الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في سورة الزمر
{إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ} (3)[الزمر: 2، 3] فيه الاهتمام بالإخلاص لوصية الله-عز وجل-رسوله به مع أنه معصوم من الرياء وغيره.
{أَلا لِلّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ} (3)[الزمر: 3] أي يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى هذا رأي الوثنيين وعبدة الكواكب من الصابئين يحتجون بذلك [تنصلا] من الشرك.
{كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ} (3)[ص: 3] فإن الله-عز وجل-إنما يتقرب إليه بعبادته وطاعته من غير واسطة، ثبت ذلك بتواتر الرسل والكتب، ومن ذلك قوله:{وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (19)[ق: 19].
قوله-عز وجل: {لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} (4)[الزمر: 4]، زعم/ [172 أ/م] أبو محمد بن حزم الظاهري في كتاب «الملل والنحل» له أن الله-عز وجل-قادر على أن يتخذ ولدا لظاهر هذه الآية، وهو قول شنيع باطل.
أما شناعته فلمضارعته النصرانية؛ فإنهم إذا حاجوا في ذلك قالوا: الولد صفة كمال، فانتفاؤه في حق الله-عز وجل-نقص وامتناعه على الله-عز وجل-عجز.
وأما بطلانه، فلأن ما زعمه إنما يصح أن لو قال: لو أراد الله أن يتخذ ولدا لولد أو لتزوج ونسل، أو لاتخذ ونحو ذلك، لكنه إنما قال: لاصطفى مما يخلق ما يشاء، [ونحن قد بينا قبل أن الولدية تنافي المخلوقية كما تنافي المملوكية، فلو قدر أنه اتخذ ولدا مما يخلق لم يكن ذلك الولد ولدا، وإنما يكون على جهة التبني، لا على حقيقة البنوة والولدية، فإن زعم هذا القائل أن معنى الآية: لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق زوجة، فأولدها ولدا كما قال:{لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ}
لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا إِنْ كُنّا فاعِلِينَ (17)[الأنبياء: 17] أي: زوجة نلهو بها لزمه أن يجيز عليه التزوج والنكاح والنسل ونحوه من لوازم الأجسام، وذلك محال باطل بإجماع، وإنما يصح ذلك على رأي الاتحادية الذين يجيزون عليه الظهور في المظاهر الطبيعية، وابن حزم لا يقول ذلك]، وإن قال: إن الولد الذي يقدر على اتخاذه روحاني لا جسماني كالنور مولود للشمس، والحكمة مولودة للعقل، فلا يلزم التجسيم.
قلنا: هذا هو عين مذهب النصارى، فإنهم لما ألزموا ما ألزمت من التجسيم، ادعوا ما ادعيت من الولادة الروحانية، فإن قال: النصارى ادعوا وقوع اتخاذ الولد، وأنا إنما ادعيت القدرة عليه وجوازه؛ قلنا: يلزمك أن مذهب النصارى جائز، وأجمع المسلمون-بل العقلاء- على أنه محال، فقد كنت بدعواك هذه تخالف الشرع، فالآن خالفت الشرع والعقل جميعا، فإن قال: لو لم يقدر على اتخاذ ولد، لكان عاجزا، قلنا: لا يلزم ذلك؛ لأن اتخاذ الولد عليه محال، والمحال لا يدخل تحت المقدورية أي: لا يقبل تأثير القدرة فيه ليكون عدم تأثيرها فيه عجزا فإن تأثير القدرة في الشيء تارة ينتفي لقصورها عنه وتارة لعدم قبول ذلك الشيء لتأثيرها فيه لعدم إمكانه بوجوب أو امتناع، والعجز هو الأول لا الثاني، وإلا لزمك أن/ [172 ب/م] تجيز عليه جميع المحالات بعلة أنه لو لم يقدر عليها، لكان عاجزا.
[فإن قال: فما معنى قوله: {لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} (4) [الزمر: 4] إذن قلنا معناه: لو احتاج إلى ولد لاستغنى عنه بمن يختاره من مخلوقيه، كما لو قيل لرجل: لو تزوجت لجاءك ولد يخدمك؛ فقال: لو أردت ولدا يخدمني أو لو احتجت إلى خدمة الولد، لاشتريت بمالي عبيدا يخدموني.
وهذا التأويل قريب من ظاهرها جدا، وهو خير من اقتحام الشناعة والمحال.
{لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} (4)[الزمر: 4] أي: تنزه عن اتخاذ الولد وقوعا وجوازا إذ {هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} (4)[الزمر: 4] أي: أن حكمة الولد التكثر به من قلة أو الاستعانة/ [359 ل] به عن غلبة وانقهار، والله-عز وجل-واحد لا يجوز عليه الكثرة، ولا التكثر؛ قهار لا يلحقه الانقهار، وإذا انتفت حكمة الولد في حقه، وجب انتفاؤه وقوعا وجوازا، إذ ما لا حكمه فيه، لا يجوز وجوده. {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا}
يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)[الزمر: 7] احتج به المعتزلة؛ لأن من لا يرضى لهم الكفر، لا يخلقه فيهم، ولا يقدره عليهم، ولا يتسبب إليه بوجه كما أن في الشاهد من لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر لسابق علمه فيهم بالعصمة منه.
الثاني: لا يرضى لهم الكفر عبادة وطاعة وقربة، وإن رضيه ابتلاء ومنحة بدليل:
{كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ} (35)[الأنبياء: 35].
الثالث: أن لا يرضى معناه: يكره، وكراهته الشيء لا تقتضي عدم فعله بدليل أن الله عز وجل-خالق عين الكافر، وهو يكرهه، كذلك جاز أن يخلق الكفر وهو يكرهه.
{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ} (16)[الزمر: 16] الكلام كما في {وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاّ تَخْوِيفاً} (59)[الإسراء: 59] وقد سبق هناك.
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (22)[الزمر: 22] شرح الصدر هو كشف حجاب القلب بما يخلق فيه من براهين الحق ودواعي اتباعه، وهو النور المذكور، وقد أخبر الله- عز وجل أنه الذي يشرح الصدر، فكذا هو الذي يجعله ضيقا حرجا، بضد ما يشرحه به من الطبع عليه، وخلق ظلمات الشكوك والريب فيه؛ فيقسو عن اتباع الحق.
{اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ} (23)[الزمر: 23]: يشبه، ويصدق بعضه بعضا.
{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} (23)[الزمر: 23] هو سبحانه وتعالى يخلق الخوف في قلوبهم، ثم/ [173 أ/م] يترتب على الخوف الاقشعرار، ثم
لين الجلود والقلوب إلى ذكر الله، كل ذلك بفعل الله-عز وجل-وإرادته.
{ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ} [الزمر: 23] أضاف هذا الهدى إليه لأنه مرتب على أسباب مخلوقة له.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} (23)[الزمر: 23] صريح في إضلاله من يشاء؛ بأن يخلق في قلبه ضد ما خلق في قلب المهتدي.
{قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (28)[الزمر: 28] قيل: غير مخلوق، وقد سبق القول فيه.
{ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (29)[الزمر: 29] هو من أدلة التوحيد؛ وبيانه أن التوحيد أصلح للموحد، كما أن المالك الواحد للعبد أصلح له من تعدد الملاك؛ لأن كثرة الأرباب / [360 ل] والملاك تتنازع الواحد؛ فيهلك، أو يشقى ويتعب؛ بخلاف الرب الواحد؛ والمالك الواحد، إذ لا تنازع مع الوحدة وهذه المادة شبيهة بمادة {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَاّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ} (22) [الأنبياء: 22].
{وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (33)[الزمر: 33] الآيات تنازعها الفريقان: السنة: فزعموا أنها لأبي بكر الصديق؛ لأنه الصديق، والشيعة [لعنهم الله] فزعموا أنها لعلي لأنه عندهم الصديق الأكبر، وأول من أسلم.
واعترض الجمهور عليهم بأن في سياق هذا {لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ} (35)[الزمر: 35] وعلي عندكم معصوم، لا سيئة له؛ فليست الآية له، فهي لأبي بكر-رضي الله عنه، وأجاب الشيعة بأنا قد أثبتنا عصمة علي فيما سبق، والعصمة لا تنافي اليسير من سوء العمل، [بدليل: أن الأنبياء عندكم تجوز عليهم الكبائر والصغائر، و] وقوله-عز وجل:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً} (2)[الفتح: 2].
والجواب مشترك، والحق أن الآية ليست لواحد بعينه، بل هي عامة لكل من اتصف بالصدق والتصديق، بدليل ما اكتنف الآية قبلها وبعدها.
أما قبلها فقوله-عز وجل: {*فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ} (32)[الزمر: 32] وهو ذم ووعيد عام، ثم قابله بالذي جاء بالصدق وصدق به، وأي صدق وصدق، وهو مقابل لمن كذب وكذب في الآية قبلها، وهو مدح ووعد عام، وأما بعدها، فقوله:{وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ} (34)[الزمر: 33 - 34] الآيات بصيغة الجمع المقتضي للعموم، ولا مقتضى لاختصاصها بأحد الرجلين، إلا عصبية الفريقين، نعم هما داخلان تحت الوعد فيها، ومن أحق الناس بها.
{أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي اِنْتِقامٍ} (37)[الزمر: 36 - 37] صريح في مذهب الجمهور، وتأوله المعتزلة على أنه يهدي بفعل الألطاف، ويضل بمنعها. وقد سبق القول في ذلك.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (38)[الزمر: 38] / [173 ب] هي شبيهة بقول إبراهيم: {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} (73)[الشعراء: 73] وقول صاحب يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} (23)[يس: 23] وهو استدلال على التوحيد، ونفي إلهية الشركاء بعدم ملكهم التصرف بالضر والنفع أي: هؤلاء لا تصرف لهم، وكل من لا تصرف له؛ فليس بإله، فهؤلاء ليسوا آلهة.
أنا فلنفسه ومن أضللته فعليها، وهذا محض جور لا تقوم به حجة في حكم العدل، ويجاب بأن جميع ذلك أعني نسبة الضلال إليهم والاحتجاج والوعيد لهم يتعلق بالكسب عن الكسبية وبالخلق على تقدير التفويض عند المجبرة، كما تقرر في مقدمة الكتاب/ [361 ل].
{اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (42)[الزمر: 42] أي: أن الله-عز وجل-تارة يقبض الأرواح بالكلية، وهو الموت، وتارة تعرج إليه على عزم معاودة البدن، وهو النوم ثم قد يقضي الموت على النائم، فيمسك روحه عنده فيموت، وقد لا يقضي عليه الموت؛ فيرسل روحه إلى جسده؛ فيستيقظ حيا، وهو ضرب من الموت والبعث، يقال: إن النفس تعرج والروح تبقى يتحرك به النائم، فإن قضى عليه الموت نائما قبض الروح إلى النفس، وإلا عاد النفس إلى الروح، وقد سبق نحو هذا في الأنعام.
{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (42)[الزمر: 42] هو كقوله: {وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَاِبْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (23)[الروم: 23].
{أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} (43)[الزمر: 43] أي: شركاء يرجون شفاعتهم، قل: أتتخذونهم شركاء، وإن كانوا لا يملكون ضرا ولا نفعا، ولا يعقلون شيئا، إذ هم أصنام جماد، فإن قالوا: نعم فقد لزمهم غاية السفه والضلال، وإن قالوا: لا، فقل: فإن شركاءكم كذلك لا يعقلون ولا يملكون فلا تتخذونهم.
وهو دليل على التوحيد تلخيصه: أن اتخاذكم لهؤلاء الآلهة، إما مع علمكم بأنهم لا يملكون ولا يعقلون، فهو سفه وضلال، أو مع عدم علمكم بذلك، فقد أعلمناكم فدعوهم ولا تدعوهم آلهة.
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)[النساء: 48].
وأما في المغفور له؛ فلقوله-عز وجل: {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً} (48)[النساء: 48] فمن لا يشاء أن يغفر له مخصوص من عموم العباد المغفور لهم هاهنا.
فإن قيل: فما فائدة قوله: (جميعا) قلنا: يعني يغفر جميع ما سوى الشرك لمن شاء أن يغفر له، أو جميع الذنوب حتى الشرك بالإيمان.
{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ} (56)[الزمر: 56] زعم أبو عبد الله/ [174 أ/م] بن حامد: أن لله-عز وجل-صفة ذاتية تسمى الجنب، كما قال في اليد والوجه، وهو ضعيف جدا، لغلبة المجاز على هذه الكلمة، إذا يقال: طمع فلان في جنب فلان وجانبه، وخذ هذا الدرهم في جنب الله، فإثبات صفة ذاتية بمثل ذلك لا وجه له.
{بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاِسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ} (59)[الزمر: 59] احتج المعتزلة بهذا، ووجهه أنه-عز وجل-رد على الكافر قوله:
{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (57)[الزمر: 57] بقوله هذا، ومعناه: قد هديتك بمجيء آياتي، فكذبت واستكبرت، فلو كان هو الذي أضله أو منع عنه الهدى لما اتجه هذا التكذيب حتى قال:{وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} (60)[الزمر: 60] أي الذين كذبوا عليه بقولهم: ما هدانا؛ فدل على أنه هداهم/ [362 ل]، ولم يضلهم.
والجواب: أن الهدى مشترك بين الإرشاد و [بين] العصمة من الضلال بما يخلق في القلوب من موجبات الإيمان، والكافر إنما أنكر الهدى بمعنى الإرشاد، ولا شك في أنه كذب، لأن الله-عز وجل-قطع الحجة وأوضح المحجة بالإرشاد بالكتب على ألسنة الرسل، وإنما الذي فات الكافر هو الهدى بالمعنى الثاني، فالله-عز وجل-هداه تكليفا، ولم يهده تكوينا، فلا تناقض، وعدنا إلى قاعدة الكسب والجبر في قيام الحجة على الكافر.
بالإجماع بذات الله وصفاته، ثم اختلف فيه بعد ذلك؛ فطرده الجمهور فيما عدا ذلك، حتى أفعال الناس مخلوقة له، وخصها المعتزلة منه بدليلهم العدلي فيما زعموا.
{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} (65)[الزمر: 65] يحتج بظاهره على جواز الشرك من الأنبياء، وإن عصموا من وقوعه، وتأول بعضهم هذه على أن الخطاب فيها له، والمراد أمته، وهو ضعيف؛ لأن قوله-عز وجل:{بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ} (66)[الزمر: 66] عطف عليه، وهو مراد منه باتفاق فكذا ما قبله يكون مرادا منه.
{وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ} (67)[الزمر: 67] اختلف الناس في آيات الصفات مثل هذه في القبضة واليمين، ونحو:{وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} (27)[الرحمن: 27]{وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (64)[المائدة: 64] و {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} (42)[القلم: 42]«يضع الجبار قدمه» (1)«يحمل السماوات على إصبع» (2) الحديث، ونحو ذلك على أقوال:
أحدها: إمرارها كما جاءت من غير تشبيه ولا تمثيل، وهو مذهب أهل الحديث.
الثاني: حملها على ظاهرها في التشبيه وصرحوا به، وهو قول الكرامية، ورد عليهم ب {فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (11) [الشورى: 11] وباستحالة
التجسيم على القديم.
الثالث: حملها على صفات لله-عز وجل-حقيقة مقولة على صفات المخلوقين/ [174/م] بالاشتراك اللفظي، [اللهم كأنهم] قالوا: لله يد هي صفة لائقة به لا تشبه يدنا، ولنا يد هي هذه الجارحة مستحيلة في حقه عز وجل. وهو محكي عن الظاهرية، وإليه يرجع المذهب الأول.
الرابع: تأويل ما أوهم منها التشبيه على ما يزيل تلك الشناعة مما يحتمله اللفظ في كلام العرب، وهو مذهب الأشعرية، ومن وافقهم.
الخامس: أن اللفظ إن ظهر منه إرادة الحقيقة حمل عليها على المذهب الأول، أو إرادة المجاز حمل عليه كلفظ الجنب، «وقلب المؤمن بين إصبعين» (1) و «الحجر يمين الله في الأرض» (2) ونحوه، وإن لم يظهر منه أحدهما اجتهد فيه المجتهد في الأصول، وقلد فيه المقلد، والأشبه الأخذ بالمذهب الثالث.
ولعلك تقول: هل يجوز التقليد في أصول الدين حتى يقول: وقلد فيه المقلد؟ فنقول:
نعم.
وتحرير ذلك أن مسائل الشريعة إما/ [363 ل] ظني كالفقهيات، أو علمي قاطع كالتوحيد والنبوات، أو واسطة بينهما، كهذه المسائل الدائرة بين أهل الحديث والمعتزلة والجهمية ونحوهم، فهذه ارتفع دليلها عن القسم الأول، وانحط عن القسم الثاني، لكن تعارضت فيها الشبه وتصادمت الحجج؛ فجاز فيها التقليد للعامي، ولم يسغ فيها التكفير، والله-عز وجل-أعلم بالصواب.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} (68)[الزمر: 68] هذه نفخ الصعق ونفخة البعث، وقبلها نفخة الفزع المذكورة في سورة النمل، فهي ثلاث نفخات، وهذا من أحكام اليوم الآخر {إِلاّ مَنْ شاءَ} قيل: من في الجنة، وقيل: بعضه الملائكة.
{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (69)[الزمر: 69] إن قيل: ما يمنعها الآن أن تشرق به؟
قيل: دون أنواره الخاصة حجاب العزة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«حجابه النور لو كشف عنه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (1) أو كما قال.
ويوم القيامة يكشف هذا الحجاب؛ فتشرق الأرض بنور رب الأرباب.
{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ} (71)[الزمر: 71] احتج عليهم بالعدل، واحتجوا بالجبر، فلم ينفعهم لما قررناه في سورة يس.
{وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (75)[الزمر: 75] هذا يمنع من تأويل العرش على الملك على ما زعمه قوم.
…