الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني في إعجاز القرآن واعتراف مشركي قريش بإعجازه، وأنه لا يشبه شيئاً من كلام البشر، ومن أسلم لذلك
قال الله سبحانه وتعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء/ 88] منهم العرب العاربة وأرباب البيان وتفانوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن من بلاغته وحسن نظمه وقوله لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء: 88] جواب قسم محذوف وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88] معينا على الإتيان بمثله، ولم يدرج الملائكة في الفريقين مع عجزهم أيضا عنه، لأنهما هما المتحدّيان، ومن ثمّ تعجبت الجنّ من حسن نظمه وبلاغته البالغة أقصى درجاتها، فقالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن: 1- 2]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله- عز وجل فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» رواه الشيخان.
قال الحافظ- رحمه الله قوله: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطى» هذا دالّ علي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه، ولا يضرّه من أصرّ على المعاندة قال ابن قرقول:«من» الأولى بيانية والثانية زائدة، و «ما» موصولة أو نكرة موصوفة، ووقعت مفعولا ثانيا «لأعطى» و «مثله» مبتدأ آمن خبره، والجملة صفة للنكرة صلة الموصول والراجع إلى الموصول ضمير المجرور في «عليه» أي مغلوبا عليه في التحدّي والمباراة، والمراد بالآيات المعجزات وموقع المثل هنا موقعه في قوله فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة/ 23] أي ممّا يبيّن عليه صفته في البيان وعلوّ الطبقة في حسن النظم، والمثل يطلق ويراد به عين الشّيء وما يساويه، والمعنى إن كل نبي من الأنبياء قد أعطاه الله تعالى من المعجزات الدالة على نبوته الشيء الذي من صفته، أنه إذا شوهد اضطر الشاهد إلى الإيمان به.
وتحريره: إن كل نبي اختص بما يثبت دعواه من خوارق العادات حسب زمانه، فإذا انقطع زمانه انقطعت تلك المعجزة فكانت تلقف ما صنعوا كقلب العصا ثعبانا في زمن موسى فخصّ كل نبي بما أثبت به دعواه من خوارق العادات المناسبة لحال قومه، وإخراج اليد بيضاء وإنما كان كذلك، لأنه الغالب في زمانه السحر، إذ كان ماشيا عند فرعون فأتاهم بما هو فوقه فاضطرّهم إلى الإيمان به ولم يقع ذلك لغيره، وفي زمن عيسى الطب، فجاءهم بما هو أعلى منه من إبراء الأكمه والأبرص بما ليس في قدرة بشر وهو إحياء الميّت، وأمّا النبي صلى الله عليه وسلم فأرسله في العرب العرباء أصل الفصاحة والبلاغة وتأليف الكلام على أعلى طبقاتها ومحاسن بدايتها باسم القرآن فأعجزهم عن الإتيان بأقصر سورة منه وقوله «آمن» وقع في رواية حكاها ابن قرقول
«أومن» بضم الهمزة ثم واو وقوله «عليه» هنا بمعنى اللّام أو الباء الموحدة والنكتة في التعبير بها تضمنها معنى الغلبة، أي يؤمن بذلك مغلوبا عليه بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه لكنه قد يجحد فيعاند، كما قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً [النمل/ 14] وقال الطّيبيّ: المجرور في «عليه» حال، أي مقلوبا عليه في التحدي، وموقع المثل موقعه من قوله فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة/ 23] أي من صفته من البيان وعلوّ الطبقة في البلاغة، وقوله:«وإنّما كان الّذي أوتيته وحيا» إلخ معناه معظم الذي أوتيته وإلّا فقد أوتي من المعجزات مالا ينحصر والمراد به القرآن وقد تقدم أنه المعجزة الباقية على وجه الدوام إلى يوم القيامة لبلوغه أعلى طبقات البلاغة وأقصى غايات الإعجاز، فلا يتأتى لأحد أن يأتي بأقصر سورة منه لجزالة تركيبه، وفخامة ترتيبه الخارج عن طوق البشر، وليس المراد حصر معجزاته فيه ولا أنّه لم يؤت من المعجزات ما أوتي من تقدّمه، المراد به المعجزة العظمى التي اختصّه بها دون غيره، لأنّ كل نبي أعطي معجزة خاصة به لم يعطها بعينها غيره تحدّى بها قومه، ولذلك رتب على قوله:«وأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» يريد لاضطرار الناس إلى الإيمان به إلى يوم القيامة وذكر ذلك على وجه الرجاء لعدم العلم بما في الأقدار السابقة وقيل المعنى أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعمارهم، فلم يشاهدها إلّا من حضرها ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرق العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات، فلا يمرّ عصر من الأعصار إلّا ويظهر فيه شيء مما أخبر أنه سيكون يدل على صحة دعواه، ولهذا قال «وأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» .
قال الحافظ: هذا أقوى المحتملات وتكميله في الذي بعده.
وقيل: المعنى أنّ المعجزات الماضية كانت حسّيّة تشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصا موسى، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة مرّة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل يشاهده كل من جاء بعد الأوّل مستمرا، قال الحافظ- رحمه الله تعالى-: ويمكن نظم هذه الأقوال كلها في كلام واحد، فإنّ محصلها لا ينافي بعضه بعضا، رتب صلى الله عليه وسلم قوله:«فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» على ما تقدم من معجزة القرآن المستمرة لكثرة فائدته وعموم نفعه، لاشتماله على الدّعوة والحجة والإخبار بما سيكون فعمّ نفعه من حضر ومن غاب ومن وجد ومن سيوجد، فحسن ترتيب الرجوى المذكورة على ذلك وهذه الرجوى قد تحقّقت فيه فإنّه أكثر الأنبياء تابعا ولا خلاف بين الفقهاء أنّ كتاب الله- عز وجل معجز لم يقدر أحد على معارضته مع تحديهم بذلك قال تعالى وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: 6] فلولا
أنّ سماعه حجّة عليه لم يقف أمره على سماعه ولا يكون حجّة وإلّا فهو معجزة.
وقال الله تعالى: وقالوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [العنكبوت/ 50] أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [العنكبوت/ 51] فأخبر أنّ الكتاب آية من آياته كان في الدّلالة قائم مقام معجزات غيره، وآيات من سواه من الأنبياء وقد جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء، وتحدّاهم على أن يأتوا بمثله، وأمهلهم طول السّنين، فلم يقدروا ثم تحداهم بعشر سور منه، ثم تحدّاهم بسورة، فلما عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشبهه على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء نادى عليهم بإظهار العجز وإعجاز القرآن، هذا وهم الفصحاء الذين كانوا أحرص شيء على إطفاء نوره، وإخفاء أمره، فلو كان في مقدرتهم معارضته لعدلوا إليها قطعا للحجّة، ولم ينقل عن أحد منهم أن حدّث نفسه بشيء من ذلك ولا رامه بل عدلوا إلى العناد تارة وإلى الاستهزاء أخرى، فتارة قالوا:«سحر» للطافته، وتارة قالوا:«سحر» لحسن نظمه وفصاحته، وقال آخرون إنّه أساطير الأولين، لاستغرابهم معانيه، وقال آخرون:«قول الكهنة» لتحيّرهم فيه، كل ذلك من التحيّر والانقطاع، ثم رضوا بتحكيم السيف في أعناقهم وسبي ذراريهم وحرمهم واستباحة أموالهم، وقد كانوا آنف شيء وأشدّه حمية، فلو علموا أن الإتيان بمثله من قدرتهم لبادروا إليه، لأنّه كان أهون عليهم.
وقال بعض العلماء: الذي أورده صلى الله عليه وسلم على العرب من الكلام الذي أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب في الآية وأوضح في الدلالة من فلق البحر وإحياء الموتى وإبراء الأكمه، لأنّه أتى أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ورواد البيان والمتقدمة في اللغز بكلام مفهوم المعنى وكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد عيسى صلى الله عليه وسلم عند إحياء الموتى لأنّهم كانوا لا يطمعون فيه، ولا في إبراء الأكمه والأبرص ولا يتعاطون علمه، وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة، وقال القاضي: معجزات الرسل كانت واردة على أيديهم بقدر أحوال أهل زمانهم، وكانت بحسب المعنى الذي علا واشتهر فيه، فلما كان زمن موسى صلى الله عليه وسلم غاية علم أهل السّحر بعث إليهم بمعجزة تشبه ما يدعون قدرتهم عليه، فجاءهم على يديه صلى الله عليه وسلم منها ما خرق عادتهم من انقلاب العصا حيّة واليد السمراء يدا بيضاء من غير سوء لم يكن ذلك المعجز في قدرتهم، وقد أبطل ما جاءهم منها بسحرهم، وكذلك زمن عيسى صلى الله عليه وسلم كان انتهاء ما كان عليه أهل الطب، وأوفر ما كان في أهله فجاءهم على يديه صلى الله عليه وسلم أمر لا يقدرون عليه لاستحالة إتيانهم كغيرهم به وأتاهم بما لم يخطر لهم ببال من إحياء الموتى وإبراء الأكمه الذي ولد ممسوح العين والأبرص، وهو الذي بيده بياض فكان يأتيه من أطاق
الإتيان، ومن لم يطق ذهب به إليه فربما اجتمع عنده الألفان يظهر لهم ذلك، فيداويهم من دون معالجة، وذلك بالدعاء، وهكذا سائر معجزات الأنبياء بقدر علم أهل زمانهم، فإن كان نبي مرسل إلى قومه بمعجزة من جنس ما عاينوه من علم وصناعة وغيرها. ثم بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم، وجملة معارف العرب وعلومها أربعة: البلاغة: وهي ملكة يبلغ بها المتكلّم من تأدية المعاني حدا يوزن بتوفيته خاصية كل تركيب حقّها.
والشّعر: وهو كلام موزون مقفى مراد به الوزن.
والخبر والكهانة: الخبر عن الكائنات وادّعاء معرفة الأسرار كان متفشيا فأنزل الله سبحانه عليه القرآن الخارق لهذه الأربعة الفصول من أجل الفصاحة والإيجاز والبلاغة الخارجة عن نوعه وطريقته، وكان العرب يتباهون بالفصاحة، ويتباهون في تحبير الشّعر والبلاغة، وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء، فأنزله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قرآنا عربيا مبينا يشتمل على مذاهب لغة العرب، فتلا عليهم كلاما متشابه الرصف متجانس الوصف، سهل الموضوع، عذب المسموع، خارجا عن موضوع القريض والأسماع مستعذبا لأفهام الأسماع فلما سمعوه استبعدوه فقالوا فيه ما قالوا، فتحدّاهم على أن يأتوا بمثله فعجزوا، ثم تحدّاهم بعشر سور من مثله فعجزوا، ثمّ تحدّاهم بسورة من مثله، فآلوا عند العجز إلى القتل والقتال، وسبقوا العصور إلى الجحود والجدال، فلمّا عدلوا عن معارضته التي لو تمّت كان يدل على كذبه إلى قتاله الذي لو تم موضعهم فيه لم يدلّ على كذبه كان الإعجاز باديا ظاهرا وعجزهم عن معارضته وانتحاله معلوم، فالقرآن أفضل المعجزات لبقائه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبق معجز غيره بعد وفاته، آمنّا به، ولأن الأحكام الشرعيّة مستنبطة منه ولم تستنبط من معجز سواه، فالقرآن بحر لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وحكى أبو عبيد: أنّ أعرابيا سمع رجلا يقول فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94] ضحك وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام، وسمع رجلا آخر يقرأ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف: 80] فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام.
وحكى الأصمعي: أنّه سمع كلام جارية، وهي تقول: أستغفر الله من ذنوبي، فقلت لها:
لم تستغفرين، ولم يجر عليك القلم؟ قال: فقالت: أستغفر الله لذنبي كلّه: قتلت إنسانا لغير حلّه مثل غزال نائم في دلّه، انتصف اللّيل ولم أصلّه فقلت لها: لماذا تبكي، ما أفصحك، فقالت: أو يعد هذا فصاحة، بعد قوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
[القصص: 7] فجمع في آية واحدة بين أمرين، ونهيين، وخبرين وبشارتين، والآثار في هذا النوع كثيرة.
وقال القاضي- رحمه الله تعالى-: وحقا، إن العرب قد خصّوا من البلاغة والحكم بما لم يخصّ به غيرهم من الأمم وأتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان، ومن فصل الخطاب ما يقيد الألباب عن أن تلهج بتراكيب صناعتهم وتبهيج أساليب صياغتهم أفانين الكلام، فجعل الله- تعالى- ذلك لهم طبعا وخلقة وفيهم غريزة وقوة يأتون منه على البديهة بالعجب، ويدلون به إلى كلّ سبب، فيخطبون بديهة في المقامات شديد الخطب، ويرتجزون به بين الطّعن والضّرب، ويمدحون ويقدحون، ويتوسّلون به إلى ما يرومونه من نجاح مآربهم، ويتوصّلون به إلى الفوز بمطالبهم، ويرفعون ويضعون من أرادوا، فيأتون من ذلك بالسّحر الحلال الّذي انسجم لفظه، ولطف معناه في مواسمهم ومقاصدهم، ويطوّقون من أوصافهم الحميدة وسماتهم الحميدة ما رأوه أهلا من أوصافهم أجمل سمط اللآل، فيخدعون الألباب، ويذلّلون الصّعاب، ويذهبون الأحن، ويهجون الرتن ويجرّئون الجبان، ويبسطون الجعد البنان، ويصيرون الناقص كاملا، ويتركون النّبيه خاملا، منهم البدويّ ذو اللّفظ الجزل، والقول الفصل والكلام الفخم، والطبع الجوهريّ والمنزع القويّ، ومنهم الحضري، ذو البلاغة البارعة، والألفاظ التابعة، والكلمات الجامعة، والطبع السهل، والتصرف في القول، القليل الكلفة، الكثير الرونق، الرقيق الحاشية، وكلا البابين لهما في البلاغة الحجّة البالغة، والقوة الدامغة، والقدح الفالج، والمهيع الناهج، لا يشكون أن الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، يتصرفون في معاني أفانين الكلام، فيقلدون بجوز الأذهان روائع طرائفه، ويسترقون الأسماع ببدائع عوارفه، وقد حووا فنونها، واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعلوا صرحا لبلوغ أسبابها فقالوا في الخطير والمهين، وتفننوا في الغث والسمين وتفاولوا في القلّ والكثير وتساجلوا في النظم والنثر، فما راعهم إلا رسول كريم منهم، بكتاب عزيز بلسانهم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، أحكمت آياته وفصّلت كلماته، وبهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كلّ مقول، وتظاهر إيجازه، وإعجازه، وتظاهرت حقيقته ومجازه، وتبارت في الحسن مطالعه، ومقاطعه، وحوت كلّ البيان جوامعه، وبدائعه واعتدل مع إيجازه، حسن نظمه، وانطبق على كثرة فوائده، مختار لفظه أزلا لله تعالى، فارقا لعلومهم الأربعة، من الفصاحة والإيجاز والبلاغة الخارجة عن نوع كلامهم، ومن النّظم الغريب، والأسلوب العجيب، الذي لم يهتدوا في المنظوم إلى طريقته، ولا علموا في أساليب الكلام والأوزان مثلا، ومن الإخبار عن الكوائن والحوادث والأسرار والمجنات والضمائر، فيوجد على ما كانت عليه ويعترف المخبر عنها نصحه ذلك وصدقه، وإن كان أعدى العدو
إذا أبطل الكهانة الذي تصدق مرة وتكذب عشرا، ثم ليجتثّها من أصلها برجم الشّهب ورسل النجوم، وجاء من القرآن من الأخبار عن القرون السّالفة، عن الأنبياء والأمم البائدة من الحوادث الماضية ما ينجز من تفرّغ لهذا العلم عن بعضه، وهم أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالا، وأشهر في الخطابة رجالا، وأكثر في السجع والشعر سجالا، وأوسع في اللّغة والغريب مقالا، بلغتهم التي بها يتحاورون، ومنازعهم التي عنها يناضلون صارخين بها في كل حين ومقرعا لهم بضعا وعشرين عاما على رءوس أشرافهم ورؤسائهم أجمعين، فتحدّاهم أوّلا بكلّ القرآن، ثم تحدّاهم بعشر سور، فقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ [يونس: 38] أي بل يقولون اختلقه، والهمزة إشارة لقولهم، أو تقرير لإلزام الحجّة عليهم، وهما متقاربان، لأنّ مآلهما واحد وهو إبطال قولهم وتثبيت التقرير بما يؤذن به قل على سبيل التهكّم عليهم، والتقريع لهم، والمناداة على كمال عجزهم، وإلزام الحجّة عليهم، إن كان الأمر كما زعمتم على وجه الافتراء بعشر سور مثله في البيان وحسن النظم مفتريات مختلفات من عند أنفسكم، «وادعوا من استطعتم من دون الله» أي استعينوا بغير الله ممّن يمكن استعانتكم به على الإتيان بذلك، لأنّه تعالى هو القادر عليه وحده «إن كنتم صادقين» في أنّه افتراه، فعجزوا عن ذلك فتحدّاهم بسورة واحدة منها، كما قرّ عليهم، فقال الله- عز وجل: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة/ 23] أي مماثلة للقرآن في البلاغة وحسن النّظم وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [البقرة/ 23] أي استظهروا لمعارضته من حضركم، أو ارجوا معونة غير الله تعالى، فإنّه هو القادر عليه إن كنتم صادقين في أنّنا لم ننزله عليه، فلمّا عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشهد عليهم بإظهار العجز وإعجاز القرآن، وكانوا أحرص شيء على إخفاء نوره، فلو كان في مقدرتهم معارضته، لعدلوا إليها قطعا للحجّة، فلم يزل صلى الله عليه وسلم يقرعهم أشد التقريع، ويوبّخهم غاية التوبيخ، ويسفه أحلامهم، ويحطّ أعلامهم، ويشتت نظامهم، ويذم آلهتهم، ويستبيح أرضهم، وديارهم، وأموالهم، وهم في كلّ هذا ناكصون عن معارضته، محجمون عن مماثلته يخادعون أنفسهم بالتشغيب، والتكذيب، والإغراء بالافتراء، كقولهم إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر/ 24] وسِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر/ 2] وإِفْكٌ افْتَراهُ [الفرقان/ 4] وأساطير الأوّلين والمباهتة، والرضا بالدنية كقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ [البقرة/ 88] فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت/ 5] ، لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه بخرافات وسواقط الكلم رافعين أصواتهم بها، تشويشا على قارئه، والادّعاء مع العجز بقولهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال/ 31] وقاحة وفرحا وعنادا وإلا فما منعكم لو ساعدتهم الاستطاعة إن شاءوا ذلك أن تحدّاهم وقرعهم بالعجز ليفوزوا للغلبة فرحا بأنفسهم واستنكافهم أن يغلبوا فيها في باب البيان وقد قال تعالى وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة/ 24] فما فعلوا،
وما قدروا على أن يأتوا بمقدار سورة توازيه وتدانيه، مع علمهم في مضادّته ومضارعته.
فصل: لما أثبت كون القرآن معجزة لنبينا صلى الله عليه وسلم وجب الاهتمام بمعرفة وجه الإعجاز، وقد خاض النّاس في ذلك كثيرا بين محسن ومسيء فزعم قوم أنّ التحدّي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذّات وأنّ العرب كلّفت في ذلك ما لا يطاق، وبه وقع عجزها وهو مردود، لأن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يتصوّر التحدي به والصّواب ما قاله الجمهور أنه وقع بالدّالّ على القديم الذي يوصف به الذّات، وأنّ العرب كلّفت في ذلك مالا يطاق، وهو الألفاظ، ثم زعم النظّام من «المعتزلة» أنّ إعجازه بالصّرفة أي أن الله تعالى صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم، وكان مقدورا لهم، لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات، وهذا قول فاسد، بدليل قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء/ 88] الآية، فإنه على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا القدرة لم يبق لهم فائدة لاجتماعهم لمنزلة منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى ممّا يحتفل بذكره، هذا مع أن الإجماع منعقد على أنّ الإضافة للإعجاز إلى القرآن، فكيف يكون معجزا، وليس فيه صفة إعجاز، بل المعجز هو الله تعالى، حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله، وأيضا فيلزم من القول بالصّرفة زوال الإعجاز بزوال زمان التّحدّي وخلوّ القرآن من الإعجاز، وفي ذلك خرق إجماع الأمة، فإن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم العظمى باقية ولا معجزة له باقية سوى القرآن، قال قاضي أهل الحقّ أبو بكر الباقلاني: وممّا يبطل القول بالصّرفة أنّه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع عنها الصّرف لم يكن الكلام معجزا، وإنّما يكون بالمنع معجزا فلا يتضمّن الكلام فضيلة على غيره في نفسه قال: وليس هذا بأعجب من قول فريق منهم أنّ الكلّ قادرون على الإتيان بمثله، وإنّما تأخّروا عنه لعدم العلم بوجه ترتيبه، ولو تعلّموه لوصلوا إليه به، ولا أعجب من قول آخرين أنّ العجز وقع منهم، وأما من بعدهم ففي قدرته الإتيان بمثله، وكلّ هذا لا يعتدّ به، ومن الأول قول القاضي أبي بكر: وجه إعجازه ما فيه من النّظم والتأليف والتّرصيف وأنه خارج عن جميع وجوه النّظم المعتاد في كلام العرب، ومباين لأساليب خطاباتهم، قال: ولهذا لم يمكنهم معارضته.
قال: ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التي أودعوها في الشّعر، لأنّه ليس مما يخرق العادة، بل يمكن استدراكه بالعلم والتّدريب والتّصنّع به، كقول الشّعر ورصف الخطب، وصناعة الرسالة، والحذق في البلاغة، وله طريق تسلك، فأما شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذي عليه، ولا إمام يقتدى به، ولا يصح وقوع مثله اتّفاقا، ونحن نعتقد أنّ الإعجاز في بعض القرآن أظهر، وفي بعض أدقّ وأغمض.
وقال الإمام الرّازيّ: وجه الإعجاز الفصاحة، وغرابة الأسلوب، والسلامة من جميع العيوب.
وقال الزّملكانيّ: وجه الإعجاز راجع إلى التأليف الخاصّ به، لا مطلق التّأليف، بأن اعتدلت مفرداته تركيبا وزنة وعلت مركباته معنى بأن يوقّع كلّ فنّ في مرتبته العليا في اللفظ والمعنى.
وقال حازم في «منهاج البلغاء» : وجه الإعجاز في القرآن، من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمرارا لا يوجد له فترة، ولا يقدر عليه أحد من البشر، وكلام العرب ومن تكلّم بلغتهم لا تستمرّ الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها في العالي منه إلّا في الشّيء اليسير المعدود ثمّ تعرض الفترات الإنسانية فينقطع طيب الكلام ورونقه، فلا تستمرّ لذلك الفصاحة في جميعه، بل توجد في تفاريقه وأجزاء منه.
وقال ابن عطية الصحيح والّذي عليه الجمهور والحذّاق في وجه إعجازه، أنّه وصحّة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه، وذلك بأنّه- عز وجل أحاط بالكلام كلّه علما، فإذا ترتّبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أيّ لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أوّل القرآن إلى آخره، والبشر يعمّهم الجهل والنّسيان والذّهول، ومعلوم ضرورة أنّ أحدا من البشر لا يحيط بذلك، فبهذا جاء نظم القران في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا يبطل قول من قال: إنّ العرب كان في قدرتها الإتيان بمثله فصرفوا عن ذلك، والصّحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قطّ، ولهذا ترى البليغ ينقّح القصيدة أو الخطبة حولا ثمّ ينظر فيها فيغيّر فيها، وهلمّ جرّا، وكتاب الله سبحانه لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد، ونحن تتبيّن لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذّوق وجودة القريحة، وقامت الحجّة على العالم بالعرب، إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة، كما قامت الحجة في معجزة موسى بالسحرة، وفي معجزة عيسى بالأطبّاء، فإن الله- عز وجل إنّما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشّهير أبرع ما يكون في زمن النبي الذي أراد إظهاره، فكان السحر قد انتهى في مدّة موسى إلى غايته، وكذلك الطّبّ في زمن عيسى، والفصاحة في زمن محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الخطّابيّ: ذهب الأكثرون من علماء النظر إلى أنّ وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة لكن صعب عليهم تفصيلها، وصغوا فيه إلى حكم الذوق، قال: والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها في درجات البيان متفاوتة، فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح الغريب السّهل، ومنها الجائز الطلق الرّسل، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود، فالأول أعلاها، والثاني أوسطها، والثالث أدناها وأقربها، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصّة، وأخذت من كل نوع شعبة، فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام،
بجمع صفتي الفخامة والعذوبة وهما على الانفراد في نعوتهما، كالمتضادين، لأن العذوبة تتابع السهولة، والجزالة والمتانة يعالجان نوعا من الزعورة، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبوّ كل واحد منهما على الآخر فضيلة خصّ بها القرآن، ليكون آية بينة لنبيه صلى الله عليه وسلم وإنما تعذّر على البشر الإتيان بمثله لأمور.
منها: أنّ علمه لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية، وأوضاعها التي هي ظروف المعاني ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض فيتوصلوا باختيار الأفضل من الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله، وإنّما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة، لفظ حاصل ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا، وأشد تلاؤما، وتشاكلا من نظمه، وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والتّرقي إلى أعلى درجاته، وقد توجد هذه الفضائل الثلاثة، على التفرّق في أنواع الكلام، فأمّا أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلّا في كلام العليم القدير، فخرج من هذا أن القرآن إنّما صار معجزا، لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التآليف مضمنا أصحّ المعاني، من توحيد الله تعالى، وتنزيهه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته وبيان لطريق عبادته، في تحليل وتحريم وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم وأمر بالمعروف، ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساويها، واضعا كلّ شيء منها موضعه الذي لا يرى شيئا أولى منه، ولا يتوهّم في صورة العقل أليق به منه مودعا أخبار القرون الماضية وما نزل منه مثلات الله تعالى بمن مضى وعاند منهم منبئا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الآتية من الزمان جامعا في ذلك بين الحجّة والمحتجّ له، والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أكبر للزوم ما دعا عليه وإنباء عن وجوب ما أمر به، ونهى عنه، ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتّى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله، أو مناقضته في شكله، ثم صار المعاندون له يقولون مرّة إنه شعر لمّا رأوه منظوما، ومرّة إنّه سحر لمّا رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه، وقد كانوا يجدون له وقعا في القلوب، وفزعا في النفوس يريبهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف، ولذلك قالوا إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة، وكانوا مرّة بجهلهم، يقولون أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] مع علمهم أنّ صاحبهم أمّيّ وليس بحضرته من يملي أو يكتب في نحو ذلك، من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز، ثم قال: وقد قلت في إعجاز القرآن وجها ذهب عنه الناس، وهو صنيعه في
القلوب، وتأثيره في النفوس، فإنّك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما، ولا منثورا إذا قرع السّمع خلص له إلى القلب من اللّذّة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في حال آخر، ما يخلص منه إليه قال الله- سبحانه وتعالى لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21] وقال نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر/ 23] .
وقال ابن سراقة اختلف أهل العلم في وجه إعجاز القرآن، فذكروا في ذلك وجوها كثيرة كلّها حكمة وصواب، وما بلغوا في وجوه إعجازه جزءا واحدا من عشر معشاره.
فقال قوم: هو الإيجاز مع البلاغة. وقال آخرون: هو البيان والفصاحة.
وقال آخرون: هو الرّصف والنّظم وقال آخرون: فهو كونه خارجا عن جنس كلام العرب من النّظم والنّثر والخطب والشّعر مع كون حروفه في كلامهم ومعانيه في خطابهم وألفاظه من جنس كلماتهم، وهو بذاته قبيل غير قبيل كلامهم، وجنس آخر متميز عن أجناس خطابهم، حتى إن من اقتصر على معانيه، وغيّر حروفه، أذهب رونقه، ومن اقتصر على حروفه وغير معانيه، أبطل فائدته، فكان في ذلك أبلغ دلالة على إعجازه، وقال آخرون: هو كون قارئه لا يكلّ، وسامعه لا يملّ، وإن تكرّرت عليه تلاوته.
وقال آخرون: هو ما فيه من الإخبار عن الأمور الماضية.
وقال آخرون: هو ما فيه من علم الغيب، والحكم على الأمور بالقطع.
وقال آخرون: هو كونه جامعا لعلوم يطول شرحها ويشق حصرها. قال الزركشي في «البرهان» : أجمع أهل التحقيق على أنّ الإعجاز وقع بجميع ما سبق من الأقوال لا بكل واحد على انفراده، فإنه جمع ذلك كلّه، فلا معنى لنسبته إلى واحد منها بمفرده مع اشتماله على الجميع، بل وغير ذلك مما لم يسبق، فمنها الرّوعة التي له في قلوب السّامعين وأسماعهم سواء المقرّ والجاحد، ومنها: أنه لم يزل ولا يزال غضا طريّا في أسماع السامعين وعلى السنة القارئين، ومنها: جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادّين لا يجتمعان غالبا في كلام البشر.
ومنها جعله آخر الكتب غنيا عن غيره، وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد يحتاج إلى بيان يرجع فيه إليه، كما قال سبحانه وتعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل/ 76] وقال القاضي وغيره من العلماء:[....] اختلف الناس في الوجه الذي وقع به إعجاز القرآن على أقوال حاصلها: أنّه وقع بعدّة وجوه منها: يخصّ حسن تأليفه، ومنها: التئام كلمه، وفصاحته ووجوه إيجازه، من قصر وحذف جزء جملة مضاف أو موصوف أو صفة في نحو «واسأل القرية» أي أهلها ومنادون أي برجال، و «يأخذ كلّ
سفينة غصبا» أي سفينة صالحة وغير ذلك مما استدل عليه من وجوه الإعجاز، وبلاغته الخارقة لعادة العرب في عجائب تراكيبهم ومنها صورة نظمة العجيب، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب، ومنهاج نظمها ونثرها، الذي جاء عليه ووقفت عليه مقاطع آياته، وانتهت إليه فواصل كلماته، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ومنها: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغّيبات، وما لم يكن موجوداً فوجد كما ورد.
ومنها إنباؤه عن أخبار القرون الماضية والأمم البائدة والشرائع السالفة ما كان لا يعلم منه القصّة الواحدة إلا الفذّ من إخبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلّم ذلك، فيورده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على وجهه، ويأتي به على نصّه، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.
ومنها: ما تضمّنه عن الأخبار بالضمائر كقوله تعالى إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ [آل عمران/ 122] وقوله: يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ [المجادلة: 8] .
ومنها آي وردت بتعجيز قوم في قضايا وإعلامهم أنّهم لا يفعلونها، فما فعلوا، ولا قدروا على ذلك كقوله في اليهود: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة/ 95] .
ومنها ترك المعارضة مع توفّر الدواعي وشدة الحاجة.
ومنها: الرّوعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعهم والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته، كما وقع لجبير بن مطعم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب والطور، فلما بلغ هذه الآية أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ إلى قوله الْمُصَيْطِرُونَ [الطور/ 35- 37] كاد قلبي [....] أن يطير، قال: وذلك أوّل ما وقر الإسلام في قلبي، وقد سمع غير واحد آيات منه، فمات لوقته، وألّف بعضهم كتابا فيمن قتله القرآن.
ومنها: أن قارئه لا يملّه، وسامعه لا يمجّه، بل الإكباب على تلاوته، يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبّة وغيره من الكلام يعادى إذا أعيد، ويملّ مع الترديد، ولهذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن بأنّه لا يخلق على كثرة «الترداد» .
ومنها: كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدنيا مع تكفّل الله عز وجل بحفظه، ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب، ولا أحاط بعلمها أحد، في كلمات قليلة، وأحرف معدودة.
ومنها جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة، وهما كالمتضادين لا يجتمعان في كلام البشر غالبا.
ومنها جعله آخر الكتب غنيّا عن غيره، وجعل غيره من الكتب قد يحتاج إليه كما قال
تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل/ 76] قال القاضي: والوجوه الأربعة الأول هي المعتمد عليها في الإعجاز والباقي يعدّ في خصائصه، وبقي من خصائصه كونه نزل على سبعة أحرف، وكونه نزل مفرّقا منجّما، وكونه ميسّرا للحفظ، وسائر الكتب بخلاف ذلك في الثّلاثة.
قال القاضي: وإذ عرفت ما ذكر من وجوه إعجاز القرآن عرفت أنّه لا تحصى عدد معجزاته بألف ولا ألفين ولا أكثر، لأنه صلى الله عليه وسلم قد تحدّى به بسورة منه فعجزوا عنها.
قال أهل العلم: وأقصر الصّور «إنا أعطيناك الكوثر» فكل آية أو آيات منه بعددها وقدرها معجزة، ثم فيها نفسها معجزات على ما سبق.
قال الشيخ- رحمه الله تعالى ورضي الله عنه- وإذا أعددتّ كلمات سورة الكوثر وجدتّها بضع عشرة كلمة، وقد عدّ قوم كلمات القرآن سبعا وسبعين ألف كلمة وتسعمائة وأربعا وثلاثين تقريبا فالقدر المعجز منه يكون في العدد نحو: سبعة آلاف تقريبا تضرب في ثمانية أوجه الأوّلان، والسابع والثامن، والتّاسع، والعاشر، والحادي عشر، والثاني عشر تبلغ ستة وخمسين ألف معجزة، ثمّ تضمّ إلى ذلك ما في بعضه من الثالث، والرابع، والخامس، والسادس جملة وافرة فتصل معجزات القرآن بذلك إلى ستين ألف معجزة أو أكثر. انتهى.
وقال القاضي أيضا: معجزات الرّسل، ويرحم الله سيدي محمد وفا حيث قال:
له معجز القرآن في غير جمعه
…
جوامع آيات بها أفصح الرّشد
حديث ثرية عن حدوث منزه
…
قديم صفات الذّات ليس له ضدّ
بلاغ بلاغ للبلاغة معجز
…
له معجزات لا يعدّ لها حدّ
تحلّت بروح الوحي حلّت نسجه
…
عقود اعتقاد لا يحلّ لها عقد
وغاية أرباب البلاغة عجزهم
…
لديد وإن كانوا هم الألسن اللدّ
ورحم الله السرقسطي حيث قال:
عجّزت بالوحي أرباب البلاغة في
…
عصر البيان فضلّت أوجه الحيل
سألتهم سورة في مثل حكمته
…
قتلهم عنه العجز حين تلي
ورام رجس كذوب أن يعارضه
…
بغي عييّ فلم يحسن ولم يطل
مشيح بركيك الإفك ملتبس
…
ملهج بذوي الزّور والخطل
يمجّ أوّل حرف سمع سامعه
…
ويعتريه كلال العجز والملل
كأنّ منطق أنورها شدّ به
…
لبس من الخيل أو مسّ من الخبل
أمرت البين وأعوزت محبته
…
فيها وأعمى بصير العين بالنّقل
وأبيض الدّرع من شؤم راحته
…
من بعد إرساله رسل منه منهل
برئت من دين قوم لا قوام له
…
عقولهم من وقاف الفيّ في عقل
يستخبرون فتى الغيب من حجر
…
صلد ويرجون غوث النّصر من هبل
الأولى: اختلف في قدر المعجزة من القرآن فذهبت بعض المعتزلة إلى أنّه يتعلق بجميع القرآن، والآيتان السابقتان تردّه.
وقال القاضي أبو بكر: يتعلق الإعجاز بسورة طويلة كانت أو قصيرة، تشبثا بظاهر قوله:
«بسورة» .
وقال في موضع آخر: يتعلّق بسورة أو قدرها من الكلام، بحيث يتبين فيه تفاضل قوى البلاغة.
قال: فإذا كانت آية بقدر حرف سورة، وإن كانت سورة كسورة الكوثر، فذلك معجز قال: ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر.
قال قوم: لا يحصل الإعجاز بآية بل يشترط الآيات الكثيرة.
وقال آخرون: يتعلق بقليل القرآن وكثيره لقوله تعالى فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [الطور/ 34] قال القاضي أبو بكر: ولا دلالة في الآية، لأنّ الحديث التامّ لا يتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة.
الثانية: اختلف في أنّه هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة.
قال القاضي: فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعريّ إلى أنّ ظهور ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ضرورة وكونه معجزا يعلم بالاستدلال، قال: والذي تقوله: أن الأعجميّ لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالا، وكذلك من ليس ببليغ، فأمّا البليغ الذي قد أحاط بمذاهب العرب، وغرائب الصّنعة، فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه وعجز غيره عن الإتيان بمثله.
الثالثة: اختلف في تفاوت القرآن في مراتب الفصاحة، بعد اتفاقهم على أنّه في أعلى مراتب البلاغة بحيث لا يوجد في التراكيب ما هو أشدّ تناسبا ولا اعتدالا في إفادة ذلك المعنى منه، فاختار القاضي المنع، وأن كلّ كلمة فيه موصوفة بالذّروة العليا، وإن كان بعض النّاس أحسن إحساسا له من بعض، واختار أبو النصر القشيري وغيره التّفاوت، فقال: لا ندّعي أن كل ما في القرآن على أرفع الدّرجات في الفصاحة وكذا قال غيره: في القرآن الأفصح والفصيح، وإلى هذا نحا الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم أورد سؤالا، وهو إنه لم يأت القرآن جميعه
بالأفصح؟، وأجاب عنه الصّدر موهوب الجزريّ بما حاصله أنّه لو جاء القرآن على ذلك لكان على غير النّمط المعتاد في كلام العرب من الجمع بين الأفصح والفصيح، فلا تتم الحجّة في الإعجاز فجاء على نمط كلامهم المعتاد، ليتمّ ظهور العجز عن معارضته، ولا يقولوا مثلا أتيت بما لا قدرة لنا عليه أو على جنسه كما لا يصح للبصير أن يقول للأعمى: قد غلبتك بنظري، لأنّه يقول له: إنّما تتمّ لك الغلبة، لو كنت قادرا على النّظر، وكان نظرك أقوى من نظري، فأمّا إذا فقد أصل النّظر، فكيف يصح من المعارضة والله أعلم.
الرابعة: قيل: الحكمة من تنزيه القرآن عن الشّعر الموزون، مع أن الموزون من الكلام رتبته فوق رتبة غيره، أنّ القرآن منبع الحقّ ومجمع الصدق، وقصارى أمر الشاعر التخييل، بتصوير الباطل في صورة الحقّ والإفراط في الإطراء والمبالغة في الذّمّ والإيذاء دون إظهار الحقّ وإثبات الصدق، ولهذا نزه الله- سبحانه وتعالى نبيّه عنه، ولأجل شهرة الشّعر بالكذبة سمّى أصحاب البرهان القياسات المؤدية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب شعريّة.
وقال بعض الحكماء: لم ير متدين صادق اللهجة مغلقا في شعره، وأما ما وجد في القرآن مما صورته صورة الموزون، فالجواب عنه إن ذلك لا يسمّى شعرا، لأنّ شرط الشّعر القصد، ولو كان شعرا لكان كل من اتّفق في كلامه شيء موزون شاعرا، ولكان الناس كلّهم شعراء، لأنه قلّ أن يخلو كلام احد عن ذلك، وقد ورد ذلك على الفصحاء، فلو اعتقدوه شعرا لبادروا إلى معارضته والطعن عليه، لأنّهم كانوا أحرص شيء على ذلك، وإنّما يقع ذلك لبلوغ الكلام الغاية القصوى في الانسجام. وقيل: البيت الواحد وما كان على وزنه لا يسمّى شعرا، وأقلّ الشّعر بيتان فصاعدا.
وقيل: الرّجز لأنه لا يسمى شعرا أصلا، وقيل: أقل ما يكون من الرّجز شعرا أربعة أبيات، وليس ذلك في القرآن بحال.
الخامسة: قال بعضهم: التحدي إنما وقع للإنس دون الجنّ، لأنهم ليسوا من أهل اللسان العربيّ الذي جاء القرآن على أساليبه وإنّما ذكروا في قوله قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الاسراء: 88] تعظيما لإعجازه، لأنّ للهيئة الاجتماعية من القوّة ما ليس للأفراد فإذا فرض اجتماع الثّقلين فيه، وظاهر بعضهم بعضا وعجزوا عن المعارضة، كان الفريق الواحد أعجز.
وقال غيره: بل وقع للجن والملائكة منويون في الآية، لأنّهم لا يقدرون أيضا على الإتيان بمثل هذا القرآن.
وقال الكرماني في «غرائب التفسير» : إنّما اقتصر في الآية على ذكر الإنس والجنّ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى الثقلين دون الملائكة، قلت: وسيأتي بسط الكلام عن ذلك في الخصائص.
السادسة: قال القاضي أبو بكر: فإن قيل هل تقولون: إن غير القرآن من كلام الله تعالى معجز كالتّوراة والإنجيل؟ قلنا: ليس شيء من ذلك بمعجز في النظم والتأليف، وإن كان معجزا كالقرآن فيما يتضمن من الأخبار بالغيوب وإنما لم يكن معجزا، لأن الله تعالى لم يصفه بما وصف به القرآن، ولأنّا قد علمنا أنه لم يقع التّحدي إليه، كما وقع في القرآن، ولأنّ ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التّفاضل الذي ينتهي إلى حدّ الإعجاز.
وقد ذكر ابن جني في «الخاطريّات» في قوله تعالى: يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى [طه: 65] إن العدول عن قوله «إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ» لغرض أحدهما: لفظيّ وهو المزاوجة لرؤوس الآي، والآخر معنويّ، وهو أنّه سبحانه أراد أن يخبر عن قوّة نفس السّحرة، واستهانتهم على موسى فجاء عنهم باللّفظ أتمّ وأوفى منه إسنادهم الفعل إليه، ثم أورد سؤالا، وهو أنّا نعلم أنّ السّحرة لم يكونوا أهل لسان، فيذهب هذا المذهب من صنعة الكلام، وأجاب بأن جميع ما ورد في القرآن حكاية عن غير أهل اللّسان من القرون الخالية إنّما هو معرب عن معانيهم وليس بحقيقة ألفاظهم، ولهذا لا يشكّ في أن قوله تعالى: قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى [طه:
63] أنّ هذه الفصاحة لم تجر على لغة العجم.
السابعة: سئل الغزاليّ عن معنى قوله تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء/ 82] .
فأجاب: الاختلاف لفظ مشترك بين معان، وليس المراد نفي اختلاف الناس فيه، بل نفي الاختلاف عن ذات القرآن، يقال: هذا كلام مختلف، أي لا يشبه أوله آخره في الفصاحة، أو هو مختلف الدّعوى، أي بعضه يدعو إلى الدين، وبعضه يدعو إلى الدنيا، وهو مختلف النظم، فبعضه على وزن الشعر، وبعضه منزحف، وبعضه على أسلوب مخصوص في الجزالة، وبعضه على أسلوب يخالفه، وكلام الله منزّه عن هذه الاختلافات، فإنه على منهاج واحد في النظم مناسب أوله آخره، وعلى درجة واحدة في غاية الفصاحة، فليس يشتمل على الغثّ والسمين، ومسوق لمعنى واحد، وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى، وصرفهم عن الدنيا إلى الدّين، وكلام الآدميين تتطرق إليه هذه الاختلافات إذ كلام الشعراء والمترسّلين إذا قيس عليه، وجد فيه اختلاف في منهاج النظم، ثم اختلاف في درجات الفصاحة، بل في أصل الفصاحة،
حتى يشتمل على الغثّ والسمين، فلا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان، بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات سخيفة، وكذلك تشتمل القصائد والأشعار على أغراض مختلفة، لأن الشعراء والفصحاء في كل واد يهيمون، فتارة يمدحون الدنيا، وتارة يذمونها، وتارة يمدحون الجبن ويسمونه حزما، وتارة يذمونه ويسمونه ضعفا، وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صرامة، وتارة يذمّونها ويسمّونها تهوّرا، ولا ينفك كلام آدمي عن هذه الاختلافات، لأن منشأها اختلاف الأغراض والأحوال، والإنسان تختلف أحواله فتساعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه، وتتعذر عليه عند الانقباض، وكذلك تختلف أغراضه، فيميل إلى الشيء مرّة، ويميل عنه أخرى، فيوجب ذلك اختلافا في كلامه بالضرورة، فلا يصادف إنسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة- وهي مدة نزول القرآن- فيتكلم على غرض واحد ومنهاج واحد، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بشرا تختلف أحواله. فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
الثامنة: قال البارزي في أول كتابه «أنوار التحصيل في أسرار التنزيل» : اعلم أنّ المعنى الواحد قد يخبر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، وكذلك كل واحد من جزأي الجملة، قد يعبّر عنه بأفصح ما يلائم الجزء الآخر، ولا بد من استحضار معاني الجمل، أو استحضار جميع ما يلائمها من الألفاظ، ثم استعمال أنسبها وأفصحها، واستحضار هذا متعذّر على البشر في أكثر الأحوال، وذلك عتيد حاصل في علم الله تعالى، فلذلك كان القرآن أحسن الحديث وأفصحه، وإن كان مشتملا على الفصيح والأفصح، والمليح والأملح، ولذلك أمثلة، منها قوله تعالى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ، [الرحمن/ 54] لو قال مكانه:«وثمر الجنتين قريب» ، لم يقم مقامه من جهة الجناس بين الجني والجنتين، ومن جهة أن الثمر لا يشعر بمصيره إلى حال يجنى فيها، ومن جهة مؤاخاة الفواصل. ومنها قوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ [العنكبوت/ 48] ، أحسن من التعبير ب «تقرأ» لثقله بالهمزة. ومنها لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة/ 2] أحسن من «لا شك فيه» لثقل الإدغام، ولهذا كثر ذكر الريب منها. وَلا تَهِنُوا [آل عمران/ 139] ، أحسن من «ولا تضعفوا» لخفته. ووَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم/ 4] أحسن من «ضعف» لأن الفتحة أخف من الضمة. ومنها آمَنَ أخفّ من «صدق» ، ولذا كان ذكره أكثر من ذكر التصديق وآثَرَكَ اللَّهُ [يوسف/ 91] أخفّ من «فضلك» وآتَى أخف من «أعطى» . وأُنْذِرَ [يس/ 6] أخفّ من «خوف» . وخَيْرٌ لَكُمْ [البقرة/ 54] أخفّ من «أفضل لكم» ، والمصدر في نحو هذا خَلْقُ اللَّهِ [لقمان/ 11] ، يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة/ 3] ، أخف من «مخلوق» و «الغائب» ، وتَنْكِحَ [البقرة/ 230] أخف من «تتزوج» ، لأن «تفعل» أخف من «تفعّل» ، ولهذا كان ذكر النكاح فيه أكثر.
التاسع في بيان غريب ما سبق.
الخطباء: بالمد جمع خطيب وهو الحسن الخطبة من الكلام المنثور.
الرّصف: براء مفتوحة فصاد مهملة ساكنة ففاء: الشّد والضم.
العذبة: القريض وهو الشعر.
ذرابة اللّسان: من ذرب ككتف حدّته.
الألباب: جمع لب بضم اللام والموحدة العقل.
المآرب: كفاعل جمع مأرب الحاجة.
أنسجم: بهمزة فنون ساكنة فسين مهملة فجيم فميم مفتوحات.
سمط اللآل: أصل السمط السلك ما دام فيه الخرز.
إحن: بهمزة مكسورة فحاء مهملة مفتوحة فنون جمع إحنة وهي الحقد.
الدّمن: بدال مهملة مكسورة فميم مفتوحة فنون جمع دمنة وهي مبارك الإبل وهي في الأصل ما في مبارك الإبل من بعرها المتلبد.
الجعد: بجيم مفتوحة فعين مهملة الندم فدال للمجتمع.
البنان: بموحدة تنوين بينهما ألف الأصابع، وقيل: أطرافها وواحدها بنان.
الجزل: بجيم مفتوحة فراء ساكنة الكلام التام القوي الشديد.
الرونق: الحسن واللطافة.
الدامغة: بدال مهملة وألف فميم مكسورة غير معجمة فتاء تأنيث المهلك من دمغه إذا أصاب دماغه.
ألهمه: ما ألقى في روعه.
بدايع- بموحدة فدال مهملة مفتوحتين فألف فتحتية فعين مهملة- أي نجائهم بغتة من غير موعد ومعرفة فراعهم ذلك وأفزعهم.
المجال....
الاتجال....
التوبيخ....
الإحجام: بهمزة مكسورة فحاء مهملة ساكنة فجيم فألف فميم التأخر عن الشيء والهيبة من أخذه.
بهرت- بموحدة فهاء فراء مفتوحات فتاء تأنيث- غلبت بلاغتها.
ناكصون:....
تلهم- بمثناة فوقية فلام مفتوحتين فهاء فميم- التهمه.
حين- بفتح الحاء المهملة وسكون التحتية- الهلاك.
الرجز: براء مكسوة فجيم ساكنة فمهملة كالنجس.
بعي- بعين مهملة مكسورة- العجز.
الغي- بغين معجمة مفتوحة فمثناة تحتية مشددة.
يزرى- بزاء فراء التحقير.
الخطل- بخاء معجمة فطاء مهملة مفتوحتين فلام- المنطق الفاسد.
الكلال: العي والتعب.
الورهاء- بواو مفتوحة فراء ساكنة فهاء ممدودة ذا الخرقاء.
شذّبه- بشين وذال معجمتين فموحدة- فرّقه ونقبه.
لبس- بلام مفتوحة فموحدة ساكنة فسين مهملة اختلاط.
الخبل- بخاء معجمة وموحدة ساكنة- الفساد وبفتحها الجنون.
أمرّت- بهمزة وميم مفتوحتين وراء شدت أي صار ماؤها مرّ أو أعمى بصير العين.
والتفل: بمثناة مفتوحة وفاء محركة: هو البصاق.