المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى - دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية - عرض ونقد

[عبد الله بن صالح الغصن]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أسباب اختيار البحث:

- ‌خطة البحث:

- ‌ منهج في كتابة البحث

- ‌[شكر وتقدير]

- ‌[التمهيد]

- ‌ترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

- ‌1 - اسمه ونسبه:

- ‌2 - مولده ونشأته:

- ‌3 - عصره:

- ‌أولاً: الناحية السياسية:

- ‌ثانياً: الناحية الاجتماعية:

- ‌ثالثاً: الناحية العلمية:

- ‌4 - محن الشيخ:

- ‌5 - وفاته رحمه الله:

- ‌6 - مؤلفاته:

- ‌7 - بعض ثناء الناس عليه:

- ‌منهج شيخ الإسلام في تقرير العقيدة والاستدلال عليها:

- ‌الفصل الأول: المناوئون لشيخ الإسلام، ودعاواهم حول منهجه

- ‌المبحث الأول: المناوئون لشيخ الإسلام

- ‌المطلب الأول: أقسام المناوئين

- ‌المطلب الثانيالمنهج العام للمناوئين

- ‌المطلب الثالثاعتراف خصومه بقدره

- ‌المبحث الثانيدعاوى المناوئين حول منهج شيخ الإسلام ابن تيمية ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعاوى المناوئين حول منهج شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌المطلب الثانيمناقشة دعاوى المناوئين حول منهج ابن تيمية

- ‌الفصل الثانيدعوى التجسيم والتشبيه

- ‌المبحث الأول:قول أهل السنة في مسألة التجسيم والتشبيه

- ‌المطلب الأول: التعريف بالمشبهة

- ‌المطلب الثانياعتقاد السلف نفي التمثيل والتشبيه

- ‌المطلب الثالثرد السلف دعوى أن الإثبات يستلزم التشبيه

- ‌المبحث الثانيدعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام مجسم ومشبه

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام أخذ التشبيه ممن قبله

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى قوله بالجهة والتحيز ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى قوله بالجهة والتحيز

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الثالث: دعوى القول بقدم العالم

- ‌المبحث الأولمعتقد أهل السنة في إمكان حوادث لا أول لها

- ‌المطلب الأولالتسلسل: تعريفه، أقسامه، حكم كل قسم

- ‌المطلب الثانيالصفات الاختيارية

- ‌المطلب الثالثشرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه

- ‌المبحث الثانيدعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لهايستلزم القول بقدم العالم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لها يستلزم القول بقدم العالم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الرابعدعوى نهي ابن تيمية عن زيارة القبور

- ‌المبحث الأولعقيدة أهل السنة في زيارة القبور وشد الرحل إليها

- ‌المبحث الثانيالزعم أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور ومناقشته

- ‌المطلب الأولالزعم بأن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور

- ‌المطلب الثانيمناقشة دعوى أن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام ينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقشتها

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الخامسدعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياءوقبور غيرهم ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن ابن تيمية يساوي في المنزلة بين قبور الأنبياءوقبور غيرهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل الخامسمسألة التوسل

- ‌المبحث الأول: عقيدة أهل السنة والجماعة في التوسل

- ‌المبحث الثانيدعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين،وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى جواز التوسل بالأنبياء والصالحين،وأن شيخ الإسلام يحرم ذلك

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدمجواز التوسل بالنبي، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام هو الذي ابتدع القول بعدم جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين،وإهانته لهم، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى بغض شيخ الإسلام الأنبياء والصالحين، وإهانته لهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل السادسموقف شيخ الإسلام من الصحابة

- ‌المبحث الأولعقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة

- ‌المبحث الثانيدعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهمالأئمة الخلفاء الأربعة، ومناقشتها

- ‌المطلب الأول دعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهم الأئمة الخلفاء الأربعة

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الثالثدعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت،وتعمية مناقبهم، ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت، وتعمية مناقبهم

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌المبحث الرابعدعوى رد الأحاديث الصحيحة في مقام المبالغةفي توهين كلام الشيعة ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى رد الأحاديث الصحيحةفي مقام المبالغة في توهين كلام الشيعة

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الفصل السابعمسألة دوام النار

- ‌المبحث الأولدلالة نصوص الكتاب والسنة على خلود النار

- ‌المبحث الثانيدعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار ومناقشتها

- ‌المطلب الأولدعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار

- ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌المطلب الثانيمناقشة الدعوى

‌المطلب الثاني

مناقشة الدعوى

يقف ابن تيمية رحمه الله كغيره من أئمة السلف موقف الوسط في إثبات الصفات بين المعطلة النفاة من جهة، وبين المثبتة الغلاة الذين شبهوا الله بخلقه من جهة.

وقد بينت - سابقاً - موقفه من النفاة، وسأبين الآن موقفه من المشبهة وهو - كسابقه - موقف الرد والمعارضة والتخطئة (1) ، وإن كان يرى أن من يثبت بعض الصفات كالكلابية (2) ،

والأشاعرة، ومن يغلو في الإثبات كالكرامية أصح طريقاً وأخف خطأ من المعطلة، ولهذا يضع رحمه الله قاعدة مهمة في الموازنة بين الفرق فيقول:

(ولهذا كان المتكلمة الصفاتية كابن كلاب، والأشعري، وابن كرام خيراً وأصح طريقاً في العقليات والسمعيات من المعتزلة، والمعتزلة خيراً وأصح طريقاً في العقليات والسمعيات من المتفلسفة (3) ، وإن كان في قول كل من

(1) انظر: شرح حديث النزول ص250، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/144.

(2)

الكلابية: أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كُلاب القطان البصري (ت 240هـ)، ومن أقوالهم: إن الإيمان لا يتفاضل ولا يزيد ولا ينقص، وأن القرآن معنى قائم بالنفس لا يتعلق بالمشيئة والقدرة، ولابن كلاب مناظرات قوية مع المعتزلة.

انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري 1/249 - 252، الفصل لابن حزم 4/208.

(3)

الفلاسفة: هم المنتسبون إلى الفلسفة، وهي كلمة يونانية بمعنى محبة الحكمة، وأكثر الفلاسفة لا يقرون بالخالق، ولا بالنبوات، ولا بالبعث، ويقولون بقدم العالم، ومنهم من يقر ببعضها.

انظر: الملل والنحل للشهرستاني تحقيق بدران 2/62 - 64، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص126 - 129، آداب الفلاسفة لحنين بن إسحاق 37 - 45، المدخل إلى معاني الفلسفة لعرفان عبد الحميد 11 - 74، المدرسة الفلسفية في الإسلام للفيومي 143 - 194.

ص: 165

هؤلاء ما ينكر عليه، وما خالف فيه العقل والسمع) (1) .

ثم يقول: (ولكن من كان أكثر صواباً، وأقوم قيلاً كان أحق بأن يقدم على من هو دونه تنزيلاً وتفصيلاً)(2) .

ويبين أن قول أهل التعطيل أعظم من قول أهل التجسيم، ولذلك اعتنت الكتب الإلهية بمناقشة شبه أهل التعطيل أكثر من عنايتها بالرد على شبه أهل التجسيم فقال:

(وقول المعطلة لما كان أبعد عن الحق من قول المجسمة، كانت حجج أهل التعطيل أضعف من حجج أهل التجسيم.

ولما كان مرض التعطيل أعظم؛ كانت عناية الكتب الإلهية بالرد على أهل التعطيل أعظم، وكانت الكتب الإلهية قد جاءت بإثبات صفات الكمال على وجه التفصيل) (3) .

وفي مقام رده رحمه الله على الممثلة أوضح مباينة الخالق للمخلوق، وأن صفاته لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق سبحانه وتعالى عما يقول المشبهة علواً كبيراً (4) .

وذكر أقسام الممثلة، حين مناقشته لهم في مسألة نزول البارئ عز وجل وبين ضلالهم (5) .

وذكر أنهم يعبدون صنماً، والمعطلة تعبد عدماً (6) .

(1) شرح العقيدة الأصفهانية ص55.

(2)

شرح العقيدة الأصفهانية ص55.

(3)

درء تعارض العقل والنقل 6/348.

(4)

انظر: شرح العقيدة الأصفهانية ص30.

(5)

انظر: شرح حديث النزول ص331.

(6)

انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/406.

ص: 166

واستعاذ بالله من تشبيه المجسمة (1) .

وأما غلاة المجسمة فقد حكم رحمه الله كغيره من السلف بكفرهم (2) .

وناقش رحمه الله، الأحاديث التي يستدل بها المشبهة مثل ما ينسبونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قوله:(إن الله خلق خيلاً فأجراها، فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق)(3) .

وحديث نزول الرب عشية عرفة إلى الموقف على جمل أورق، ومصافحته للركبان، ومعانقته المشاة (4) . وغيرها.

وبين أن هذه الأحاديث موضوعة مكذوبة فقال عنها رحمه الله:

(هي أحاديث مكذوبة موضوعة باتفاق أهل العلم، فلا يجوز لأحد أن يُدخل هذا وأمثاله في الأدلة الشرعية)(5) .

وذكر عن حديث عرق الخيل أنه: كذبه بعض الناس على أصحاب حماد بن سلمة (ت - 167هـ) وقالوا: إنه كذبه بعض أهل البدع، واتهموا بوضعه محمد بن شجاع الثلجي (6) .

(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 16/404، وانظر للاستزادة: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/71، 2/143، الصفدية 2/11، منهاج السنة النبوية 2/103، 111، درء تعارض العقل والنقل 1/249، 2/32، 5/83، 7/111.

(2)

انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/451، 453، 454، 456، درء تعارض العقل والنقل 1/94 - 95.

(3)

حديث موضوع، انظر: تنزيه الشريعة المرفوعة للكتاني 1/134.

(4)

حديث موضوع مفترى كما قال العجلوني في كشف الخفاء 1/436، وانظر: الفوائد المجموعة للشوكاني 447.

(5)

درء تعارض العقل والنقل 1/149، وانظره أيضاً: 5/225، 7/92، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/454، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/145، 6/397 - 398، الحموية 66.

(6)

الثلجي: محمد بن شجاع الثلجي البغدادي، أبو عبد الله، فقيه العراق في وقته، ومن أصحاب أبي حنيفة، مال إلى الاعتزال، وناقشه الدارمي في رده على المريسي، وأبو يعلى في إبطال التأويلات، كان يضع الحديث، ت سنة 266هـ.

انظر في ترجمته: ميزان الاعتدال 3/577، تهذيب التهذيب لابن حجر 9/220، الجواهر المضية للقرشي 3/173.

ص: 167

وقالوا: إنه وضعه ورمى به بعض أهل الحديث؛ ليقال عنهم إنهم يروون مثل هذا (1) .

هذا عن موقفه رحمه الله من مسلك التمثيل والتجسيم على وجه العموم.

موقفه من اليهود:

أما عن موقفه من اليهود وما زعمه مناوئوه، من صلته بهم، وتأثره بمنهجهم، وخاصة في مسلك تشبيه الخالق بالمخلوق:

فقد أثبت رحمه الله ما أثبته القرآن، من أن عداوة اليهود للمسلمين أشد من عداوة النصارى، استناداً لقول الحق تبارك وتعالى:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82] .

وذكر أن الله وصف اليهود بالكبر والبخل والجبن، والقسوة وكتمان العلم وسلوك سبيل الغي وهو سبيل الشهوات والعدوان (2) .

وركز على بيان أن اليهود يشبّهون الخالق بالمخلوق في صفات النقص، كما أن النصارى يشبّهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال.

فقال: (اليهود يشبهون الخالق بالمخلوق في صفات النقص المختصة بالمخلوق التي يجب تنزيه الرب - سبحانه - عنها، كقول من قال منهم: إنه فقير وإنه بخيل، وإنه تعب لما خلق السموات والأرض، والنصارى يشبّهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال المختصة بالخالق التي ليس له فيها مثل، كقولهم: إن المسيح هو الله، وابن الله)(3) .

(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/148.

(2)

انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 3/109، 167.

(3)

انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 3/100، وانظر: 2/140، درء تعارض العقل والنقل 7/95.

ص: 168

وقد ارتضى شيخ الإسلام رحمه الله قول السلف في غلاة المجسمة أنهم كفار، وبين أن اليهود من غلاة المجسمة إذ يقول:

(ومن غلاة المجسمة اليهود، من يحكى عنه أنه قال: إن الله بكى على الطوفان حتى رمد، وعادته الملائكة، وأنه ندم حتى عض يده وجرى منه الدم)(1) .

وذكر أن هذا كفر واضح صريح (2) .

وأجاب رحمه الله عن ما حكاه القرآن عن اليهود بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]، فقال:

(اليهود أرادوا بقولهم: يد الله مغلولة: أنه بخيل، فكذبهم الله في ذلك، وبيّن أنه جواد لا يبخل، فأخبر أن يديه مبسوطتان، كما قال:

{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء: 29] .

فبسط اليدين المراد به الجود والعطاء، ليس المراد ما توهموه من بسط مجرد.

ولما كان العطاء باليد يكون ببسطها صار من المعروف في اللغة: التعبير ببسط اليد عن العطاء.

فلما قالت اليهود: يد الله مغلولة، وأرادوا بذلك: أنه بخيل كذبهم الله في ذلك، وبين أنه جواد ماجد) (3) .

وبين رحمه الله أن القرآن ذم اليهود على ما وصفوه بالنقائص في مثل قول الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181](4) .

(1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/456، وانظر: درء تعارض العقل والنقل 6/348.

(2)

انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/456.

(3)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/412 - 413.

(4)

انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/418.

ص: 169

موقفه من أبي البركات:

ومن أسباب ربط معتقد ابن تيمية رحمه الله باليهود: مناقشات ابن تيمية رحمه الله لأبي البركات البغدادي (ت - 547هـ) رحمه الله، ونقله من كتابه (المعتبر في الحكمة)(1) .

وقد اشتهر بين الفلاسفة بـ (أوحد الزمان) ، كان يهودياً فأسلم وحسن إسلامه، كما قال عنه القفطي (2) :(أبو البركات: اليهودي في أكثر عمره، المهتدي في آخر أمره، أوحد الزمان طبيب فاضل)(3) .

وذكر ابن أبي أصيبعة (4) عنه بغضه لليهود بعد إسلامه فقال:

(كان يهودياً وأسلم بعد ذلك

ولم يكن يقرئ يهودياً أصلاً

وكان أوحد الزمان لما أسلم يتنصل كثيراً من اليهود ويلعنهم ويسبهم) (5) .

وبهذا يتضح إسلام أبي البركات وبغضه لليهود من جهة، وعدم صلة ابن تيمية رحمه الله باليهود، إذ مناقشاته لرجل كان يهودياً فأسلم، وصار في عداد المسلمين (6) .

(1) انظر: في نسبة هذا الكتاب لأبي البركات: إخبار العلماء للقفطي ص224، عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة ص376.

(2)

القفطي: علي بن يوسف بن إبراهيم الشيباني القفطي، أبو الحسن، كان عالماً متفنناً، جمع من الكتب شيئاً كثيراً، من مصنفاته: إخبار الحكماء بأخبار الحكماء، وإنباه الرواة على أنباه النحاة، ت سنة 646هـ.

انظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء للذهبي 23/227.

(3)

إخبار العلماء بأخبار الحكماء ص224، وانظر: معجم البلدان لياقوت الحموي 3/55، بغية الوعاة للسيوطي 2/212.

(4)

ابن أبي أصيبعة: أحمد بن القاسم بن خليفة الخزرجي، الطبيب المؤرخ، صاحب عيون الأنباء، توفي بصرخد سنة 668هـ.

انظر في ترجمته: البداية والنهاية لابن كثير 13/257، النجوم الزاهرة للأتابكي 7/229.

(5)

عيون الأنباء في طبقات الأطباء ص374، 376.

(6)

بعد أن بينت عدم صلة ابن تيمية باليهود، وأن ابن ملكا يعد في عداد المسلمين، يبقى العجب من الكوثري مستمراً - وهو ممن ألصق هذه التهمة بشيخ الإسلام - إذ هو أولى بأن يتهم بهذه التهمة، إذ حقق كتاباً لأحد اليهود اسمه (موسى بن ميمون) واسم الكتاب (المقدمات الخمس والعشرون في إثبات وجود الله ووحدانيته) ، وهذا اليهودي يذكر عنه القفطي (ت 646هـ) في إخبار العلماء ص209 - 210 (أنه أظهر الإسلام وأسر الكفر، ولما نزل بين يهود الفسطاط في مصر أظهر دينه) ، وقد اعترف الكوثري في مقدمة التحقيق بأن موسى بن ميمون يهودي، وأنه ألف كتابه تزلفاً للمسلمين، ونقل عن بعض المؤرخين: أن أبا البركات أسلم وحسن إسلامه. وبعد: فَمَن الأولى أن تلصق به تهمة الصلة باليهود: الذي يناقش المسلم في كتبه، أم الذي يحقق تراث اليهود ويخرجه للناس؟.

ص: 170

وفي مناقشات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لأبي البركات (ت - 574هـ) يظهر جلياً إنصاف شيخ الإسلام ابن تيمية له، فقد كان يقره على ما معه من الصواب، ويرد عليه ويناقشه في المواضع التي زلّ فيها:

وبادئ الأمر فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عنه أنه من أساطين الفلاسفة وأئمتهم المتأخرين (1) .

وأن أبا البركات (ت - 547هـ) أقرب إلى الحق من الفلاسفة النفاة المتقدمين فقال:

(إن ابن سينا (2) وابن رشد (3) ، وأبا البركات ونحوهم من الفلاسفة، أقرب إلى صحيح المنقول وصريح المعقول من النفاة الملحدين) (4) .

(1) انظر: منهاج السنة النبوية 1/268، الصفدية 1/54.

(2)

ابن سينا: الحسين بن عبد الله بن سينا، أبو علي، الفيلسوف المشهور، كان يقول بضلالات وكفريات كقدم العالم، ونفي المعاد الجسماني، وأن الله لا يعلم الجزئيات، وقررها في مؤلفاته، ت سنة 428هـ.

انظر في ترجمته: وفيات الأعيان لابن خلكان 1/419، لسان الميزان لابن حجر 2/291.

(3)

ابن رشد: محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي، أبو الوليد، الفيلسوف، يلقب بابن رشد الحفيد تمييزاً له عن جده، عنى بكلام أرسطو، وترجمه إلى العربية، وزاد عليه زيادات، ت سنة 595هـ.

انظر في ترجمته: عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة ص530، شذرات الذهب لابن العماد 4/320.

(4)

درء تعارض العقل والنقل 10/82.

ص: 171

وبيّن الفرق بين كلام قدماء الفلاسفة، ومتأخريهم، وبيّن السبب في قرب المتأخرين من الوحي، وضلال المتقدمين بقوله:

(كان كلام قدمائهم في العلم بالله تعالى قليلاً، كثير الخطأ، فإنما كثر كلام متأخريهم لما صاروا من أهل الملل، ودخلوا في دين المسلمين واليهود والنصارى، وسمعوا ما أخبرت به الأنبياء من أسماء الله وصفاته وملائكته وغير ذلك، فأحبوا أن يستخرجوا من أصول سلفهم ومن كلامهم، ما يكون فيه موافقة لما جاءت به الأنبياء، لما رأوا في ذلك من الحق العظيم الذي لا يمكن جحده، والذي هو أشرف المعارف وأعلاها، فصار كل منهم يتكلم بحسب اجتهاده فالفارابي (1)

لون، وابن سينا لون، وأبو البركات صاحب المعتبر لون، وابن رشد الحفيد لون والسهروردي المقتول (2) لون، وغير هؤلاء ألوان أخر) (3) .

ثم ذكر قرب أبي البركات (ت - 547هـ) من السنة بقوله: (ومن خالط أهل السنة وعلماء الحديث، كأبي البركات، وابن رشد، فكلامه لون آخر أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول من كلام ابن سينا)(4) .

ووضع قاعدة عامة في تقويم الفلاسفة وغيرهم فقال: (إن كل من كان إلى السنة وإلى طريقة الأنبياء أقرب كان كلامه في الإلهيات بالطرق العقلية أصح كما أن كلامه بالطرق النقلية أصح؛ لأن دلائل الحق وبراهينه تتعاون وتتعاضد، لا تتناقض وتتعارض)(5) .

(1) الفارابي: محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي، أبو نصر، الفيلسوف يعرف بالمعلم الثاني، تركي الأصل، ولد في فاراب، وانتقل إلى بغداد، نشأ فيها، ت سنة 339هـ.

انظر في ترجمته: إخبار الحكماء للقفطي ص277، وفيات الأعيان لابن خلكان 4/239.

(2)

السهروردي: يحيى بن الحسين بن أميرك السهروردي، أبو الفتح، عرف بفلسفته الإشراقية، قتل بحلب، سنة 578هـ.

انظر في ترجمته: وفيات الأعيان لابن خلكان 5/312، لسان الميزان لابن حجر 3/156.

(3)

درء تعارض العقل والنقل 6/247.

(4)

درء تعارض العقل والنقل 6/248.

(5)

درء تعارض العقل والنقل 6/248.

ص: 172

وعقد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مقارنة بين أبرز الفلاسفة المتأخرين، ومدى تأثير البيئة عليهم في قربهم وبعدهم من الحق فقال:

(ابن سينا نشأ بين المتكلمين النفاة للصفات، وابن رشد نشأ بين الكلابية، وأبو البركات نشأ ببغداد بين علماء السنة والحديث، فكان كل من هؤلاء بعده عن الحق بحسب بعده عن معرفة آثار الرسل، وقربه من الحق بحسب قربه من ذلك)(1) .

وجعله رحمه الله من مثبتة الصفات، وأنه أفضل من غيره من الفلاسفة الذين لا يثبتونها، وأنه أثبت علم الرب بالجزئيات، وله مقالة رد فيها على أرسطو (2)

في علم الله بالجزئيات (3) فقال:

(وأما أبو البركات صاحب المعتبر ونحوه، فكانوا بسبب عدم تقليدهم لأولئك، وسلوكهم طريقة النظر العقلي بلا تقليد، واستنارتهم بأنوار النبوات، أصلح قولاً في هذا الباب من هؤلاء وهؤلاء (4) ، فأثبت علم الرب بالجزئيات ورد على سلفه رداً جيداً، وكذلك أثبت صفات الرب وأفعاله، وبين ما بينه من خطأ سلفه، ورأى فساد قولهم في أسباب الحوادث، فعدل عن ذلك إلى أن أثبت للرب ما يقوم به من الإرادات الموجبة للحوادث) (5) .

(1) منهاج السنة النبوية 1/354، وانظر: درء تعارض العقل والنقل 9/434.

(2)

أرسطو بن نيفوماخس الفيثاغوري، أكبر فلاسفة اليونان، تتلمذ على أفلاطون، ودعي بأمير الفلسفة، والمعلم الأول، وصاحب المنطق، وهو مؤسس مذهب المشائين، ت 322 ق. م.

انظر في ترجمته: إخبار الحكماء للقفطي 120، عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة ص86، الفهرست لابن النديم ص345.

(3)

انظر: درء تعارض العقل والنقل 9/400 - 406.

(4)

يقصد ابن تيمية رحمه الله طريقة أرسطو والقدماء من الفلاسفة في إثبات العلة الأولى وهي طريق الحركة الإرادية، حركة الفلك، وأثبتوا علة غائية، وبالمقابل طريقة متأخري الفلاسفة وهي طريقة الوجود والوجوب والإمكان وطريقة التركيب.

انظر: منهاج السنة النبوية 1/347.

(5)

منهاج السنة النبوية 1/348، وانظر: في الثناء عليه أيضاً: الصفدية 1/45، منهاج السنة النبوية 1/268، درء تعارض العقل والنقل 9/419، رسالة في علم الله (ضمن جامع الرسائل 1/180) ، وفي رده على من قال بقدم العالم (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 17/288) .

ص: 173

ومع هذا الثناء عليه من قبل شيخ الإسلام رحمه الله وإنصافه له، فقد بين - أيضاً - بالمقابل أخطاءه، فلم يقره عليها، وناقشه فيها.

فأثبت بأنه يقول بقدم بعض العالم، وأن الله أراد القديم بإرادة قديمة، وأراد الحوادث المتعاقبة عليه بإرادات متعاقبة (1) . وناقشه نقاشاً مطولاً (2) .

وجعل قوله في مسألة كلام الله مخالفاً لقول أهل السنة والجماعة (3) ، وله ردود جزئية أخرى عليه (4) .

موقفه من الكرامية:

أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن ربط مذهب السلف بمذهب الكرامية، بأن السلف تحدثوا في المسائل الشرعية قبل أن تخلق الكرامية وتوجد، وعليه فتنتفي شبهة نسبة مذهب السلف أو أحد السلف إلى مذهب الكرامية.

قال رحمه الله مناقشاً الجويني (ت - 478هـ) في بعض جزئيات مذهب الكرامية في كلام الله عز وجل: (إن السلف وأئمة السنة والحديث، بل من قبل الكرامية من

(1) انظر: منهاج السنة النبوية 1/178، 194، 219.

(2)

انظر: منهاج السنة النبوية 1/179، 219 - 222.

(3)

انظر: منهاج السنة النبوية 2/362 ومذهبه في كلام الله أن: (كلامه يرجع إلى ما يحدث من علمه وإرادته القائم بذاته، ولم يزل ذاك حادثاً في ذاته) .

(4)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 16/302، درء تعارض العقل والنقل 3/323، 9/422.

وانظر: للاستزادة من موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من أبي البركات ما يلي:

النبوات 109، منهاج السنة النبوية 1/195، 338، 422، 2/191، درء تعارض العقل والنقل 2/164، 172، 3/324، 6/98، 9/397، 407، 416، 423، 424، 425، 10/3، 7، 8، 9، 27، 100، 104، 105، 140.

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/227، بيان تلبيس الجهمية 1/627.

ص: 174

الطوائف لم يكن يلتفت إلى الكرامية وأمثالهم، بل تكلموا بذلك قبل أن يُخلق الكرامية، فإن ابن كرام كان متأخراً بعد أحمد بن حنبل، في زمن مسلم بن الحجاج (1) وطبقته، وأئمة السنة والمتكلمون تكلموا بهذه قبل هؤلاء) (2) .

وفي مقام بيان الحق تجاه الكرامية:

يبين ابن تيمية رحمه الله قرب الكرامية من أهل السنة والحديث (3) .

وحين ناقش مسألة (الجسم) ، ذكر أن الكرامية وإن أخطؤوا في إثبات لفظ الجسم، ونسبته إلى الله عز وجل، إلا أنهم وافقوا أهل السنة في تفسير الجسم وأنه الموجود، أو القائم بنفسه (4) .

ووافقوا أهل السنة في إثبات القدر إجمالاً: ففي مسألة الظلم وافقوا الجمهور في أن الظلم مقدور لله عز وجل، وأن الله تعالى منزه عنه، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} [طه: 122](5) .

وفي مسألة المحبة والمشيئة: وافقوا السلف في التفريق بينهما (6) .

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله موافقتهم السلف في الموقف من الخلفاء الراشدين، وتفضيل عثمان (7) رضي الله عنه (8) .

(1) مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، أبو الحسين، إمام في الحديث صاحب كتاب الصحيح، ت سنة 261هـ.

انظر في ترجمته: تاريخ بغداد للخطيب 13/100، وفيات الأعيان لابن خلكان 4/280.

(2)

الصفات الاختيارية (ضمن جامع الرسائل 2/10)، وانظر: درء تعارض العقل والنقل 4/83، 6/114.

(3)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/55.

(4)

انظر: منهاج السنة النبوية 2/137، 531، 548.

(5)

انظر: منهاج السنة النبوية 3/22.

(6)

انظر: منهاج السنة النبوية 5/411.

(7)

عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية القرشي، أبو عبد الله، أمير المؤمنين، ذو النورين، ولد بعد عام الفيل بست سنين أسلم قديماً على يد أبي بكر الصديق أحد العشرة المبشرين بالجنة، كان حيياً كريماً واصلاً لرحمه، ولي الخلافة بعد عمر بن الخطاب، ت سنة 35هـ.

انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 3/69، الإصابة لابن حجر 2/462.

(8)

انظر: منهاج السنة النبوية 8/225.

ص: 175

قال رحمه الله: (والكرامية وأمثالهم هم - أيضاً - من القائلين بالقدر، المثبتين لخلافة الخلفاء، والمفضلين لأبي بكر (1) ، وعمر (2) ، وعثمان) (3) .

وأثبتوا بعض الصفات: كالعلو، والنزول، والرؤية، والاستواء، والعلم، والكلام، وأثبتوا اليد والوجه لله عز وجل، إلا أن في إثباتهم لبعضها شيئاً من القصور والخلل - كما سأبين بعضه بعد قليل -.

ويبين رحمه الله أن ما يحمدون عليه أحد أمرين:

إما موافقة أهل السنة.

وإما الرد على المبتدعة.

فقال: (وكذلك متكلمة أهل الإثبات، مثل الكلابية، والكرامية، والأشعرية، إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم الأمة، بما أثبتوه من أصول الإيمان، من إثبات الصانع وصفاته، وإثبات النبوة، والرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب، وبيان تناقض حججهم، وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية والمعتزلة والرافضة والقدرية، من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة، فحسناتهم نوعان: إما موافقة أهل السنة والحديث، وإما الرد على من خالف السنة والحديث بيان تناقض حججهم)(4) .

(1) عبد الله بن عثمان بن عامر القرشي، أبو بكر الصديق بن أبي قحافة، خليفة رسول الله، سبق إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم واستمر معه طول إقامته بمكة ورافقه في الهجرة وفي المشاهد كلها إلى أن مات، وكانت معه الراية يوم تبوك، وحج في الناس في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة تسع، ت سنة 13هـ.

انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 2/243، الإصابة لابن حجر 2/341.

(2)

عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي، أبو حفص، أمير المؤمنين كانت إليه السفارة في الجاهلية، وكان عند البعثة شديداً على المسلمين، ثم أسلم فكان إسلامه فتحاً على المسلمين، بويع بعد أبي بكر فسار بالناس أحسن سيرة، ت سنة 23هـ.

انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 2/458، الإصابة لابن حجر 2/518.

(3)

منهاج السنة النبوية 1/144.

(4)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/12، وانظر: ص156.

ص: 176

وفي مقام مناقشة ابن تيمية رحمه الله للكرامية: أثبت أنهم من أهل الكلام ووصفهم بأنهم من (متكلمة أهل الإثبات)(1) .

وذكر أنهم مجسمة أي: ممن يثبت الجسم لله عز وجل مطلقاً، بدون استفصال (2) .

وفي معرض ذكر أقوال الفرق في كلام الله عز وجل: بيّن رحمه الله أن قول الكرامية لا يوافق قول أهل السنة بإطلاق، وهو: أن الله - عندهم - تكلم بعد أن لم يكن متكلماً، فقال رحمه الله:

(قول الهشامية والكرامية ومن وافقهم، أن كلام الله حادث قائم بذات الله بعد أن لم يكن متكلماً بكلام، بل ما زال عندهم قادراً على الكلام، وإلا فوجود الكلام عندهم في الأزل ممتنع، كوجود الأفعال عندهم

) (3) .

وبين ابن تيمية رحمه الله أن هذا القول باطل، أبطله السلف بأن ما يقوم به من نوع الكلام والإرادة والفعل: إما أن يكون صفة كمال أو صفة نقص، فإن كان كمالاً فلم يزل ناقصاً حتى تجدد له ذلك الكمال، وإن كان نقصاً فقد نقص بعد الكمال.

ونبه إلى أن قول الكرامية في كلام الله عز وجل لم يقل به أحد من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله (4) .

(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/154، 248، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/12.

(2)

انظر: منهاج السنة النبوية 1/311، 2/220، 263، الفرقان بين الحق والباطل ص100.

(3)

المسألة المصرية (ضمن مجموع شيخ الإسلام ابن تيمية 2/172 - 173) .

(4)

انظر: في هذه المسألة: شرح العقيدة الأصفهانية ص33، درء تعارض العقل والنقل 2/76، 111. مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/325، 524، 12/177، النبوات ص202، اقتضاء الصراط المستقيم 2/798، الفرقان بين الحق والباطل ص100.

ص: 177

وذكر رحمه الله أنهم يقولون بإثبات الجهة بدون استفصال (1) .

وأنهم أثبتوا وجود الصانع بطريق الحدوث والإمكان (2) .

وفي مسألة الإمامة، ذكر أنهم: يرون أن علياً (ت - 40هـ) ومعاوية (3) رضي الله عنهما كلاهما مصيب، وعليه: فيجوز عقد البيعة لإمامين في وقت واحد عند الحاجة (4) .

وناقشهم في مسألة (الإيمان) بعد أن ذكر أن: (قولهم في الإيمان قول منكر، لم يسبقهم إليه أحد، حيث جعلوا الإيمان قول اللسان، وإن كان مع عدم تصديق القلب، فيجعلون المنافق مؤمناً، لكنه يخلد في النار، فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم)(5) .

وأنصفهم رحمه الله وهو يذكر قولهم، حين زعم بعض الناس أنهم يقولون بأن من تكلم بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنة، وبين أن ذلك غلط عليهم، بل يقولون:

إنه مؤمن كامل الإيمان، وأنه من أهل النار، فيلزمهم أن يكون المؤمن

(1) انظر: منهاج السنة النبوية 2/641.

(2)

انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/159، وفي مناقشتهم انظر: الفرقان بين الحق والباطل ص109، وسيأتي هذا الدليل ومناقشته من كلام شيخ الإسلام في مبحث شرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه في الفصل الذي يلي هذا الفصل.

(3)

معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية القرشي الأموي، أمير المؤمنين، صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب له، كان من الكتبة الحسنة الفصحاء، وكان حليماً وقوراً، ولاه عمر الشام وأمره عثمان عليها في ولايته، وبعد تسليم الحسن بن علي له استقر له الأمر، ت سنة 60هـ.

انظر في ترجمته: الاستيعاب لابن عبد البر 3/395، الإصابة لابن حجر 3/433.

(4)

انظر: منهاج السنة النبوية 1/537، 4/393، 447، 7/50.

(5)

التدمرية 192 - 193، وانظر: الفرقان بين الحق والباطل (ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/56) وأما المطبوعة استقلالاً بتحقيق: عبد القادر الأرناؤوط ففيها سقط ص37، أخل بالمعنى بمقدار سطرين ونصف.

ص: 178

الكامل الإيمان معذباً في النار، بل يكون مخلداً فيها (1) .

فناقشهم بما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان (2) .

وبدأ رحمه الله يذكر لوازم قولهم الفاسد بأنهم إذا قالوا: لا يخلد وهو منافق، لزمهم أن يكون المنافقون يخرجون من النار، وقد قال الله فيهم:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} [النساء: 145] .

وقد نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة عليهم والاستغفار لهم، وقال له:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80](3)

وقال: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] ، وقد أخبر أنهم كفروا بالله ورسوله.

وألزم رحمه الله الكرامية، إن قالوا بأن المنافقين يتكلمون بألسنتهم سراً فكفروا بذلك، وإنما يكون مؤمناً إذا تكلم بلسانه، ولم يتكلم بما ينقضه، فإن ذلك ردة عن الإيمان؛ بأنهم لو أضمروا النفاق ولم يتكلموا به كانوا منافقين، كما قال الله عز وجل:

{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64] .

وأيضاً فقد أخبر الله عنهم أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وأنهم

(1) انظر: الفرقان بين الحق والباطل ص37، الإيمان الأوسط (ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 7/476) .

(2)

انظر: سنن الترمذي 4/714 كتاب صفة جهنم باب منه، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/323.

(3)

انظر: الفرقان بين الحق والباطل ص37 - 38.

ص: 179

كاذبون فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]، وقال سبحانه:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] .

وقال سبحانه: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167] .

وأخيراً: بين ابن تيمية رحمه الله سبب ذم السلف للكرامية، وهو مخالفتهم السنة والحديث، وانحرافهم عن المنهج القويم، والاعتقاد الحق (1) .

ولعل سبب نسبة شيخ الإسلام إلى الكرامية ممن نسب إليه ذلك، تعود إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين أن مذهب الكرامية أقرب إلى الحق من مذهب المعطلة؛ لأنهم وافقوا أهل الإثبات وأهل السنة في إثبات موجود قائم بنفسه، وإن كانوا أخطؤوا في تسميته جسماً، وهذا سوء فهم منهم لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإن شيخ الإسلام لم يصوب مذهب الكرامية بل بين أنهم أقرب إلى الحق من المعطلة، حيث إنهم أثبتوا موجوداً قائماً بنفسه، والمعطلة لم يثبتوا شيئاً، فإن كان مع سوء الفهم سوء قصد فقد أوغلوا في الضلال والانحراف.

موقف ابن تيمية رحمه الله من نسبة التجسيم إلى الحنابلة:

إن نسبة التجسيم إلى الحنابلة أمر اختص به نفاة الصفات دون غيرهم، فكل من نفى شيئاً من الصفات أطلق على من أثبته لقب التجسيم.

ولما كان الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله إماماً لأهل السنة، ورافع راية إثبات الصفات على المنهج الوسط، منهج أهل السنة والجماعة: إثبات بلا تشبيه ولا تعطيل.

وتبعه أصحابه وتلامذته، وكل من ارتضى منهجه العقدي من أصحاب المذاهب الفقهية الأخرى.

(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/14.

ص: 180

لما كان الأمر كذلك: أطلق نفاة الصفات على من أثبت الصفات هذا المصطلح (مجسمة الحنابلة) ، زوراً وبهتاناً.

وقد أجاب الإمام ابن قدامة المقدسي (ت - 620هـ) رحمه الله قبل ابن تيمية رحمه الله على هذه الدعوى، وناقشها، مبيناً أن مذهب الحنابلة هو: الإثبات مع التنزيه، وليس هو التشبيه والتجسيم.

وأما إن كان المراد بالتجسيم هو الإثبات مع التنزيه، فهذا شرف للحنابلة أن ينسب إليهم هذا الأمر، لكن تسمية ذلك تجسيماً خطأ، فقال رحمه الله: (سمعت بعض أصحابنا يقول: سمعت قوماً يقولون: الحنابلة يقولون: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، قال: فقلت لهم: يا قوم الله الله، إنكم لتنسبون إلى الحنابلة شيئاً ما يصلحون له، ولا يبلغون إليه، هذا قول الله سبحانه وتعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] .

فجعلتموه قولاً للحنابلة، ورفعتم قدرهم حتى جعلتموهم أهلاً لذلك) (1) .

وبين ابن قدامة (ت - 620هـ) رحمه الله التجسيم الحقيقي وهو: حمل صفات الله سبحانه وتعالى على صفات المخلوقين، وأن الحنابلة لا يقرون بذلك امتثالاً لقول الحق تبارك وتعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11](2) .

وبين ابن تيمية رحمه الله سبب إطلاق هذا المصطلح على المثبتة، وخصوصاً على الحنابلة وهو: أنه لما راجت سوق نفاة الصفات في عهد الإمام أحمد بن حنبل (ت - 241هـ) رحمه الله، سموا من أثبت الصفات مجسماً، وقالوا: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى ونحو ذلك. حينها قام الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله

(1) تحريم النظر في كتب الكلام ص58.

(2)

انظر: تحريم النظر في كتب الكلام ص58 - 59.

ص: 181

بالإنكار عليهم، وإظهار السنة والصفات، وظهر ذلك في جميع أهل السنة والحديث من جميع الطوائف، وصاروا متفقين على تعظيم الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله وجعله إماماً للسنة (1) .

(ولهذا ما زال كثير من أئمة الطوائف، الفقهاء وأهل الحديث، والصوفية، وإن كانوا في فروع الشريعة متبعين بعض أئمة المسلمين - رضي لله عنهم أجمعين - فإنهم يقولون: نحن في الأصول أو في السنة على مذهب الإمام أحمد بن حنبل)(2) .

وبين أن ارتباطهم به ليس لاختصاصه عن غيره بقول لم يقله الأئمة، ولا طعناً في غيره من الأئمة بمخالفة السنة؛ بل لأنه أظهر من السنة التي اتفقت عليها الأئمة قبله أكثر مما أظهروه، فظهر تأثير ذلك لوقوعه وقت الحاجة إليه، وظهور المخالفين للسنة، وقلة أنصار الحق وأعوانه (3)

ولهذا أطلق النفاة على من أثبت الصفات حنبلياً مجسماً.

وبين أن الحنابلة أكثر اتباعاً لألفاظ القرآن والحديث من غيرهم، (لكثرة الاعتناء بالسنة والحديث، والائتمام بمن كان بالسنة أعلم وأبعد عن الأقوال المتطرفة في النفي والإثبات)(4) .

وبين رحمه الله أن تنازع الحنابلة كان في الأمور الصغيرة (الدِّق) ، أما الأصول الكبار فمتفقون عليها (5) .

وأنه ليس فيهم من أطلق لفظ الجسم (6) .

(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل 10/250 - 251.

(2)

بيان تلبيس الجهمية 2/91 - 92.

(3)

انظر: بيان تلبيس الجهمية 2/92. درء تعارض العقل والنقل 5/5 - 6.

(4)

بيان تلبيس الجهمية 1/34، وانظر: 2/91، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/166.

(5)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/166.

(6)

انظر: درء تعارض العقل والنقل 10/250، بيان تلبيس الجهمية 1/47.

ص: 182

وأن المشبهة والمجسمة في غير أصحاب أحمد (ت - 241هـ) أكثر منهم فيهم (1) .

وذكر أنه لا يضر الإمام أحمد (ت - 241هـ) أن ينتسب إليه أناس هو منهم بريء، كما قد انتسب إلى مالك (ت - 179هـ) أناس هو بريء منهم، وانتسب إلى الشافعي (ت - 204هـ) أناس هو بريء منهم، وانتسب إلى أبي حنيفة (ت - 150هـ) أناس هو بريء منهم، وقد انتسب إلى علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه أناس هو بريء منهم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد انتسب إليه من القرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف الملحدة والمنافقين من هو بريء منهم (2) .

وأنه لا يوجد نوع غلو في بعض الحنابلة، إلا ويوجد في غيرهم من الطوائف ما هو أكثر منه (3) .

بهذا تبين لنا أن إطلاق هذا المصطلح (مجسمة الحنابلة) من قبل النفاة على مثبتة الصفات، إنما هو في الحقيقة: تزكية لهم بسلوكهم المسلك الصحيح، والاعتقاد الحق في أسماء الله وصفاته ألا وهو الإثبات مع نفي المماثلة والتعطيل.

وتبين لنا - أيضاً - أن رمي ابن تيمية رحمه الله بأنه تأثر بمجسمة الحنابلة، إنما هو تزكية له باتباع منهج السلف المتقدمين في أسماء الله وصفاته.

وأما الأسماء التي حددها المناوئون لابن تيمية، وجعلوها هي التي أثرت على ابن تيمية رحمه الله في اعتقاده في الأسماء والصفات فلم تنطلق من دراسة واسعة لكتب ابن تيمية رحمه الله ولو درسوا كتبه لما اختاروا هذه الأسماء.

(1) انظر: حكاية المناظرة في العقيدة الواسطية (ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/185، 197) .

(2)

انظر: حكاية المناظرة في العقيدة الواسطية (ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/185) .

(3)

انظر: بيان تلبيس الجهمية 2/90 - 91، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/169.

ص: 183

أما الإمام البربهاري (ت - 329هـ) رحمه الله فلم نجد ابن تيمية رحمه الله يكثر ذكره في كتبه وينقل منه حتى ندرس مظاهر ذلك التأثر التي يزعمها المناوئون.

وأما القاضي أبو يعلى (ت - 458هـ) ، فقد كان موقف ابن تيمية رحمه الله منه معتدلاً منصفاً، فتارة يرد عنه شبهة، وتارة يناقشه في خطأ وهكذا - كما سيتبين بعضه -.

ولمعرفة عقيدة الإمام البربهاري (ت - 329هـ) رحمه الله ننظر في أقواله: هل هو من المشبهة؟ أم من المعطلة؟ أم من أهل السنة والجماعة؟

قال رحمه الله في بيان عقيدته في التمسك بالأثر، وترك التشبيه:

(اعلم - رحمك الله - أنه ليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تتبع فيها الأهواء، بل هو التصديق بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا كيف ولا شرح ولا يقال: لم؟ ولا كيف؟)(1) .

وقال - أيضاً -: (لا يتكلم في الرب إلا بما وصف به نفسه عز وجل في القرآن، وما بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فهو جل ثناؤه واحد: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، ربنا أول بلا متى، وآخر بلا منتهى، يعلم السر وأخفى، وهو على عرشه استوى، وعلمه بكل مكان، ولا يخلو من علمه مكان)(2) .

وقال رحمه الله:

(ولا يقول في صفات الرب تعالى لِمَ؟ إلا شاك في الله تبارك وتعالى (3) .

وذكر رحمه الله أصول الإيمان، وناقش المبتدعة وبين أصول الابتداع وأسبابه، وحذر منه، وناقش الجهمية، وبيّن موقف الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله

(1) شرح السنة ص24.

(2)

شرح السنة ص24.

(3)

شرح السنة ص24.

ص: 184

وغيره من العلماء منهم (1) .

ومن خلال دراسة اعتقاده رحمه الله تبين لنا أنه من أئمة السلف في الاعتقاد.

وأما القاضي أبو يعلى (ت - 458هـ) رحمه الله:

فقد نسب إليه القاضي أبو بكر بن العربي (2)

رحمه الله أنه يقول بالتشبيه فقال:

(أخبرني من أثق به من مشيختي أن أبا يعلى محمد بن الحسين الفراء - رئيس الحنابلة ببغداد - كان يقول إذا ذكر الله تعالى، وما ورد من هذه الظواهر في صفاته يقول:

ألزموني ما شئتم فإني ألتزمه، إلا اللحية والعورة

) (3) .

لكن ابن تيمية رحمه الله يشكك في صحة هذه القصة ويكذبها؛ لأنها رويت عن طريق مجهول لم يسم (4) .

لكنه مع ذلك لم يبرئ ساحة القاضي أبي يعلى (ت - 458هـ) تماماً، بل بين أن في كلامه ما هو مردود نقلاً وتوجيهاً، وفي كلامه شيء من التناقض (5) .

وقد ألصق ابن الأثير (ت - 630هـ) رحمه الله تهمة التجسيم بأبي يعلى (ت - 458هـ) رحمه الله بما جاء في كتاب القاضي (إبطال التأويلات) فقال عنه: (أتى فيه بكل عجيبة، وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض - تعالى الله عن ذلك -)(6) .

(1) من خلال قراءتك لرسالته رحمه الله (شرح السنة) ، تجده ذكر أصول اعتقاد أهل السنة، على طريقة السلف في تآليفهم، وليست على طريقة المتكلمين.

(2)

أبو بكر بن العربي: أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن العربي الأندلسي الإشبيلي المالكي، تتلمذ على الغزالي وأبي بكر الشاشي، من مصنفاته: أحكام القرآن، ت سنة 543هـ.

انظر في ترجمته: الصلة لابن بشكوال 2/558، المغرب في حلي المغرب لمجموعة من المؤلفين 1/254، تاريخ قضاة الأندلس للنباهي ص105.

(3)

العواصم من القواصم (ضمن آراء أبي بكر بن العربي الكلامية 2/283، وانظر: 2/306) ، وقد بينت سابقاً أن هذه المقولة لداود الجواربي.

(4)

انظر: درء تعارض العقل والنقل 5/238.

(5)

انظر: درء تعارض العقل والنقل 5/238.

(6)

الكامل في التاريخ 8/104.

ص: 185

لكن ابن تيمية رحمه الله يعطي تقويماً لهذا الكتاب أدق، وأنصف وأعدل، حين بيّن أن الكتاب رد على ابن فورك (1) شيخ القشيري (2) ،

وأنه قد حصلت فتنة بسبب الكتاب فقال: (أكثر الحق فيها كان مع الفرائية (3) مع نوع من الباطل، وكان مع القشيرية فيها نوع من الحق مع كثير من الباطل) (4) .

وذكر ابن تيمية رحمه الله عنه أنه ممن يقول بنفي الجسم (5) .

ويجعله ابن تيمية رحمه الله من المفوضة (6)

الذين لا يفسرون معاني نصوص

(1) ابن فورك: محمد بن الحسن بن فورك، أبو بكر الأنصاري الأصبهاني، فقيه شافعي، أشعري المعتقد، برع في النحو والأصول وعلم الكلام، كان زاهداً واعظاً، ت سنة 406هـ.

انظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء للذهبي 17/214، طبقات الشافعية للسبكي 4/127.

(2)

القشيري: عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيري النيسابوري، أبو القاسم، الفقيه المتكلم، الأصولي المفسر، تتلمذ على الحاكم وابن فورك وغيرهما، ت سنة 465هـ.

انظر في ترجمته: تاريخ بغداد للخطيب 11/83، وفيات الأعيان لابن خلكان 2/375، طبقات الشافعية للسبكي 5/153.

(3)

نسبة إلى القاضي أبي يعلى بن الفراء.

(4)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/54.

(5)

انظر: درء تعارض العقل والنقل 4/208، 10/258، بيان تلبيس الجهمية 2/94، ومما يدل على نفي تهمة التجسيم عنه أنه ألف كتابين الأول: الرد على الكرامية، والثاني: الرد على المجسمة، انظر: في تفنيد دعوى تجسيم أبي يعلى: القاضي أبو يعلى وكتابه مسائل الإيمان دراسة وتحقيقاً لسعود الخلف ص107 - 117، منهج القاضي أبي يعلى في أصول الدين لفهد الفايز (رسالة ماجستير) ص16 - 18، مقدمة تحقيق (إبطال التأويلات لأبي يعلى) للحمود ص18 - 25، وقد نقل عن ابن أبي يعلى في الطبقات (2/207 - 212) ، مبيناً عقيدة والده، وأنه بعيد عن التجسيم والتشبيه.

(6)

التفويض: يقال: فوض إليه الأمر أي صيره إليه، وجعله الحاكم فيه، وهو قسمان:

أ - تفويض المعاني: وهذا مذموم، ويلزم منه لوازم فاسدة كتعطيل النصوص.

ب - تفويض الكيفيات: وهذا محمود، وهو من صفات المؤمنين، ونتيجة الإيمان بالغيب، والتسليم لشرع الله.

انظر: رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري لابن درباس (الحاشية ص117، 128) ، التدمرية لابن تيمية 89 - 116، بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه في العقيدة للموصلي ص67 - 77.

ص: 186

الصفات، ووصفه بأنه من الذين (سمعوا الأحاديث والآثار، وعظموا مذهب السلف، وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها، وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض)(1) .

فهل يخرج مثل هذا الحكم من رجل قلده في كل ما قال من خطأ أو صواب -؟، وكيف يقال إنه مقلد له، وهو ينتقده ويرد عليه في مسائل كثيرة من الصفات وغيرها.

وأما موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أبي الفرج ابن الجوزي (ت - 597هـ) وخاصة في كتابه (دفع شبه التشبيه) أو ما يرتضي شيخ الإسلام رحمه الله أن يسميه (كف التشبيه)(2) .

فيبين شيخ الإسلام رحمه الله أنه يميل إلى مذهب المعتزلة كثيراً (3) .

فهو بين النفي والإثبات وتناقضه ظاهر، فلم يثبت على أحدهما، وله من الكلام في الإثبات نظماً ونثراً ما أثبت به كثيراً من الصفات التي أنكرها في مصنفاته الأخرى، خاصة في كتاب (دفع شبه التشبيه)(4) .

وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله عن هذا الكتاب أنه لم يكن المقصود به الرد على جنس الحنابلة، بل كان الرد على بعضهم كالقاضي أبي يعلى (ت - 458هـ) رحمه الله وأبي عبد الله بن حامد (5) ،

وابن الزاغوني (6) .

(1) درء تعارض العقل والنقل 7/34.

(2)

انظر: درء تعارض العقل والنقل 8/60، 9/160.

(3)

انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/270، 2/16، 7/263، 9/160، 10/258.

(4)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/169.

(5)

أبو عبد الله بن حامد: الحسن بن حامد بن علي بن مروان البغدادي، أبو عبد الله، إمام الحنابلة في زمانه، من مؤلفاته: شرح مختصر الخرقي، والجامع، ت سنة 403هـ.

انظر في ترجمته: طبقات الحنابلة لأبي يعلى 2/171، تذكرة الحفاظ للذهبي 3/1078.

(6)

ابن الزاغوني: علي بن عبيد الله بن نصر بن السري بن الزاغوني، أبو الحسن، فقيه حنبلي، شيخ الحنابلة في وقته، شارك في علوم كثيرة، ت سنة 527هـ.

انظر في ترجمته: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1/180، شذرات الذهب لابن العماد 4/80.

ص: 187

وقد حدد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مواضع الخلل عند ابن الجوزي (ت - 597هـ) حين نقل المعترض كلاماً له عن الحنابلة فيه التجسيم المحض، وإثبات صفات لله لم ترد في الكتاب ولا في السنة، وذكر أنها ثلاثة أنواع:

الأول: بيان ما فيه من التعصب بالجهل والظلم قبل الكلام في المسألة العلمية.

الثاني: بيان أنه رد بلا حجة، ولا دليل أصلاً.

الثالث: بيان ما فيه من ضعف النقل والعقل (1) .

وبعد: فقد تبين لنا كيف يكيل أعداء ابن تيمية رحمه الله التهم عليه جزافاً، وبدون وازع أو خوف من الله عز وجل أن يسألهم عما قالوه:

فقد جمعوا له بين المتناقضات في تأثره بعقيدة التجسيم.

فقالوا: تأثر باليهود، وقالوا: تأثر بالفلاسفة، وقالوا: تأثر بالكرامية، وقالوا: تأثر بمجسمة الحنابلة.

ومن الواضح: أن المسلمين لا يرتضون عقيدة اليهود، وأن الفلاسفة ترد على الكرامية، وأن الكرامية ترد على الفلاسفة، وأن أبا يعلى (ت - 458هـ) يرد على المشبهة كما في كتابيه (الرد على الكرامية، والرد على المجسمة) ، فكيف يُجمع هؤلاء في خندق واحد، وقد رد بعضهم على بعض، ولم يرتض أحدهم عقيدة الآخر.

ومن الواضح - أيضاً - أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يتأثر بكل هؤلاء، بل كان موقفه موقف الرد والمناقشة على ما عندهم من أخطاء وعيوب، مع الاعتراف بحسنات المسلمين منهم، والإشادة بها كما تبين والله أعلم.

(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/165 - 190.

ص: 188