الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
مِنْ صَرَائِحِ الْقَذْفِ أَنْ يَقُولَ: زَنَا فَرْجُكَ، أَوْ ذَكَرُكَ، أَوْ قُبُلُكَ، أَوْ دُبُرُكَ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: زَنَيْتِ فِي قُبُلِكِ، فَقَذْفٌ. وَإِنْ قَالَهُ لِرَجُلٍ، فَكِنَايَةٌ، لِأَنَّ زِنَاهُ بِقُبُلِهِ لَا فِيهِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. وَلَوْ قَالَ: زَنَى يَدُكَ، أَوْ رِجْلُكَ، أَوْ عَيْنُكَ، أَوْ يَدَاكَ، أَوْ عَيْنَاكَ، فَكِنَايَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
وَقِيلَ: وَجْهَانِ. ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ صَرِيحٌ. وَقِيلَ: إِنْ قَالَ: يَدَاكَ أَوْ عَيْنَاكَ، فَكِنَايَةٌ قَطْعًا لِمُطَابَقَةِ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَلَوْ قَالَ: زَنَا بَدَنُكَ، فَصَرِيحٌ عَلَى الْأَصَحِّ، كَقَوْلِهِ: زَنَيْتَ.
قُلْتُ: قَالَ فِي الْبَيَانِ: لَوْ قَالَ لِلْخُنْثَى: زَنَا ذَكَرُكِ وَفَرْجُكِ، فَصَرِيحٌ، وَإِنْ ذَكَرَ أَحَدَهَمَا، فَالَّذِي يَقْتَضِي الْمَذْهَبَ أَنَّهُ كَإِضَافَتِهِ إِلَى الْيَدِ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: وَطِئَكِ رَجُلَانِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ صَاحِبُ «الْحَاوِي» : يُعَزَّرُ، وَلَا حَدَّ لِاسْتِحَالَتِهِ وَخُرُوجِهِ مِنَ الْقَذْفِ إِلَى الْكَذِبِ الصَّرِيحِ، فَيُعَزَّرُ لِلْأَذَى وَلَا يُلَاعَنُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
قَالَ لِابْنِهِ اللَّاحِقِ بِهِ ظَاهِرًا: لَسْتَ ابْنِي، أَوْ لَسْتَ مِنِّي، فَالنَّصُّ أَنَّهُ لَيْسَ قَاذِفًا لِأُمِّهِ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْقَذْفَ. وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ: لَسْتَ ابْنَ فُلَانٍ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ، وَفِيهِ طُرُقٌ، الْمَذْهَبُ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ، لِأَنَّ الْأَبَ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْدِيبِهِ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ. وَالثَّانِي: فِيهِمَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: صَرِيحٌ فِيهِمَا. وَالثَّانِي وَأَقْيَسُهُمَا: كِنَايَةٌ. وَالثَّالِثُ قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِيهِمَا قَطْعًا، وَتَأْوِيلُ النَّصِّ عَلَى مَا إِذَا نَوَاهُ.
وَالرَّابِعُ قَالَهُ ابْنُ الْوَكِيلِ:
صَرِيحٌ فِيهِمَا قَطْعًا، وَتَأَوَّلَ مَا ذَكَرَهُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ، إِذْ قَالَ: لَسْتَ ابْنِي، نَسْتَفْسِرُهُ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ مِنْ زِنًا، فَقَاذِفٌ، وَإِنْ قَالَ: لَا يُشْبِهُنِي خُلُقًا وَخَلْقًا، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ إِنْ طَلَبَتْهَا، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتْ وَاسْتَحَقَّتْ حَدَّ الْقَذْفِ، وَلَهُ أَنْ يُلَاعَنَ لِإِسْقَاطِهِ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَقِيلَ: لَا يُلَاعَنُ لِإِنْكَارِهِ الْقَذْفَ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَلَا قَذْفَ، فَإِنِ ادَّعَتْ إِرَادَتَهُ الْقَذْفَ، حَلَفَ عَلَى مَا سَبَقَ، وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ إِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الْوَطْءَ بِالشُّبْهَةِ، أَوْ عَيَّنَهُ وَلَمْ تُصَدِّقْهُ وَلَمْ يَقْبَلِ الْوَلَدَ، وَإِنْ صَدَقَ وَادَّعَى الْوَلَدَ، عَرَضَ عَلَى الْقَائِفِ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِهِ لَحِقَهُ، وَإِلَّا لَحِقَ بِالزَّوْجِ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ مِنْ زَوْجٍ كَانَ قَبْلِي، فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ، سَوَاءٌ عُرِفَ لَهَا زَوْجٌ أَمْ لَا، كَذَا قَالَهُ السَّرَخْسِيُّ.
وَأَمَّا الْوَلَدُ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، بَلْ يَلْحَقُهُ، وَإِنْ عُرِفَ، فَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي «كِتَابِ الْعُدَّةِ» ، أَنَّ الْوَلَدَ بِمَنْ يَلْحَقُ؟ فَإِذَا لَحِقَهُ، فَإِنَّمَا يُنْفَى عَنْهُ بِاللِّعَانِ، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفُ وَقْتُ نِكَاحِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، لَمْ يَلْحَقْ بِهِ، لِأَنَّ الْوِلَادَةَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَالْإِمْكَانَ لَمْ يَتَحَقَّقْ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ بِنِيَّةِ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ فِي نِكَاحِهِ لِزَمَانِ الْإِمْكَانِ، وَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ الْمُتَمَحِّضَاتِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنِيَّةٍ، فَلَهَا تَحْلِيفُهُ، فَإِنْ نَكَلَ، فَعَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهُ، بَلْ هُوَ لَقِيطٌ أَوْ مُسْتَعَارٌ، فَلَا قَذْفَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نَفْيِ الْوِلَادَةِ، وَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَهَلْ يُعْرَضُ مَعَهَا عَلَى
الْقَائِفِ؟ وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي مَوْضِعِهِمَا، فَإِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَأَلْحَقَهُ الْقَائِفُ بِهَا، لَحِقَ بِالزَّوْجِ وَاحْتَاجَ فِي النَّفْيِ إِلَى اللِّعَانِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْرَضُ، أَوْ لَمْ يُلْحِقْهُ بِهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ قَائِفٌ، أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ، حَلَفَ الزَّوْجُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ. فَإِنْ حَلَفَ، انْتَفَى، وَفِي لُحُوقِهِ بِهَا الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ، فِي أَنَّ ذَاتَ الزَّوْجِ، هَلْ يَلْحَقُهَا الْوَلَدُ بِالِاسْتِلْحَاقِ؟
وَإِنْ نَكَلَ الزَّوْجُ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهَا، وَنَصَّ فِيمَا إِذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَادَّعَتْ أَنَّ الزَّوْجَ كَانَ رَاجَعَهَا أَوْ وَطِئَهَا بِالشُّبْهَةِ، وَأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ وَأَنْكَرَ وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، أَنَّهُ لَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ جَعَلَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَّرَ النَّصَّيْنِ، وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، فَيَقْوَى بِهِ جَانِبُهَا، وَالْمَذْهَبُ هُنَا، ثُبُوتُ الرَّدِّ، فَإِذَا قُلْنَا بِهِ فَحَلَفَتْ، لَحِقَهُ الْوَلَدُ، وَإِنْ نَكَلَتْ، فَهَلْ تُوقَفُ الْيَمِينُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ وَيَحْلِفَ؟ وَجْهَانِ.
فَإِنْ قُلْنَا: تُوقَفُ فَحَلَفَ بَعْدَ بُلُوغِهِ، لَحِقَ بِهِ، وَإِنْ نَكَلَ أَوْ قُلْنَا: لَا تُوقَفُ، انْتَفَى عَنْهُ، وَفِي لُحُوقِهِ بِهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ.
فَرْعٌ
قَالَ لِمَنْفِيٍّ بِاللِّعَانِ: لَسْتَ ابْنَ فُلَانٍ، يَعْنِي الْمُلَاعَنَ، فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي قَذْفِ أُمِّهِ، لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ، فَيُسْأَلُ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ تَصْدِيقَ الْمُلَاعِنِ فِي أَنَّ أُمَّهُ زَانِيَةٌ، فَهُوَ قَاذِفٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْمُلَاعِنَ نَفَاهُ، أَوْ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا، أَوْ لَا يُشْبِهُهُ خُلُقًا وَخَلْقًا، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ، قَالَ الْقَفَّالُ: يُعَزَّرُ لِلْإِيذَاءِ، وَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَتِ الْأُمُّ أَنَّهُ أَرَادَ قَذْفَهَا، وَاسْتَحَقَّتِ الْحَدَّ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: قَدْ قَالَهُ أَيْضًا جَمَاعَةٌ غَيْرَ الْقَفَّالِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوِ اسْتَلْحَقَهُ النَّافِي، ثُمَّ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: لَسْتَ ابْنَ فُلَانٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَهُ لِغَيْرِ
الْمَنْفِيِّ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ قَذْفٌ صَرِيحٌ كَمَا سَبَقَ. وَقَدْ يُقَالُ: إِذَا كَانَ أَحَدُ التَّفَاسِيرِ الْمَقْبُولَةِ أَنَّ الْمُلَاعِنَ نَفَاهُ، فَالِاسْتِلْحَاقُ بَعْدَ النَّفْيِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ نَفَاهُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ لَا يُجْعَلَ صَرِيحًا، وَيُقْبَلُ التَّفْسِيرُ بِهِ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي أَوْرَدَهُ الرَّافِعِيُّ، حَسَنٌ مِنْ وَجْهٍ، ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهٍ، فَحُسْنُهُ فِي قَبُولِ التَّفْسِيرِ، وَضَعْفُهُ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَالرَّاجِحُ فِيهِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْحَاوِي» فَقَالَ: هُوَ قَذْفٌ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَنَحُدُّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَسْأَلَهُ مَا أَرَادَ. فَإِنِ ادَّعَى احْتِمَالًا مُمْكِنًا، كَقَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ ابْنَهُ حِينَ نَفَاهُ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَلَا حَدَّ. قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَ الِاسْتِلْحَاقِ، فَإِنَّا لَا نَحُدُّهُ هُنَاكَ حَتَّى نَسْأَلَهُ، لِأَنَّ لَفْظَهُ كِنَايَةٌ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَدٌّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَهُنَا ظَاهِرُ لَفْظِهِ الْقَذْفُ، فَحُدَّ بِالظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ مُحْتَمَلًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
قَالَ لِقُرَشِيٍّ: لَسْتَ مِنْ قُرَيْشٍ، أَوْ يَا نَبَطِيُّ، أَوْ قَالَ لِتُرْكِيٍّ: يَا هِنْدِيُّ، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ فِي الْأَخْلَاقِ، أَوْ أَنَّهُ تُرْكِيُّ الدَّارِ وَاللِّسَانِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِنِ ادَّعَتْ أُمُّ الْمَقُولِ لَهُ أَنَّهُ أَرَادَ قَذْفَهَا، وَنَكَلَ الْقَاذِفُ، وَحَلَفَتْ هِيَ، وَجَبَ لَهَا الْحَدُّ أَوِ التَّعْزِيرُ، وَإِنْ أَرَادَ الْقَذْفَ، فَمُطْلَقُهُ مَحْمُولٌ عَلَى أُمِّ الْمَقُولِ لَهُ.
فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّ وَاحِدَةً مِنْ جَدَّاتِهِ زَنَتْ، نُظِرَ، إِنْ عَيَّنَهَا، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ أَوِ التَّعْزِيرُ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ جَدَّةً لَا بِعَيْنِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الْإِسْلَامِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَحَدُ أَبَوَيْكَ زَانٍ، أَوْ فِي السِّكَّةِ زَانٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ لِلْأَذَى، فَإِنْ كَذَّبَتْهُ أُمُّ الْمَقُولِ لَهُ، فَلَهَا تَحْلِيفُهُ، هَكَذَا أَطْلَقَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالْأَئِمَّةُ، وَفِي التَّجْرِبَةِ لِلرُّويَانِيِّ، أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَلَوِيٍّ: لَسْتَ ابْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، وَقَالَ: أَرَدْتُ لَسْتَ مِنْ
صُلْبِهِ، بَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ آبَاءٌ، لَمْ يُصَدَّقْ، بَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَذْفُ، أَنَّكَ أَرَدْتَ قَذْفِي، فَإِنْ نَكَلَ، حَلَفَ الْقَائِلُ وَيُعَزَّرُ.
وَمُقْتَضَى هَذَا، أَنْ لَا يُصَدَّقَ الْقَائِلُ: أَرَدْتُ جَدَّةً مِنْ جَدَّاتِ الْمَقُولِ لَهُ، مَهْمَا نَازَعَتْهُ أَمُّهُ، بَلْ تُصَدَّقُ هِيَ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَيْهَا، وَالسَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ قَذْفُهَا، فَإِنْ نَكَلَتْ، حَلَفَ الْقَائِلُ وَبَرِئَ.
قُلْتُ: وَإِذَا قَالَ: لَمْ أُرِدْ شَيْئًا، فَلَا حَدَّ، فَإِنِ اتَّهَمَهُ الْخَصْمُ، حَلَّفَهُ كَمَا سَبَقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي أَحْكَامِ الْقَذْفِ.
فَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا، فَعَلَى الْقَاذِفِ الْحَدُّ، وَإِلَّا فَالتَّعْزِيرُ. وَشُرُوطُ الْإِحْصَانِ: الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا. فَلَوْ قَذَفَ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا، لَمْ يُحَدَّ لَكِنْ يُعَزَّرُ لِلْإِيذَاءِ.
وَتَبْطُلُ الْعِفَّةُ بِكُلِّ وَطْءٍ يُوجِبُ الْحَدَّ، وَمِنْهُ مَا إِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ زَوْجَتِهِ، أَوْ جَارِيَةَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، أَوْ نَكَحَ مَحْرَمًا لَهُ، أَوْ وَطِئَ الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَةَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، وَكَذَا لَوْ أَوْلَجَ فِي دُبُرٍ، ثُمَّ نَقَلَ الْبَغَوِيُّ، أَنَّهُ تَبْطُلُ حَصَانَةُ الْفَاعِلِ دُونَ الْمَفْعُولِ بِهِ، لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّمْكِينِ فِي الدُّبُرِ، فَكَذَا لَا تَبْطُلُ بِهِ الْحَصَانَةُ، وَرَأَى هُوَ أَنْ تَبْطُلُ حَصَانَتُهُمَا جَمِيعًا، لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا.
قُلْتُ: إِبْطَالُ حَصَانَتِهِمَا، هُوَ الرَّاجِحُ، وَأَيُّ عِفَّةٍ وَحُرْمَةٍ لِمَنْ مَكَّنَ مِنْ دُبُرِهِ مُخْتَارًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْوَطْءُ الَّذِي لَا حَدَّ فِيهِ، فَلِلْأَصْحَابِ فِي تَرْتِيبِ صُوَرِهِ وَضَبْطِهِ طُرُقٌ أَشْهَرُهَا: أَنَّهُ يُنَظَرُ، أَجَرَى ذَلِكَ فِي مِلْكِ نِكَاحٍ، أَوْ يَمِينٍ، أَمْ فِي غَيْرِ مِلْكٍ؟ .
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمَمْلُوكُ، وَهُوَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: مُحَرَّمٌ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، كَمَنْ
وَطِئَ مَمْلُوكَتَهُ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ، أَوْ عَمَّتُهُ بِرَضَاعٍ أَوْ نَسَبٍ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ. فَإِنْ قُلْنَا: يُوجِبُ الْحَدَّ، بَطَلَتْ حَصَانَتُهُ، وَإِلَّا فَتَبْطُلُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى عَدَمِ عِفَّتِهِ، بَلْ هَذَا أَفْحَشُ مِنَ الزِّنَا بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَلَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فِي دُبُرِهَا، بَطَلَتْ حَصَانَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَحْرُمُ غَيْرَ مُؤَبَّدٍ، وَهُوَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا لَهُ حَظٌّ مِنَ الدَّوَامِ، كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ شُبْهَةٍ وَغَيْرِهِ وَأَمَتِهِ الْمُعْتَدَّةِ أَوِ الْمُزَوَّجَةِ، أَوِ الْمُرْتَدَّةِ، أَوِ الْمَجُوسِيَّةِ، وَأَمَتِهِ فِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَلَا تَبْطُلُ حَصَانَتُهَا عَلَى الْأَصَحِّ، لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَعَدَمِ تَأَبُّدِ الْحُرْمَةِ، وَعَدَمِ دَلَالَتِهِ الظَّاهِرَةِ عَلَى قِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِالزِّنَا.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا حَرُمَ لِعَارِضٍ سَرِيعِ الزَّوَالِ، كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ فِي الْحَيْضِ، أَوِ النِّفَاسِ، أَوِ الْإِحْرَامِ، أَوِ الِاعْتِكَافِ، أَوِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ، فَلَا تَبْطُلُ الْحَصَانَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْوَطْءُ الْجَارِي فِي غَيْرِ مِلْكٍ، كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَجَارِيَةِ الِابْنِ. وَفِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ. وَفِي الْإِحَرَامِ وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالشِّغَارِ وَوَطْءِ الْمُكَاتَبَةِ وَالرَّجْعِيَّةِ فِي الْعِدَّةِ، فَفِي بُطْلَانِ حَصَانَتِهِ وَجْهَانِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: أَصَحُّهُمَا لَا تَبْطُلُ، وَاخْتَارَ أَبُو إِسْحَاقَ الْبُطْلَانَ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: هُوَ أَقْرَبُ.
وَأَمَّا وَطْءُ الْمُشْتَرَكَةِ، فَقَالَ الدَّارَكِيُّ: هُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَأَشَارَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَجَمَاعَةٌ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ كَوَطْءِ الزَّوْجَةِ فِي الْحَيْضِ، هَذَا أَحَدُ الطُّرُقِ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ فِي سُقُوطِ الْحَصَانَةِ بِوَطْءِ الْمَمْلُوكَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِرَضَاعٍ أَوْ نَسَبٍ وَجْهَيْنِ. وَفِي الْمُشْتَرَكَةِ وَجَارِيَةِ الِابْنِ وَجْهَانِ، وَأَوْلَى بِبَقَاءِ الْحَصَانَةِ. وَفِي الْمَنْكُوحَةِ بِلَا وَلِيٍّ وَجْهَانِ، وَأَوْلَى بِالْبَقَاءِ لِلِاخْتِلَافِ فِي إِبَاحَتِهِ، وَفِي الْوَطْءِ
بِالشُّبْهَةِ وَجْهَانِ، وَأَوْلَى بِالْبَقَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَوَجْهُ إِسْقَاطِهَا، إِشْعَارُهُ بِتَرْكِ التَّحَفُّظِ. وَفِي الْوَطْءِ الْجَارِي فِي الْجُنُونِ وَالصَّبِيِّ عَلَى صُورَةِ الزِّنَا وَجْهَانِ، وَأَوْلَى بِالْبَقَاءِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: لَا تَبْطُلُ الْحَصَانَةُ بِالْوَطْءِ فِي مِلْكٍ أَوْ مَعَ عُذْرٍ كَالشُّبْهَةِ، وَتَبْطُلُ بِمَا خَلَا عَنِ الْمَعْنَيَيْنِ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ الِابْنِ وَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ.
وَالرَّابِعُ: تَبْطُلُ الْحَصَانَةُ بِكُلِّ وَطْءٍ حَرَامٍ، كَالْحَائِضِ، دُونَ مَا لَا يَحْرُمُ، كَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ.
وَالْخَامِسُ: كُلُّ وَطْءٍ تَعَلَّقَ بِهِ حَدٌّ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ يُسْقِطُ الْحَصَانَةَ، وَمَا لَا حَدَّ فِيهِ مَعَ الْعِلْمِ لَا يُسْقِطُهَا، كَوَطْءِ جَارِيَةِ الِابْنِ وَالْمُشْتَرَكَةِ.
قُلْتُ: قَدْ جَمَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا الْخِلَافَ الْمُنْتَشِرَ مُخْتَصَرًا فَقَالَ: يَنْتَظِمُ مِنْهُ سِتَّةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لَا تُسْقِطُ الْحَصَانَةَ إِلَّا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ.
وَالثَّانِي: يُسْقِطُهَا هَذَا، وَوَطْءُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالْمِلْكِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ فِي «الْمُحَرَّرِ» ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَالثَّالِثُ: يُسْقِطُهَا هَذَا، وَوَطْءُ الْأَبِ وَالشَّرِيكِ.
وَالرَّابِعُ: هَذَا، وَالْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ.
وَالْخَامِسُ: هَذَا، وَوَطْءُ الشُّبْهَةِ مِنْ مُكَلَّفٍ.
وَالسَّادِسُ: هَذَا، وَوَطْءُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَيَجِيءُ فِيهِ سَابِعٌ، وَهُوَ هَذَا، وَالْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ فِي الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بَيْنَ الْعَالِمِ بِتَحْرِيمِهِ وَالْجَاهِلِ، قَالَهُ الْبَغَوِيُّ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَاهِلُ كَالْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
قَالَ الْبَغَوِيُّ: الْكَافِرُ إِذَا كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، فَغَصَبَ امْرَأَةً وَوَطِئَهَا ظَانًّا حِلَّهَا، لَا تَبْطُلُ حَصَانَتُهُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ.
قُلْتُ: لَا بُدَّ مِنْ مَجِيءِ الْخِلَافِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
مُقَدِّمَاتُ الزِّنَا كَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَغَيْرِهِمَا لَا تُؤَثِّرُ فِي الْحَصَانَةِ بِحَالٍ، وَلِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ فِيهَا احْتِمَالٌ.
قُلْتُ: وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا، لَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا فَخَرَجَتْ مُسْتَحِقَّةً، فَفِي بُطْلَانِ حَصَانَتِهِ وَجْهَانِ فِي «الْإِبَانَةِ» وَ «الْمُهَذَّبِ» ، وَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الشُّبْهَةِ، فَيَكُونُ الرَّاجِحُ بَقَاءَ الْحَصَانَةِ. وَلَوْ نَكَحَ مَجُوسِيٌّ أَمَةً وَوَطِئَهَا ثُمَّ أَسْلَمَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَا تَبْطُلُ حَصَانَتُهُ، وَقَالَ الْفُورَانِيُّ: تَبْطُلُ، وَالْأَوَّلُ أَفْقَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْوَطْءِ، فَفِي بُطْلَانِ حَصَانَتِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْفُورَانِيُّ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ، لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَارِكًا لِلِاحْتِيَاطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
قَذَفَ عَفِيفًا فِي الظَّاهِرِ، فَزَنَا الْمَقْذُوفُ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ الْقَاذِفُ، سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِيهِ قَوْلٌ قَدِيمٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ، وَلَوِ ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ قَبْلَ الْحَدِّ، لَمْ يَسْقُطْ عَلَى الصَّحِيحِ، فَعَلَى الْمَشْهُورِ، لَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ زَنَتَ، سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ وَاللِّعَانُ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ وَأَرَادَ نَفْيَهُ، فَلَهُ اللِّعَانُ، وَلَوْ سَرَقَ الْمَقْذُوفُ أَوْ قُتِلَ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ الْحَدَّ، لَمْ يَسْقُطْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ حِكَايَةُ وَجْهَيْنِ فِيهِ.