المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأولالتسلسل: تعريفه، أقسامه، حكم كل قسم - دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية - عرض ونقد

[عبد الله بن صالح الغصن]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أسباب اختيار البحث:

- ‌خطة البحث:

- ‌ منهج في كتابة البحث

- ‌[شكر وتقدير]

- ‌[التمهيد]

- ‌ترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

- ‌1 - اسمه ونسبه:

- ‌2 - مولده ونشأته:

- ‌3 - عصره:

- ‌أولاً: الناحية السياسية:

- ‌ثانياً: الناحية الاجتماعية:

- ‌ثالثاً: الناحية العلمية:

- ‌4 - محن الشيخ:

- ‌5 - وفاته رحمه الله:

- ‌6 - مؤلفاته:

- ‌7 - بعض ثناء الناس عليه:

- ‌منهج شيخ الإسلام في تقرير العقيدة والاستدلال عليها:

- ‌الفصل الأول: المناوئون لشيخ الإسلام، ودعاواهم حول منهجه

- ‌المبحث الأول: المناوئون لشيخ الإسلام

- ‌المطلب الأول: أقسام المناوئين

- ‌المطلب الثانيالمنهج العام للمناوئين

- ‌المطلب الثالثاعتراف خصومه بقدره

- ‌المبحث الثانيدعاوى المناوئين حول منهج شيخ الإسلام ابن تيمية ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعاوى المناوئين حول منهج شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌المطلب الثانيمناقشة دعاوى المناوئين حول منهج ابن تيمية

- ‌الفصل الثانيدعوى التجسيم والتشبيه

- ‌المبحث الأول:قول أهل السنة في مسألة التجسيم والتشبيه

- ‌المطلب الأول: التعريف بالمشبهة

- ‌المطلب الثانياعتقاد السلف نفي التمثيل والتشبيه

- ‌المطلب الثالثرد السلف دعوى أن الإثبات يستلزم التشبيه

- ‌المبحث الثانيدعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى قوله بالجهة والتحيز ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى قوله بالجهة والتحيز

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الثالث: دعوى القول بقدم العالم

- ‌المبحث الأولمعتقد أهل السنة في إمكان حوادث لا أول لها

- ‌المطلب الأولالتسلسل: تعريفه، أقسامه، حكم كل قسم

- ‌المطلب الثانيالصفات الاختيارية

- ‌المطلب الثالثشرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه

- ‌المبحث الثانيدعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لهايستلزم القول بقدم العالم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لها يستلزم القول بقدم العالم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الرابعدعوى نهي ابن تيمية عن زيارة القبور

- ‌المبحث الأولعقيدة أهل السنة في زيارة القبور وشد الرحل إليها

- ‌المبحث الثانيالزعم أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور ومناقشته

- ‌المطلب الأولالزعم بأن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور

- ‌المطلب الثانيمناقشة دعوى أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقشتها

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الخامسدعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياءوقبور غيرهم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياءوقبور غيرهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الخامسمسألة التوسل

- ‌المبحث الأول: عقيدة أهل السنة والجماعة في التوسل

- ‌المبحث الثانيدعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين،وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين،وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدمجواز التوسل بالنبي، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدم جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين،وإهانته لهم، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين، وإهانته لهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل السادسموقف شيخ الإسلام من الصحابة

- ‌المبحث الأولعقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة

- ‌المبحث الثانيدعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهمالأئمة الخلفاء الأربعة، ومناقشتها

- ‌المطلب الأول دعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهم الأئمة الخلفاء الأربعة

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت،وتعمية مناقبهم، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت، وتعمية مناقبهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى رد الأحاديث الصحيحة في مقام المبالغةفي توهين كلام الشيعة ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى رد الأحاديث الصحيحةفي مقام المبالغة في توهين كلام الشيعة

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل السابعمسألة دوام النار

- ‌المبحث الأولدلالة نصوص الكتاب والسنة على خلود النار

- ‌المبحث الثانيدعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌المطلب الأولالتسلسل: تعريفه، أقسامه، حكم كل قسم

‌المبحث الأول

معتقد أهل السنة في إمكان حوادث لا أول لها

‌المطلب الأول

التسلسل: تعريفه، أقسامه، حكم كل قسم

التسلسل لغة: اتصال بعض الأشياء ببعض إلى ما لا نهاية يقال: تسلسل الأمر: أي اتصل بعضه ببعض إلى ما لا نهاية، وشيء مسلسل: أي متصل بعضه ببعض، ومنه سلسلة الحديد (1) .

والتسلسل: لفظ مجمل لم يرد إثباته في الكتاب والسنة ولا نفيه فيهما وهو قسمان:

الأول: تسلسل في المؤثرين.

الثاني: تسلسل في الآثار.

أما القسم الأول وهو التسلسل في المؤثرين فيقصد به: أن يكون للحادث فاعل، وللفاعل فاعل وهكذا، أي أن يكون للمؤثر مؤثر معه لا يكون حال عدم المؤثر (2) .

وهذا التسلسل في أصل التأثير والخلق باطل باتفاق العقلاء (3) ؛ ذلك أنه

(1) انظر: لسان العرب لابن منظور 11/345 مادة (سلسل) ، القاموس المحيط للفيروزآبادي 3/408 مادة (التسلسل) ، نهاية القصد والتوسل لفهم كلمة الدور والتسلسل أحمد بن عبد الرحيم الطهطاوي (ل3) مخطوط في دار الكتب المصرية برقم 39788.

(2)

انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/342، 363.

(3)

انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 6/37، الصفدية لابن تيمية 1/11، 24.

ص: 213

يقتضي أن لا يوجد شيء، وأن كل الأشياء الموجودة حادثة بعد العدم مفتقرة إلى من يوجدها، وليس فيها من يوجد نفسه أو يوجد شيئاً بنفسه، ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا النوع يستلزم تسلسل الممتنعات؛ لأن ما لا يوجد حتى يوجد ما لا يوجد ممتنع، وكذلك فإن تقدير أمور كلها مفعولات ليس فيها غير مفعول ومخلوق مع عدم وجود فاعل خالق مباين لها ممتنع ضرورة.

وكثرة الممتنعات المفتقرات لا تقتضي إمكان شيء فيها فضلاً عن وجوده (1) وقد حذر النبي محمد صلى الله عليه وسلم أمته من الوقوع في الوسواس الذي يرد على النفوس حول التسلسل في الفاعل، فقد ورد في الصحيحين عن أبي هريرة (2)

رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله» وفي لفظ: «آمنت بالله ورسله» (3) . وفي لفظ آخر: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته» (4) .

وعن أنس بن مالك (5) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: «إن

(1) انظر: النبوات لابن تيمية 132 - 133، الصفدية لابن تيمية 2/68 - 69.

(2)

أبو هريرة: عبد الرحمن بن صخر الدوسي، مشهور بكنيته، واختلف في اسمه واسم أبيه كثيراً، كانت له هرة يلعب بها فكناه النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة، أكثر الصحابة حديثاً وأحفظهم له، ت سنة 57هـ.

انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 4/202، الإصابة لابن حجر 4/202.

(3)

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 1/119 كتاب الإيمان، باب الوسوسة في الإيمان، وأبو داود في سننه 5/91 - 92، كتاب السنة، باب في الجهمية.

(4)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 6/336 كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم في صحيحه 1/120 كتاب الإيمان، باب الوسوسة في الإيمان.

(5)

أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد المكثرين من الرواية عنه، حضر بدراً ولم يذكر من البدريين لصغره، أقام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثم بالبصرة ومات بها سنة 93هـ.

انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 1/71، الإصابة لابن حجر 1/71.

ص: 214

أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا؟ وما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟» (1) .

وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لن يبرح الناس يتساءلون: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟» (2) .

وقد أجاب شيخ الإسلام رحمه الله عمن زعم أن طريقة العلاج النبوية بالاستعاذة لمن بلي بوسواس الفاعل ليست طريقة برهانية تقطع هذا الوسواس بأن المصطفى عليه الصلاة والسلام أمر بطريقة البرهان حيث يؤمر بها، والذي أمر به في دفع هذا الوسواس ليس هو الاستعاذة فقط، بل أمر بالاستعاذة، وأمر بالانتهاء عنه، وأمر بالإيمان بالله ورسوله، ولا طريق إلى نيل المطلوب من النجاة والسعادة إلا بما أمر به.

والشبهات القادحة في العلوم الضرورية لا يمكن الجواب عنها بالبرهان؛ لأن غاية البرهان أن ينتهي إليها، فإذا وقع الشك فيها انقطع طريق البحث والنظر، ولهذا كان من أنكر العلوم الحسية والضرورية لم يناظر، ومتى فكر العبد في الوساوس القادحة في العلوم الضرورية ونظر فيها ازداد ورودها على قلبه، وقد يغلبه الوسواس حتى يعجز عن دفعه عن نفسه والعياذ بالله.

ولهذا يزول بالاستعاذة بالله، فإن الله هو الذي يعيذ العبد ويجيره من الشبهات والوساوس قال عز وجل:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] .

وأما الأمر بالانتهاء عن التفكير في الوسواس مع الاستعاذة فهو إخبار بأن

(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 13/265، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، ومسلم في صحيحه 1/121 كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان واللفظ له.

(2)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 13/265 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال.

ص: 215

وجود هذا السؤال هو نهاية الوسواس فيجب الانتهاء عنه، وليس هو من البدايات التي يزيلها ما بعدها. ولما كان بطلان هذا السؤال معلوماً بالفطرة والضرورة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتهي عنه، كما يؤمر أن ينتهي عن كل ما يعلم فساده من الأسئلة الفاسدة التي يُعلم فسادها كما لو قيل: متى حدث الله؟ أو متى يموت؟ ونحو ذلك (1) .

وأما الأمر بالإيمان بالله ورسوله فهو من باب دفع الضد الضار بالضد النافع فإن قوله: آمنت بالله، يدفع عن قلبه الوسواس الفاسد، وهذا القول إيمان، وذكر الله يدفع به ما يضاده من الوسوسة القادحة في العلوم الضرورية الفطرية (2) .

ويقترن بالتسلسل في المؤثرات والفاعلية تسلسل آخر وهو التسلسل في تمام الفعل والتأثير: ولهذا التسلسل نوعان:

النوع الأول: تسلسل في جنس الفعل.

النوع الثاني: تسلسل في الفعل المعين.

أما النوع الأول: وهو التسلسل في تمام الفعل والتأثير فهذا مثل أن يقال: لا يفعل الفاعل شيئاً أصلاً حتى يفعل شيئاً معيناً، أو لا يحدث شيئاً حتى يحدث شيئاً، أو لا يصدر عنه شيء حتى يصدر عنه شيء.

وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء (3) .

أما النوع الثاني: وهو التسلسل: في حدوث الحادث المعين فصورته: أن يكون قد حدث مع الحادث تمامُ مؤثره، وحدث مع حدوث تمام المؤثر المؤثر وهكذا، فيلزم تسلسل الحوادث في الواحد.

(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 3/315.

(2)

انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/363 - 364، 3/117 - 118، 306 - 318، منهاج السنة النبوية 1/436 - 437.

(3)

انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/364، 9/239، الصفدية لابن تيمية 2/121.

ص: 216

وهذا - أيضاً - باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهو من جنس التسلسل في تمام التأثير (1) .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رد عام على هذا القسم:

(التسلسل ممتنع في العلة، وفي تمام العلة، فكما لا يجوز أن يكون للعلة علة، وللعلة علة إلى غير غاية، فلا يجوز أن يكون لتمام العلة تمام، ولتمام العلة تمام إلى غير غاية، والتسلسل في العلل وفي تمامها متفق على امتناعه بين العقلاء، معلوم فساده بضرورة العقل)(2) .

ولما كان التسلسل في المؤثرات ممتنعاً ظاهر الامتناع لم يكن المتقدمون من النظار يطيلون في تقرير فساده، لكن المتأخرون أخذوا يقررونه ويناقشونه مما سبب اشتباه التسلسل بالآثار بالتسلسل في المؤثرين عند كثير من المتكلمين (3) .

ومن أقدم من نفى التسلسل في المؤثرات من الفلاسفة ابن سينا (ت - 428هـ) ثم اتبعه من سلك طريقه كالسهروردي المقتول (ت - 578هـ) وأمثاله، وكذلك الرازي (ت - 606هـ) والآمدي (ت - 631) والطوسي (4) وغيرهم (5) .

لكنَّ متأخري المتكلمين زادوا في الحاجة إلى نفي التسلسل في المؤثرات الحاجة إلى نفي الدور (6)

أيضاً، إلا أن الدور القبلي مما اتفق العقلاء على

(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/365، 9/239.

(2)

درء تعارض العقل والنقل 1/344.

(3)

انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 3/157.

(4)

الطوسي: محمد بن محمد بن الحسن، أبو جعفر، نصير الدين الطوسي، رحل إلى نيسابور وطوس، له صلة بالإسماعيلية والفلاسفة، ت سنة 672هـ.

انظر في ترجمته: فوات الوفيات للكتبي 3/246، شذرات الذهب لابن العماد 5/339، الفيلسوف نصير الدين الطوسي للأعسم.

(5)

انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/161.

(6)

الدور في الأحكام العقلية قسمان: دور قبلي، ودور معي اقتراني.

فأما الأول: وهو الدور القبلي: مثل أن يقال: لا يجوز أن يكون كل من الشيئين فاعلاً للآخر، وهو أن يكون هذا قبل ذاك، وذاك قبل هذا، وذاك فاعل لهذا، وهذا فاعل لذاك، فيكون الشيء فاعلاً لفاعله، ويكون قبل قبله. ويطلق عليه بأنه الدور (البعدي) كما في الدرء 3/143 بأن يقال: لا يوجد هذا إلا بعد ذاك، ولا يوجد ذاك إلا بعد هذا، وهذا النوع من الدور ممتنع باتفاق العقلاء؛ لأن الشيء لا يكون قبل كونه، ولا يتأخر كونه عن كونه. فلو قيل: إن الشيء لا يوجد إلا بعد أن يوجد لكان هذا ممتنعاً، فكيف إذا قيل: إنه لا يكون إلا بعد ذاك؛ وقيل أيضاً: ذاك لا يكون إلا بعد هذا؟ فإنه يلزم أن يكون قبل قبل نفسه، وبعد بعد نفسه، فلزم الدور الممتنع أربع مرات. فيلزم من هذا الدور أن يكون الشيء موجوداً قبل أن يكون موجوداً، فيلزم اجتماع الوجود والعدم غير مرة.

وأما الثاني: وهو الدور المعي الاقتراني: فيراد به أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا، ولا هذا إلا مع هذا، كالأمور المتضايفة مثل البنوة والأبوة فيقال: لا تكون الأبوة إلا مع البنوة، ولا البنوة إلا مع الأبوة، ومثل صفات الخالق سبحانه وتعالى مع ذاته فيقال: لا تكون صفات الرب إلا مع ذاته، ولا تكون ذاته إلا مع صفاته وهكذا، وهذا النوع ممكن وصحيح وجائز.

وهناك أنواع من الدور لا تدخل فيما نحن فيه مثل الدور الحكمي في الفقه، والدور الحسابي في الجبر والمقابلة، انظرها في الرد على المنطقيين ص257، وانظر في الدور عند ابن تيمية: بغية المرتاد ص428، منهاج السنة النبوية 1/438، الصفدية 1/12، 2/218، درء تعارض العقل والنقل 3/143، الأكملية (ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/78) .

ص: 217

انتفائه، ولذلك لم يحتج عامة العقلاء إلى تقرير ذلك لوضوحه بما فيهم المتقدمون من المتكلمين، والفلاسفة.

وهذا الطريق الذي سلكه المتأخرون في إبطال التسلسل في المؤثرات والدور القبلي طريق صحيح، إلا أنه طريق طويل شاق لا حاجة إليه، وإن كان منهم من يورد شكوكاً يعجز بعضهم عن حلها (1) .

وأما القسم الثاني: وهو التسلسل في الآثار فيراد به أن يكون أثر بعد أثر، فلا يكون حادث إلا بعد حادث، ولا يكون حادث حتى يكون قبله غيره من الحوادث، فتتسلسل الحوادث (2) المتعاقبة في الماضي والمستقبل.

(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/157 - 162.

(2)

انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/341، 368.

ص: 218

والنزاع مشهور بين الطوائف في هذا القسم، وتعود الأقوال المشهورة فيه إلى ثلاثة أقوال (1) :

القول الأول: لا يجوز تسلسل الحوادث المتعاقبة لا في الماضي، ولا في المستقبل، ويطلقون عليه - أحياناً -: امتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل، وقال بهذا الجهم بن صفوان (2) ،

وأبو الهذيل العلاف (3) وعن هذا الأصل قال الجهم (ت - 128هـ) بفناء الجنة والنار، وقال أبو الهذيل (ت - 235هـ) بفناء حركات أهلهما (4) .

القول الثاني: يجوز تسلسل الحوادث في المستقبل دون الماضي، أو امتناع مالا يتناهى في الماضي دون المستقبل؛ لأن الماضي قد وجد، والمستقبل لم يوجد بعد، وهو قول أكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم.

(1) يذكر ابن تيمية رحمه الله أقسام التسلسل في الآثار والشروط وأنها ثلاثة أقسام، لكنه رحمه الله يذكر أحياناً بعض التفصيلات والاختلافات الدقيقة فيعدها أقوالاً فذكر في درء تعارض العقل والنقل 4/293 أن الأقوال أربعة (مع الاتفاق بأن أحداً من العقلاء لم يقل بدوام الحوادث في الماضي دون المستقبل) ، وذكر في المصدر نفسه 2/359 أن أقوال الناس في وجود ما لا يتناهى ستة، وهذا - في نظري - من تنويع أساليب العرض عند شيخ الإسلام، وقوة فهمه لمذاهب الخصوم: فمرة يجمل، ومرة يبين ويفصل إذا استدعى المقام إلى ذلك والله أعلم.

(2)

الجهم بن صفوان: أبو محرز الراسبي، رأس الضلالة، كان ينكر الصفات، ويقول بخلق القرآن، ويعتقد الجبر، وأن الله في كل مكان، قتله سلم بن أحوز سنة 128هـ.

انظر في ترجمته: الكامل لابن الأثير 4/293، ميزان الاعتدال للذهبي 1/426.

(3)

أبو الهذيل العلاف: محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي، المعروف بالعلاف، المتكلم، شيخ أهل البصرة في الاعتزال، وهو صاحب المقالات في مذهبهم، ذو فطنة ودهاء، ت سنة 235هـ.

انظر في ترجمته: شذرات الذهب لابن العماد 2/85، المنية والأمل للقاضي عبد الجبار ص154.

(4)

انظر في مقالة الجهمية وأبي الهذيل: مقالات الإسلاميين للأشعري 2/167، التبصير في الدين للإسفراييني ص108.

ص: 219

القول الثالث: جواز تسلسل الحوادث المتعاقبة في الماضي والمستقبل، وقال بهذا أئمة أهل الملل، ومنهم أئمة أهل الحديث، وقال به أئمة الفلاسفة (1) .

وأما امتناع دوام الحوادث في المستقبل وجوازها في الماضي فلم يقل به أحد من الناس.

ومن الملاحظ أن الجهمية انفردت بنفي تسلسل الحوادث في المستقبل، وأول من أظهر هذا القول في الإسلام: الجهم بن صفوان (ت - 128هـ)، وشبهته: أن ما كان له ابتداء فلا بد أن يكون له انتهاء، وأن الدليل الدال على امتناع ما لا يتناهى لا يفرق بين الماضي والمستقبل فقال بفناء الجنة والنار، بل وفناء العالم كله، حتى لا يبقى موجود إلا الله، كما كان الأمر في الابتداء كذلك.

وتبعه أبو الهذيل العلاف (ت - 235هـ) في ذلك لكنه يرى فناء الحركات فقال: إن الدليل إنما دل على انقطاع الحوادث فقط، فيمكن بقاء الجنة والنار، ولكن تنقطع الحركات فيبقى أهل الجنة والنار ساكنين ليس فيهما حركة أصلاً، ولا شيء يحدث، فيبقى أهل الجنة وأهل النار في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على الحركة (2) .

وقد اشتد إنكار السلف رحمهم الله على الجهمية في هذه المسألة، بل كفروهم بهذه المسألة، لما قاله خارجة بن مصعب رحمه الله (3) :

(كفرت الجهمية في غير موضع من كتاب الله، قولهم: إن الجنة تفنى،

(1) انظر: الصفدية لابن تيمية 1/10 - 11، منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/146 - 147.

(2)

انظر: الصفدية لابن تيمية 2/31، 163، منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/310 - 311، الرد على من قال بفناء الجنة والنار لابن تيمية ص44 - 45، انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري 2/47.

(3)

خارجة بن مصعب الضبعي السرخسي، أبو الحجاج، ت سنة 168هـ.

انظر في ترجمته: الطبقات الكبرى لابن سعد 7/262، الكاشف للذهبي 1/266.

ص: 220

وقال الله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] فمن قال: إنها تنفد فقد كفر، وقال:{أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]، فمن قال: إنها لا تدوم فقد كفر، وقال:{لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 33]، فمن قال: إنها تنقطع فقد كفر، وقال:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108](1) ،

فمن قال: إنها تنقطع فقد كفر، وقال: أبلغوا الجهمية أنهم كفار، وأن نساءهم طوالق) (2) .

ومما يدل على بقاء الجنة ودوامها غير ما ذكر من الآيات السابقة قول الله سبحانه وتعالى عن أهل الجنة: {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] .

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، كل خالد فيما هو فيه» .

وعن أبي سعيد الخدري (3) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم

(1) أما الاستثناء في الآية {إلا ما شآء ربك} ، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن (ما) إن كانت بمعنى (من) فهم الذين يدخلون النار ثم يخرجون منها، وإن كانت بمعنى الوقت فهو مدة احتباسهم في البرزخ والموقف. انظر: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ص243.

خلق أفعال العباد للبخاري (ضمن عقائد السلف للنشار وطالبي ص121 - 122) .

(2)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، ومسلم في صحيحه 4/2189 كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء.

(3)

أبو سعيد الخدري: سعد بن مالك بن سنان الخدري الخزرجي الأنصاري، اشتهر بكنيته، واستصغره النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، ثم غزا ما بعدها، من المكثرين في الرواية والحفظ، من أفاضل الصحابة، ت سنة 74هـ وقيل غير ذلك.

انظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء للذهبي 3/168، الإصابة لابن حجر 2/35.

ص: 221

هذا الموت.

ثم يقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا، فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح، قال: ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] » (1) .

وقال عليه الصلاة والسلام: «ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً» (2) .

وأما مناقشة الجهمية في عدم فناء النار وذكر الأدلة على عدم فنائها فسيأتي في فصل مستقل - إن شاء الله -.

ويناقش الإمام ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله مذهب أبي الهذيل العلاف (ت - 235هـ) الذي يقضي بفناء حركات أهل الدارين، الجنة والنار في نونيته المشهورة، مبتدئاً بذكر مذهبهم ثم مناقشته قائلاً:

قال الفناء يكون في الحركات لا

في الذات واعجباً لذا الهذيان

أيصير أهل الخلد في جناتهم

وجحيمهم كحجارة البنيان

ما حال من قد كان يغشى أهله

عند انقضاء تحرك الحيوان

وكذاك ما حال الذي رفعت يدا

هـ أُكلة من صحفة وخِوَان (3)

فتناهت الحركات قبل وصولها

للفم عند تفتح الأسنان

وكذاك ما حال الذي امتدت يد

منه إلى قنو (4) من القنوان

(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} ، ومسلم في صحيحه 4/2188 كتاب الجنة، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء. واللفظ له.

(2)

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 4/2182 كتاب الجنة، باب في صفات الجنة وأهلها، والترمذي في سننه 5/374 كتاب التفسير، باب ومن سورة الزمر، وأحمد في مسنده 2/319 من حديث أبي هريرة وأبي سعيد.

(3)

الخوان: المائدة التي يؤكل عليها، معربة، وجمعها أخونة في القليل، وكثيراً ما تجمع على خُون. انظر: لسان العرب لابن منظور 13/146 مادة (خون) .

(4)

القنو: العِذق بما فيه من الرطب، وجمعه: قِنوان، وأقنان، وقِنيان.

انظر: لسان العرب لابن منظور 15/204 مادة (قنا) .

ص: 222

فتناهت الحركات قبل الأخذ هل

يبقى كذلك سائر الأزمان

تباً لهاتيك العقول فإنها

والله قد مسخت على الأبدان

تباً لمن أضحى يقدمها على الـ

آثار والأخبار والقرآن (1)

وقالت أكثر فرق المتكلمين بامتناع حوادث لا أول لها أي امتناع تسلسل الحوادث المتعاقبة في الماضي: وعمدتهم في نفي تسلسل الحوادث الماضية هو دليل (التطبيق)(2)، وصورته: أننا لو افترضنا سلسلتين غير متناهيتين، إحداهما تزيد عن الأخرى، بأن نفرض أن الأولى بدأت من هذه السنة إلى غير بداية في الماضي، وأن الثانية بدأت من العام الماضي، إلى غير بداية في الماضي أيضاً، ثم نطابق بين هاتين السلسلتين، بأن نأخذ الحلقة الأولى من السلسلة الأولى، ونطبقها على الحلقة الثانية من السلسلة الثانية ثم نأخذ الحلقة الثانية من السلسلة الأولى، ونطبقها على الحلقة الثانية من السلسلة الثانية وهكذا، نطبق الثالثة بالثالثة، والرابعة بالرابعة، والخامسة بالخامسة، وهلم جراً، ذاهبين بالتطبيق نحو الماضي.

حينئذٍ لا يخلو الأمر: إما أن يستمر التطبيق إلى غير نهاية، فيترتب على ذلك مساواة الزائد للناقص، وهذا ظاهر البطلان، أو تنتهي الناقصة، فيلزم أيضاً انتهاء الزائدة؛ لأنها قد زادت عليها بقدر متناهي، والزائد بالمتناهي متناهي. وبذلك ينقطع التسلسل، وهو المطلوب إثباته (3) .

ويوضح ابن تيمية هذا الدليل ويلخصه بقوله: (إذا فرضنا الحوادث من الطوفان والحوادث من الهجرة، وطبقنا بينهما، فإن تساويا لزم أن يكون الزائد كالناقص وهو محال.

(1) انظر: الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (النونية) لابن القيم (ضمن شرحها للهراس 1/36 - 37) .

(2)

ويطلق عليه دليل القطع، والموازاة، والمسامتة، انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/303، شرح المقاصد للتفتازاني 2/120.

(3)

انظره على وجه التقريب: المواقف في علم الكلام للإيجي ص246، علم التوحيد عند خُلّص المتكلمين لعبد الحميد عز العرب ص140.

ص: 223

وإن تفاضلا لزم فيما لا يتناهى أن يكون بعضه أزيد من بعض. قالوا: وهذا محال) (1) .

وأجيب عن دليلهم بعدة أجوبة منها:

1 -

أنا لا نسلم إمكان التطبيق مع التفاضل، وإنما يمكن التطبيق بين المتماثلين لا بين المتفاضلين (2) .

2 -

جواز وقوع التفاضل الذي منعوه وأحالوه، ذلك أن الحوادث من الطوفان إلى ما لا نهاية له في المستقبل أعظم من الحوادث من الهجرة إلى ما لا نهاية له في المستقبل، والعكس فإن من الهجرة إلى ما لا بداية له في الماضي، أعظم من الطوفان إلى ما لا بداية له في الماضي، وإن كان كل منهما لا بداية له، فإن ما لا نهاية له من هذا الطرف وهذا الطرف ليس محصوراً محدوداً موجوداً حتى يقال هما متماثلان في المقدار، فكيف يكون أحدهما أكثر؟ (3) .

3 -

أن الاشتراك في عدم التناهي لا يقتضي التساوي في المقدار إلا إذا كان كل ما يقال عليه إنه لا يتناهى له قدر محدود، وهذا باطل (4) .

4 -

أن التطبيق إنما يمكن في الموجود، أما التطبيق في المعدوم فممتنع، كما في تطبيق مراتب الأعداد من الواحد إلى ما لا يتناهى، فإنا نعلم أن عدد تضعيف الواحد أقل من عدد تضعيف العشرة، وعدد تضعيف العشرة أقل من عدد تضعيف المائة، وعدد تضعيف المائة أقل من عدد تضعيف الألف والجميع لا يتناهى.

(1) الصفدية 2/32، ويكرر ابن تيمية المثال نفسه على دليل التطبيق في عامة كتبه مثل منهاج السنة النبوية 1/432، درء تعارض العقل والنقل 1/304.

(2)

انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/304.

(3)

انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/432 - 433، درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/304.

(4)

انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/433.

ص: 224

وهذه الحجة من جنس مقابلة دورات أحد الكوكبين بدورات الآخر، لكن هناك الدورات وجدت وعدمت، وهنا قُدرت الأزمنة والحركات الماضية ناقصة وزائدة (1) .

5 -

أنه يمكن أن يقال: إن دليل التطبيق شامل للماضي والمستقبل فيما لا يتناهى على حد سواء، والإشكال في الحوادث من الهجرة، ومن الطوفان إلى ما لا يتناهى: هل هما متفاضلان؟ أم متماثلان؟

فإن تماثلا فهو محال؛ لأن أحدهما أزيد من الآخر.

وإن تفاضلا فهو محال؛ لأن التفاضل في ما لا يتناهى محال.

ويورد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إشكالاً على لسانهم في نقاش هذه الحجة فيقول: (فإن قيل: هذا تقدير التفاضل والتماثل في ما لم يكن بعد)(2)، ويجيب عنه بقوله:(قيل: نعم، لكن تقدير التفاضل والتماثل بتقدير وجوده لا في حال كونه معدوماً، كما أن الماضي قَدرتم فيه التماثل والتفاضل بعد عدمه لا في حال وجوده، لكن قدرتم تلك الحوادث الماضية التي عدمت كأنها موجودة، ففي كلا الموضعين إنما هو تقدير التفاضل والتماثل في ما هو معدوم. فإن صح في أحد الموضعين، صح في الآخر، وإن امتنع في أحدهما امتنع في الآخر)(3) .

6 -

يقال لهم أيضاً: لا نسلم إمكان التطبيق، فإنه إذا كان كلاهما لا بداية له، وأحدهما انتهى أمس، والآخر انتهى اليوم، كان تطبيق الحوادث إلى اليوم على الحوادث إلى الأمس ممتنعاً لذاته، فإن الحوادث إلى اليوم أكثر، فكيف تكون إحداهما مطابقة للأخرى؟

(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/304، 2/367، منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/433.

(2)

الرد على من قال بفناء الجنة والنار لابن تيمية ص48.

(3)

انظر: الرد على من قال بفناء الجنة والنار لابن تيمية ص48.

ص: 225

فلما كان التطبيق ممتنعاً جاز أن يلزمه حكم ممتنع (1) .

7 -

أن يقال: كون الشيء ماضياً ومستقبلاً أمر إضافي بالنسبة إلى المتكلم المخبر، فما مضى قبل كلامه كان ماضياً، وما يكون بعده يكون مستقبلاً، وبنسبة أحدهما إلى الآخر: فالماضي ماض على ما يستقبل، والمستقبل مستقبلٌ لما قد مضى، وما من ماضٍ إلا وقد كان مستقبلاً، وما من مستقبل إلا وسيصير ماضياً، فليس ذلك فرقاً يعود إلى صفات النوعين حتى يقال: إن أحدهما ممكن، والآخر ممتنع، بل هذا الماضي كان مستقبلاً، وهذا المستقبل يصير ماضياً، فتتصف كل الحوادث بالمضي والاستقبال، فلم يكن في ذلك ما هو لازم للنوعين يوجب الفرق بينهما (2) .

ويذكر أبو المعالي الجويني (ت - 478هـ) مثالاً يوضح قول المفرقين بين الماضي والمستقبل في التسلسل فيقول: (وضرب المحصلون مثالين في الوجهين، فقالوا: مثال إثبات حوادث لا أول لها قول القائل لمن يخاطبه: لا أعطيك درهماً إلا وأعطيك قبله ديناراً، ولا أعطيك ديناراً إلا وأعطيك قبله درهماً، فلا يتصور أن يعطي على حكم شرطه ديناراً ولا درهماً)(3) .

ثم يقول: (ومثال ما ألزمونا أن يقول القائل: لا أعطيك ديناراً إلا وأعطيك بعده درهماً، ولا أعطيك درهماً إلا وأعطيك بعده ديناراً

) (4) .

ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن القياس العقلي الذي اعتمدوا عليه في أصل أصول الدين عندهم الذي يبنون عليه نفي أفعال الرب وصفاته أن ذلك قياس باطل من وجوه:

أ - أن قوله: (لا أعطيك حتى أعطيك) نفي للمضارع المستقبل إذا وجد

(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 2/367 - 368.

(2)

انظر: الرد على من قال بفناء الجنة والنار لابن تيمية ص49.

(3)

الإرشاد إلى قواطع أدلة الاعتقاد ص47.

(4)

الإرشاد إلى قواطع أدلة الاعتقاد ص47.

ص: 226

قبله ماض، وحق القياس الصحيح أن يقال:(ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله ديناراً، ولا أعطيتك دينار (1) إلا أعطيتك قبله درهماً) فهذا إخبار أن كل ماض من الدراهم كان قبله دينار، وكل دينار كان قبله درهم، وهذا مثل الحوادث الماضية التي قبل كل حادث منها حادث (2) .

ب - وأما قوله: (لا أعطيك درهماً إلا أعطيتك بعده ديناراً، أو لا أعطيك ديناراً إلا وبعده درهم) فهذا مثل الحوادث في المستقبل وهو ما يقرون به، حيث يكون بعد كل حادث منها حادث، فإن أمكن أن يصدق في قوله في المستقبل، أمكن أن يصدق في قوله في الماضي، وعكسه بعكسه؛ لأن العقل لا يفرق بين هذا وهذا، ولكنه يفرق بين قوله:(لا أعطيك حتى أعطيك) وبين قوله: (ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك)(3) .

جـ - أن قوله: (لا أعطيك حتى أعطيك)، مثل قوله:(ما أعطيتك حتى أعطيتك) ، فالأول نفي المستقبل حتى يوجد المستقبل، والثاني نفي الماضي حتى يوجد الماضي، وكلاهما ممتنع، فإنه نفي للشيء حتى يوجد الشيء.

وحقيقته: الجمع بين النقيضين، إذ يجعل الشيء موجوداً معدوماً.

بخلاف قوله: (ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله، ولا أعطيك إلا وأعطيك بعده) فإنه إثبات بعد كل عطاء عطاء، وقبل كل عطاء عطاء، إذ هذا المثال يتضمن إثبات بعد كل حادث مستقبل حادث مستقبل، وقبل كل حادث ماض حادث ماض، وبهذا يتبين الفرق بين المثال الأخير وبين المثالين اللذين قبله (4)، ولا يصح الاستدلال على منع الحوادث المتعاقبة في الماضي بقول الله عز وجل:{وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] أو قوله سبحانه وتعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ

(1) هكذا في المطبوعة والصواب: ديناراً.

(2)

انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 9/186.

(3)

انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 2/358 - 359، 9/186 - 187.

(4)

انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 9/187.

ص: 227

شَيْءٍ عَدَداً} [الجن: 28] ؛ لأن الباري عز وجل قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (1) رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء» (2)

وأما قوله سبحانه وتعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] ، فهذا يدل على أن الله قد أحصى وكتب ما يكون قبل أن يكون إلى أجل محدود، فإن الله عز وجل قد أحصى المستقبل المعدوم الذي لم يوجد بعد، كما أحصى الماضي الذي وجد ثم عدم، ولفظ الإحصاء لا يفرق بين الماضي والمستقبل (3) .

ولما كان لازم قول المتكلمين في التسلسل: الترجيح بلا مرجح؛ لأنهم يرون أن الله كان معطلاً عن الفعل ثم فعل من غير تجدد أمر لهذا الحدوث، قالوا بعد ذلك: إن المرجح هو الإرادة القديمة، والإرادة لا تحتاج إلى تخصيص، وأن الله قادر على الفعل في الأزل لكنه لم يفعل ولا ينبغي له أن يفعل (4) ، وقد قالوا ذلك هروباً من القول بقدم العالم الذي تقول به الفلاسفة، إذ فهموا أن القول بإمكان تسلسل الحوادث من الماضي إلى ما لا نهاية يستلزم

(1) عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي، أبو محمد، لم يكن بين مولده ومولد أبيه إلا اثنتا عشرة سنة، كان مواظباً على قيام الليل وصيام النهار، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، عمي في آخر عمره، ت سنة 65هـ وقيل غير ذلك.

انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 2/346، الإصابة لابن حجر 2/351.

(2)

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 4/2044 كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى، والبغوي في شرح السنة 1/123.

(3)

انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/124.

(4)

انظر: تهافت الفلاسفة للغزالي ص96 - 103، المواقف للإيجي ص148 - 156، شرح المقاصد للتفتازاني 2/237 - 352.

ص: 228

قول الفلاسفة، وليس ذلك لازماً (1) .

ومن المعلوم أن القول بترجيح الممكن من عدمه بلا مرجح يقتضي ذلك، باطل في بديهة العقل، وهذا مناقض لما يستدل به المتكلمون أنفسهم على قدم الصانع، وحدوث العالم من أن المحدَث لا بد له من محدث، وذلك يستلزم أن ترجيح الحدوث على العدم لا بد له من مرجح، ولا بد أن يكون المحدث المرجح قد حدث منه ما يستلزم وجود المحدث، وكل ما أمكن حدوثه إن لم يحصل ما يستلزم حدوثه لم يحصل (2) .

ويلزم من قول المتكلمين لوازم فاسدة منها:

1 -

أن الله عز وجل لم يزل معطلاً عن الفعل: إما أن يكون غير قادر على الفعل ثم صار قادراً عليه من غير تجدد سبب يوجب له القدرة على الفعل.

وإما أن يكون الفعل ممتنعاً في الأزل ثم صار ممكناً من غير سبب اقتضى إمكانه، وهذا يستلزم الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي.

2 -

وصف الله بالعجز والتعطل عن الفعل مدة لا تقاس بها مدة فاعليته، وهذا نقص يجب تنزيه الله عنه.

3 -

أن الحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً فلا بد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، فما من وقت يقدّر إلا والإمكان ثابت قبله، فليس لإمكان الفعل وصحته مبدأ ينتهي إليه فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً فيلزم جواز حوادث لا نهاية لها (3) .

(1) انظر: شرح حديث عمران بن الحصين (ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/222 - 223) .

(2)

انظر: المسألة المصرية في القرآن (ضمن مجموع الفتاوى لابن تيمية 12/215 - 216) .

(3)

انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/156، 161 - 162، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 1/111، شرح النونية لهراس 1/35.

ص: 229

وأما القول بأن الإرادة لذاتها هي التي تقتضي التخصيص فهو قول باطل؛ ذلك أن الإرادة التي يعرفها الناس من أنفسهم لا توجب ترجيحاً إلا بمرجح، والإرادة إذا استوت نسبتها إلى جميع المرادات وأوقاتها وصفاتها وأشكالها، كان ترجيح الإرادة لمثلٍ على مثل ترجيحاً من غير مرجح، وهذا ممتنع لمن تصوره.

ويقال لهم أيضاً: إن إرادة الإنسان أحد الشيئين ليست هي إرادته للآخر، سواء ماثله أو خالفه، فضلاً عن أن تكون إرادة واحدة نسبتها إلى المثلين سواء، وهي ترجح أحدهما بلا مرجح.

والقادر المختار ذو القدرة التامة هو الذي إذا أراد الفعل إرادة جازمة: لزم من ذلك وجود الفعل، وصار واجباً بغيره لا بنفسه، كما قال المسلمون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وما شاءهُ سبحانه فهو قادر عليه، فإذا شاء شيئاً حصل مراداً له - وهو مقدور عليه - فيلزم وجوده.

وما لم يشأ لم يكن، فإنه لم يرده - وإن كان قادراً عليه - لم يحصل المقتضى التام لوجوده فلا يجوز وجوده (1) .

ويستدل أهل السنة على هذا بقوله سبحانه وتعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 15 - 16]، وأن هذه الآية تدل على أمور:

1 -

أنه تعالى يفعل بإرادته ومشيئته.

2 -

أنه لم يزل كذلك، فقد ساق الله ذلك في معرض الثناء، وعدم فعله لما يريد في وقت من الأوقات نقص من ذلك الكمال وقد قال عز وجل {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} :[النحل: 17] .

3 -

أنه إذا أراد أي شيء فإنه يفعله؛ لأن (ما) موصولة عامة أي: يفعل كل ما يريد أن يفعله.

(1) انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/163، الصفدية لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/144 - 147، 2/105 - 107.

ص: 230

4 -

أن فعله وإرادته متلازمان، فما أراد أن يفعله فعله، وما فعله فقد أراده، بخلاف المخلوق فإنه يريد ما لا يفعل، وقد يفعل ما لا يريد، فما ثم فعال لما يريد إلا الله وحده.

5 -

إثبات إرادات متعددة بحسب الأفعال، وأن كل فعل له إرادة تخصه، فشأنه سبحانه أنه يريد على الدوام، ويفعل ما يريد.

6 -

أن كل ما صح أن تتعلق به إرادته، جاز أن يفعله، فإذا أراد أن ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وأن يجيء يوم القيامة لفصل القضاء، وأن يري عباده المؤمنين نفسه لم يمتنع عليه فعله فهو الفعال لما يريد، وإنما تتوقف صحة ذلك على إخبار الصادق به (1) .

وبعد مناقشات طويلة من قبل شيخ الإسلام رحمه الله تجاه القائلين بامتناع حوادث لا أول لها يأتي حكمه رحمه الله على هذه الطريقة بقوله: (وامتناع حوادث لا أول لها، طريقة مبتدعة في الشرع باتفاق أهل العلم بالسنة، وطريقة مخطرة مخوفة في العقل، بل مذمومة عند طوائف كثيرة، وإن لم يعلم بطلانها لكثرة مقدماتها وخفائها

وهي طريق باطلة في الشرع والعقل عند محققي الأئمة، العالمين بحقائق المعقول والمسموع) (2) .

ومما له صلة بموضوع التسلسل في الآثار، مسألة (التأثير)، فالخلاف في هذه المسألة مرتبط بالخلاف في موضع تسلسل الآثار:

ويرى شيح الإسلام رحمه الله أن لفظ (التأثير) لفظ مجمل لا يصح الحكم عليه بصحة أو خطأ قبل الاستفصال؛ لأن عامة اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء: فالتأثير في حق الله يراد به التأثير في كل ما سواه؛ وهو إبداعه لكل ما سواه. ويراد به التأثير في شيء معين وهو خلقه لذلك المعين، ويراد به مطلق التأثير وهو كونه مؤثراً في شيء ما.

(1) انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 1/110 - 111.

(2)

منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/303 - 304.

ص: 231

فإن أريد بالتأثير التام: إبداعه لكل شيء في الأزل فهذا ممتنع بضرورة الحس والعقل، فإن الحوادث مشهودة، وأيضاً فكون الشيء مبدعاً أزلياً ممتنع.

وإن أريد به التأثير في شيء معين: فمعلوم أن هذا التأثير حادث بحدوث أثره، فإحداث الأثر المعين لا يكون إلا حادثاً.

وإن أريد بالتأثير مطلق الفعل وهو كونه فاعلاً في الجملة، فهذا يوجب أنه لم يزل موصوفاً بمطلق الفاعلية (1) .

وقد اختلف الناس في مقارنة التأثير للمؤثر على حسب اختلافهم في التسلسل على ثلاثة أقوال:

القول الأول: يجب أن يقارن الأثر للمؤثر ولتأثيره، بحيث لا يتأخر الأثر عن التأثير في الزمان، وهذا قول الفلاسفة بناء على قولهم بقدم العالم، وقدم الحوادث مع محدثها، ويلزم من قولهم لوازم:

1 -

أن لا يحدث حادث بعد الحادث الأول إلا ويفتقر إلى علة تامة مقارنة له، فيلزم تسلسل علل، أو تمام علل ومعلولات في آن واحد، وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء.

2 -

أن لا يحدث في العالم شيء؛ فإن العلة التامة إذا كانت تستلزم مقارنة معلولها في الزمان، وكان الرب علة تامة في الأزل لزم أن يقارنه كل معلول وكل ما سواه معلول له: إما بواسطة، وإما بغير واسطة.

فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء.

القول الثاني: يجب تراخي الأثر عن المؤثر التام، كما يقوله أكثر أهل الكلام بناء على قولهم بامتناع تسلسل الحوادث في الماضي، ويلزم من قولهم أن يصير المؤثر مؤثراً تاماً بعد أن لم يكن مؤثراً تاماً، بدون سبب حادث، أو أن الحوادث تحدث بدون مؤثر تام، وأن الممكن يرجح وجوده على عدمه بدون المرجح التام.

القول الثالث: أن المؤثر التام يستلزم وجود أثره عقبه، لا معه في الزمان،

(1) انظر: الصفدية لابن تيمية 1/53، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 8/389.

ص: 232

ولا متراخياً عنه، وهذا قول أهل السنة استناداً إلى قولهم بجواز تسلسل الحوادث في الماضي، لكنهم لا يقولون بقدم شيء من المحدثات المخلوقات.

وقد استدلوا بقول الله عز وجل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وعلى هذا فيلزم حدوث كل ما سوى الرب؛ لأنه مسبوق بوجود التأثير، ليس زمنه زمن التأثير كما تقول الفلاسفة، ولا متراخياً عنه بحيث يعطل الرب عن الفعل فترة كما تقوله المتكلمة، ولهذا يقال: طلقتُ المرأة فطلقت، وأعتقتُ العبد فعتق، وكسرتُ الإناء فانكسر، فالطلاق والعتق والانكسار عقب التطليق والإعتاق والكسر. لا يقترن به، ولا يتأخر عنه (1) .

وبعد هذه الجولة السريعة في مبحث التسلسل: يتبين لنا أن التسلسل عند أهل السنة والجماعة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: تسلسل واجب، وتسلسل ممكن، وتسلسل ممتنع:

فأما التسلسل الواجب فهو: ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الله تعالى في الأبد، وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له، وكذلك عذاب أهل النار.

وكذلك التسلسل في أفعاله - سبحانه - من جهة الأولية والأزل، وأن كل فعل له - سبحانه - فهو مسبوق بفعل آخر قبله.

وأما التسلسل الممكن: فهو في مفعولاته في طرف الأزل كما تتسلسل في طرف الأبد، فإن الله إذا لم يزل حيّاً قادراً مريداً متكلماً - وذلك من لوازم ذاته - فالفعل ممكن له بوجوب هذه الصفات له.

وأما التسلسل الممتنع فهو مثل التسلسل في المؤثرين وهو أن يكون مؤثرون كثر، كل واحد منهم استفاد تأثيره ممن قبله لا إلى غاية (2) .

(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 3/62 - 64، 67 - 68، 4/290 - 295، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/277 - 278.

(2)

انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 1/107.

ص: 233