الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَرْعٌ: تَكَرَّرَ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ، أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ صَرِيحٌ فِي الْكَفَّارَةِ، أَمْ كِنَايَةٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ لُزُومُ الْكَفَّارَةِ مَعْنَى اللَّفْظَةِ حَتَّى يُقَالَ: صَرِيحٌ فِيهِ، أَمْ كِنَايَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ رَتَّبَهُ الشَّرْعُ عَلَى التَّلَفُّظِ بِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةِ التَّحْرِيمِ أَمْ لَا؟ فَتَوَسَّعُوا بِإِطْلَاقِ لَفْظِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ.
فَصْلٌ
الْكِنَايَةُ لَا تَعْمَلُ بِنَفْسِهَا، بَلْ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ نِيَّةِ الطَّلَاقِ، وَتَقْتَرِنُ النِّيَّةُ بِاللَّفْظِ فَلَوْ تَقَدَّمَتْ، ثُمَّ تَلَفَّظَ بِلَا نِيَّةٍ، أَوْ فَرَغَ مِنَ اللَّفْظِ ثُمَّ نَوَى، لَمْ تُطَلَّقْ، فَلَوِ اقْتَرَنَتْ بِأَوَّلِ اللَّفْظِ دُونَ آخِرِهِ، أَوْ عَكْسُهُ، طُلِّقَتْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا تَلْتَحِقُ الْكِنَايَةُ بِالصَّرِيحِ بِسُؤَالِ الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ، وَلَا بِقَرِينَةِ الْغَضَبِ وَاللِّجَاجِ، وَمَتَى تَلَفَّظَ بِكِنَايَةٍ، وَقَالَ: مَا نَوَيْتُ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتْ، وَحُكِمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَرُبَّمَا اعْتَمَدَتْ قَرَائِنُ يَجُوزُ الْحَلِفُ بِمِثْلِهَا.
فَصْلٌ
فِي مَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ
فِي «الزِّيَادَاتِ» لِأَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُكِ طَلَاقَكِ، فَقَالَتْ: اشْتَرَيْتُ وَلَمْ يَذْكُرَا عِوَضًا، لَا يَحْصُلُ فُرْقَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ نِيَّةٌ، وَقِيلَ: تَقَعُ طَلْقَةٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَمْ يَبْقَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ شَيْءٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَفِي هَذَا تَوَقُّفٌ.
قُلْتُ: الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ لَفْظٌ صَالِحٌ وَمَعَهُ نِيَّةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: بَرِئْتُ مِنْ نِكَاحِكِ وَنَوَى، طُلِّقَتْ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: بَرِئْتُ مِنْ طَلَاقِكِ وَنَوَى، لَمْ تُطَلَّقْ، وَلَوْ قَالَ: بَرِئْتُ إِلَيْكِ مِنْ طَلَاقِكِ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ
الْبُوشَنْجِيُّ: هُوَ كِنَايَةٌ، أَيْ: تَبَرَّأْتُ مِنْكِ بِوَسَاطَةِ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْكِ. وَلَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكِ، أَوْ عَفَوْتُ عَنْكِ، فَكِنَايَةٌ، لِإِشْعَارِهِ بِالْإِسْقَاطِ، وَلَهُ عَلَيْهَا حُقُوقُ النِّكَاحِ، وَتَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: طَلَّقَكِ اللَّهُ، أَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَعْتَقَكِ اللَّهُ، طُلِّقْتِ وَعَتَقْتِ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُمَا صَرِيحَانِ، وَرَأَى الْبُوشَنْجِيُّ أَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ لِاحْتِمَالِهِ الْإِنْشَاءَ وَالدُّعَاءَ. وَقَوْلُ مُسْتَحِقِّ الدَّيْنِ لِلْغَرِيمِ: أَبْرَأَكَ اللَّهُ، كَقَوْلِ الزَّوْجِ: طَلَّقَكِ اللَّهُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِ وَتَرَكَ الْقَافَ، طُلِّقَتْ حَمْلًا عَلَى التَّرْخِيمِ. قَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ وَإِنْ نَوَى، فَإِنْ قَالَ: يَا طَالِ، وَنَوَى، وَقَعَ، لِأَنَّ التَّرْخِيمَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي النِّدَاءِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ النِّدَاءِ، فَلَا يَقَعُ إِلَّا نَادِرًا فِي الشِّعْرِ، وَأَنَّهُ إِذَا قَالَ: الطَّلَاقُ لَازِمٌ لِي، أَوْ وَاجِبٌ عَلَيَّ، طُلِّقَتْ لِلْعُرْفِ. وَلَوْ قَالَ: فَرْضٌ عَلَيَّ، لَمْ تُطَلَّقْ لِعَدَمِ الْعُرْفِ فِيهِ. وَرَأَى الْبُوشَنْجِيُّ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كِنَايَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: طَلَاقُكِ عَلَيَّ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَنَوَى، وَقَعَ، فَوَصَفَهُ بِوَاجِبٍ أَوْ فَرْضٍ يَزِيدُهُ تَأْكِيدًا. وَحَكَى صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» الْخِلَافَ فَقَالَ: لَوْ قَالَ طَلَاقُكِ لَازِمٌ لِي، فَوَجْهَانِ. قَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ: هُوَ صَرِيحٌ. وَلَوْ قَالَ: لَسْتِ بِزَوْجَةٍ لِي، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ. وَقِيلَ: لَغْوٌ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ أَبَوَيَّ وَنَوَى الطَّلَاقَ، إِنْ نَوَاهُ بِقَوْلِهِ: اذْهَبِي، وَقَعَ، وَإِنْ نَوَاهُ بِمَجْمُوعِ اللَّفْظَيْنِ، لَمْ يَقَعْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَى بَيْتِ أَبَوَيَّ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ، بَلْ هُوَ لِاسْتِدْرَاكِ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: اذْهَبِي. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقَانِ أَوْ طَوَالِقُ، لَمْ يَقَعْ إِلَّا طَلْقَةٌ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ إِلَّا عَمْرَةَ، وَلَا امْرَأَةَ لَهُ سِوَاهَا، طُلِّقَتْ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُسْتَغْرِقٌ فَبَطَلَ. وَلَوْ قَالَ: النِّسَاءُ طَوَالِقُ إِلَّا عَمْرَةَ، وَلَا زَوْجَةَ لَهُ سِوَاهَا، لَمْ تُطَلَّقْ. وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ فِي نِسْوَةٍ، فَقَالَ: طَلَّقْتُ هَؤُلَاءِ إِلَّا هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَى زَوْجَتِهِ، لَمْ تُطَلَّقْ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ
لِامْرَأَتِهِ يَا بِنْتِي، وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ احْتِمَالِ السِّنِّ، كَمَا لَوْ قَالَهُ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ.
قُلْتُ: الْمُخْتَارُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ فُرْقَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَادَةِ لِلْمُلَاطَفَةِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ تُنْسَبُ إِلَى زَوْجِ أُمِّهَا، فَقَالَ: بِنْتُ فُلَانٍ طَالِقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتَهُ حَقِيقَةً، وَلِغَيْرِهِ فِي هَذَا احْتِمَالٌ.
قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنْ نَوَاهَا طُلِّقَتْ، وَلَا يَضُرُّ الْغَلَطُ فِي نَسَبِهَا، كَنَظِيرِهِ فِي النِّكَاحِ وَإِلَّا فَلَا، وَمُرَادُ الْقَفَّالِ بِقَوْلِهِ: لَمْ تُطَلَّقْ، أَيْ: فِي الظَّاهِرِ، وَأَمَّا الْبَاطِنُ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ كَمَا ذَكَرْتُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: نِسَاءُ الْمُسْلِمِينَ طَوَالِقُ، لَمْ تُطَلَّقِ امْرَأَتُهُ. وَعَنْ غَيْرِهِ: أَنَّهَا تُطَلَّقُ، وَبُنِيَ الْخِلَافُ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْخِطَابِ؟
قُلْتُ: الْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي الْأُصُولِ: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ، وَكَذَا هُنَا: الْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: بَانَتْ مِنِّي امْرَأَتِي، أَوْ حَرُمَتْ عَلَيَّ، لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ بَائِنٌ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مُدَّةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثَلَاثًا، وَقَالَ: أَرَدْتُ بِالْبَائِنِ الطَّلَاقَ، فَلَمْ يَقَعْ عَلَى الثَّلَاثِ لِمُصَادَفَتِهَا الْبَيْنُونَةَ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِطَلَاقِكِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ، لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يُحْلَفُ بِهِ.
وَأَنَّهُ لَوْ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ وَاسْمُهَا فَاطِمَةُ: طَلِّقْنِي، فَقَالَ: طَلَّقْتُ فَاطِمَةَ، ثُمَّ قَالَ: نَوَيْتُ فَاطِمَةَ أُخْرَى، طُلِّقَتْ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِدَلَالَةِ الْحَالِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ ابْتِدَاءً: طُلِّقَتْ فَاطِمَةُ، ثُمَّ قَالَ: نَوَيْتُ أُخْرَى. وَقَدْ يُشْكِلُ هَذَا بِمَا سَبَقَ، أَنَّ السُّؤَالَ لَا يُلْحِقُ الْكِنَايَةَ بِالصَّرِيحِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: طَلَّقْتُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ نَوَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لِلْمَرْأَةِ ذِكْرٌ وَلَا دَلَالَةٌ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: امْرَأَتِي وَنَوَى الطَّلَاقَ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِوَلِيِّ امْرَأَتِهِ: زَوِّجْهَا، كَانَ إِقْرَارًا بِالْفِرَاقِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: انْكَحِي، لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا، لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ أَنْ تَنْكِحَ، وَلَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:(تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) .
قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ إِذَا خَاطَبَهَا بِهِ، بِخِلَافِ الْوَلِيِّ، لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّا نُقِلَ مِنْ مُعَلَّقَاتِ الْقَاضِي شُرَيْحٍ الرُّويَانِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ، مَا حَكَاهُ عَنْ جَدِّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَحْلَلْتُكِ وَنَوَى طَلَاقَهَا، هَلْ هُوَ كِنَايَةٌ؟ وَجْهَانِ.
قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ كِنَايَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ بَائِنٌ وَطَالِقٌ، يُرْجَعُ إِلَى نِيَّتِهِ فِي «بَائِنٍ» ، وَلَا يُجْعَلُ قَوْلُهُ:«وَطَالِقٌ» تَفْسِيرًا لَهُ.
وَأَنَّهُ لَوْ كَرَّرَ كِنَايَةً، كَقَوْلِهِ: اعْتَدِّي اعْتَدِّي اعْتَدِّي، وَنَوَى الطَّلَاقَ، فَإِنْ نَوَى التَّأْكِيدَ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ نَوَى الِاسْتِئْنَافَ، فَثَلَاثٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، فَقَوْلَانِ. وَلَوْ كَانَتِ الْأَلْفَاظُ مُخْتَلِفَةً، وَنَوَى بِهَا الطَّلَاقَ، وَقَعَ بِكُلِّ لَفْظَةٍ طَلْقَةٌ.
وَإِنَّ الْقَفَّالَ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: طُلِّقَتْ، وَنَوَى امْرَأَتَهُ، لَمْ تُطَلَّقْ لِعَدَمِ الْإِشَارَةِ وَالِاسْمِ.
وَلَوْ قِيلَ لَهُ: مَا تَصْنَعُ بِهَذِهِ الزَّوْجَةِ؟ طَلِّقْهَا، فَقَالَ: طَلَّقْتُ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ، فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى السُّؤَالِ وَالتَّفْوِيضِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ بِطَلْقَةٍ، وَنَوَى، لَمْ تُطَلَّقْ. وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ، إِحْدَاهُمَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَالْأُخْرَى فَاطِمَةُ بِنْتُ رَجُلٍ سَمَّاهُ أَبَوَاهُ أَيْضًا مُحَمَّدًا، إِلَّا أَنَّهُ اشْتُهِرَ فِي النَّاسِ بِزَيْدٍ، وَبِهِ يَدْعُونَهُ، فَقَالَ الزَّوْجُ: زَوْجَتِي فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ طَالِقٌ، وَقَالَ: أَرَدْتُ بِنْتَ الَّذِي يَدْعُونَهُ زَيْدًا، قَالَ جَدِّي: يُقْبَلُ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِتَسْمِيَةِ أَبَوَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلرَّجُلِ اسْمَانِ، وَأَكْثَرُ، وَقِيلَ: الِاعْتِبَارُ بِالِاسْمِ الْمَشْهُورِ فِي النَّاسِ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: امْرَأَتِي هَذِهِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيَّ لَا تَحِلُّ لِي أَبَدًا، قَالَ جَدِّي: لَا تُطَلَّقُ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ، وَقَدْ يُظَنُّ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ بِالْيَمِينِ عَلَى تَرْكِ الْجِمَاعِ، وَقِيلَ: يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْبَيْنُونَةِ لِمُقْتَضَى هَذَا اللَّفْظِ، وَأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ زَيْدٌ: يَا زَيْدُ، فَقَالَ: امْرَأَةُ زَيْدٍ طَالِقٌ، قَالَ جَدِّي: تُطَلَّقُ امْرَأَتُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا تُطَلَّقُ حَتَّى يُرِيدَ نَفْسَهُ لِجَوَازِ إِرَادَةِ زَيْدٍ آخَرَ. وَلْيَجِئْ هَذَا الْوَجْهُ، فِيمَا إِذَا قَالَ: فَاطِمَةُ طَالِقٌ وَاسْمُ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَصَحَّ لِيَكُونَ قَاصِدًا تَطْلِيقَ زَوْجَتِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: طُلِّقَتِ امْرَأَتُكَ، فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا تَقُولُهُ، فَهَلْ يَكُونُ هَذَا إِقْرَارًا بِالطَّلَاقِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا جَدِّي، أَصَحُّهُمَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَعْلَمَ، وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْعِلْمُ، وَأَنَّهَا لَوِ ادَّعَتْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَأَنْكَرَ، ثُمَّ قَالَ لِفَقِيهٍ: اكْتُبْ لَهَا ثَلَاثًا، قَالَ جَدِّي: يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ كِنَايَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: امْرَأَتِي الَّتِي فِي هَذِهِ الدَّارِ طَالِقٌ، وَلَمْ تَكُنِ امْرَأَتُهُ فِيهَا، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: رَدَدْتُ عَلَيْكِ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثَ، وَنَوَى، وَقَعَ الثَّلَاثُ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَعَنَى نَفْسَهُ، قَالَ جَدِّي: يُحْتَمَلُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَيُحْتَمَلُ عَدَمُهُ.
قُلْتُ: الْوُقُوعُ أَرْجَحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِابْنِهِ: قُلْ لِأُمِّكَ أَنْتِ طَالِقٌ، قَالَ جَدِّي: إِنْ أَرَادَ التَّوْكِيلَ، فَإِذَا قَالَهُ لَهَا الِابْنُ، طُلِّقَتْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ وَيَكُونُ الِابْنُ مُخْبِرًا لَهَا بِالْحَالِ.
وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ فِي السِّكَّةِ طَالِقٌ، وَزَوْجَتُهُ فِي السِّكَّةِ، طُلِّقَتْ عَلَى الْأَصَحِّ. وَأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ فِي طَلَاقِهَا، فَقَالَ الْوَكِيلُ: طُلِّقَتْ مَنْ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِلَفْظِي، هَلْ تُطَلَّقُ الَّتِي وَكَّلَهُ فِي طَلَاقِهَا؟ أَوْ طَلَّقَهَا وَلَمْ يَنْوِ عِنْدَ الطَّلَاقِ أَنْ يُطَلِّقَ لِمُوَكِّلِهِ، فَفِي الْوُقُوعِ وَجْهَانِ.
وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ، أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ: فَعَلْتَ كَذَا، فَأَنْكَرَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَامْرَأَتُكَ طَالِقٌ، قَالَ نَعَمْ، لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوقِعْهُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فِيمَنْ قِيلَ لَهُ: طَلَّقْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ لِلْإِمَامِ إِسْمَاعِيلَ الْبُوشَنْجِيِّ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: وَهَبْتُكِ لِأَهْلِكِ، أَوْ لِأَبِيكِ أَوْ لِلْأَزْوَاجِ أَوْ لِلْأَجَانِبِ، وَنَوَى الطَّلَاقَ، طُلِّقَتْ، كَقَوْلِهِ: الْحَقِي بِأَهْلِكِ.
وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ كَذَا وَنَوَى الطَّلَاقَ، لَمْ تُطَلَّقْ. وَكَذَا لَوْ عَلَّقَ بِصِفَةٍ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ أَدْخُلِ الدَّارَ، فَأَنْتِ كَذَا، وَنَوَى، لَمْ تُطَلَّقْ لِأَنَّهُ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِالْفُرْقَةِ، فَأَشْبَهَ إِذَا قَالَ: إِنْ لَمْ أَدْخُلِ الدَّارَ فَأَنْتِ كَمَا أُضْمِرُ، وَنَوَى الطَّلَاقَ، فَإِنَّهَا لَا تُطَلَّقُ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَرْبَعُ طُرُقٍ عَلَيْكِ مَفْتُوحَةٌ، فَخُذِي أَيَّهَا شِئْتِ، أَوْ لَمْ يَقُلْ: خُذِي أَيَّهَا شِئْتِ، أَوْ قَالَ: فَتَحْتُ عَلَيْكِ طَرِيقَكِ، فَكِنَايَةٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ: إِذَا لَمْ يَقُلْ: خُذِي أَيَّهَا شِئْتِ، فَلَيْسَ كِنَايَةً، وَوَافَقَ فِي قَوْلِهِ: فَتَحْتُ عَلَيْكِ طَرِيقَكِ
أَنَّهُ كِنَايَةٌ. وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: خُذِي طَلَاقَكِ، فَقَالَتْ: أَخَذْتُ، لَمْ تُطَلَّقْ مَا لَمْ تُوجَدْ نِيَّةُ الْإِيقَاعِ مِنَ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ: خُذِي أَوْ مِنَ الْمَرْأَةِ إِنْ حَمَلَ قَوْلَهُ عَلَى تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ إِلَيْهَا.
وَفِي «الْإِقْنَاعِ» لِأَقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيِّ، أَنَّ قَوْلَهُ: لَعَلَّ اللَّهَ يَسُوقُ إِلَيْكِ خَيْرًا كِنَايَةٌ، وَذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: بَارَكَ اللَّهُ لَكِ، كِنَايَةٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكِ.
وَفِي «فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ» : إِذَا كَتَبَ الشُّرُوطِيُّ إِقْرَارَ رَجُلٍ بِالطَّلَاقِ، فَقَالَ لَهُ الشُّهُودُ: نَشْهَدُ عَلَيْكَ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ؟ فَقَالَ: اشْهَدُوا، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ لَوْ قَالَ: اشْهَدُوا عَلَى أَنِّي طَلَّقْتُهَا أَمْسِ، وَهُوَ كَاذِبٌ، لَمْ يَقَعْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي «التَّتِمَّةِ» أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِوَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مِائَةَ طَلْقَةٍ، فَقَالَتْ: تَكْفِينِي ثَلَاثٌ، فَقَالَ: الْبَاقِي عَلَى صَوَاحِبِكِ، لَا يَقَعُ عَلَى صَوَاحِبِهَا طَلَاقٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخَاطِبْهُنَّ، وَإِنَّمَا رَدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا لَاغِيًا، فَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، كَانَ طَلَاقًا وَكَانَ التَّقْدِيرُ: أَنْتِ طَالِقٌ بِثَلَاثٍ، وَهُنَّ طَوَالِقُ بِالْبَاقِي وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، وَأَنْتِ يَا أُمِّ أَوْلَادِي، قَالَ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ: لَا تُطَلَّقُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ غَيْرُهُ: لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: نِسَاءُ الْعَالَمِينَ طَوَالِقُ وَأَنْتِ يَا فَاطِمَةُ، لَا تُطَلَّقُ، لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَى نِسْوَةٍ لَمْ يُطَلَّقْنَ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ رِجْلٌ: فَعَلْتَ كَذَا فَأَنْكَرَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: الْحِلُّ عَلَيْكَ حَرَامٌ، وَالنِّيَّةُ نِيَّتِي أَنَّكَ مَا فَعَلْتَ، فَقَالَ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَالنِّيَّةُ نِيَّتُكَ مَا فَعَلْتَهُ، لَغَا قَوْلُهُ: النِّيَّةُ نِيَّتُكَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ تَلَفَّظَ بِهَذَا اللَّفْظِ ابْتِدَاءً. وَلَوْ قَالَ لَهُ لَمَّا أَنْكَرَ: امْرَأَتُكَ طَالِقٌ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَقَالَ: طَالِقٌ، وَقَالَ: مَا أَرَدْتُ طَلَاقَ امْرَأَتِي، يُقْبَلُ ; لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ إِشَارَةٌ إِلَيْهَا وَلَا تَسْمِيَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ إِرَادَةَ غَيْرِهَا، حُكِمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَرْعٌ
قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْ لَا، بِإِسْكَانِ الْوَاوِ، لَا يَقَعُ شَيْءٌ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: كَمَا لَوْ قَالَ: هَلْ أَنْتِ طَالِقٌ؟ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوَّلًا بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَهُوَ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، طُلِّقَتْ.
الطَّرَفُ الثَّانِي فِي الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ اللَّفْظِ:
الْإِشَارَةُ وَالْكُتُبُ يَدُلَّانِ عَلَى الطَّلَاقِ، فَأَمَّا الْإِشَارَةُ، فَمُعْتَبَرَةٌ مِنَ الْأَخْرَسِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَتَقُومُ إِشَارَتُهُ مَقَامَ عِبَارَةِ النَّاطِقِ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ وَالْحُلُولِ وَالْأَقَارِيرِ وَالدَّعَاوَى، لَكِنْ فِي شَهَادَتِهِ خِلَافٌ. وَإِذَا أَشَارَ فِي صَلَاتِهِ بِطَلَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، صَحَّ الْعَقْدُ قَطْعًا وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ أَدَارَ الْحُكْمَ عَلَى إِشَارَتِهِ الْمَفْهُومَةِ، وَأَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِهَا، نَوَى أَمْ لَمْ يَنْوِ، وَكَذَا فَصَلَ الْبَغَوِيُّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ وَآخَرُونَ: إِشَارَتُهُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى صَرِيحَةٍ مُغْنِيَةٍ عَنِ النِّيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي يَفْهَمُ مِنْهَا الطَّلَاقَ كُلُّ وَاقِفٍ عَلَيْهَا، وَإِلَى كِنَايَةٍ مُفْتَقِرَةٍ إِلَى النِّيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي يَفْهَمُ الطَّلَاقَ بِهَا الْمَخْصُوصُ بِالْفِطْنَةِ وَالذَّكَاءِ. وَلَوْ بَالَغَ فِي الْإِشَارَةِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الطَّلَاقَ وَأَفْهَمَ هَذِهِ الدَّعْوَى. قَالَ الْإِمَامُ: هُوَ كَمَا لَوْ فَسَّرَ اللَّفْظَةَ الشَّائِعَةَ فِي الطَّلَاقِ بِغَيْرِهِ.
فَرْعٌ
سَوَاءٌ فِي اعْتِبَارِ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ، قَدَرَ عَلَى الْكِتَابَةِ أَمْ لَا، هَكَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَيُوَافِقُهُ إِطْلَاقُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنَّمَا تُعْتَبَرُ إِشَارَتُهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى