الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
الصفات الاختيارية
يراد بالصفات الاختيارية: الصفات المتعلقة بمشيئة الله وقدرته.
مثل الكلام والسمع والبصر والإرادة والمحبة والرضى والرحمة والغضب والسخط والخلق والإحسان والعدل والاستواء وغيرها (1) .
وكل ما وجد وكان من أفعال الله بعد عدمه فإنما يكون بمشيئته وقدرته، وهو - سبحانه - ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاءه وجب كونه، وهو يجب بمشيئة الرب وقدرته، وما لم يشأه امتنع كونه مع قدرته عليه، كما قال تعالى:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [البقرة: 253]، وقال عز وجل:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]
ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله:
(كون الشيء واجب الوقوع لكونه قد سبق به القضاء، وعلم أنه لا بد من كونه لا يمتنع أن يكون واقعاً بمشيئته وقدرته وإرادته - وإن كانت من لوازم ذاته كحياته وعلمه - فإن إرادته للمستقبلات هي مسبوقة بإرادته للماضي: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] ، وهو إنما أراد هذا الثاني بعد أن أراد قبله ما يقتضي إرادته، فكان حصول الإرادة اللاحقة بالإرادة السابقة)(2) .
(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 2/3، رسالة في الصفات الاختيارية لابن تيمية (ضمن جامع الرسائل 2/3) .
(2)
رسالة في الصفات الاختيارية (ضمن جامع الرسائل 2/39) .
والفعل من الله قسمان: متعدٍ ولازم، فالمتعدي مثل: الخلق والإعطاء، واللازم مثل: الاستواء والنزول، ويُمثل لهما بقول الحق تبارك وتعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4] ، فذكر فعلين متعدٍ ولازم، فالخلق متعدي، والاستواء لازم، وكلاهما حاصل بقدرته ومشيئته وهو متصف به.
والفعل المتعدي مستلزم للفعل اللازم؛ لأن الفعل لا بد له من فاعل، سواء كان متعدياً إلى مفعول أو لم يكن، والفاعل لا بد له من فعل، سواء كان فعله مقتصراً عليه أو متعدياً إلى غيره، والفعل المتعدي إلى غيره لا يتعدى حتى يقوم بفاعله.
ويذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن ذلك معلوم بالسمع والعقل:
أما السمع: فإن أهل اللغة العربية التي نزل بها القرآن متفقون على أن الإنسان إذا قال: (قام فلان وقعد)، وقال:(أكل فلان الطعام وشرب الشراب) ، فإنه لا بد أن يكون في الفعل المتعدي إلى المفعول ما في الفعل اللازم وزيادة، إذ كلتا الجملتين فعلية، وكلاهما فيه فعل وفاعل، والثانية امتازت بزيادة المفعول.
وأما من جهة العقل: فمن جوز أن يقوم بذات الله تعالى فعل لازم له كالمجيء والاستواء ونحو ذلك، لم يمكنه أن يمنع قيام فعل يتعلق بالمخلوق كالخلق والبعث والإماتة والإحياء، كما أن من جَوّز أن تقوم به صفة لا تتعلق بالغير كالحياة لم يمكنه أن يمنع قيام الصفات المتعلقة بالغير كالعلم والقدرة والسمع والبصر.
ولهذا لم يقل أحد من العقلاء بإثبات أحد الضربين دون الآخر، بل قد يثبت الأفعال المتعدية القائمة به كالتخليق من ينازع في الأفعال اللازمة كالمجيء والإتيان، وأما العكس فلا يعلم له قائل (1) .
(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل 2/3 - 5، رسالة في الصفات الاختيارية (ضمن جامع الرسائل 2/22) .
وقد تنوعت وكثرت الأدلة المثبتة للأفعال الاختيارية من الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة حتى لا تكاد تحصى كثرة:
أما الأدلة من القرآن الكريم فتبلغ المئين ومنها على سبيل المثال:
قول الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] .
وقال سبحانه: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] .
وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 174] .
وقال: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] .
وقال - سبحانه -: {) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77] .
وقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] .
وقال - سبحانه -: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم} [الأنبياء: 83، 84] .
وقال: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 89، 90] .
وقد ذكر عز وجل عن النداء قوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] .
وذكر عن الحكم والإرادة والمحبة قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] .
وقال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16] .
وقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] .
وقال عن السخط والرضى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28] .
وقال: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 27 - 32] .
والآيات في هذا كثيرة جدّاً تفوق الحصر (1) .
أما الأحاديث فمنها:
قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله:
(1) انظر الأدلة من القرآن على الأفعال الاختيارية عند ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل 2/115 - 124، مجموع فتاواه (الواسطية 3/131 - 138) ، 6/222 - 224، شرح العقيدة الأصفهانية ص40 - 43.
حَمِدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم: قال: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي» (1) .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقتل هذا فيلج الجنة، ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام، ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد» (2) .
وقال عليه الصلاة والسلام: «الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء» (3) .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعداً في أصحابه إذ جاء ثلاثة نفر، فأما رجل فوجد فرجة في الحلقة فجلس، وأما رجل فجلس، يعني خلفهم، وأما رجل فانطلق.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟
أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله.
وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه.
وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه» (4) .
(1) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 1/296 كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة، والترمذي في سننه 5/201 كتاب التفسير، باب سورة الفاتحة.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 6/39 كتاب الجهاد، باب الكافر يقتل المسلم، ومسلم في صحيحه 3/1504، كتاب الإمارة، باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر، وابن ماجه في سننه 1/68 المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية.
(3)
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 4/2098 كتاب الذكر والدعاء، باب أكثر أهل الجنة الفقراء واللفظ له، وابن ماجه في سننه 2/1325 كتاب الفتن باب فتنة النساء، وأحمد في مسنده 3/61 من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(4)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 1/156 كتاب العلم، باب من قعد حيث ينتهي به المجلس، ومسلم في صحيحه 4/1713 كتاب السلام، باب من أتى مجلساً فوجد فرجة.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي (1) عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته ولا بد له منه» (2) .
وعن عبادة بن الصامت (3) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة: إنا لنكره الموت؟ قال: ليس ذاك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت يُبَشّر برضوان الله وكرامته، وإذا بشر بذلك أحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه
وإن الكافر إذا حضره الموت بُشر بعذاب الله وسخطه فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه» (4)
وعن أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله
(1) حقيقة التردد في هذا الحديث: أن يكون الشيء الواحد مراداً من وجه، مكروهاً من وجه، وإن كان لا بد من ترجيح أحد الجانبين، كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة مساءة العبد، فصار الموت مراداً للحق من جهة أنه قضاه فهو يريده ولا بد منه، مكروهاً من جهة مساءة العبد التي تحصل له بالموت، انظر تفصيل ذلك في: مجموع فتاوى ابن تيمية 18/129 - 135.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 11/340 - 341 كتاب الرقاق، باب التواضع، وأحمد في مسنده 6/256 من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم السالمي الخزرجي الأنصاري، أبو الوليد، شهد العقبة، وآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي مرثد الغنوي، شهد بدراً والمشاهد كلها، توفي في الرملة سنة 34هـ.
انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 2/450، الإصابة لابن حجر 2/268.
(4)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 13/466 كتاب التوحيد باب يريدون أن يبدلوا كلام الله، ومسلم في صحيحه 4/2065 كتاب الذكر والدعاء باب من أحب لقاء الله، والترمذي في سننه 3/370 كتاب الجنائز، باب ما جاء فيمن أحب لقاء الله بنحوه.
يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك.. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً» (1) .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأما معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن اقترب إليَّ شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إليَّ ذراعاً اقتربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» (2) .
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن عبداً أصاب ذنباً فقال: رب أصبت ذنباً فاغفر لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنباً آخر فقال: أي رب، أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي» (3) .
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، فيقول: يا رب كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده.
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 11/415 كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، ومسلم في صحيحه 4/2176 كتاب الجنة، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 13/384 كتاب التوحيد، باب ويحذركم الله نفسه، ومسلم في صحيحه 4/2067 كتاب الذكر، باب فضل الذكر والدعاء واللفظ له.
(3)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 13/466 - 467 كتاب التوحيد، باب يريدون أن يبدلوا كلام الله، ومسلم في صحيحه 4/2112 كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب.
ويقول: يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني فيقول: أي رب، وكيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول تبارك وتعالى: أما علمت أن عبدي فلاناً استسقاك فلم تسقه؟ أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟
قال: ويقول: يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: أي رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً استطعمك فلم تطعمه؟ أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي» (1) .
(1) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 4/1990 كتاب البر والصلة، باب فضل عيادة المريض، وأحمد في مسنده 2/404 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله عز وجل حديث رقم (5929) ، ومسلم في صحيحه 4/2069 كتاب الذكر والدعاء، باب فضل مجالس الذكر.
والأحاديث كثيرة في هذا الباب يصعب إحصاؤها واستقصاؤها (1) .
وأما المنقول من أقوال سلف الأمة الموافق للكتاب والسنة فكثير جدّاً:
فمنهم البخاري (2) رحمه الله فقد ذكر عن الفضيل بن عياض (3) رحمه الله قوله: (إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء)(4) .
وقال عبد الرحمن بن مهدي (5) رحمه الله: «من زعم أن الله لم يكلم موسى فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل) (6) .
وروى البخاري (ت - 256هـ) حديث عبد الله بن أنيس (7)
رضي الله عنه قال: سمعت
(1) انظر الأدلة من السنة على الأفعال الاختيارية عند ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل 2/124 - 146، شرح العقيدة الأصفهانية 43 - 48، الواسطية (ضمن مجموع الفتاوى 3/138 - 141) .
(2)
البخاري: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله، صاحب الجامع الصحيح، ولد في بخارى ونشأ يتيماً، رحل في طلب الحديث طويلاً، وسمع من نحو ألف شيخ، ت سنة 256هـ.
انظر في ترجمته: تاريخ بغداد للخطيب 2/4، تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1/267، طبقات الحنابلة لأبي يعلى 1/271.
(3)
الفضيل بن عياض بن مسعود التميمي اليربوعي، فقيه فاضل، عابد ورع، كثير الحديث، ت سنة 187هـ.
انظر في ترجمته: تذكرة الحفاظ للذهبي 1/245، شذرات الذهب لابن العماد 1/316.
(4)
خلق أفعال العباد (ضمن عقائد السلف جمع النشار وطالبي ص126 - 127) .
(5)
ابن مهدي: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن العنبري. أبو سعيد، الإمام الحافظ العلم، ثقة ثبت، عارف بالرجال والحديث، قال ابن المديني:(ما رأيت أعلم منه) ، ت سنة 198هـ.
انظر في ترجمته: تهذيب التهذيب لابن حجر 6/279.
(6)
خلق أفعال العباد (ضمن عقائد السلف جمع النشار وطالبي ص129) .
(7)
عبد الله بن أنيس الجهني، أبو يحيى المدني، صحابي جليل، حليف بني سلمة من الأنصار، كان أحد من كسر أصنام بني سلمة من الأنصار، ت سنة 54هـ.
انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 2/258، الإصابة لابن حجر 2/278.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يحشر العباد يوم القيامة، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب «أنا الملك وأنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحدٌ من أهل النار يطلبه مظلمة» » (1) .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب أن يكون الرجل خفيض الصوت، ويكره أن يكون رفيع الصوت، وأن الله عز وجل ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فليس هذا لغير الله.
قال البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله: (وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصواتب الخلق؛ لأن صوت الله - جل ذكره - يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا، وقال عز وجل: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 22] فليس لصفة الله ند، ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين)(2) .
ومنهم الدارمي (ت - 280هـ) رحمه الله حيث رد على المريسي (ت - 218هـ) إنكاره نزول الباري عز وجل وتأويله النزول بنزول أمره ورحمته لا بنفسه بقوله: «وهذا من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان؛ لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان، فما بال النبي صلى الله عليه وسلم يحدد لنزوله الليل دون النهار، ويؤقت من الليل شطره أو الأسحار؟. فبرحمته وأمره يدعو العباد
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه تعليقاً 13/453، كتاب التوحيد، وأحمد في مسنده 3/495 من حديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ص371.
(2)
خلق أفعال العباد (ضمن عقائد السلف جمع النشار وطالبي ص192) .
إلى الاستغفار، أو يقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولا: هل من داع فأجيب؟ هل من مستغفر فأغفر؟ هل من سائل فأعطي؟
…
وما بال رحمته وأمره ينزلان من عنده شطر الليل، ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر ثم يرفعان؟
…
» (1) .
وقال رحمه الله: (الله المتكلم أولاً وآخراً، لم يزل له الكلام، إذ لا متكلم غيره ولا يزال له الكلام، إذ لا يبقى متكلم غيره، فيقول:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] . - ثم ذكر آيات إلى أن قال: - وقال لقوم موسى حين اتخذوا العجل فقال: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [طه: 89] . وقال: {عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148] .
قال أبو سعيد: ففي كل ما ذكرناه تحقيق كلام الله وتثبيته نصاً بلا تأويل، ففيما عاب الله به العجل في عجزه عن القول والكلام بيانٌ بين أن الله غير عاجز عنه، وأنه متكلم، وقائل؛ لأنه لم يكن يعيب العجل بشيء وهو موجود فيه) (2) .
ومنهم الآجري (ت - 360هـ) رحمه الله حيث ذكر حديث أبي موسى الأشعري (3) رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع قال: إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور - أو النار - لو كشفه
(1) رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد ص19 - 20.
(2)
الرد على الجهمية (ضمن عقائد السلف جمع النشار وطالبي ص324 - 325) .
(3)
أبو موسى الأشعري، عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري، أسلم وهاجر إلى الحبشة، وقيل: رجع إلى بلاده بعد أن أسلم، قدم المدينة بعد فتح خيبر، استعمله النبي على بعض اليمن، كان أحد الحكمين بصفين، ثم اعتزل الفريقين، كان حسن الصوت بقراءة القرآن، ت سنة 42هـ.
انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 2/371، الإصابة لابن حجر 2/360.
لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره) (1) .
وقال رحمه الله عن النزول: (الأخبار قد صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، والذين نقلوا إلينا هذه الأخبار هم الذين نقلوا إلينا الأحكام من الحلال والحرام، وعلم الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وكما قبل العلماء منهم ذلك كذلك قبلوا منهم هذه السنن، وقالوا: من ردها فهو ضال خبيث، يَحذَرونه، ويحذرون منه)(2) .
ومنهم: الإمام الإسماعيلي (ت - 371هـ) حيث قال في عقيدته: (ويعتقدون أن الله.. مالك خلقه وأنشأهم لا عن حاجة إلى ما خلق، ولا لمعنى دعاه إلى أن خلقهم، لكنه فعال لما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يسأل عما يفعل، والخلق مسؤولون عما يفعلون)(3) .
وقال رحمه الله: (ويقولون ما يقوله المسلمون بأسرهم: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون، كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]
ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق
…
وإنه لا خالق على الحقيقة إلا الله عز وجل
…
وإنه عز وجل ينزل إلى السماء على ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا اعتقاد كيف فيه) (4) .
ومنهم ابن أبي زمنين (ت - 399هـ) رحمه الله حيث قال: (ومن قول أهل السنة: أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وفي قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الحديد: 4] )(5) .
(1) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 1/162 كتاب الإيمان، باب قوله عليه السلام إن الله لا ينام، وابن ماجه في سننه 1/70 - 71 المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية.
(2)
الشريعة ص306.
(3)
اعتقاد أهل السنة ص32.
(4)
اعتقاد أهل السنة ص35 - 38.
(5)
أصول السنة ص88.
وقال: (ومن قول أهل السنة: أن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا، ويؤمنون بذلك)(1) .
ومنهم الإمام الصابوني (449هـ) حيث قال في عقيدته: (ويعتقد أصحاب الحديث أن الله - سبحانه - فوق سبع سماواته، على عرشه مستو، كما نطق به كتابه في قوله عز وجل في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] وقوله في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3] )(2) .
وقال رحمه الله: (ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل، ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتهون فيه إليه)(3) .
وبعد: فهذه جملة مختصرة من أقوال سلف الأمة في بيان المعتقد الحق في أفعال الله وصفاته التي تكون بمشيئته وقدرته، وأقوالهم رحمهم الله تفوق الحصر في بيان هذا المعتقد عرضاً له، ورداً على مخالفيه من الجهمية ومن وافقهم (4) . وقد كان الناس على قول واحد في صفات الله وأفعاله الاختيارية وهو الإيمان بها، وأنها متعلقة بمشيئة الله وقدرته، وأن الله متصف بها وهي قائمة بذاته سبحانه وتعالى.
(1) أصول السنة ص110.
(2)
عقيدة السلف وأصحاب الحديث ص175.
(3)
عقيدة السلف وأصحاب الحديث ص191.
(4)
انظر للاستزادة في أقوال السلف: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 2/20 - 115، شرح العقيدة الأصفهانية له ص28 - 30، إضافة إلى كتب السلف أنفسهم في الاعتقاد، كما نبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الدرء 2/20، 22، إلى أن أقوال السلف توجد في كتب التفسير والأصول، والكتب المصنفة في السنة التي فيها آثار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين.
حتى جاءت الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم فنفوا الصفات الاختيارية عن الله نفياً مطلقاً فلا يقوم بالرب - عندهم - شيء من الأمور الاختيارية، فلا يرضى على أحد بعد أن لم يكن راضياً عنه، ولا يغضب عليه بعد أن لم يكن غضبان، ولا يفرح بالتوبة بعد التوبة؛ ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن الكلام قائم بذاته. ويجعلون هذه الأمور الاختيارية مخلوقاً منفصلاً عن الله - تعالى -.
وكان الناس بعد ظهور الجهمية والمعتزلة فريقين حتى ظهرت الكلابية ومن وافقهم كأبي الحسن الأشعري (1) وأبي العباس القلانسي (2) ، ومن وافقهم من السالمية (3)
وغيرهم، فأثبتوا بعض الصفات لكنهم لم يثبتوا الصفات الاختيارية التي تكون بمشيئة الله وقدرته، فالصفات التي أثبتوها هي قديمة بأعيانها لازمة لذات الله كالعلم والقدرة، وأما ما يكون بمشيئته وقدرته فلا يكون إلا مخلوقاً منفصلاً عنه، فلا تقوم الصفات الاختيارية - عندهم - بذات
(1) الأشعري: علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري، ويتصل نسبه بالصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أبو الحسن، كان معتزلياً فترك الاعتزال ورد عليه حتى حشر المعتزلة في أقماع السمسم، ثم قال بقول الكلابية، وتفرد بآراء بعد ذلك، وينسب إليه مذهب الأشاعرة، من كتبه: مقالات الإسلاميين، ت سنة 324هـ، وقيل غير ذلك.
انظر في ترجمته: وفيات الأعيان لابن خلكان 2/446، طبقات الشافعية للسبكي 3/347.
(2)
القلانسي: أحمد بن عبد الرحمن بن خالد القلانسي الرازي، من معاصري أبي الحسن الأشعري، وهو موافق لاعتقاد الأشعري، ومن العلماء الكبار.
انظر في ترجمته: الملل والنحل للشهرستاني تحقيق بدران 1/85، تبيين كذب المفتري لابن عساكر ص398.
(3)
السالمية: أتباع أبي عبد الله محمد بن سالم (ت297هـ) ، وابنه أبي الحسن أحمد (ت350هـ) وقد تتلمذ الأب على سهل التستري، ومن أشهر رجال السالمية: أبو طالب المكي (ت386هـ) ويجمع السالمية في مذهبهم بين كلام أهل السنة وكلام المعتزلة، مع ميل إلى التشبيه، ونزعة صوفية.
انظر: اللمع للطوسي ص472 - 477، طبقات الصوفية للسلمي ص414 - 416، نشأة الفكر الفلسفي للنشار 1/294 - 296.
الرب - جل وعلا (1) -.
ومنشأ الخلاف بين الكلابية ومن وافقهم وبين أهل السنة: في مسألة الخلق: هل هو المخلوق أم غيره؟ والفعل هل هو المفعول أم غيره؟
وقد ذكر الإمام البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن نزاع الناس في أفعال الله اللازمة كالمجيء والإتيان والاستواء، والأفعال المتعدية كالخلق والإحسان والعدل ناشئ عن النزاع في هذه المسألة (2) .
فالمأثور عن السلف أن الخلق غير المخلوق، وأن الفعل غير المفعول، فالفعل إنما هو إحداث الشيء، والمفعول هو الحدث، لقوله تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام:73] فالسماوات والأرض مفعول، وكل شيء سوى الله بقضائه فهو مفعول، فتخليق السماوات فعله؛ لأنه لا يمكن أن تقوم سماء بنفسها من غير فعل الفاعل، وإنما تنسب السماء إليه لحال فعله، ففعله من ربوبيته حيث يقول:{كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] .
والفعل صفة، والمفعول غيره، ويدل على هذا قول الله تبارك وتعالى {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51] ، ولم يرد بخلق السماوات نفسها، وقد ميز فعل السماوات عن السماوات، وكذلك فعل جملة الخلق.
قال البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله: (قال أهل العلم: التخليق فعل الله، وأفاعيلنا مخلوقة لقوله - تعالى -: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
(1) انظر في عرض الأقوال عند ابن تيمية: رسالة في الصفات الاختيارية (ضمن جامع الرسائل 2/3 - 4، 12) ، شرح حديث النزول ص456 - 457، الفرقان بين الحق والباطل ص86، درء تعارض العقل والنقل 2/147، وانظر في أقوال الناس على وجه التفصيل: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/268، ودرء تعارض العقل والنقل 2/18 - 20.
(2)
انظر: خلق أفعال العباد للبخاري (ضمن عقائد السلف جمع النشار وطالبي ص209 - 213) شرح حديث النزول لابن تيمية ص401.
الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 13، 14] يعني السر والجهر من القول، ففعل الله صفة الله، والمفعول غيره من الخلق) (1) .
وقد استدل السلف على هذا بكلام الله عز وجل وأنه غير مخلوق، حيث استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بكلمات الله، ولا يستعاذ بالمخلوق كما ذكر ذلك نعيم بن حماد (ت - 228هـ) رضي الله عنه وغيره (2) .
وأما دليل السلف العقلي على أن الخلق غير المخلوق فقد ذكره ابن تيمية رحمه الله بقوله: (إن كل ما سوى الله تعالى مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، وأن الله انفرد بالقدم والأزلية، وقد قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 59] . فهو حين خلق السماوات ابتداءً: إما أن يحصل منه فعل يكون هو خلقاً للسماوات والأرض، وإما أن لا يحصل منه فعل، بل وجدت المخلوقات بلا فعل، ومعلوم أنه إذا كان الخالق قبل خلقها ومع خلقها سواء، وبعده سواء، لم يجز تخصيص خلقها بوقت دون وقت بلا سبب يوجب التخصيص)(3) .
وأما القول الثاني: وهو أن الخلق هو نفس المخلوق، والفعل هو المفعول، وليس لله عند هؤلاء صنع ولا فعل ولا خلق ولا إبداع إلا المخلوقات نفسها.
وشبهتهم هي قولهم: (لو كان خلق المخلوقات بخلق: لكان ذلك الخلق: إما قديماً، وإما حادثاً، فإن كان قديماً: لزم قدم كل مخلوق، وهذا مكابرة.
وإن كان حادثاً: فإن قام بالرب لزم قيام الحوادث به.
(1) خلق أفعال العباد (ضمن عقائد السلف جمع النشار وطالبي ص212) .
(2)
انظر خلق أفعال العباد للبخاري (ضمن عقائد السلف للنشار وطالبي ص190) ، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/230.
(3)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/230.
وإن لم يقم به كان الخلق قائماً بغير الخالق وهذا ممتنع.
وسواء قام به أو لم يقم به يفتقر ذلك الخلق إلى خلق آخر، ويلزم التسلسل) (1) .
وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بجواب السلف والجمهور عن كل مقدمة من مقدمات هذا الدليل:
فالمقدمة الأولى: قولهم: (بلزوم قدم كل مخلوق) بأن من يوافقونه على قدم الإرادة مع تأخر المراد يلزمونهم بأن الخلق قديم أزلي، وإن كان المخلوق متأخراً، ومهما قالوه في الإرادة ألزموا بنظيره في الخلق، وهذا جواب إلزامي لا حيلة لهم فيه ألزمهم به الحنفية والكرامية وكثير من الحنبلية، والشافعية، والمالكية، والصوفية، وأهل الحديث.
وأما المقدمة الثانية: وهي قولهم: لو كان حادثاً قائماً بالرب لزم قيام الحوادث به وهو ممتنع: فقد منعهم ذلك السلف وأئمة أهل الحديث وغيرهم وقالوا: لا نسلم انتفاء اللازم، وقالوا: بأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلماته لا نهاية لها، وأن الله لم يزل فعالاً. وهذه المسألة: - أي امتناع دوام الحوادث من عدمه - من الأصول الكبار الفارقة بين أهل السنة ومخالفيهم في صفات الله وفي خلقه.
وأما المقدمة الثالثة: وهي: إن لم يقم الخلق بالله كان الخلق قائماً بغير الخالق وهذا محال، وهذه المقدمة صحيحة، ولم يمنعهم ويخالفهم إلا بعض المتكلمين من المعتزلة وغيرهم. فمنهم من يقول: الخلق يقوم بالمخلوق، ومنهم من يقول: خلق وفعل بإرادة لا في مكان ومحل (2) . وهذا القول ممتنع لا يعرف عن أحد من السلف.
(1) ذكره شيخ الإسلام في شرح حديث النزول ص403.
(2)
انظر: مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري 2/51.
وأما المقدمة الرابعة: وهي قولهم: الخلق الحادث يفتقر إلى خلق آخر: فقد منعهم من ذلك عامة الناس ممن يقول بحدوث الخلق من أهل الحديث والسلف وأهل الكلام والفلسفة والفقه والتصوف وغيرهم.
وقالوا: إذا خلق السماوات والأرض بخلق لم يلزم أن يحتاج ذلك الخلق إلى خلق آخر، ولكن ذلك الخلق يحصل بقدرته ومشيئته، وإن كان ذلك الخلق حادثاً. ثم إنهم يسلمون أن المخلوقات محدثة منفصلة بدون حدوث (خلق) ، فإذا جاز هذا في الحادث المنفصل عن المحدِث، فلأن يجوز حدوث الحادث المتصل به بدون (خلق) بطريق الأولى والأحرى.
وأما المقدمة الخامسة: وهي قولهم: إن ذلك يفضي إلى التسلسل، فيجاب عنهم بأن التسلسل هنا هو التسلسل في الآثار، وهذا قد اتفق السلف على جوازه، والبرهان إنما دل على امتناع التسلسل في المؤثرين، فإن هذا يعلم فساده بصريح المعقول، وهو مما اتفق العقلاء على امتناعه (1) .
وصلة مسألة الخلق هل هو المخلوق أم غيره؟ بالصفات الاختيارية هي في بدء خلق السماوات والأرض حين خلقها الله عز وجل ولم تكن قبل ذلك، وقد تجددت له صفة الخلق وهي ما يسميه المتكلمون (حلول الحوادث بالرب)، فيقولون: إن الصفة (الخلق) هي مخلوق منفصل عن الله عز وجل لا يقوم بذات الرب، فالخلق هو المخلوق، والصفة مخلوقة، وقال بعضهم: إن الصفة قديمة بأعيانها لازمة لذات الرب كما تقدم بيانه (2) .
ومن منشأ الخلاف - أيضاً - بين أهل السنة ومخالفيهم في الصفات
(1) انظر للتفصيل: الرد على المنطقيين لابن تيمية ص230 - 231، شرح حديث النزول لابن تيمية 403 - 413.
(2)
انظر: مناقشة المتكلمين حول مسألة (التجدد) في صفات الله عند ابن تيمية: رسالة في الصفات الاختيارية (ضمن جامع الرسائل 2/17 - 18) ، درء تعارض العقل والنقل 2/122، 238، 395.
والأفعال الاختيارية: مسألة المضافات إلى الله سبحانه وتعالى في الكتاب والسنة والتفريق بينها، وأنها ثلاثة أقسام:
القسم الأول: إضافة الصفة إلى الموصوف فهي: إما إضافة اسمية، كقوله - تعالى -:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255]، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] .
وإما بصيغة الفعل كقوله تعالى: {) عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187]، وقوله:{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا} [المزمل: 20] .
القسم الثاني: إضافة المخلوقات والأعيان: كقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26]، وقوله - تعالى -:{نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13]، وقال تعالى:{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] .
وهذه الأعيان إذا أضيفت إلى الله - تعالى - فإما أن تضاف بالجهة العامة التي يشترك فيها المخلوق مثل كونها مخلوقة ومملوكة له ومقدرة، ونحو ذلك، فهذه إضافة عامة مشتركة كقوله:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] .
وقد تضاف الأعيان لمعنى يختص بها ليميز به المضاف عن غيره مثل: بيت الله، ناقة الله، عبد الله، روح الله، فمن المعلوم اختصاص ناقة صالح بما تميزت به عن سائر النياق، وكذلك اختصاص الكعبة وهكذا، فإن المخلوقات اشتركت في كونها مخلوقة مملوكة مربوبة لله يجري عليها حكمه وقضاؤه وقدره، وهذه الإضافة لا اختصاص فيها، ولا فضيلة للمضاف على غيره.
وامتاز بعضها بأن الله يحبه ويرضاه ويصطفيه ويقربه إليه، فهذه الإضافة يختص بها بعض المخلوقات كإضافة البيت، والناقة، والروح: مثل قوله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] .
القسم الثالث: ما فيه معنى الصفة والفعل مثل قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] .
وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] ،
وقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف: 109] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]، وقوله:{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93]، وقوله:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، وقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28]، وقوله:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22]
ومن الأحاديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: «إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله» (1) .
وقوله عليه الصلاة والسلام: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة» (2) .
والخلاف في الصفات الاختيارية هو في القسم الثالث الذي فيه معنى الصفة والفعل؛ لأن القسم الأول قد اتفق أهل السنة على إثباته وأنه قديم غير مخلوق، خلافاً للجهمية الذين نفوا الصفات جملة.
وأما القسم الثاني فلم يخالف أحد في مخلوقيته.
وأما القسم الثالث: فهو موضع الخلاف ومنشأ النزاع والناس فيه على أقوال:
أحدها: أن الجميع إضافته إضافة ملك، وليس لله حياة قائمة به، ولا علم قائم به، ولا قدرة قائمة به، ولا كلام قائم به، ولا حب، ولا بغض، ولا غضب، ولا رضى، بل جميع ذلك مخلوق من مخلوقاته، وهذا قول المعطلة نفاة الصفات.
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 8/395 كتاب التفسير، باب ذرية من حملنا مع نوح، ومسلم في صحيحه 1/185 كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.
(2)
سبق تخريجه ص238.
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن أول من ابتدع هذا القول في الإسلام الجهمية، وقد ابتدعوه بعد انقراض عصر الصحابة وأكابر التابعين (1) .
الثاني: أن كل ما يضاف إلى الله هو صفة لله وإن كان بائناً عنه، وقال كثير منهم: إن أرواح بني آدم قديمة أزلية وهي صفة لله، وأن ما يسمعه الناس من أصوات القراء ومداد المصاحف قديم أزلي، وهو صفة لله، وقال بهذا القول الحلولية.
الثالث: أن صفات الله وأفعاله الاختيارية من الغضب والرضى والمحبة والبغض والإرادة وغيرها: إما أن تكون قديمة قائمة بالرب بأعيانها عند من يجوز ذلك وهم الكلابية، وإما مخلوقاً منفصلاً عنه فهو يلحق بأحد القسمين السابقين، فيمتنع أن يقوم به نعت أو حال أو فعل، أو شيء ليس بقديم، ويسمون هذه المسألة (مسألة حلول الحوادث بذاته)(2) .
وقال بهذا المعتزلة وبعض الكلابية والأشعرية، وكثير من الحنبلية ومن اتبعهم من الفقهاء والصوفية وغيرهم.
الرابع: أن صفات الله وأفعاله الاختيارية قسم ثالث: فهي ليست من المخلوقات المنفصلة عن الله، وليست بمنزلة الذات والصفات القديمة الواجبة التي لا تتعلق بها مشيئته، لا بأنواعها، ولا بأعيانها، وهذا قول سلف المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين المشهورين بالإمامة، وهو القول الصحيح.
وبهذا التفصيل في مسألة المضاف إلى الله والتفريق بين ما يضاف إلى الله من صفاته، وبين مخلوقاته يتضح لنا صلة هذه المسألة بالخلاف الدائر في
(1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/161.
(2)
ذكر شيخ الإسلام أن المعتزلة والكلابية تطلق على صفات الله وأفعاله الاختيارية مسألة حلول الحوادث، انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/147، درء تعارض العقل والنقل 2/10، رسالة في الصفات الاختيارية (ضمن جامع الرسائل 2/7) .
صفات الله وأفعاله الاختيارية بين فرق المسلمين، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن المضاف إلى الله في نصوص الكتاب والسنة أصل عظيم ضل فيه كثير من أهل الأرض من أهل الملل كلهم (1) .
ويستدل نفاة الصفات والأفعال الاختيارية بأدلة عقلية (2) منها:
الأول: قولهم: (أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، فلو جاز اتصافه بها لم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث) . وهذا الدليل مبني على مقدمتين، وفي كل من المقدمتين نزاع معروف بين طوائف المسلمين.
أما الأولى: وهي أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده. فأكثر العقلاء على خلافها حتى المتكلمين أنفسهم لم يذكروا لها حجة عقلية صحيحة (3) .
وأما المقدمة الثانية: وهي أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فهذه - أيضاً - قد نازع فيها طوائف من أهل الكلام والفلسفة والفقه والحديث والتصوف وغيرهم، وقالوا: التسلسل الممتنع هو التسلسل في العلل، فأما التسلسل في الآثار المتعاقبة والشروط المتعاقبة فلا دليل على بطلانه، فلا يمكن حدوث شيء من الحوادث إلا على هذا الأصل، ومن لم يجوز ذلك لزمه القول بحدوث الحوادث بلا سبب حادث، وذلك يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح.
(1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/161، درء تعارض العقل والنقل 7/263، وانظر: في مسألة المضاف إلى الله: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/144 - 148، 9/290، 17/151 - 152، شرح العقيدة الأصفهانية 66، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/155 - 164، درء تعارض العقل والنقل 7/263 - 268.
(2)
ذكر هذه الأدلة المختصرة الرازي في الأربعين في أصول الدين 1/171 - 173، ونقلها عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع متعددة مثل: درء تعارض العقل والنقل 2/177 - 216، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/247 - 252.
(3)
انظر للتفصيل: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 2/178 - 180.
الثاني: هو قولهم: (لو كان قابلاً لها لكان قابلاً لها في الأزل، وذلك فرع إمكان وجودها ووجودها في الأزل محال) .
وهذا الدليل أبطلوه هم بالمعارضة بالقدرة: بأنه - سبحانه - قادر على إحداث الحوادث، والقدرة تستدعي إمكان المقدور، ووجود المقدور وهو الحوادث في الأزل محال.
وهذا الدليل باطل من وجوه:
أولاً: أن يقال: وجود الحوادث: إما أن يكون ممتنعاً، وإما أن يكون ممكناً.
فإن كان ممكناً أمكن قبولها والقدرة عليها دائماً، وحينئذٍ فلا يكون وجود جنسها في الأزل ممتنعاً، بل يمكن أن يكون جنسها مقدوراً مقبولاً.
وإن كان ممتنعاً فقد امتنع وجود حوادث لا تتناهى، وحينئذٍ فلا تكون في الأزل ممكنة، لا مقدورة ولا مقبولة، وحينئذٍ فلا يلزم امتناعها بعد ذلك، فإن الحوادث موجودة فلا يجوز أن يقال بدوام امتناعها، وهذا تقسيم حاصر يبين فساد هذا الدليل.
ثانياً: أن يقال: لا ريب أن الله تعالى قادر: فإما أن يقال: إنه لم يزل قادراً. وهذا هو الصواب. وإما أن يقال: بل صار قادراً بعد أن لم يكن.
فإن قيل: لم يزل قادراً، فقال: إذا كان لم يزل قادراً: فإن كان المقدور لم يزل ممكناً أمكن دوام وجود الممكنات، فأمكن دوام وجود الحوادث، وحينئذٍ فلا يمتنع كونه قابلاً لها في الأزل.
ثالثاً: إذا قيل: هو قابل لما في الأزل، فإنما هو قابل لما هو قادر عليه يمكن وجوده، فأما ما يكون ممتنعاً لا يدخل تحت القدرة فهذا ليس بقابل له.
رابعاً: أن يقال هو قادر على حدوث ما هو مباين له من المخلوقات، ومعلوم أن قدرة القادر على فعله القائم به أولى من قدرته على المباين له، وإذا كان الفعل لا مانع منه إلا ما يمنع مثله لوجود المقدور المباين، ثم ثبت أن
المقدور المباين هو ممكن وهو قادر عليه، فالفعل أن يكون ممكناً مقدوراً أولى (1) .
الثالث: قولهم: إن قيام الحوادث به تغيّر، والله منزه عن التغير.
والجواب: أن لفظ (التغير) لفظ مجمل، فالتغير في اللغة لا يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث، فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت إنها قد تغيرت، ولا يقولون للإنسان إذا تكلم ومشى إنه تغير، ولا يقولون إذا طاف وصلى، وأمر ونهى، وركب إنه تغير إذا كان ذلك عادته، بل إنما يقولون تغير لمن استحال من صفة إلى صفة، كالشمس إذا زال نورها ظاهراً لا يقال إنها تغيرت، فإذا اصفرت قيل: تغيرت.
وإذا جرى أحد على عادته في أقواله وأفعاله فلا يقال إنه قد تغير، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] ، ومعلوم أنهم إذا كانوا على عادتهم الموجودة يقولون ويفعلون ما هو خير لم يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم، فإذا انتقلوا عن ذلك فاستبدلوا بقصد الخير قصد الشر، وباعتقاد الحق اعتقاد الباطل قيل: قد غيروا ما بأنفسهم.
وإذا كان هذا معنى التغير: فالرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال، وكماله من لوازم ذاته، فيمتنع أن يزول عنه شيء من صفات كماله، ويمتنع أن يصير ناقصاً بعد كماله (2) .
الرابع: قولهم: حلول الحوادث أفول، والخليل قد قال:{لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76] والآفل هو المتحرك الذي تقوم به الحوادث، والخليل قد نفى محبة من تقوم به الحوادث فلا يكون إلهاً (3) .
(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/247 - 249، وانظر: ردوداً أخرى في درء تعارض العقل والنقل 2/181 - 185، 4/62.
(2)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/249 - 252، درء تعارض العقل والنقل 2/285، 4/71.
(3)
انظر: أساس التقديس للرازي ص35.
وهذا الدليل حجة عليهم لا لهم، ذلك أن الله عز وجل قال:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 76 - 78] ، فقد أخبر الله في كتابه أنه حين بزغ الكوكب، والقمر، والشمس إلى حين أفولها لم يقل الخليل: لا أحب البازغين، ولا المتحركين، ولا المتحولين، ولا أحب من تقوم به الحركات ولا الحوادث.
والأفول في اللغة هو المغيب والاحتجاب (1) . وهذا باتفاق العلماء.
ولم يقل إبراهيم: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76] إلا حين أفل وغاب عن الأبصار، وهذا يقتضي أن كونه متحركاً منتقلاً وجسماً تقوم به الحوادث لم يكن دليلاً عند إبراهيم على نفي محبته، ثم إن قول إبراهيم له حين بزغ:{هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76، 77، 78] ولم ينف عنه الربوبية من حين بزوغه إلى حال أفوله دل ذلك على أنه لم يجعل حركته منافية لذلك، وإنما جعل المنافي الأفول، وإن كان الخليل إنما احتج بالأفول على أنه لا يصلح أن يتخذ رباً يشرك، ويدعى من دون الله، فليس فيه تعرض لأفعال الله تعالى، فقصة الخليل حجة عليهم لا لهم.
وأما قولهم: إن الأفول هو التغير: فإن أريد بالتغير الاستحالة: فالشمس والقمر والكواكب لم تستحل بالمغيب.
وإن أراد به التحرك: فهو لا يزال متحركاً، ولفظ التغير والتحرك مجمل: إن أريد به التحرك أو حلول الحوادث: فليس هو معنى التغير في اللغة، وليس الأفول هو التحرك، ولا التحرك هو التغير، بل الأفول أخص من التحرك، والتغير أخص من التحرك. وبين التغير والأفول عموم وخصوص، فقد يكون
(1) انظر: لسان العرب لابن منظور 11/18 مادة (أفل) ، القاموس المحيط للفيروزآبادي 3/339 مادة (أفل) .
الشيء متغيراً غير آفل، وقد يكون آفلاً غير متغير، وقد يكون متحركاً غير متغير، ومتحركاً غير آفل (1) .
وبعد ذلك ذكر شيخ الإسلام أن نفي النفاة للصفات الاختيارية - التي يسمونها حلول الحوادث (2) - ليس لهم دليل عقلي عليه، وأما السمع فلا ريب أنه مملوء بما يناقض هذا القول. وقد احتال متأخروهم حين لم يكن معهم حجة عقلية ولا سمعية، فاحتجوا بما يسمونه بحجة الكمال والنقصان وهي: أن الصفات إن كانت صفات نقص وجب تنزيه الرب عنها، وإن كانت صفات كمال فقد كان فاقداً لها قبل حدوثها، وعدم الكمال نقص، فيلزم أن يكون كان ناقصاً، وتنزيهه عن النقص واجب بالإجماع (3) .
وهذه الحجة فاسدة من وجوه:
أحدها: لا نسلم أن عدم هذه الأمور قبل وجودها نقص، بل لو وجدت قبل وجودها لكان نقصاً، مثال ذلك: تكليم الله لموسى عليه السلام ونداؤه له، فنداؤه حين ناداه صفة كمال، ولو ناداه قبل أن يجيء لكان ذلك نقصاً، فكل منها كمال حين وجوده، ليس بكمال قبل وجوده.
(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 2/216، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/252، 284، بغية المرتاد لابن تيمية 360.
(2)
يبين شيخ الإسلام أن لفظ (حلول الحوادث) لفظ مجمل يحتاج إلى استفصال: فإن أريد به أنه لا يكون محلاً للتغيرات والاستحالات ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين فتحيلهم وتفسدهم فهذا المعنى صحيح، وإن أريد به أنه ليس لله فعل اختياري يقوم بنفسه، ولا له كلام ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه لا يقدر على استواء أو نزول أو إتيان، بل عين المخلوقات هي الفعل، ليس هناك فعل ومفعول، بل المخلوق عين الخلق، والمفعول عين الفعل ونحو ذلك، فهذا معنى فاسد، والنفاة يوهمون الناس أن مقصودهم المعنى الأول، وهم يقصدون المعنى الثاني. انظر: درء تعارض العقل والنقل 2/12، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 12/142.
(3)
انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 2/156، رسالة في الصفات الاختيارية لابن تيمية (ضمن جامع الرسائل) 2/34.
الثاني: لا نسلم أن عدم ذلك نقص، فإن ما كان حادثاً امتنع أن يكون قديماً، وما كان ممتنعاً لم يكن عدمه نقصاً، إنما النقص فوات ما يمكن من صفات الكمال.
الثالث: أن هذا يرد في كل ما فعله الرب وخلقه فيقال: إن كان نقصاً فقد اتصف بالنقص، وإن كان كمالاً فقد كان فاقداً له.
فإن قال المخالف: صفات الأفعال عندنا ليست بنقص ولا كمال.
قيل: إذا قلتم ذلك أمكن المنازع أن يقول: هذه الحوادث ليست بنقص ولا كمال.
الرابع: أن يقال: إذا عُرض على العقل الصريح ذاتٌ يمكنها أن تتكلم بقدرتها وتفعل ما تشاء بنفسها، وذات لا يمكنها أن تتكلم بمشيئتها ولا تتصرف بنفسها ألبتة بل هي بمنزلة العاجز الذي لا يمكنه فعل يقوم به باختياره: فإن العقل الصريح يقضي بأن هذه الذات أكمل، وحينئذٍ فأنتم الذين وصفتم الرب بصفة النقص. والكمال باتصافه بهذه الصفات، لا في نفي اتصافه بها.
الخامس: أن يقال: الحوادث التي يمتنع كون كل منها أزلياً، ولا يمكن وجودها إلا شيئاً فشيئاً إذا قيل: أيهما أكمل: أن يقدر على فعلها شيئاً فشيئاً أو لا يقدر على ذلك؟، كان معلوماً بصريح العقل أن القادر على فعلها شيئاً فشيئاً أكمل ممن لا يقدر على ذلك، وهم يقولون: إن الرب لا يقدر على شيء من هذه الأمور، ويقولون: إنه يقدر على أمور مباينة له (1) .
(1) انظر للتفصيل: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 2/342 وما بعدها، رسالة في الصفات الاختيارية لابن تيمية (ضمن جامع الرسائل 2/34 - 36)، وانظر: أمثلة لتأويلات المتكلمين للصفات الاختيارية والإجابة عنها في مجموع فتاوى ابن تيمية 6/117 - 130.