء الذي نصت عليه الآية الكريمة
…
وإذا كانت كل زيارة قربة كان كل سفر إليها قربة.. والقاعدة المتفق عليها أن وسيلة القربة المتوقفة عليها قربة) (2) .
ولا يكتفون بأن يجعلوها قربة بل هي من أعظم القربات عند الله عز وجل (3) .
(1) انظر: دفع شبه من شبه وتمرد للحصني ص100، الجوهر المنظم للهيتمي ص31، تحفة الزوار للهيتمي ص72، السيف الصقيل للسبكي حاشية الكوثري ص157، شفاء الفؤاد للمالكي ص10، 26.
(2)
الجوهر المنظم ص23.
(3)
انظر: الجوهر المنظم للهيتمي ص41، 82، حقيقة التوسل والوسيلة لموسى علي ص65.