المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول في سورة الأنعام - الإشارات الإلهية إلي المباحث الأصولية

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌ترجمة المصنف

- ‌وصف المخطوط

- ‌مطلب في الفرق بين الخلق والكسب

- ‌وقد بقي الكلام بين الجبرية والكسبية:

- ‌مبحث العموم والخصوص

- ‌القول في الفاتحة

- ‌القول في سورة البقرة

- ‌القول في سورة آل عمران

- ‌القول في سورة النساء

- ‌القول في سورة المائدة

- ‌القول في سورة الأنعام

- ‌القول في سورة الأعراف

- ‌القول في سورة الأنفال

- ‌القول في سورة براءة

- ‌القول في سورة يونس

- ‌القول في سورة هود

- ‌القول في سورة يوسف

- ‌القول في سورة الرعد

- ‌القول في سورة إبراهيم

- ‌القول في سورة الحجر

- ‌القول في سورة النحل

- ‌القول في سورة سبحان

- ‌القول في سورة الكهف

- ‌القول في سورة مريم

- ‌القول في سورة طه

- ‌القول في سورة الأنبياء

- ‌القول في سورة الحج

- ‌القول في سورة المؤمنون

- ‌القول في سورة النور

- ‌القول في سورة الفرقان

- ‌القول في سورة الشعراء

- ‌القول في سورة النمل

- ‌القول في سورة القصص

- ‌القول في سورة العنكبوت

- ‌القول في سورة الروم

- ‌القول في سورة لقمان

- ‌القول في السورة السجدة

- ‌القول في سورة الأحزاب

- ‌القول في سورة سبأ

- ‌القول في سورة الملائكة

- ‌القول في سورة يس

- ‌القول في سورة الصافات

- ‌القول في سورة ص

- ‌القول في سورة الزمر

- ‌القول في سورة غافر

- ‌القول في سورة فصلت

- ‌القول في سورة الشورى

- ‌القول في سورة الزخرف

- ‌القول في سورة الدخان

- ‌القول في سورة الجاثية

- ‌القول في سورة الأحقاف

- ‌القول في سورة محمد

- ‌القول في سورة الفتح

- ‌القول في سورة الحجرات

- ‌القول في سورة ق

- ‌القول في سورة الذاريات

- ‌القول في سورة الطور

- ‌القول في سورة النجم

- ‌القول في سورة القمر

- ‌القول في سورة الرحمن

- ‌القول في سورة الواقعة

- ‌القول في سورة الحديد

- ‌القول في سورة المجادلة

- ‌القول في سورة الحشر

- ‌القول في سورة الممتحنة

- ‌القول في سورة الصف

- ‌القول في سورة الجمعة

- ‌القول في سورة المنافقين

- ‌القول في سورة التغابن

- ‌القول في سورة الطلاق

- ‌القول في سورة التحريم

- ‌القول في سورة الملك

- ‌القول في سورة (ن)

- ‌القول في سورة الحاقة

- ‌القول في سورة المعراج

- ‌القول في سورة نوح

- ‌القول في سورة الجن

- ‌القول في سورة المزمل

- ‌القول في سورة المدثر

- ‌القول في سورة القيامة

- ‌القول في سورة الإنسان

- ‌القول في سورة المرسلات

- ‌القول في سورة عمّ

- ‌القول في سورة النازعات

- ‌القول في سورة عبس

- ‌القول في سورة التكوير

- ‌القول في سورة الانفطار

- ‌القول في سورة المطففين

- ‌القول في سورة الانشقاق

- ‌القول في سورة البروج

- ‌القول في سورة الطارق

- ‌القول في سورة الأعلى

- ‌القول في سورة الغاشية

- ‌القول في سورة الفجر

- ‌القول في سورة البلد

- ‌القول في سورة الشمس

- ‌القول في سورة الليل

- ‌القول في سورة الضحى

- ‌القول في سورة ألم نشرح لك صدرك

- ‌القول في سورة التين

- ‌القول في سورة اقرأ

- ‌القول في سورة القدر

- ‌القول في سورة البينة

- ‌القول في سورة الزلزلة

- ‌القول في سورة العاديات

- ‌القول في سورة القارعة

- ‌القول في سورة التكاثر

- ‌القول في سورة العصر

- ‌القول في سورة الهمزة

- ‌القول في سورة الفيل

- ‌القول في سورة قريش

- ‌القول في سورة الماعون

- ‌القول في سورة الكوثر

- ‌القول في سورة الكافرين

- ‌القول في سورة النصر

- ‌القول في سورة «تبت»

- ‌القول في سورة الإخلاص

- ‌القول في المعوذتين

الفصل: ‌القول في سورة الأنعام

‌القول في سورة الأنعام

{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (1)[الأنعام: 1] اختلف في أيهما خلق أولا؟ على قولين مشهورين ممكنين تضمنهما القرآن، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله-عز وجل.

{وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] فيه سؤلان: أحدهما [لم قدّم] الظلمات على النور؟

وجوابه: أن الظلمة أمر عدمي؛ إذ هي عدم الاستنارة عما من شأنه/ [153/ل] أن يستنير، والنور أمر وجودي، والعدم قبل الوجود.

الثاني: لم جمع الظلمات ووحد النور؟

والجواب: أن النور أمر واحد حقيقي بسيط: والظلمات أعدام نشأت عن الأجرام المتعددة، إذ الظلمة إنما تحدث في مكان لحيلولة جرم كثيف بينه وبين النير، فإذا حالت عدة أجرام بين النير وعدة أمكنة حدثت ظلمات بالضرورة، واعتبر هذا بعدة أشجار متفرقة يحدث لها في النهار المشمس والليل المقمرم عدة ظلال، والليل ظلمة حدثت لحيلولة الأرض بين الشمس والفضاء، فلذلك أظلم.

{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (1)[الأنعام: 1] أي يجعلون له عدلا يعبد معه، مع أنه مخلوق وإنما الله-عز وجل-هو خالق كل شيء، وهذا من أدلة التوحيد، وتقريره أن الله-عز وجل[هو خالق الموجودات. / [72 ب/م] وكل من كان خالق الموجودات، فهو وحده الإله، فالله-عز وجل] وحده هو الإله، والمقدمتان واضحتان، وفيه تعريض بالمجوس؛ لنصه على خلق الظلمات والنور اللذين اعتقدهما المجوس إلهين، وتقريره أن الظلمة والنور مخلوقان، ولا شيء من المخلوق بإله، فلا شيء من الظلمة والنور بإله، وإنما اغتر المجوس بأن قالوا: العالم مشتمل على خير وشر، وهما لا يصدران عن مبدأ واحد، فهما صادران عن مبدأين، وليس أولى بهما من النور والظلمة؛ لأن النور خير فناسب أن يصدر عنه الخير، والظلمة شر؛ فناسب أن يصدر عنها الشر.

واعلم أن هذا كلام ركيك لا يستحق جوابا، لكن لا بد من كشف الشبهة، فنقول:

قولكم: «الخير والشر لا يصدران عن مبدأ واحد» . إن بنيتم ذلك على رأي الفلاسفة في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فهو أصل باطل وشبهة زائفة، وإن كان شيئا قلتموه

ص: 234

بالمناسبة المجردة، فهو منقوض نقضا كليا وجزئيا.

أما نقضه الكلي؛ فإن العناصر الأربعة التي هي أمهات العالم كل واحد منها يصدر عنه خير وشر مع أنه واحد، فالنار تنضج الطبيخ والخبز وهو خير، وتحرق الثياب ونحوها وهو شر، والهواء ينفس عن الحيوان ويدفع نتن الفضاء ونحوه من منافعه وهو خير، ويعصف ويشتد؛ فيهدم البيوت ويحطم الأشجار ونحوه من مضاره، / [154/ل] وهو شر، والماء يروي العطشان، ويطهر المغتسل، ويبرد جسم المتبرد به وهو خير، ويغرق كثيرا من الناس والحيوان كما فعل الطوفان وذلك شر، والأرض تقل الحيوان أن يغور فيها، ويخرج منها الزرع والنبات والمعادن، وهو خير، وإذا استولى جرم منها على حيوان قتله غما، وهو شر.

وأما نقضه الجزئي: فقل شيء يعتبر حاله إلا وفي طيه ضر ونفع، وخير وشر؛ كالسباع هي ضارة بالافتراس، نافعة بما فيها من الخواص، والأفعى ونحوها من ذوات السموم فيها السم الضار، والدرياق النافع، ونحو ذلك كثير؛ فبطل قولكم في وجوب تعدد المبدأ.

ثم قولكم: ليس أولى بهما من النور والظلمة، معارض بأن السماء والأرض أولى بهما؛ لأن السماء شفافة علوية لطيفة فهي خير، والأرض سفلية كثيفة، فهي شر، وهما أصلان، أو كالأصلين للنور والظلمة.

ومما يناقضون به أن النهار فاضح بنوره، والليل كاتم بظلمته، وذلك شر صادر عن الخير، وخير صدر/ [73 أ/م] عن شر، ومن ثم قال الشاعر:

لا تلق إلا بليل من تواصله

فالشمس نمامة والليل قواد

وقال الآخر في صفة هارب تحت الليل:

وكم لظلام الليل عندك من يد

تخبر أن المانوية تكذب

وهم أصحاب ماني الزنديق، طائفة من المجوس، وأيضا لو كان النور والظلمة إلهين لكانا مؤثرين فيما يحدث فيهما؛ فلو ولد مولود في النور وآخر في الظلمة أمكن في العقل أن يكونا خيرين [أو شريرين، أو أحدهما خيرا والآخر شريرا، فبتقدير أن يكونا خيرين] يلزم صدور الخير عن الظلمة الشريرة، وبتقدير أن يكونا شريرين يلزم صدور الشر عن النور والخير، وبتقدير أن يكون المولود في [النور: شريرا و] الآخر خيرا يلزم الأمران جميعا، وكل ذلك ما ينقض قولهم ويهدم أصلهم.

ص: 235

[155/ل] مشهور، حتى صار الواقف على السماوات يعرف بذلك أنه من مثبتي الجهة، والأشبه من حيث المعنى عدم الوقف عليه كقوله-عز وجل {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} (84) [الزخرف: 84].

{وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} (9)[الأنعام: 9] زعم بعضهم أن المسيح كان ملكا في هيكل بشر إلباسا على الناس، حتى ضلت فيه النصارى. قال: وهذه الآية تشير إلى ذلك، وهذا قول مشتق من قول النصارى؛ لأن أولئك جعلوا الحلول فيه للاهوت وهذا نزل درجة، وجعله للملك.

ثم يحتج بالآية على المعتزلة في أن الله-عز وجل-هو الذي يهدي ويضل؛ لأنه أخبر أنه لو أجاب الكفار إلى سؤالهم لما نفعهم ذلك في الهداية، مع إلباسه وتشبيهه عليهم.

{قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (12)[الأنعام: 12] هذا إخبار بالبعث، وبرهانه في مواضع أخر تذكر إن شاء الله عز وجل.

{وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (13)[الأنعام: 13] أي: وتحرك، فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر؛ لدلالته عليه بالالتزام، ولعل فيه إشارة إلى دليل حدوث العالم، وتقريره أن كل ما اشتمل عليه الليل والنهار فهو إما ساكن، وإما متحرك وكل ما كان إما ساكنا وإما متحركا فهو حادث، فكل ما اشتمل عليه الليل والنهار حادث.

أما الأولى: فواضحة لاستحالة خلق شيء مما اشتملا عليه من الحركة والسكون، إن كان جوهرا فبالذات، وإن كان عرضا فبالعرض، كالجوهر واللون القائم به.

وأما الثانية: فلأن الحركة والسكون من أمارات الحدوث كما عرف.

{وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (18)[الأنعام: 18] احتج بها أصحاب الجهة حملا له على الفوقية الحسية، وحمله الآخرون [وهم كافة أهل الحق] / [73 ب/م] على الفوقية المعنوية، نحو قولهم: الملك فوق الوزير، أي: في الرتبة، وفوقية الله عز وجل-بالرتبة والقدرة والكمال إذ هو قديم قادر كامل، ومن سواه حادث عاجز ناقص، وفي المسألة مباحث أخر.

ص: 236

لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ (19)[الأنعام: 19] هذا قاطع في جواز تسمية الله عز وجل شيئا، خلافا لبعض المعتزلة والشيعة. لنا أن معنى هذا الكلام: قل الله أعظم شيء أو أعظم الأشياء شهادة/ [156/ل]. وأفعل التفضيل إنما يضاف إلى ما هو بعضه، ثم ينتظم القياس هكذا: الله أكبر شهادة، والأكبر شهادة شيء، فالله-عز وجل شيء، ولأن الشيء لغة هو الموجود، والله-عز وجل-موجود، فالله-عز وجل-شيء.

احتج الخصم بأن الله-عز وجل-لو كان شيئا لأشبه الأشياء، ولو من جهة تسميته، وكونه شيئا، وكل ما أشبه الأشياء من جهة ما، فله حكمها وهو الحدوث. وذلك يوجب أن يكون الله-عز وجل-حادثا، وأنه محال.

والجواب: أن هذا بعينه لازم في كونه موجودا، فإن أثبت كونه موجودا، ألزمك إثباته شيئا، وإلا لزمك اعتقاد أنه معدوم، أو خال من الأحوال، لا موجود ولا معدوم، أو موجود معدوم من جهة واحدة أو من جهتين، والكل محال.

{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى} [الأنعام: 19] هذا دليل على عموم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لأن القرآن بلغ جميع العالم، ولا أحد ممن بلغه القرآن بخارج عن دعوته، فلا أحد من العالم بخارج عن دعوة القرآن.

فإن قيل: لا نسلم أن القرآن بلغ جميع العالم، بل في أقطار المعمورة من لم يسمع بالقرآن فضلا عن أن يبلغه، قلنا: هب أنا سلمنا ذلك تنزلا لكن المراد: ومن بلغه القرآن بالإمكان، وهو بالغ جميع العالم بالإمكان، كأنه قال: لأنذركم به، ومن بلغه بالقوة أو الفعل، أو من بلغه أو أمكن أن يبلغه، وذلك يستغرق العالم.

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ} (19) تضمنت نفي الشرك وإثبات التوحيد، وسيأتي برهانه إن شاء الله-عز وجل.

ص: 237

عبد الله بن سلام: «إني لأعرف محمدا أشد مما أعرف ابني» قيل له: وكيف ذلك؟ قال:

«لأني أعلم أنه رسول الله بإخبار الله، ولا أعلم/ [74 أ/م] ما تصنع النساء» ثم ينتظم من هذا حجة على كفرهم وتقريره أنهم كذبوا من علموا صدقه، وكل [من كذب] من علم صدقه فهو كافر، فأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم كفار، لكن هل أهل الكتاب عام مطرد، أو عام أريد به الخاص، وهم الأحبار، وأهل العلم منها، وهذا هو الأشبه لأن كثيرا من عوامهم وجهالهم/ [157/ل] لم يقرأ التوراة وغيرها من الكتب حتى يرى صفة محمد صلى الله عليه وسلم فيها، إنما أخذ عن الأحبار تقليدا أن محمدا ليس مذكورا فيها باسم ولا صفة، فاعتقاد مثل هذا العامي جهل مستند إلى كذب، لكن القسمان تحت دائرة اللوم والوعيد، أما العالم: فلكذبه وكتمانه الحق، وأما العامي: فلتركه البحث وسؤال العلماء عن هذا الأمر مع عموم دعوة الإسلام، ووضوح برهانها، وهب أنه عذر لجهله، لكنه لا يعذر في ترك سؤال العلماء حتى يحصل له سكون النفس، إما بإثبات أو نفي.

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (22)[الأنعام: 22] هي ونظائرها حيث وقعت إخبارا عن البعث والمعاد والجزاء.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (25)[الأنعام: 25] هذا إما على حقيقته على وجه يعلمه الله-عز وجل-أو كناية عما يخلقه في قلوبهم من دواعي المخالفة والصوارف عن متابعة الحق، وقد سبق القول في {خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} (7) [البقرة: 7]، وهو من هذا الباب.

{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ} (26)[الأنعام: 26] الأشبه أن المراد به عامة الكفار المشاقين للنبي صلى الله عليه وسلم كانوا ينهون الناس عن اتباعه، وينأون أي: يبعدون عنه، فذمهم الله-عز وجل-على شدة نفورهم وتنفيرهم عن الحق، وقيل: المراد بها أبو طالب، كان ينهى عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم وينتصر له بجهده، وهو مع ذلك ينأى أي يبعد بنفسه عن متابعته فذمه الله-عز وجل-على ذلك.

وقد اختلف الجمهور والشيعة في إسلام أبي طالب، ويأتي الكلام عليه-إن شاء الله عز وجل-في سورة القصص.

ص: 238

{بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} (28)[الأنعام: 28] يحتج بها على أن الله-عز وجل-يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون على تقدير لو كان كيف كان يكون، وهو كذلك، والاستدلال مطابق، وأصله معرفة كيفية علم الغيب، وهو واضح، لكن شرطه لا يوجد إلا في الله-عز وجل فلذلك استبد به سبحانه وتعالى، وأما في هذه المسألة الخاصة، فلأنه-عز وجل-علم أنهم بموجب طباعهم وفطرهم التي فطرهم عليها/ [74 ب/م] من الأشر والبطر والاستكبار عن الحق وغلبة الشهوات والأهواء عليهم لو ردوا من عذاب الآخرة إلى/ [158/ل] الدنيا لعادوا إلى كفرهم، مع أنه ينسيهم أمر المعاد واليوم الآخر وما جرى لهم في النار، ومثل هذا واقع في الدنيا كثيرا، وهم المفسدون واللصوص، ونحوهم إذا ظفر بهم، ليقتلوا أو يقطعوا، أعطوا التوبة من فسادهم، فإذا تركوا عادوا إلى شر مما كانوا عليه، وكذلك لو فرض أن الحية أو الفأرة تابت عند القتل من اللدغ والفساد لعلم كذبها؛ وأنها إن ردت عادت لغلبة طبعها الفطري عليها.

{وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (29)[الأنعام: 29] وفي آية أخرى {إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (37)[المؤمنون: 37] اعلم أن الناس اختلفوا في المعاد، فمنهم من أثبت المعاد الجسماني والروحاني وهم المسلمون ومن تابعهم، و [منهم] من أثبت الروحاني دون الجسماني وهم الفلاسفة والنصارى، ومنهم من أنكرهما جميعا وهم هؤلاء الدهرية الملحدة؛ قالوا: ما يهلكنا إلا الدهر فهو باق بعدنا، ولا رجعة لنا. وتوقف جالينوس في هذه المذاهب.

أم المعاد الجسماني دون الروحاني فلم نعلم به قائلا؛ لاستحالته وقد قرر الله-عز وجل-براهين المعاد في مواضعها، ونحن الآن إن شاء الله-عز وجل-نشير إليها جملة لتعرف، ثم نذكرها مفصلة كلما مررنا بشيء منها، وهي على أضرب أحدها: قياس الإعادة على الابتداء نحو: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَاُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (29)[الأعراف: 29].

{يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ} (104)[الأنبياء: 104]، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ}

ص: 239

يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)[الروم: 27]{أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (15)[ق: 15] وما كان من ذلك.

الضرب الثاني: قياس الإعادة على خلق السماوات والأرض بطريق أولى نحو:

{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ} (81)[يس: 81].

{أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى} (40)[القيامة: 40]، {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (57) [غافر: 57].

الضرب الثالث: قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات وهو في كل موضع ذكر إنزال المطر غالبا نحو: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ} (19)[الروم: 19].

الضرب الرابع: قياس الإعادة على إخراج النار من الشجر الأخضر، وهو في موضع واحد في آخر «يس» .

هذا الذي استحضرناه من براهين الإعادة، فإن وجدنا شيئا آخر تكلمنا عليه/ [159/ل] في موضعه إن شاء الله عز وجل.

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتّى إِذا جاءَتْهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ} (31)[الأنعام: 31] عام مطرد في المكذبين/ [159/ل] بشرط الموافاة على ذلك كما دلت عليه الآية.

ويحتج به على المعتزلة في مسألة الرؤيا، بناء على أن اللقاء يقتضي الرؤية، وتقريره أن الله-عز وجل-ذم من كذب بلقائه وحكم بخسرانه، ثم ينتظم الدليل هكذا: إن كان لقاء الله-عز وجل-واقعا فرؤيته واقعة، لكن المقدم حق فالتالي مثله، بيان الملازمة ما تقدم من أن اللقاء لغة يقتضي الرؤية، فلقاء الله-عز وجل-يقتضي رؤيته، وأما حقية المقدم، فبهذه الآية وغيرها من نصوص القرآن على أن لقاء الله حق واقع لا محالة، وأما

ص: 240

حقية التالي؛ فلأن الرؤية قد ثبت أنها من لوازم اللقاء، وقد ثبت الملزوم فوجب ثبوت اللازم بالضرورة.

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} (33)[الأنعام: 33] هذا عام معهود أو عام أريد به الخاص، أي: الذي يقولونه من التكذيب والكفر، وإلا فقد كانوا يسلمون عليه ويعظمونه ويقاربونه في أمور كثيرة، ومثل ذلك لا يحزنه.

{وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ} (35) [الأنعام:

35] يحتج به على القدرية من وجهين، أحدهما: أن المانع لهؤلاء من الهدى مشيئته، ومشيئته واجبة فامتناع هداهم واجب، وهو معنى الجبر.

الثاني: أن جمعهم على الهدى أصلح لهم، وعند الخصم يجب عليه رعاية الأصلح، فما باله لم يفعله.

والخصم يجيب عن الأول بمنع وجوب مشيئته-عز وجل-بل هي عنده حادثة لا في محل، وهو من محالاتهم التي يأباها العقل، وزعم أن معنى الآية، أنه لو شاء لجبرهم على الهدى جبرا وقسرا، لا أن مشيئته مانعة لهم عن الهدى.

{إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (36)[الأنعام: 36] أي وهؤلاء كالموتى لا يسمعون، ينتج أن هؤلاء لا يستجيبون يعني لداعي الهدى والحق، وهذا يشير إلى قوله-عز وجل:{وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (23)[الأنفال: 23] أي: هؤلاء لم يسمعهم الله وكل من لم يسمعه الله-عز وجل-لا يستجيبون.

ومعنى كونه لم يسمعهم، أنه لم يخلق فيهم داعيا لقبول الحق، بل خلق فيهم الصوارف عنه فصاروا كالموتى لا يسمعون.

ص: 241

قد أخبروا أنه لم يأت بآية، ووافقهم هو على ذلك، ولم ينازعهم فيه، بل أحالهم في الآية على مجرد قدرة الله-عز وجل على إنزالها ومجرد القدرة على إنزالها، لا يقتضي إنزالها، فبقي على أصل العدم وبقي الحال على ما زعمه القوم من أنه لم يأت/ [75/م] بآية.

والجواب من وجهين:

أحدهما: أن هذا إنما كان بعد أن ظهرت آياته، وبهرت، لكن هؤلاء الكفار تلقوها بالعناد المحض، وزعموا أنها سحر مستمر كما عاند فرعون آيات موسى، وعاند اليهود آيات المسيح، فكان قول الكفار:{لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} بناء منهم على أن ما جاءهم به من الآيات ليس بشيء، بناء على عنادهم، وسوء اعتقادهم.

الوجه الثاني: [أن معنى الآية: لولا نزل عليه آية تضطرنا] إلى الإيمان به مثل أن نرى الملائكة، أو نرى ربنا ونحوه. فأجاب الله-عز وجل-بأنه قادر على أن ينزل ذلك لكنه يفوت حكمة التكليف؛ إذ المراد منهم الإيمان الاختياري، لا الاضطراري إذ هو غير مراد، ولا نافع، وإلا لنفع فرعون حين أدركه الغرق، وعاين الحق، ولنفع أهل النار، فإنهم يؤمنون حينئذ، لكن إيمانا اضطراريا لا ينفعهم.

وقد نقل عن الإمام أبي حنيفة-رحمه الله-قال: لا يدخل النار إلا مؤمن، فقيل له:

كيف ذلك؟ فتلا: {فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ} (84)[غافر: 84] ولعل الإشارة إلى هذا وقعت بقوله-عز وجل: {فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (131)[الأعراف: 131] أي: لا يعلمون وجه الحكمة في ترك اضطرارهم إلى الإيمان، وفي الجواب وجه آخر أشير إليه في قوله- عز وجل:{وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاّ تَخْوِيفاً} (59)[الإسراء: 59] وهو يشير إلى أن الآيات فترت عن كفار العرب فطلبوها، فقيل لهم: إنما أمسكناها عنكم إبقاء عليكم، لئلا تكذبوا بها، فتهلكوا كما هلك من قبلكم.

ص: 242

احتج بها التناسخية؛ وهم القائلون بتناسخ أرواح الحيوان بعضها في أجساد بعض بعد موته، ووجه استدلالهم بها أنها تضمنت أن الدواب والطير أمم أمثال الناس، وإنما يكونون أمثال الناس بتقدير أنهم كانوا على مثل حالهم، ثم انتقلوا إلى صور الدواب والطير/ [161/ل]، وذلك معنى التناسخ.

وجوابه: أن التناسخ على رأي أهله قد تقرر في الكلام والحكمة أنه محال، وأما هذه الآية فليست نصا فيه ولا ظاهرا، فلا وجه للاستدلال بها عليه، ولكن الأشياء نسبة فدليلهم كمدلولهم في الضعف والبعد عن العقل، والآية تحتمل وجوها.

أحدها: أن الدواب والطير أمثالنا في العبادة، بدليل {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ} (41) [النور: 41]، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً} (44) [الإسراء: 44].

الثاني: أنهم مثلنا في التكليف وإرسال الرسل فيهم، بدليل {وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاِجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (36) / [76 أ/م]) [النحل: 36]. على ما ذهب إليه بعضهم في عمومه في أمم العقلاء، وغيرهم.

الثالث: أنهم أمثالنا في أنهم عقلاء مدركون، على ما ذهب إليه قوم.

الرابع: أنهم أمثالنا في أنهم يرزقون، بدليل {*وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} (6) [هود: 6]، {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (60) [العنكبوت: 60].

الخامس: أنهم أمثالنا في أنهم يبعثون، ويحشرون كما دل عليه آخر الآية، ويحتمل غير ذلك مما يستبد الله-عز وجل-بعلمه، [ومع هذه الاحتمالات القريبة الظاهرة، أي شيء يبقى للتناسخ البعيد عنها يحتج عليه منها].

{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي}

ص: 243

الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)[الأنعام: 38] يحتج به الظاهرية على إبطال القياس، وتقريره أن كل حكم من أحكام الشرع الممكنة فهو شيء، والكتاب لم يفرط فيه في شيء، ينتج أن كل حكم من أحكام الشرع الممكنة لم يفرط فيه في الكتاب.

وحينئذ لا حاجة إلى القياس؛ لأنا نستفيد الأحكام من نصوص الكتاب وعموماته وظواهره، وبيان السّنّة له، وما لا حاجة بنا إليه فإثباته عبث، والعبث باطل، فإثبات القياس باطل وجوابه من وجهين:

أحدهما: أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ الجامع لكليات العالم وجزئياته، حتى إن الكتب المنزلة جميعها جزء منه، وليس المراد به خصوص القرآن، فلا يتم استدلالهم.

الثاني: سلمنا أنه المراد لكن القياس من جملة الأشياء التي لم يفرط في الكتاب فيها، وهو حجة من حجج الشرع، بدلالة مستفادة من الكتاب، ثم ينتظم الدليل هكذا: القياس شيء والكتاب لم يفرط فيه في شيء، فالقياس لم يفرط فيه في الكتاب.

وسيأتي القول فيه في موضع آخر، إن شاء الله-عز وجل.

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (40)[الأنعام: 40] هذا من قواصم الاعتزال في نسبة الهداية والإضلال إلى الله عز وجل-وقد سبق مثله، وسبب ذلك ما يخلقه الله-عز وجل-من الدواعي.

والصوارف في قلب الإنسان فيهتدي أو يضل بها.

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (40) / [162/ل]) [الأنعام: 40] الآيتين: هذا من أدلة التوحيد، وتقريره أن الإله هو المفزوع إليه عند الشدائد، ولا شيء من الأصنام ونحوها، بل ومما سوى الله-عز وجل[مفزوع إليه عند الشدائد، تنتج لا شيء من الأصنام، وما سوى الله-عز وجل] بإله، والمقدمتان واضحتان.

ص: 244

يَرْشُدُونَ (186)[البقرة: 186] أو مقيد لمطلقه، كما مر.

{فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (43)[الأنعام: 43] وما/ [76 ب/م] قبلها تدل على أن الله عز وجل-قد يمتحن عباده بالبأساء والضراء والمصائب؛ رياضة لأنفسهم على الذل والضراعة، وإليه الإشارة ب {وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} (94) [الأعراف: 94]، ويدل على أن التضرع عند النوازل من أنجع الوسائل، ووجهه أن كبرياء الإله-جل جلاله-يقتضي له الضراعة والذل ممن دونه، فمن فعل ذلك رحم، كقوم يونس عليه السلام لما أظلهم العذاب تضرعوا، فسلموا، ومن قسى قلبه فلم يتضرع فقد أخل بوظيفة الكبرياء؛ وعرض نفسه للهلاك.

ومثل هذا بعينه يجري مع ملوك الأرض، من ضرع لهم سلم، ومن تجلد عليهم قصم، وهو أنموذج لما ذكرنا، ويقال: إن النمر يواثب الإنسان ما دام منتصب الشخص، فإذا نام تركه، وفي الأثر أن الله-عز وجل-أوحى إلى داود-عليه السلام: يا داود، خفني كما تخاف الأسد.

ومن كلام بعض الحكماء: القضاء والقدر سبعان، فتماوت بين أيديهما، فإن السبع لا يأكل الميتة. وهذه المسألة تتعلق بصفة الكبرياء.

{فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (43)[الأنعام: 43] مع قوله-عز وجل {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} (108)[الأنعام: 108] فالله-عز وجل يزين ما يشاء بخلق الدواعي إليه والصوارف عن غيره، والشيطان يزين بالوسوسة وهي سبب ضعيف، إنما جيء به لإقامة الحجة على الشيطان وفتنته، من نسب إيجاد الشر إليه بالظلم والعدوان. {الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً} (76) [النساء: 76] والعلة التامة الموجبة لكل شيء هي إرادة الله-عز وجل-وتصرفه.

ص: 245

{فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ} (44)[الأنعام: 44] هذا هو حقيقة الاستدراج، وهو ضرب من ضروب القدر، بل بحر من بحاره، غرق فيه الخلائق إلا من تداركه الله- عز وجل-فأنقذه منه أو حفظه ابتداء عنه.

{فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (45)[الأنعام: 45] يحتمل أمرين:

أحدهما: أن الظالمين هلكوا/ [163/ل] والله-عز وجل-باق يستحق الحمد أزلا وأبدا، فتكون هذه راجعة إلى صفة البقاء الأزلي الأبدي.

والثاني: أن الظالمين لما هلكوا، كان هلاكهم نعمة من الله-عز وجل-يستحق الحمد عليها، إذ هلاك الظالم راحة للناس، فهو مستريح ومستراح منه.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} (46)[الأنعام: 46] هي من دلائل التوحيد من جهة الأفعال وكمال القدرة والتصرف. وتقريره: أن الله عز وجل هو المتصرف في سمعكم وأبصاركم وقلوبكم بالأخذ والرد، وكل متصرف في ذلك فهو الإله فالله-عز وجل/ [77 أ/م] هو الإله.

بيان الأولى: أن هذا التصرف ممكن، وكل ممكن مقدور لله-عز وجل-فهذا التصرف مقدور لله-عز وجل.

بيان الثانية: أن المتصرف في ذلك يجب أن يكون تام القدرة، وكل من وجب أن يكون تام القدرة فهو الإله.

{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} (50) [الأنعام:

50] يحتج به من يرى الملائكة أفضل من الأنبياء، وقد سبق ذلك، وتقريره هاهنا أن الكفار كانوا يعتقدون أن الملك أفضل من النبي، ولهذا طلبوا رؤية الملائكة، وأن يرسل إليهم ملك، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على هذا الاعتقاد، وقال: أنا لا أدعي أني ملك كما تعتقدون في الملك، بل أنا بشر أتبع ما يوحى إليّ، وحينئذ يقال: النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على

ص: 246

اعتقاد تفضيل الملك، وكل ما أقر النبي صلى الله عليه وسلم عليه فهو حق، وللخصم منع الأولى.

{وَكَذلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ} (53)[الأنعام: 53] يحتج به على المعتزلة في أن الله-عز وجل -يفتن من يشاء، بأن ينصب له أشراك الضلال ليضل، ولو لم ينصبها لهم لما وقعوا فيها.

وشرح ذلك أن الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه كعمار بن ياسر، وبلال، وصهيب، وسلمان، وخباب ونحوهم، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقريبهم ومخالفة الكفار في طردهم وإبعادهم، فلما فعل ذلك، قال الكفار: لو كان الإسلام منّة ونعمة لما اختص بها هؤلاء دوننا، فكان ذلك الأمر سببا لهذا الاستدلال الفاسد الموجب لفتنتهم والامتناع من الإسلام، ولو أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإبعاد المذكورين، وتقريب الكفار، لكان أشرح لصدورهم وأرغب لهم في الإسلام، ويشهد لهذا قوله/ [164/ل]عز وجل {لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} (53) [الحج: 53] وفي الايتين دليل على أن أفعال الله-عز وجل-وأحكامه معللة بالحكم والمقاصد، إذ علل فتن الكفار بقولهم أهؤلاء من الله عليهم؟ وعلل إلقاء الشيطان في أمنية النبي-عليه السلام-بفتنة المرضى القلوب.

{وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (54)[الأنعام: 54] يحتج به على لزوم قبول التوبة لأن الله-عز وجل-أخبر بقبولها بقوله: {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (54)[الأنعام: 54] إذ هو مرادف لقوله: «ثم من تاب قبلت توبته» ، وكل ما أخبر الله-عز وجل-به فهو واقع لا محالة.

ثم المعتزلة يجعلون قبولها واجبا عليه، والجمهور واجبا منه.

ص: 247

لذلك؛ فمنه: {وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها} [الأنعام: 59] إلى آخر الآية من الغيوب الكلية والجزئية.

واختلف في المقتضي لعموم علمه؛ فقالت المعتزلة: هو ذاته لا لصفة زائدة، وقال الجمهور: هو العلم، وهو صفة قائمة بذاته زائدة على مفهومها، وقد سبق ذلك.

قوله-عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (60)[الأنعام: 60] أي بالنوم، سماه وفاة بجامع تعطل الحس فيهما، ومن ثم قيل: النوم أخو الموت، وقد جاء في بعض كتب الأولين: أن الأرواح تعرج إلى الله-عز وجل-في حال النوم، فيلقي إليها من أمره [ما يشاء] فإذا عادت إلى الأجسام ألقت ذلك إلى النفوس والقلوب، فحركت له الأعضاء والجوارح.

وإن ثبت هذا فلعله المراد بخلق الدواعي والصوارف، وعند الفلاسفة أن النفس عالم علوي مطبوع على حب إدراك العلوم والحقائق، لكنه تعلق بهذا البدن الطبيعي قسرا على جهة التدبير له، فهي مشغولة به حالة اليقظة، فإذا كان النوم تجردت، وإلى عالمها العلوي توجهت؛ لاقتناص المطالب العلمية؛ وتحصيل الحقائق الكشفية الغيبية، فتحصل من ذلك بحسب قوتها واستعدادها، وشبهوا النفس بامرأة مربية لولدها، فلا تزال مشغولة به ما دام يقظان فإذا نام انتهزت فرصة خلوتها وتوجهت إلى ما هو من/ [165/ل] همتها.

وقد اختلف في أن الروح والنفس شيء واحد، أو شيئان مختلفان، فإن صح أنهما شيئان، أمكن صحة القولين، أعني قول الفلاسفة في النفس، وما جاء في بعض الكتب القديمة في الروح، وتكون النفس تحصل العلوم والروح تأتي بالأمر بالمحتوم، وعلم ذلك تحقيقا عند الله-عز وجل.

{ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} [الأنعام: 60] أي في النهار عن نوم الليل {لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام: 60] وهو أجل الحياة، {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} [الأنعام: 60] بالموت ثم البعث {فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (105)[المائدة: 105] أي ويجازيكم عليه، وهذه المسألة مركبة من أنواع من أصول الدين.

ص: 248

مكلف اثنان منهم يحفظون عليه أعماله.

{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ} (12)[الانفطار: 10 - 12]{ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (18)[ق: 18] وبعض الزنادقة ينكرهم؛ لأنه لا يراهم، ويلزمه أن ينكر الهواء المالئ للفضاء لأنه لا يراه، وأن ينكر عقله/ [78 أ/م] ونفسه وروحه؛ لأنه لا يرى شيئا من ذلك.

{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ} (63)[الأنعام: 63] الآيتين من أدلة التوحيد، وتقريره كما سبق في {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (40) [الأنعام: 40].

{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} (66)[الأنعام: 66] يعني القرآن، الدليل على حقيقته وجوه:

أحدها: أنه معجز في نفسه، وكل معجز حق.

الثاني: ظهور معجزات غيره على يد من جاء به وأخبر بحقيقته.

الثالث: ما تضمنه من الأخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة، فكان الإخبار مطابقا مع وجوه أخر.

{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} (66)[الأنعام: 66] منسوخ بآية السيف. أو خارج مخرج الوعيد، فهو محكم.

{وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} (68)[الأنعام: 68] دلت هذه الآية على أن الناسي غير مكلف، لقوله-عز وجل:

{فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} (68)[الأنعام: 68] دل على أن قعوده معهم حال النسيان غير منهي عنه؛ لأنه فيه معذور بالنسيان، ولو كان مكلفا حينئذ لتعلق به النهي، وإذا ثبت هذا في الناسي ألحق به الساهي والمخطئ والجاهل والمكره، يؤكد ذلك

ص: 249

قوله صلى الله عليه وسلم: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه (1)» ولأن توجه التكليف مع هذه الأعذار تكليف ما لا يطاق، وأنه مرفوع، ويتفرع/ [66/ل] عن هذا الأصل مسائل كثيرة من العبادات والعادات فيسقط لهذه الأعذار الإثم، والحكم المختص بالله- عز وجل-دون الحكم المتعلق بحقوق الآدميين، كدية الخطأ، وقيمة المتلف خطأ ونحوه، لأن ذلك من باب العدل، والأعذار لا تؤثر في سقوط العدل، بخلاف التكليف.

{قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اِسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى اِئْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} (71)[الأنعام: 71] هذا من أدلة التوحيد، وقد سبق تقريره في المائدة {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (76) [المائدة: 76].

{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (73)[الأنعام: 73] فيه إثبات النفخ في الصور، [وقد تكرر ذكره] في القرآن، وهو أمر من أحكام اليوم الآخر ورد به القرآن هكذا، وبينته السّنّة بأنه قرن عظيم كسعة السماوات والأرض، قد التقمه ملك يسمى إسرافيل، وجثى على ركبتيه ينتظر متى يؤمر، فينفخ فيه نفخا مزعجا جدا، وعند ذلك تقوم الساعة، ويبعث الموتى ونحو ذلك من أمور الآخرة.

{عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} [الأنعام: 73] أي أن الله-عز وجل-يعلم ما غاب عن خلقه وما شهدوه، فالغيب إنما هو بالنسبة إليهم [لا إليه، إذ] لا يغيب عنه شيء علما ولا رؤية.

واعلم أن العالم على ضربين: عالم غيب، وهو ما غاب عن المخلوق:[78 ب/م] وعالم شهادة، وهو ما شهده كالسماوات والأرض والجبال والبحار وسائر الجزئيات العنصرية، وعالم الغيب أشرف من عالم الشهادة لوجوه:

أحدها: أن الله-عز وجل-من قبيل الغيب، ولذلك جعله أبو عمرو بن العلاء اسما

ص: 250

من أسمائه، فقال في قوله-عز وجل:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} (3)[البقرة: 3] أي: يؤمنون بالله.

الثاني: أن ما غاب عنا تشوقت النفس إليه عزيزا، وما شوهد سئمته فصار ملولا وذليلا إلا ما خصه دليل.

الثالث: أنه حيث ذكر قدّم فلا يكاد أن يقال: عالم الشهادة والغيب، وذلك لدليل شرفه على طريق العرب في تقديم الأهم، سواء قلنا: الواو للترتيب أو لا، وعالم الغيب [والشهادة هو المشار إليه بقوله-عز وجل {فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38] ثم لنذكر أقسام العالمين: أما عالم الغيب، فهو إما قديم أو حادث، فالقديم هو الله-عز وجل-ولا تنكرن إدراجنا له تحت العالم فإنما هذا مجاز والمعنى مفهوم، والحادث على أقسام:

أحدها: الملائكة.

والثاني: العقول.

والثالث: / [167/ل] النفوس.

والرابع: النار، والذي يرى منها إنما هو [مظهر لها] أو أثر من آثارها، وأما حقيقتها فجوهر لا يرى كالهواء، وأولى لأن موضعها أعلى من موضعه.

والخامس: الهواء.

والسادس: الجن والشياطين؛ لأنهم فرع النار التي هي غير مرئية.

السابع: ما وراء العالم من قبيل الغيب، ومن ثم اختلف فيه: هل هو خلاء أو ملاء؟ .

الثامن: الآخرة غيب والدنيا شهادة.

التاسع: النوم غيب واليقظة شهادة، والحيوان يتقلب بينهما كل يوم وليلة، ويكشف للإنسان في منامه كشوفات غيبية.

ولقد أحسن الشيخ نجم الدين بن إسرائيل في قوله:

وإذا غدت للمؤمن يقظاته

حجب فموطن كشفه الأحلام

ومما يشبه ذلك المرض المغيب للذهن الذي يعرض فيه الاستغراق «كالبرسام» ونحوه حال الموت وغيره، فإن الكشوفات تحصل فيه كثيرا، وهو مشهور، والمنام من أفضل أحوال الغيب، إذ كان جزءا من النبوة، وقد أوحي إلى الأنبياء في المنام كثيرا.

العاشر: الرجال السالكون إلى الله-عز وجل-إذا تمكنوا حصل لهم سكر، وصحو،

ص: 251

وهما غيب وشهادة، ثم إن الغيب والشهادة قد يلزمان موضعهما من الخفاء والظهور، وقد ينتقلان فيتعاقبان على موضع واحد كالسماء وزينتها النجومية، هي غيب في النهار، وشهادة في الليل، وقد يتعدد موضعهما كزيد وعمرو غاب أحدهما عنك وشاهدت الآخر، فهما غيب وشهادة، وتفصيل ذلك يكثر/ [79 أ/م] وليس هو المقصود، وإنما المقصود أن اللذة ضربان: حسية كالأكل والشرب والنكاح، وعقلية كإدراك الحقائق العقلية، والمعاني الروحانية، والأولى شهادة والثانية غيب.

وإذا ثبت لنا أن عالم الغيب أفضل من عالم الشهادة ثبت أن اللذة العقلية أفضل من الحسية، ومن فوائد العلم بذلك الجد في طلبها، وسهولة الموت على النفس في العبور إليها.

فإن قيل: قد جعلتم الشياطين من عالم الغيب، وزعمتم أنه أفضل من عالم الشهادة؛ فيلزم أن الشياطين أفضل من الآدميين.

قلنا: الشياطين لهم جهتان:

إحداهما: كونهم من عالم الغيب.

والثانية: كونهم شياطين أشرارا.

فمن الجهة الأولى لا يمتنع أنهم أفضل من بني آدم، ومن الجهة الثانية الكلاب/ [168/ ل] أفضل منهم كما قيل في بني آدم من جهة كونهم أناسا عقلاء هم أفضل من البهائم، ومن غلب هواه منهم على عقله كانت البهيمة أفضل منه.

{وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (75)[الأنعام: 75] هذا يدل على أن قوله: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اِجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ اُدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاِعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (260)[البقرة: 260] أراد به طمأنينة العيان كما ذكر في موضعه؛ لأن الله-عز وجل-أخبر أنه أراه الملكوت ليوقن وإحياء الموتى من قبيل الملكوت الغيبي.

{فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (76)[الأنعام: 76] الآيات، حاصلها أنه استدل بحركات الكواكب وأفولها على عدم إلهيتها وربوبيتها، وذلك بناء على مقدمات:

الأولى: إثبات الأعراض، وهي ما لا يقوم بنفسه؛ فيفتقر إلى موضوع يقوم به،

ص: 252

كالحركة والسكون، والألوان والطعوم والأراييج والأكوان، وهي الاجتماع والافتراق وغير ذلك من الأعراض، [وإثباتها شهادة بالحس.

[الثانية: أن الأعراض] مغايرة للجواهر بدليل أن الجوهر الواحد يعاقب عليه الأضداد من الأعراض كالحركة والسكون والسواد والبياض، وذاته في الحالين واحدة فالجوهر الباقي غير العرض الفاني.

الثالثة: أن الأعراض لا تنفك عن الجواهر؛ إذ لو انفكت عنها لزم قيام العرض بذاته، وأنه محال.

الرابعة: أن الأعراض حادثة؛ لأنها تتعاقب على الجواهر وجودا وعدما مسبوقا بعضها ببعض، والحدوث من لوازم المسبوقية، والملزوم موجود قطعا، فاللازم كذلك.

الخامسة: أن ما لا ينفك عن الحادث أو لا ينفك عنه الحادث يجب أن يكون حادثا، إذ لو كان قديما مع أنه لم يفارق الحادث لزم تقدمه على الحادث؛ وذلك يوجب انفكاكه عن الحادث فيما قبل وجود الحادث، وذلك يستلزم أنه انفك عن الحادث/ [79 ب/م] على تقدير أنه لم ينفك عنه، وأنه محال؛ ولأن زيدا وعمرا لو ولدا في ساعة واحدة، ثم استمرا إلى تسعين سنة من مولدهما استحال أن يكون أحدهما مائة دون الآخر.

وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبت حدوث الجواهر لعدم انفكاكها عن الأعراض الحادثة، وينتظم البرهان هكذا: الجوهر لا يفارق الحوادث وكل ما لا يفارق الحوادث حادث، فالجوهر حادث.

والعالم إما جواهر وإما أعراض، وقد ثبت حدوثهما فالعالم المؤلف منهما بأسره حادث، والحادث إما أن يكون الموجد له هو، وهو محال، أو غيره فهو إما حادث؛ فيلزم الدور، أو التسلسل، أو قديم، وهو المطلوب، كما سبق تقريره، فهذه الطريقة العامة في إثبات حدوث العالم، وقدم الصانع، وهي مستفادة من إبراهيم-عليه السلام-في مقامه هذا النظري، ولقد أوتي رشده من قبل ومتكلمو الإسلام تلاميذه في هذه الطريقة، وهي من أيسر الطرق وأحسنها، والرشد الإبراهيمي عليها ظاهر، ونور برهانها ساطع باهر.

ص: 253

مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)[البقرة: 255] على معنى معلومة، ونحو:{لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً} (166)[النساء: 166] على معنى أنزله وهو يعلمه، وأما هذه الآية، ونحوها فلا يمكنهم تأويلها بذلك إذ لا يصح أن يقال: وسع ربي كل شيء معلوما ولا: وهو يعلم، ولا: وسع ربي كل شيء ذاتا، ولا حالا؛ فتعين إثبات العلم هاهنا معنى قائما بذاته، إذ التقدير: وسع علم ربي كل شيء، كما يقال: طاب زيد نفسا، أي: طابت نفس زيد، وتفقأ الكبش شحما أي تفقأ شحم الكبش، فهذه الآية ونحوها قوية في هذه الآية.

{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (82)[الأنعام: 82] وقد وردت السّنّة بتفسير الظلم هاهنا بالشرك استدلالا بقول لقمان:

{وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (13)[لقمان: 13] فعلى هذا لا حجة فيه للمعتزلة، وإن حمل الظلم على ظاهره العام، أمكنهم أن يحتجوا به على أن صاحب الكبيرة مخلد في النار، إذا لم يتب منها، إذ يكون مفهوم الآية: أن من آمن وخلط إيمانه بظلم ما؛ فليس له أمن، ولا هو مهتد، وهو ظاهر في دعواهم إن لم يكن قاطعا م [80/أم].

{وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (83)[الأنعام: 83] هذه الحجة المشار إليها، إما استدلاله المتقدم على عدم ربوبية النجوم، أو حجة أخرى على التوحيد؛ لأن قومه كانوا صابئة مشركين، وهما إنما كان يناظرهم على التوحيد؛ واحتجاجه عليهم إنما كان بدليل العقل، إذ لم يكن هناك سمع يلزمهم، وأدلة العقل هي الطريقة الكلامية، وفي هذا شرف عظيم للكلام وأهله، إذ جعل الله الكلام حجة له أضافها إليه، وجعل صدورها عنه بقوله-عز وجل {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ} [الأنعام: 83] فيه إشارة إلى ارتفاع درجة المتكلمين عند الله-عز وجل-كما رفع درجة إبراهيم على قومه بالحجة البالغة الغالبة.

ص: 254

داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)[الأنعام: 84] أي: ومن ذرية إبراهيم: {داوُدَ وَسُلَيْمانَ} إلى {وَزَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى} هذا يرد على اليهود دعواهم السابقة: أن النسب في شرع التوراة لا يلحق من جهة الأم، حتى زعموا أن المسيح ليس هو ابن داود، وذلك لأن القرآن شرك بين عيسى وسائر النبيين المذكورين معه في كونهم من ذرية إبراهيم مع أن عيسى (انتمى) إليه من جهة أمه، فدل على بطلان دعوى اليهود، اللهم إلا أن يريدوا أن العصوبة لا تثبت من جهة الأم فهذا نعم؛ لأن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود إنما هم أجداد المسيح لأمه، وليسوا بعصبة، وليعلم أن أيوب ذكر في هؤلاء النبيين الذين هم من ذرية إبراهيم، مع أن أيوب ليس من بني إسرائيل إنما هو من بني العيص بن إسحاق؛ فأيوب هو ابن أخي إسرائيل؛ لأن العيص ويعقوب إسرائيل هما ابنا إسحاق بن إبراهيم فأيوب هو ابن عم بني إسرائيل لا أخوهم من ولد إسرائيل، وجميع الأنبياء من بني إسرائيل إلا اثني عشر منهم أيوب، وهم:

آدم، إدريس، نوح، وهود، صالح، إبراهيم، لوط، إسحاق، إسماعيل، إسرائيل وهو يعقوب، أيوب، محمد-صلّى الله عليهم أجمعين.

{وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ} (86)[الأنعام: 86] يحتمل أن هؤلاء جمعيهم من حيث هم جمع فضلوا على جميع العالمين، ويحتمل أن كل واحد منهم فضل على عالم زمانه أو على من عدا باقي النبيين أو بعضهم.

{وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاِجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (87)[الأنعام: 87] هذا العموم لا يتناول عيسى، إذ لا أب له ولا ذرية، فهو مخصوص به.

{ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (88)[الأنعام: 88] يحتج به على المعتزلة من وجهين:

أحدهما: أنه] أضاف الهدى إليه؛ فدل على أنه منه لا من العبد.

الثاني: أنه أخبر أنه يهدي بهداه من يشاء، فجعل مناط الهداية المشيئة لا غيرها من طاعة أو استعداد ونحوه، ولا يجوز حمل الهدى هاهنا على الإرشاد؛ لأن/ [80 ب/م] الإرشاد [عام لا يخص؛ بل هو للمؤمن والكافر بدليل {وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} (17) [فصلت:

ص: 255

17] غير أن المؤمن يوفق فيهتدي، والكافر يخذل فلا يهتدي، وبالجملة الإرشاد] لا يلزم منه حصول الرشاد.

{ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (88)[الأنعام: 88] ظاهر هذا أنه راجع إلى الأنبياء المذكورين وآبائهم وذرياتهم وإخوانهم، فيدل على أن الأنبياء يجوز عليهم الشرك، وأنهم إنما عصموا من وقوعه منهم لا من جوازه عليهم، ونظيره {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} (65) [الزمر: 65].

قوله-عز وجل: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اِقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ} (90)[الأنعام: 90] يحتج بهذا على أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع هؤلاء الأنبياء، لأنه أمر بالاقتداء بجميعهم، والاقتداء بهم فعل مثل ما فعلوا، ولا بد أنه امتثل هذا الأمر لانعقاد الإجماع على عصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، حينئذ قد فعل وحده من الطاعة مثل ما فعل هؤلاء جميعهم، والواحد إذا فعل مثل ما فعل الجماعة كان أفضل منهم.

ويحكى أن هذه المسألة وقعت في زمن الشيخ عز الدين بن عبد السّلام (1) فأفتى فيها بأنه عليه الصلاة والسلام-كان أفضل من كل واحد منهم، لا أنه أفضل من جميعهم، فتمالأ جماعة من علماء عصره على تكفيره، فعصمه الله-عز وجل-منهم.

{وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (91)[الأنعام: 91] دعوى منهم عامة، في نفي الإنزال.

{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى} [الأنعام: 91] نقض للدعوى العامة بهذه الصورة الجزئية، ويحتج بهذا من يرى أن العام نص في كل فرد من أفراده، إذ لو لم

ص: 256

يكن كذلك لجاز أن تكون تلك الصورة الخاصة غير مراده من العام، فلا ينتقض بها.

وقد اختلف في أن العام نص في أفراده، أم لا؟

على قولين؛ أحدهما: هو نص فيها لما ذكرناه.

والثاني: ليس نصا فيها وإلا كان تخصيص العام نسخا للقدر المخصوص منه، إذ هو رفع للحكم في المنصوص عليه.

ويحتمل أن يكون نصا في أفراده في النفي دون الإثبات لاعتضاد العام المنفي بالنفي الأصلي دون المثبت، فإذا قيل: لا رجل في الدار [أو: ما في الدار] من رجل، كان نصا في نفي كل رجل فينتقض بزيد إذا كان فيها، لأن النفي اللفظي اعتضد بالنفي الأصلي؛ فحصل منها النص على نفي كل فرد بخلاف قولنا: الرجال في الدار؛ إذ هو إثبات فلم يوافقه النفي الأصلي، فلم يحصل التعاضد على النص على كل فرد، فلا ينتقض بزيد إذا لم يكن فيها، وهذا بحث جيد بادئ الرأي، وعند النظر فيه لا يخلو من كلام.

{وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ} / [81 أ/م][الأنعام: 91] الكلام في عمومه كما في {وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (113) / [172/ل]) [النساء: 113] وقد سبق.

{قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (91)[الأنعام: 91] أي قل: أنزله الله {ثُمَّ ذَرْهُمْ} يعني المنكرين {فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] ويستشهد به الصوفية، وأهل السلوك على الانقطاع عن الناس بالقلب أو القالب أو بهما؛ فيقولون:{قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ.}

{وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (94)[الأنعام: 94] هذا يحتمل أن يقال لهم يوم القيامة؛ فيكون {ما خَوَّلْناكُمْ} [الأنعام: 94] عاما مطردا، ويحتمل أنه عقيب الموت فيكون مخصوصا بما يصحب أحدهم من الكفن من جملة من خوله.

ص: 257

{إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ} (95)[الأنعام: 95] عام أريد به الخاص، وهو الحب والنوى الذي انفلق عن الشجر والزرع، أما غيره فذلك يتلف في الأرض، فلا يفلق عن شيء.

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (97)[الأنعام: 97] عام أريد به الخاص، وهي النجوم التي لها هداية، كالقطب والجدي والفرقدين، ونحوها دون ما لا هداية له كالسيارة، فإنها مشرقة ومغربة ومتوسطة، فلا دلالة لها على جهة بعينها.

{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ اُنْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (99)[الأنعام: 99] هو عام مطرد في أن كل نبات، فإنما هو خارج بماء السماء، إذ ليس المراد بماء السماء المطر وحده، بل كل ما في الأرض من بحر ونهر وعين، وغير ذلك، فأصله من السماء بدليل:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ} (21)[الزمر: 21]، {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ} (18) [المؤمنون: 18].

{بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (117)[البقرة: 117] تضمنت خمس جمل كلها عام مطرد.

قوله-عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (103)[الأنعام: 103] احتج بها [فريقان: أحدهما: ] المعتزلة على نفي الرؤية؛ لأنه عز وجل-تمدح بأنه يدرك الأبصار [وهو اللطيف] ولا تدركه، ولو جازت رؤيته، لما كان فيه تمدح. وجوابه من وجوه:

أحدها: أنه إنما تمدح بأن الأبصار لا تدركه لا بأنها لا يجوز أن تدركه.

الثاني: أن الإدراك ينبني على الإحاطة، ونحن لا ندعيها، وإنما ندعي الرؤية وإحداهما

ص: 258

غير الأخرى.

الثالث: أن معنى الآية نفي رؤيته في الدنيا لا في الآخرة، ونزاعنا فيه.

الرابع: أن الأبصار عام أريد به الخاص، وهو أبصار الكفار في الآخرة، بدليل:{كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (15)[المطففين: 15] وهو ضعيف.

الخامس: أن الآية عام خص بقوله: عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ} (23) / [173/ل]) [القيامة: 22، 23] وتمام الكلام في هذه المسألة يأتي في الأعراف، وغيرها إن شاء الله-عز وجل.

الفريق الثاني: الاتحادية، وهم القائلون بأن الباري-عز وجل-سار بذاته في الوجود كسريان الماء في العود/ [81 ب/م] ووجه احتجاجهم بها أنه-عز وجل-أخبر أنه في كل حال من الأحوال يدرك الخلق وهم لا يدركونه، وما ذاك إلا لأنه سار بذاته فيهم كالهواء الساري في العالم المتخلل لأجرامه، ثم بين ذلك بقوله:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (14)[الملك: 14] إشارة إلى أنه للطافة ذاته سرى في العالم؛ فهو يراهم، و [هم] لا يرونه للطافته وكذلك هو للطافته؛ وسريانه فيهم خبير بأحوالهم، وأكدوا هذا الاستدلال، بقوله-عز وجل:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (16)[ق: 16]{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ} (85)[الواقعة: 85].

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (4)[الحديد: 4]، {قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى} (46) [طه: 46] {قالَ كَلاّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} (15) [الشعراء:

15] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (7)

ص: 259

[المجادلة: 7] الآيات مع قوله صلى الله عليه وسلم: «إن المصلي يناجي ربه» (1)«إن الله بين أحدكم وبين قبلته» (2)«إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا، إنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» (3).

قالوا: وهذه نصوص كثيرة ظاهرة في أنه مع العالم بذاته، فلا يجوز تأويلها على أنه معهم بعلمه، لوجهين:

أحدهما: أنه خلاف الظاهر، ولا قاطع يوجبه.

الثاني: أن المخالف فريقان:

أحدهما: لا يرى تأويل آيات الصفات؛ فلا يجوز له تأويل هذه النصوص وإلا لزمه التأويل في الباقي.

والثاني: من يرى التأويل لكن التأويل لا بد له من دليل موجب له، قاطع أو راجح على المؤول، وكل دليل يبديه مما يوجب التأويل يلزمه مثله في مذهب التأويل؛ فيستوي التأويل وعدمه في لزوم المحال عليه عنده، وحينئذ يترجح ترك التأويل؛ لأنه الأصل.

بيان ذلك المؤول لهذه الآيات على العلم إما مثبت للجهة، أو ناف لها، فإن كان مثبتا للجهة؛ فهو إنما يتأول هذه الآيات على أنها بالعلم؛ لئلا يلزم من سريان الذات القديمة في العالم مباشرتها للمحدثات؛ فيجري عليها ما يجري على المحدثات، أو لئلا يلزمها التحيز والانحصار في داخل كرة العالم. وكلا الأمرين باطل، أما الأول فلأن الزئبق يباشر غيره من الجواهر، وهو / [174/ل] بطبيعته وصقالته لا يتلوث بها، ولا يتأثر؛ فجاز أن يكون للذات القديمة خاصة تمنعها من التأثر بالمحدثات عن مباشرتها لها، وأما الثاني فلازم لهم في كونه على العرش مختصا بذاته بجهة فوق، فإنه حينئذ لا يخلو من أن يكون مطابقا للعرش في المقدار، أو أصغر أو أكبر، وعلى كل تقدير يلزم منه التحيز والجسمية أو الجوهرية فقد لزمهم من مذهبهم ما فروا منه في مذهب الاتحاد، وإن كان نافيا للجهة؛ فهو إنما يفر من سريانه بذاته في الوجود من لزوم التحيز والانحصار، وهو لازم له قطعا؛ لأن نفاة/ [82 أ/م] الجهة اتفقوا على أن الباري

ص: 260

-عز وجل-ليس بذاته داخلا تحت الكرة؛ وهذا يقتضي قطعا أن ذاته متناهية من جهة داخل كرة العالم؛ لأن كل ذات خلا منها مكان أو جهة فهي متناهية من جهة ذلك المكان؛ أو تلك الجهة، وكل جهة تناهت من بعض الجهات لزم تحيزها وانحصارها فيما سوى تلك الجهة التي تناهت منها، وينتظم الدليل عليهم هكذا، ذات الله متناهية من جهة كرة العالم، وكل ذات متناهية من جهة ما فهي منحصرة فيما سوى تلك الجهة، ينتج أن ذات الله-عز وجل-منحصرة فيما سوى كرة العالم؛ فقد لزم هؤلاء من مذهبهم ما فروا من الاتحاد، وإذا لزمهم المحذور مع التأويل فالتزامه مع عدم التأويل أولى لصيرورة التأويل عبثا بلا فائدة، هذا أقصى ما أمكن الآن في تقرير شبهة الاتحادية.

والجواب عنها من وجهين: مجمل، ومفصل، أما المجمل؛ فهو أن إجماع المسلمين قاطع بخلاف مذهب الاتحاد؛ وهو يقتضي بطلانه.

وهذه الشبهة لا ثبوت لها مع الإجماع، إذ أي شخص من أهل الإجماع تصدى لنقضها.

وأما الشبهة لا ثبوت لها مع الإجماع، إذ أي شخص من أهل الإجماع تصدى لنقضها.

وأما المفصل؛ فيطول هاهنا، ويصرفنا عما نحن بصدده وقد استقصينا هذه المسألة سؤالا وجوابا في التعليق المسمى «بالباهر في أحكام الظاهر والباطن» .

وإنما استقصينا شبهة الاتحادية هاهنا؛ لئلا نحتاج إلى ذكرها في موضع آخر، ثم كلما مررنا بآية يحتجون بها أحلنا بالكلام فيها على هذا الموضع.

{قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} (104)[الأنعام: 104] عام مطرد.

{بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} (86)[هود: 86] ونظائره محكم وعيدي أو منسوخ بآية السيف، وكذلك {فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (94) [الحجر: 94] والنسخ فيها أظهر/ [175/ل].

ص: 261

(137)

[الأنعام: 137] حجة على المعتزلة، سبق تقريرها، والاعتراض عليها عند {وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ} (35) [الأنعام: 35].

{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} (108)[الأنعام: 108] يحتج بها على سد الذرائع، وحسم مواد الفساد؛ إذ كان معنى الآية: لا تسبوا آلهتهم فيجعلوا ذلك وسيلة وذريعة إلى سب إلهكم.

ونظيره {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا اُنْظُرْنا وَاِسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ} (104)[البقرة: 104] كما سبق فيه، وقاعدة سد الذرائع عظيمة، وفروعها كثيرة، قال بها مالك وأحمد، ومن تابعهما، خلافا لباقي العلماء، إذ أجازوا الحيل، وصنفوا فيها الكتب.

{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108] سبق القول فيه.

{ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} (108)[الأنعام: 108] فيه إثبات المعاد.

ص: 262

-عز وجل-في خلقه إما بطرد العادات، كطلوع الشمس من المشرق كل يوم أو بخرق العادات كانشقاق القمر، وطلوع الشمس من المغرب أو بخلق الدواعي والصوارف، وهو غريب بديع عجيب.

{وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (111)[الأنعام: 111] تدل على أنه هو المانع لهم عن الإيمان إلا أن يشاء، وذلك بما يخلقه في نفوسهم من دواعي الكفر والصوارف عن الإيمان بما يخيل إليهم من أن تلك الخوارق سحر، فلا يؤمنون بها كما قالوا في انشقاق القمر، وغيره: إنه سحر مستمر.

{أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (114) [الأنعام:

114] سبق الكلام في مثله.

{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (115)[الأنعام: 115] يحتج به على قدم الكلام؛ لأنه وصف بالتمام، والحادث ليس بتام؛ فكلام الله-عز وجل-ليس بحادث فهو قديم، ثم يبقى النزاع في أن الكلام معنى ذاتي أو عبارة مسموعة، [على ما] سبق.

{وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ} (120)[الأنعام: 120] عام مطرد جامع.

{وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ} (124)[الأنعام: 124] يحتج بها على عصمة الملائكة والأنبياء؛ لأنهم جميعا رسل الله وكل رسول معصوم. والحق أنها إنما تدل على صلاح الرسل، أما العصمة فدليلها غير هذا.

ص: 263

{فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} (125)[الأنعام: 125] من قواصم الظهر على المعتزلة؛ لأنها دلت على أن المؤثر في الهدى والضلال إرادة الله-عز وجل-وفعله من شرح الصدر/ [176/ل] وتوسعته أو تضييقه وتحريجه.

{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ} (130)[الأنعام: 130] يحتج بها على أن الجن أرسل فيهم رسل منهم كالإنس، وهي ظاهرة في ذلك، وهي مسألة خلاف.

فالمثبت لذلك احتج بهذا الظاهر، والمانع تأول إضافة الرسل إلى الفريقين، كإضافة اللؤلؤ والمرجان إلى البحرين، في قوله عز وجل:{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ} (19) [الرحمن:

19]، ثم قال:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} (22)[الرحمن: 22] وإنما هو خارج من أحدها، وهو الملح، وليس هذا بشيء، بل هو خارج منهما بدليل قوله-عز وجل:

{وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (12)[فاطر: 12] والحلية هنا هي اللؤلؤ والمرجان هناك، وقد أخبر أنها من كل واحد من البحرين، وإنما اعتمد هذا القائل على قول الحكماء الطبيعيين مثل أرسطاطاليس في كتاب الآثار العلوية، وكتاب الأحجار وغيره، حيث زعموا أن اللؤلؤ والمرجان لا يتكون إلا في البحر المالح، والله-عز وجل[أخبر منهم] بمخلوقاته، وعجائب مصنوعاته:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (14)[الملك: 14] غير أن نبينا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الجن والإنس؛ لأنهم قصدوه وسمعوا/ [83 أ/م] منه القرآن، وأخذوا عنه الشرائع، ولو كان هناك نبي منهم؛ لامتنع في العادة أن يتركوه، ويقصدوا غير جنسهم، وإذا ثبت أن الجن أرسل إليهم رسل منهم، ثبت أنهم مكلفون مخاطبون كالإنس، وفي كون كفارهم مخاطبين بفروع الدين ما في كفار الإنس من الخلاف، وهذه مسألة

ص: 264

وقعت فذكرناها.

{ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ} (131)[الأنعام: 131] يحتج بها وبنظائرها المعتزلة، ووجه احتجاجهم أن أفعالهم لو كانت مخلوقة لغيرهم، لكان إهلاكهم بها ظلما لهم، واللازم باطل بهذه الآيات، فالملزوم كذلك، وأجاب الكسبية بأنها مكسوبة لهم، والجبرية بأنها لو فوضت إليهم لكانت معاصي يستحقون بها الهلاك، فعاملهم على حسب علمه فيهم.

{وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ} (132)[الأنعام: 132] وهذا يدل على ما ورد من أن دخول الجنة بفضل الله-عز وجل-واقتسام درجاتها بالأعمال.

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} (133)[الأنعام: 133] يستدل بها على استعمال القياس؛ لأنه قاس إهلاكهم واستخلاف غيرهم بعدهم على إهلاك من قبلهم، واستخلافهم بعدهم، وتلخيصه: يستخلف بعدكم أبناءكم كما استخلفناكم بعد آبائكم، وهو قياس تمثيل [177/ل].

{* وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (141)[الأنعام: 141] يحتج به على جواز عطف الوجوب على الإباحة؛ لأنه عطف إيتاء الحق الواجب على الأكل المباح، وإذا جاز ذلك جاز عكسه؛ نحو:{وَآتُوا حَقَّهُ} و {كُلُوا؛ } وكذلك عطف سائر الأحكام بعضها على بعض؛ ويحتج به أيضا على جواز الخطاب بالمجمل؛ لأن الحق المذكور مجمل؛ وبينته السّنّة بنصف العشر أو كماله من خمسة أوسق فصاعدا، ونحو ذلك من أحكامه.

{ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اِثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اِثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (143)[الأنعام: 143] يحتج بها على الاستدلال بالسبر والتقسيم.

ص: 265

وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)[الأنعام: 145] حصر المحرمات في هذه الثلاثة؛ فاقتضى إباحة ما عداها، ثم خص من ذلك العام بالسنة كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وبالقرآن كل مستخبث، ونقل عن مالك التمسك بهذه الآية في إباحة ما عداها.

{وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما} [الأنعام: 146] عام مطرد في تحريم ذلك على اليهود.

{إِلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اِخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنّا لَصادِقُونَ} (146)[الأنعام: 146] عام خص بالمستثنيات بعده.

{ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنّا لَصادِقُونَ} (146)[الأنعام: 146] دل على أن تحريم الطيبات من العقوبات، ثم قد يكون بدون عقاب محسوس كهذه الآية.

وقد يكون مع عقاب محسوس كاليهود وغيرهم من الكفار في/ [83 ب/م] الآخرة يحرمون الجنة الطيبة، ويعاقبون بالنار المؤصدة-أعاذنا الله-عز وجل-وإياكم منها.

{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ} (148)[الأنعام: 148] قرئت (كذّب) بالتشديد فلا حجة فيها للمعتزلة، وقرئت (كذب) بالتخفيف، وحينئذ يحتجون بها، وتقريره: أن كذبهم في إحالة شركهم على مشيئة الله-عز وجل-ولو كان شركهم بمشيئته لكانوا صادقين ولم يكذبهم؛ فدل على أن الشرك، وتحريم المباح وغير ذلك من المعاصي ليس بمشيئة الله-عز وجل-وإنما هو بمشيئة فاعليه وخلقهم، وهذا من عمدهم في المسألة.

وأجاب الجمهور عنها بأن تكذيبهم ليس راجعا إلى قولهم: {لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ} (148)[الأنعام: 148] وإنما هو راجع إلى ما تضمنه من إخبارهم باعتقاد ذلك؛ كأنه قال: كذبتم في إخباركم/ب 178/ب] بأنكم تعتقدون نفوذ مشيئة الله بإشراككم وذلك لأن قولهم: {لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا} [الأنعام:

ص: 266

148] خرج منهم مخرج الاستهزاء والتهكم والإلزام للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بذلك، وهذا كما حكي عنهم في قوله عز وجل:{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (47)[يس: 47] وشبيه بقوله-عز وجل-في المنافقين حين قالوا: {إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ} (1)[المنافقون: 1] فإنه لم يكذبهم في أن محمدا رسول الله، إذ ذاك حق نص عليه في سورة الفتح، وإنما كذبهم في دعواهم الشهادة بالرسالة إذا الشهادة قول مطابق للاعتقاد، وهم إنما قالوا ذلك قولا يخالفهم اعتقادهم؛ كذلك هاهنا كذبهم في دعواهم أنهم يعتقدون أن لو شاء الله ما أشركوا لا في نفس هذه القضية، لأنه قد نص عليها قبل هذا بآيات.

{وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107]{وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [الأنعام: 107]{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ} (148)[الأنعام: 148] يقتضي أن الظن خلاف العلم؛ لأنه نفى أحدهما وأثبت الآخر لكن الظن في اللغة يشمل الاحتمال الراجح من غير جزم والاحتمال المتساوي. وعند الأصوليين الأول: ظن، والثاني: شك.

{قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (150)[الأنعام: 150] يستدل به على أن العالم بشهود الزور يحرم عليه موافقتهم حاكما كان أو شاهدا أو مشهودا له أو عليه، أو غيرهم، خلافا للمسألة المشهورة عن أبي حنيفة: في أن شاهدي زور لو شهدا أن فلانا مات، جاز لآخر أن يتزوج امرأته مع علمه بكذبهما، وحل له وطؤها؛ لأن عنده الحاكم منشئ للأحكام لا مثبت لها على وفق الواقع.

ص: 267

لَغافِلِينَ (156) / [84 أ/م]) [الأنعام: 156] هذا خطاب للعرب، ومعناه أنزلنا عليكم القرآن لئلا تقولوا ما جاءنا من كتاب نتبعه، وإنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وهم اليهود والنصارى، ونحن غير عارفين بما عندهم، وهذا من باب تقرير الحجة عليهم نحو:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (165)[النساء: 165]، وفيه أن المجوس لم يأتهم كتاب لأنه- عز وجل-أخبر أن العرب لو احتجوا بأن الكتاب لم ينزل إلا على اليهود والنصارى لكانوا صادقين، وحجتهم قائمة وعذرهم واضح، وبالجملة فهذا تقرير من الله-عز وجل-لهم على/ [179/ل] حصر الكتاب في الطائفتين، على تقدير أنهم يحصرونه فيهما، والله-عز وجل-لا يقر إلا على حق، وهذه مسألة خلاف هل كان للمجوس كتاب ورفع، أو لم يكن لهم كتاب أصلا؟ وهو ظاهر هذه الآية؟ أما المجوس فزعموا أن نبيهم زرادشت جاءهم بكتاب فيه تفصيل ما كان وما يكون، وأنه جلد اثنتي عشرة ألف جلدة على ما حكاه ابن أبي الإصبغ في تاريخ الأطباء، والظاهر أن هذا اختلاق منهم أو عليهم، إذ مثل هذا لا يكتم، فلو كان حقا لتواتر، والمشهور أن زرادشت [هذا] ليس بمحترم حرمة النبيين ولا الصديقين، ولا الشهداء ولا الصالحين، ولا له في أحكام الرقيق نصيب، ولا هو من المختلف في نبوتهم، بل مقطوع بعدم نبوته، وهو من طبقة ماني ومزدك لا شيء في سبه ولعنه.

وظاهر كلام القاضي عياض في آخر كتاب «الشفا» أن من سبه عذر وعوقب، وجعله في ذلك كالخضر ونحوه، وأظنه-والله عز وجل أعلم-وهما منه فإن لم يكن وهما فهو نقل غريب جدا فتأمله.

ص: 268

حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (258)[البقرة: 258] قالوا:

هذا من إبراهيم يتضمن قدرة الله تعالى على أن يأتي بها من المغرب وليس كذلك، إذ هو محال لا يدخل تحت المقدورية، فأكذبوا بإخراجها من المغرب في آخر الوقت. وإن ثبت أنها ردت لعلي-رضي الله عنه-كما حكاه القاضي عياض في الشفاء، فقد تقدم إكذابهم من حينئذ.

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ} (159)[الأنعام: 159] / [84 ب/م] يحتج به من أنكر الخلاف بين الأئمة في الفروع فضلا عن الأصول؛ لأن ذلك تفريق للدين، وهو مذموم.

وأجيب بأنه محمول على التفرق في أصول الدين لا في فروعه للإجماع على جوازه.

{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (162)[الأنعام: 162] احتج به أبو حنيفة على وجوب الأضحية، لأن الإشارة إلى ما سبق من الصلاة، والنسك، والأضحية من النسك، والآية اقتضت أنها مأمور بها والأمر للوجوب.

وأجيب بأن المخاطب/ [180/ل] بالأمر بها هو النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان الأمر به على الوجوب فهو خاص به لا يتعدى إلى الأمة.

{قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (164)[الأنعام: 164] قيل المراد: إلا لها، بدليل:{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اِكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاُعْفُ عَنّا وَاِغْفِرْ لَنا وَاِرْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} (286) [البقرة:

286]، واستعملت على بمعنى اللام، وقيل: المعنى إلا عليها في الشر ولها في الخير، فاكتفى بأحدهما كقوله: عز وجل {*وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (13)

ص: 269

[الأنعام: 13]{وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} (81)[النحل: 81] ونحوه.

{ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} فيه إثبات المعاد {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (164)[الأنعام: 164] فيه أن كشف الحقائق وارتفاع الخلاف إنما يكون في عالم الآخرة، وأوله عقيب الموت بل حال الموت وعيان الملك وهذه في النحل، أوضح منها هاهنا.

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (165)[الأنعام: 165] يحتج به على تعليل أفعاله-عز وجل-أي فاضل بينكم ليختبر ما عندكم من الطاعة والشكر.

ص: 270